إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / القضية الفلسطينية ونشأة إسرائيل، وحرب عام 1948





معارك المالكية
معركة مشمار هايردن
العملية مافيت لابوليش
العملية نخشون

أوضاع الألوية الإسرائيلية
أوضاع المحور العرضي
أوضاع القوات المصرية
أهداف القوات العربية
محصلة الجولة الأولى
مشروع لجنة بيل
مسرح عمليات فلسطين
أعمال القتال المصري ـ الإسرائيلي
معركة وادي الأردن
معركة نجبا
معركة نيتسانيم
معركة مشمار هاعيمك
معركة أسدود
معركة اللطرون (الهجوم الأول)
معركة اللطرون (الهجوم الثاني)
معركة العسلوج
معركة القدس
معركة بئروت يتسحاق
معركة جلؤون
معركة جنين
معركة يد مردخاي
معركة جيشر
الأوضاع المصرية والإسرائيلية
الموقف في نهاية الفترة الأولى
المستوطنات الإسرائيلية في فلسطين
الاتجاهات التعبوية لمسرح العمليات
الاستيلاء على مستعمرات عتصيون
الاستيلاء على صفد وتخومها
الاستيلاء على عكا
التنفيذ الفعلي للعملية يؤاف
التقسيمات العثمانية في سورية
الحدود في مؤتمر الصلح
الخطة الأصلية للعملية يؤاف
العملية هاهار
العملية ميسباريم
العملية أساف
العملية مكابي
العملية بن عامي (تأمين الجليل)
العملية باروش
العملية حوريف (حوريب)
العملية داني
العملية يبوس
العملية حيرام
العملية ديكيل
العملية يفتاح (تأمين الجليل)
العملية شاميتز
العملية عوفدا
القتال في المحور الشرقي
القتال في جيب الفالوجا
اتجاهات الجيوش العربية
اتفاقية سايكس/ بيكو
تقدم القوات المصرية في فلسطين
تقسيم فلسطين
تقسيم فلسطين الأمم المتحدة
دخول الفيلق الأردني القدس
حدود فلسطين تحت الانتداب
سورية في العصر الإسلامي
سورية في العصر البيزنطي
سورية في العصر اليوناني
سورية في عهد الأشوريين
طريق تل أبيب ـ القدس
كنعان قبل قيام إسرائيل
فلسطين في عهد الملوك



أمن البحـــر الأحمــر

المبحث الثاني

مرحلة التكوين الفكري للحركة الصهيونية

(1840 ـ 1896)

أولاً: المشكلة اليهودية ونشوء الصهيونية

1. اضطهاد اليهود في أوروبا

انتقلت التجمعات اليهودية الرئيسية خلال عصري الدولة الأموية والعباسية من بلاد الرافدين إلى شمال أفريقيا والأندلس، حيث نعم اليهود بالتسامح الإسلامي وتولوا المناصب الرفيعة في الدولة، وظل ذلك حالهم طوال سنوات الحكم العربي في الأندلس. ومع تصفية الدولة العربية في أسبانيا وانتشار محاكم التفتيش في أواخر القرن الخامس عشر، بدأ عصر جديد عانى فيه اليهود من الاضطهاد والطرد الجماعي من أسبانيا عام 1492 والبرتغال عام 1496.

وبينما كانت أسبانيا تشهد تقلص التجمع اليهودي الرئيسي فيها خلال القرن الخامس عشر، كانت أوروبا الشرقية تشهد نمواً متزايداً لليهود فيها وخاصة روسيا وبولونيا التي انتقل إليها تدريجياً ثقل التجمع اليهودي في أوروبا. ومع نهاية القرن الثامن عشر كان عدد اليهود في أوروبـا قـد بلغ 1.5 مليون فرد، يعيش مليون منهم في روسيا وبولندا وإقليم جاليشيا GA – Li – cia [1] بينما كان الباقون يعيشون وسط وغرب أوروبا. أما باقي اليهود والبالغ عددهم نحو مليون فرد فكانوا يعيشون في كنف الدولة العثمانية، في الشرق الأوسط (بما في ذلك تركيا نفسها) وشمال أفريقيا.

وعندما قُسمت بولندا عام 1795 واضطر معظم اليهود إلى الخضوع تلقائياً للحكم الروسي، فضل كثير منهم الهروب صوب البلدان المسيحية الخاضعة للإمبراطورية العثمانية وهي البلدان التي أصبحت تُعرف فيما بعد برومانيا والمجر.

وقد شهدت أوروبا منذ بداية الوجود اليهودي على أرضها وحتى بداية الحركة الصهيونية أربع موجات من الطرد والتهجير الجماعي لليهود.

الموجة الأولى في نهاية القرن الحادي عشر، وقد واكبت الحروب الصليبية. فعلى أثر التعبئة الدينية للمسيحيين للتوجه نحو الشرق لاسترداد القدس مهد المسيحية، طغت على السطح الجريمة التاريخية الملقاة على عاتق اليهود حيال المسيح مما تسبب في موجة من الاضطهاد والطرد في بلدان الدعوة الصليبية.

والموجة الثانية التي أُطلق عليها الموت الأسود، جاءت مواكبة لتفشي الطاعون في أوروبا في منتصف القرن الرابع عشر وهلاك الكثيرين بسببه. ولما كان الجهل متفشياً، فقد سرت الشائعات بأن الطاعون ليس إلا بلاء من اليهود، فهوجموا بعنف وأحرقت بيوتهم، وقضى على اليهود في حوض الراين، فتوجهوا نحو شرق أوروبا.

بينما جاءت الموجة الثالثة في أعقاب تصفية الحكم العربي في أسبانيا وانتشار محاكم التفتيش الكاثوليكية، وكان الانتقام من اليهود بطردهم في أواخر القرن الخامس عشر.

أما الموجة الرابعة فكان مصدرها روسيا، حيث أدت المذابح الشهيرة ضد اليهود ـ على أثر اتهامهم بمقتل القيصر اسكندر الثاني عام 1881 ـ إلى هجرة الكثيرين منهم في هستريا جماعية إلى بولندا ورومانيا والولايات المتحدة وفلسطين.

وكانت غالبية التجمعات اليهودية في أوروبا تعيش في المدن في أحياء خاصة بهم أطلق عليها في القرن السادس عشر اسم "جيتو" حيث كان اليهود يمنعون من الاختلاط بسائر السكان، وتُفرض عليهم قوانين خاصة بهم. وعاش اليهود داخل الجيتو أحراراً في عاداتهم وطقوسهم، إلا أنه فُرض عليهم وضع شارات صفراء لتمييزهم عندما تستدعى الضرورة خروجهم من الجيتو.

ولما كان شبح الاضطهاد هو الذريعة الكبرى للحركة الصهيونية، كما كان مدخلها إلى فلسطين، فقد أصبح التركيز على سيرة الاضطهاد من أبرز سمات الدعاية الصهيونية منذ البداية.

ومع عصر النهضة، وانتشار المبادئ الإنسانية، وخاصة في القرن الثامن عشر أخذ الكابوس ينحسر تدريجياً، وعندما جاءت الثورة الفرنسية منحت اليهود مثل باقي المواطنين المساواة التامة بما لا يسمح بحرمان اليهود من أي حقّ كان، أُسوة بباقي الفرنسيين. ومن فرنسا انتقلت مسيرة المساواة وتشعبت في الكثير من بلدان أوروبا الغربية وبحلول عام 1874 كان اليهود في معظم تلك البلدان قد نالوا حقوقهم المدنية كاملة، وتحطمت جدران العزلة التي فُرضت عليهم واندمج الكثير منهم في المجتمعات الأوروبية في ظل النظام الرأسمالي والثورة الصناعية. وهكذا يمكن القول أنه في الوقت الذي فتحت فيه الثورة الفرنسية أبواب الجيتو من الناحية السياسية والقانونية، فإن الرأسمالية والثورة الصناعية ساهمتا في فتح تلك الأبواب من الناحية الاقتصادية.

إلا أن هناك جماعات من اليهود رفضت الخروج من الجيتو إن لم يكن عملياً فنفسياً واجتماعياُ على الأقل. وقد وجد هؤلاء في الجيتو أماناً لهم وحماية ليهوديتهم، خاصة وأن المساواة السياسية والقانونية لم تقترن دائماً بالمساواة الاجتماعية التي لا تُفرض بقانون، كما ساهمت عمليات الاستغلال والمعاملات الربوية المعروفة عن اليهود من أزكاء مشاعر المواطنين الأوروبيين ضدهم، مما أدى إلى انتشار الموجات المعادية للسامية، وظهور الأحزاب والمؤسسات المعادية لليهود في بعض البلدان الأوروبية كألمانيا والنمسا وروسيا وبولندا. وهكذا أسهمت أوروبا بموجات الاضطهاد ومعاداة السامية في إيجاد التربة والبيئة الصالحة لغرس بذور الحركة الصهيونية التي كان على العرب عامة والفلسطينيين خاصة دفع فاتورة حسابها خلال القرن العشرين.

2. محاولات الاندماج وفشلها

مع انبعاث الثورة الفرنسية وانتشار الآراء التحررية، واللقاءات الفكرية بين المثقفين المسيحيين واليهود، بدأ الآخرون يتأثرون بالمفاهيم التحررية السائدة في مطلع القرن التاسع عشر، وهي مفاهيم لم تكن ترتكز على القومية أو الدين، مما جعل هؤلاء اليهود يحسون أنهم غرباء عن ماضيهم القديم، وبالتالي أصبح اندماج اليهودي المتحضر في المجتمع الذي يعيش بين ظهرانيه يعني مزيداً من التحرر الذاتي من قيود الماضي، وبالتالي مزيداً من التقدم.

وهكذا ظهرت بين اليهود في أوروبا الغربية حركة تحررية علمانية عرفت باسم "الهاسكالاه"، وارتبطت منذ ظهورها باسم رائدها الأول "مندلسن" الذي كان يعتقد أن الجيتو العقلي لليهود لا يقل أثراً عن الجيتو الجغرافي، وأن التحرر من الجيتو الأخير لا يمكن أن يتم دون التحرر من الجيتو الأول. وعلى ذلك قام مندلسن بدعوة اليهود إلى تشرب الثقافة العلمانية والإندماج في الحضارة الأوروبية جنباً إلى جنب مع دراستهم الثقافية واللغة العبرية التي كانت لغة شبه ميتة.

وتباينت آراء رواد "الهاسكالاه"، فمن التحرر القائم على استيعاب القديم والحديث معاً كمندلسن إلى تحرر بعيد المدى قائم على الفصل بشكل نهائي بين التاريخ اليهودي القديم والحاضر، على اعتبار أن الماضي أصبح ميتاً لا يمكن إحياؤه، والتوقف نهائياً عن الحلم بالعودة إلى أورشليم وانتظار المسيح، وهو ما نادى به "غبريال ريزر" في منتصف القرن التاسع عشر.

وقد بلغ الأمر ببعض اليهود من رواد التحرر والاندماج إلى الدعوة لاعتناق المسيحية بشكل جماعي لأنهم رأوا فيها بطاقة الدخول إلى الحضارة الأوروبية مثل "دافيد فريد لاندر" و"هايني".

وبالرغم من الشوط البعيد الذي قطعه رواد التحرر للاندماج في المجتمعات الأوروبية، إلا أنهم أصبحوا مكروهين من المسيحيين واليهود على السواء.

وعلى عكس أوروبا الغربية اتخذت مسيرة الاندماج في أوروبا الشرقية درباً مختلفاً، حيث أدت الحالة المتدنية لليهود في روسيا وظلم القياصرة لهم إلى نوع من التلاحم بينهم ومحاولة الحفاظ على تقاليدهم جيلاً بعد جيل. وكانت ممارستهم لعباداتهم تقترن تلقائياً باستدعاء الماضي وتجدد الحلم بالعودة إلى الأرض المقدسة (فلسطين)، وحتى القلة من اليهود الروس التي دعت للاندماج في ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر وعلقت آمال التحرر عليه عادت وتراجعت عن تلك الدعوة أمام سياسة إسكندر الثالث المعادية لليهود.

وعلى النقيض من دعوة مندلسن، كان دعوة "سمولنسكين" الذي أخذ يهاجم فكرة الاندماج الحضاري طارحاً فكرة الحضارة اليهودية بديلاً عنها. وتلخصت دعوته في أن اليهود كان شعباً، وما توقفوا أن يكونوا كذلك ورأى أن "الهاسكالاه" حرَّفت التراث الديني وجعلت حب اليهودي لشعبه "موضة قديمة"، كما رأى أن دعوة مندلسن لإحياء اللغة العبرية لا قيمة لها ما لم يتم الحفاظ على التراث الديني، "فلا عبرية بلا توراه ولا تواره بلا شعب يهودي". ومن ثم رفض "سمولنسكين" كل حركة دينية إصلاحية حتى لا ينقسم اليهود، وأخذ يدعو إلى إنبعاث قومي في أرض الأجداد التي رأى فيها الملجأ الأخير لليهود.

وانضم إلى صوت سمولنسكين أصوات يهودية مسموعة أخرى مثل الشاعر "يهودا ليب جوردن" الذي اشتهر بقوله "كن أنساناً في الخارج ويهودياً في بيتك"، ومثله "ليلينبلوم" الذي بدأ حياته منتقداً للتلمود ومدافعاً عن الاشتراكية ثم تحول إلى قومي متطرف، فقد رأى أن التطور الحضاري القائم على النوازع القومية لن يوقف اضطهاد اليهود، كما لن يحل المجتمع الاشتراكي المشكلة اليهودية حيث سينظر لهم على أنهم رأسماليون، وعلى ذلك دعا إلى وطن قومي في فلسطين، ولما كان موضوع فلسطين غير متفق عليه بعد، فقد أصبح الحوار الدائر بين يهود روسيا وشرق أوروبا هو "فلسطين أم الولايات المتحدة الأمريكية".

3. الجذور الدينية للفكر الصهيوني

تظهر الجذور الدينية في نشأة الفكر الصهيوني أول ما تظهر في التسمية نفسها. فكلمة "صهيون" هي تسمية كنعانية أطلقت على الجبل الشرقي لمدينة أورشليم في عهد داوود u.

وجاء اختيار هذه الكلمة لتكون جسراً يربط التراث الديني والتاريخي القديم في فلسطين بالفكر الصهيوني الحديث، فمنذ الخراب الأول للدولة اليهودية وتدمير المعبد وتشتيت اليهود في السبي، أصبحت كلمة "صهيون" ملازمة لصلوات اليهود ورمزاً لأحلامهم بالعودة إلى أورشليم. ولم تنقطع صلة اليهود الروحية بالأرض المقدسة وهم في بلاد الشتات كما كانت الطقوس الدينية والأعياد تعمل على إحياء التراث التوراتي في النفوس وبعث الحنين الدائم إلى زيارة أرض الأجداد.

4. أبرز رواد الفكر الصهيوني وتوجهاتهم

عندما دعا تيودور هرتزل عام 1897 إلى إنشاء الدولة اليهودية في فلسطين، لم تأت هذه الدعوة من فراغ، فقد سبقت دعوته حركات صهيونية (فكرية وعملية)، ساهم فيها عدد من رواد الفكر الصهيوني ابتداءً من العقد الرابع للقرن التاسع عشر، مهدت أفكارهم ومشروعاتهم الطريق لظهور الحركة الصهيونية السياسية في نهاية ذلك القرن وكان أبرز هؤلاء الرواد هم:

أ. يهودا الكلعي (1798 ـ 1878)

تأثر الحاخام "يهودا الكلعي" الذي نشأ في البلقان بالفكر القومي الذي تفجر في هذه البلاد ضد الحكم العثماني في مطلع القرن التاسع عشر فنشر عام 1834 كتيبا بعنوان "اسمعي يا إسرائيل" اقترح فيه إقامة مستوطنات يهودية في فلسطين كأساس لخلاص اليهود من الشتات والاضطهاد. كما نشر منذ عام 1843 سلسلة من الكتيبات والمقالات ركز فيها على أهمية عودة اليهود إلى وطنهم القديم، كما طالب اليهود بدفع العُشر من أجل العودة.

وكرس الكلعي ما تبقى من عمره للدعوة إلى إحياء اللغة العبرية وتخليص اليهود وعودتهم، وقام برحلتين إلى أوروبا وفلسطين للدعوة لتجميع اليهود في "أرض إسرائيل" كي يعيشوا كشعب واحد، وأثناء وجوده في بريطانيا في مطلع الخمسينيات أسس جمعية للاستيطان في فلسطين التي هاجر إليها، وعاش في القدس طوال الأربعة أعوام الأخيرة من عمره، وحين توفى فيها عام 1878 قام عدد من أتباعه بشراء قطعة أرض وإنشأوا عليها أول مستوطنة زراعية لليهود في فلسطين وأطلقوا عليها اسم "بتاح تكفاه".

وتتلخص أهمية دعوة الكلعي ـ التي وجدت لها صدى منذ ستينيات القرن التاسع عشر ـ فيما يلي:

(1) نشر فكرة الوحدة القومية لليهود.

(2) الدعوة إلى إحياء اللغة العبرية التي كانت شبه ميتة.

(3) نشر فكر الاستيطان في فلسطين كحل للمشكلة اليهودية.

ب. تسفي هيرش كاليشر (1795 ـ 1874)

عاصر الحاخام "كاليشر" الكلعي وكانت أراؤهما متوافقة بدرجة كبيرة إلا أن الأول بدأ دعوته في بروسيا الشرقية (حيث ولد). وقد تلخصت أفكار كاليشر، التي نشرها في كتابه "عقيدة صادقة" عام 1843 وفي مجلده "البحث عن صُهيون" الذي أكمل فيه تصوره عام 1862 ـ في النقاط التالية:

(1) إن خلاص اليهود كما تنبأ به أنبيائهم يمكن أن يتم بمجهود اليهود أنفسهم دون أن يتطلب ذلك مجيء المسيح.

(2) إن الاستيطان في فلسطين يجب أن يتم دون تأخير.

(3) إن إحياء التضحيات في الأرض المقدسة مباح وضرورة.

وركز كليشر على أن الخلاص يبدأ من تدفق المساعدات من القادرين وموافقة بلاد الشتات على تجميع أبناء إسرائيل في الأرض المقدسة. ولذلك طلب كليشر من "ماير روتشيلد" عام 1836 أن يشترى من محمد علي باشا أرض فلسطين كلها، أو على الأقل القدس، أو حتى مكان الهيكل (هيكل سليمان)، إلا أنه لم ينجح في تحقيق طلبه.

واتهم كاليشر من جانب اليهود الأصوليين بالهرطقة، وقوبلت آراؤه كما قوبلت آراء الكلعي بعدم الحماس نتيجة لدعوتهما إلى الإسراع بالعودة دون انتظار المعجزة وظهور المسيح.

ج. موشى هيس (1812 ـ 1875)

نشأ هيس في ألمانيا وبدأ حياته يهوديا متدينا ثم تحول إلى الاشتراكية (رافضا كل الأديان)، وغدا في النهاية مفكراً اجتماعياً صهيونياً. ومع الصحوة اليهودية المتأخرة في ذاته نشر كتاباً عام 1882 بعنوان "روما والقدس" ضمَّنه أراءه الصهيونية بعد تأثره بحركة التحرر القومية في إيطاليا التي أقنعته بحتمية انبعاث القوميات ومنها اليهودية.

ومنذ صحوته الدينية أصبح ينظر إلى اليهودية كفلسفة اجتماعية تهدف إلى كمال المجتمع الإنساني، وأنه يجب أن يتحرر اليهود حتى يطوروا فلسفتهم، ولا يمكن أن توجد هذه الحرية في غير أرض أجدادهم.

ويتلخص برنامج هيس السياسي فيما يلي:

(1) استمرار شعلة الأمل بالبعث السياسي وبناء المستوطنات في أرض الأجداد حتى تسمح الأحداث الدولية بالبدء في عملية بناء الدولة اليهودية.

(2) استخدام الوسائل الدبلوماسية والاتصالات الدولية وأموال أثرياء اليهود لشراء الأراضي والمدن في أرض الأجداد حتى لو كانت صحراء فإنها سوف تزدهر من جديد. وقلل هيس من أهمية المعارضة المحتملة لبرنامجه من جانب الدول المسيحية، لأنها ـ في تقديره ـ تأمل في التخلص من الشعب اليهودي، الذي يعد شوكة في جنبها، عن طريق إقامة الدولة اليهودية.

د. ليون بنسكر (1821 ـ 1891)

يُعد بنسكر من رواد الفكر الصهيوني في روسيا، الذين آمنوا في البداية بحتمية الاندماج في المجتمع الروسي، إلا أن المذابح التي جرت لليهود في روسيا في أعقاب مقتل القيصر عام 1881 جعلته يكفر بالاندماج، ويقوم بجولة طويلة في العواصم الأوروبية يدعو فيها لهجرة اليهود إلى أي بلد يُتفق عليه للتخلص من وطأة الاضطهاد.

وفي عام 1882 نشر بنسكر كتابه "التحرر الذاتي" الذي تعرض فيه لحالة البؤس والإذلال التي يعيشها اليهود في روسيا وشرق أوروبا، وأوضح أنه لا حل للمشكلة اليهودية سوى تحرر اليهود ذاتياً في المجتمعات التي يعيشون فيها والسماح لهم بالهجرة إلى وطن يمارسون فيه السيادة على أنفسهم.

ولخص بنسكر نظريته السياسية فيما يلي:

(1) إن اليهود ـ بوضعهم آنذاك ـ ليسوا شعباً حياً، فهم غرباء في كل مكان، ولذلك فهم محتقرون.

(2) إن التحرر السياسي والمدني لليهود لم يكن كافياً ليرفعهم في نظر الشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها.

(3) إن الخلاص الوحيد للمشكلة اليهودية في أوروبا هو خلق القومية اليهودية لشعب يعيش على أرضه، وعلى ذلك فإن التحرر الذاتي لليهود كشعب لا يمكن تحقيقه إلا بالحصول على وطن لهم وحدهم، وقد حان الوقت لذلك التحرر.

(4) بالرغم من أن المشكلة اليهودية مسألة عالمية، فإن حلها يجب أن يكون حلاً قومياً يهودياً، وأنه على اليهود اتخاذ الخطوة الأولى بعقد مؤتمر يهودي عالمي.

وهكذا نرى أن بنسكر كان على غرار كاليشر وهيس في رفضهما الاعتماد على الإيمان الغيبي بالمسيح المنتظر، واعتقد بنسكر أن هذا الإيمان الغيبي هو المسؤول عن تخلي اليهود عن الاهتمام بحريتهم ووحدتهم القومية.

5. محصلة الأفكار الصهيونية قبل تيودور هرتزل

أ. الصهيونية الدينية

تعتبر الصهيونية الدينية جزءاً لا يتجزأ من العقيدة اليهودية وهي المعبرة عن تواصل الجذور الدينية في الفكر الصهيوني الحديث، وترتكز الصهيونية الدينية على أربع قواعد رئيسية: الإيمان بالآله الواحد، وأن اليهود هم شعب الله المختار، وإن الله سوف يرسل المسيح لتخليص شعبه والإنسانية، ثم عودة اليهود إلى وطنهم الأصلي في فلسطين.

والصهاينة المتدينون يربطون العودة إلى فلسطين بظهور المسيح. ولا يرون في الاضطهاد ومعاداة السامية سبباً للعودة، فالعودة في عقيدتهم إن لم تقترن بالإرادة الإلهية وقدوم المسيح من جديد فهي عودة باطلة. ومن هذا المنطلق عارض الصهاينة المتدينون حركة هرتزل التي دعت إلى العودة دون انتظار المعجزة الآلهية، ومن ثم فإنهم يعتبرون أن قيام دولة إسرائيل قيام باطل لأنه تم بناءً على قرار سياسي وليس إلهي.

ب. الصهيونية الثقافية (الروحية)

تنبع فلسفة الصهيونية الثقافية الروحية (كما يطلق عليها أحياناً) من التراث الثقافي اليهودي واللغة العبرية، وهي ترى أن التهديد الأكبر للمجتمعات اليهودية في العقد الأخير من القرن التاسع عشر كان يكمن في ضعف تلك المجتمعات وتفككها وعدم تمسكها بتقاليدها وقيمها التاريخية، ورغم أن الصهيونية الثقافية تعطي أهمية لتجميع اليهود في أرض الأجداد، إلا أنها ترفض الحصول على الأرض بحجج معاداة السامية واستفحال الأوضاع المتردية لليهود، وأنه لا أمل في حركة الاستيطان اليهودي التي بدأت على استحياء في فلسطين في أواخر القرن التاسع عشر ما لم يتم إيقاظ وطنية اليهود حتى يكون حبهم لصهيون هو دافعهم للاستيطان وليس إغراؤهم بالمكاسب الذاتية.

ويرى "آشر جينزبيرج" أحد الرواد الروس للصهيونية الثقافية والذي عُرف باسم "أحادهاعام" أن مشكلة الشعب اليهودي لن تحل إلا بإنشاء "ملجأ قومي آمن" في فلسطين يستوعب عُشر اليهود، حيث يتمكنون من تطوير خصائصهم القومية بحرية دون ضغوط خارجية. أما باقي اليهود، فيرون أن في إمكانهم استمرار العيش في المنفى، مفترضين تحسن أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية في النهاية.

وقد هاجم "أشر جينزبيرج" سياسة هرتزل بقوله "إن خلاص إسرائيل يتحقق بواسطة الأنبياء لا الدبلوماسيين".

ج. الصهيونية العملية (أحباء صهيون)

نشأت حركة أحباء صهيون كرد فعل لموجة الاضطهاد والقتل التي أعقبت مقتل القيصر الروسي الكسندر الثاني، فقد صدمت موجه الاضطهاد اليهودي الذين كانوا يؤمنون بالاندماج في المجتمع الروسي، فلجأوا إلى يهوديتهم ونشطت هجرتهم بحثاً عن الخلاص خارج روسيا، وكانت فلسطين من البلدان التي أستهدفتها تلك الهجر.

وخلال سنتي 1881 و1882 نشأت عدة جمعيات منفصلة كان هدفها تحقيق هجرة اليهود إلى فلسطين، وقد ضم بعضها متدينين والبعض الآخر طلاباً ثوريين ومتعاطفين ومحسنين، كانوا على استعداد للتبرع من أجل توطين اليهود في فلسطين، واشتهرت تلك الجمعيات باسم "أحباء صهيون". وأنشئت فروع تلك الجمعيات في أوروبا الشرقية أيضاً، وخاصة في رومانيا التي كان بها اثنان وثلاثون فرعاً.

ولما كانت القيصرية لا تسمح لليهود بأي نشاط سياسي فقد انصرف أحباء صهيون إلى قضية الهجرة وحدها ولم يتبنَّوا أية أهداف سياسية معلنة،وحرصوا على إضفاء طابع الفقر والمسكنة على هجراتهم ومهاجريهم.

ولما كان يهود أوروبا الغربية في نهاية القرن التاسع عشر يتمتعون بحرية أكثر من أخوانهم في أوروبا الشرقية، فقد اقتصر نشاط جمعيات أحباء صهيون هناك على جمع المساعدات الخيرية دون أي أهداف سياسية خوفاً من أن تصبح وطنيتهم موضع شك. وخلال مؤتمر برلين عام 1882، الذي ضم العديد من التجمعات اليهودية، عارض الجميع هجرة اليهود إلى فلسطين.

وقد تمزقت حركة أحباء صهيون في النهاية نتيجة للنزاعات الداخلية بين القائمين على الحركة، ومحاولة رجال الدين التخلص من المفكرين الأحرار الذين كانوا يوجهون نشاط تلك الجمعيات، كما شلتها الأنباء التي كانت ترد عن الصعوبات التي يواجهها المستوطنون في فلسطين وسوء إدارة المستوطنات وقلة إنتاجها. وعلى الرغم من فشل حركة أحباء صهيون من الناحية التنظيمية والسياسية، إلا أن آلاف المتعاطفين تعلقوا بها وظلوا على إيمانهم بأن آمالهم سوف تتحقق يوماً ما.

وفي النهاية فإنه يمكن القول، ان الدعوات الفكرية والمشروعات الأولى لرواد الحركة الصهيونية كانت حجر الأساس في بناء الصهيونية السياسية التي أطلقها "تيودور هرتزل" عام 1897، فهو الذي أخرج الصهيونية من عالم الأفكار وحولها إلى حركة سياسية قابلة للتطبيق.

ثانياً: البيئة الأوروبية ونشوء الحركة الصهيونية (السياسية)

1. أبرز عوامل البيئة الأوروبية التي ساعدت على نشوء الصهيونية

لم يكن من قبيل المصادفة أن تنشأ الصهيونية في أوروبا في القرن التاسع عشر، وأن تُصاغ عقيدتها الفكرية بالشكل الذي صيغت به، كما لم تكن المشكلة اليهودية مسؤولة وحدها عن نشوء ذلك الفكر وبلورته، حيث ساهمت البيئة الأوروبية آنذاك في ظهور الفكر الصهيوني.

وكان أبرز عوامل البيئة الأوروبية تأثيراً في هذا المجال هي:

أ. نشاط الحركة الاستعمارية الأوروبية

ب. تصاعد الحركة القومية في أوروبا.

ج. تفاقم المسألة الشرقية.

2. نشاط الحركة الاستعمارية الأوروبية

شهدت سبعينيات القرن التاسع عشر اشتداد التنافس بين الدول الاستعمارية الأوروبية بعد أن دخلت حلبة الاستعمار قوى أوروبية جديدة، أهمها ألمانيا وبلجيكا وإيطاليا. ولم تكن أي من القوى الاستعمارية الأوروبية في حاجة إلى تبرير لنشاطها الاستعماري، الذي غطى معظم القارة الأفريقية خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن التاسع عشر. وقد أعطى استعمار أفريقيا مثالاً نموذجياً لجوهر الاستعمار العنصري، الذي اتخذ طابعاً استيطانياً في بعض أجزاء القارة.

وقد أدى فتح قناة السويس إلى اشتداد التنافس بين الدول الاستعمارية على مصر والشمال الأفريقي. وفي المفاوضات الثنائية بين تلك الدول كان يجرى تحريك واستبدال الدول المرشحة على خريطة الاستعمار كما يتم تحريك قطع الشطرنج.

وفي هذه البيئة الاستعمارية التي سيطرت فيها أوروبا على 35% من مساحة المعمورة، وكان البعض منها استعماراً استيطانياً لم يكن غريباً على سمع الحكومات الأوروبية المطالبة اليهودية باستيطان الأراضي الفلسطينية بل إن ذلك في الحقيقة كان ملائماً لمصالح البعض منها على نحو ما سنرى في هذا الفصل.

3. تصاعد الحركة القومية في أوروبا

ساهمت حروب نابليون في نشر مبادئ الثورة الفرنسية والفكر القومي في أوروبا، وهو ما أدى إلى عدة انتفاضات وحروب قومية في أوروبا، كان أولها الحرب القومية في اليونان التي كانت جزءاً من البلقان العثماني، وقد هزت بثورتها القومية كل القوميات الأخرى في البلقان وأدت إلى تحرير اليونان والصرب.

كما كانت الثورة الإيطالية من أجل الوحدة القومية مثلاً بارزاً في الأحداث الأوروبية على امتداد خمسة عقود، وهي الثورة التي انتهت بإنشاء، مملكة إيطاليا بعد توحدها عام 1861.

وفي ألمانيا عمل بسمارك منذ عام 1862 على تحقيق الوحدة القومية بين الإمارات والمقاطعات الألمانية، ولما كان الولاء فيها يتأرجح بين الأسرتين الحاكمتين (هابسبرج وهوهنزلرن)، فقد عمل بسمارك على توجيه الولاء الألماني نحو القومية الألمانية الواحدة.

وفي سبعينيات القرن التاسع عشر أدت ثورة مولدافيا ووالاشيا إلى تحقيق وحدة الشعب في هاتين المقاطعتين وتكوين دولة رومانيا. كما أدت الحرب التركية ـ الروسية (1877 ـ 1878) إلى نشأة دولة بلغاريا.

وفي البلقان النمساوي اعترفت النمسا بالقومية المجرية التي منحتها الحكم الذاتي، وعلى ذلك قام اتحاد المملكة النمساوية ـ المجرية عام 1867 على أساس فيدرالي بين البلدين.

وفي ظل هذه الحركات القومية التي غطت مسيرة القرن التاسع عشر كانت البيئة الأوروبية مهيئة للدعوة القومية اليهودية، فسارع هرتزل قبل فوات الأوان يطلب لشعب لم يتوحد بعد بمكان تحت الشمس في ظل الاستعمار الأوروبي.

4. تفاقم المسألة الشرقية

مع تغير ميزان القوى بين الدولة العثمانية والدول الاستعمارية الكبرى لصالح الأخيرة خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، بدأت تلك الدول تعد نفسها لوراثة "الرجل المريض" واقتسام تركته. وسعياً وراء تفكيك الدولة العثمانية، ساندت تلك الدول الحركات القومية وخاصة في البلقان حيث بدأ الانسلاخ عن الأراضي العثمانية.

وجذبت فلسطين بموقعها الإستراتيجي وبصفتها موطن الديانة المسيحية اهتمام الدول الأوروبية وخاصة بريطانيا، وسارع الجميع إلى إنشاء القنصليات في القدس ما بين عام 1839 وعام 1845، وكان الموضوع الرئيسي المتداول بين هذه القنصليات هو مصير الإرث العثماني.

وفي هذه المرحلة برز موضوع إنشاء دولة يهودية في فلسطين لتكون عازلاً بين الدولة العثمانية وطموحات محمد على وخلفائه التي كادت أن تهدد مخططات الوراثة الأوروبية لرجلها المريض.

وهكذا لم يكن صعباً على رواد الحركة الصهيونية وزعمائها ـ في أجواء دولية تحكمها شريعة الاستعمار وأجواء عثمانية تسيطر عليها عوامل الضعف والتفكك ـ أن يخططوا كقوة استعمارية جديدة لوضع يدهم على فلسطين.

ثالثاً: الاستعمار البريطاني والحركة الصهيونية

1. الاستعمار البريطاني ومحاولة عزل مصر

كانت انطلاقة الجيش المصري في عهد محمد على في اتجاه سورية والأناضول ووصوله إلى أزمير عام 1833، وتهديد الأخير بالزحف على الاستانة بمثابة ناقوس الخطر بالنسبة للدول الأوروبية التي كانت تعد نفسها لوراثة الدولة العثمانية (رجل أوروبا المريض)، وقد تزايدت مخاوف تلك الدول وخاصة بريطانيا بعد تجدد القتال بين الجيشين المصري والتركي عام 1839 وهزيمة الأخير في معركة "نصيبين" وتسليم قائد الأسطول التركي نفسه وأسطوله إلى والي مصر.

وإزاء ذلك الموقف وجدت بريطانيا أن عليها أن تتدخل بسرعة لتحجيم طموحات محمد على وحصره داخل مصر حتى لا يهدد خططها تجاه وراثة الدولة العثمانية، بعد أن أصبح لديه من القوات البرية والبحرية ما يمكنه من أن يصبح قوة مؤثرة في شرق البحر المتوسط، أو يزحف على الاستانة لتجديد شباب الخلافة العثمانية، وفي كلتا الحالتين سيكون عائقاً أمام المحاولات الأوروبية لاقتسام تركة الرجل المريض.

وعلى ذلك شكلت بريطانيا مع الدول الأوروبية (الدولة العثمانية والنمسا وروسيا وبروسيا) حلفاً فرض على محمد علي معاهدة لندن 15 يوليه 1840، وأجبرت بالقوة والي مصر على التخلي عن سورية.

ولما كانت بريطانيا لا تريد موت الرجل المريض وقتئذ، كما أنها لا تريد له العافية في نفس الوقت، فقد وجدت أن الحل لهذه المشكلة هو إيجاد عازل يفصل بين مصر وتركيا يُبقى كل منهما في مكانه، ويمنع أيّاً منهما من أن يصبح أقوى مما ينبغي.

وقد وجد رئيس الوزراء البريطاني اللورد بالمرستون Sir Viscount Palmerston في ذلك العازل حلاً للمشكلة اليهودية في أوروبا من ناحية وحلاً جزئياً للمسألة الشرقية من ناحية أخرى، فهو يسمح بزرع اليهود الأوروبيين كجسم غريب في المنطقة، مما يجعلهم في حاجة إلى الحماية البريطانية، في الوقت الذي يكونون فيه شوكة في جانب مصر تمنع عودتها إلى سورية مستقبلاً، كما أن ذلك الحل سيحمي الرجل المريض من مطامع جيرانه ويؤجل طرح مسألة الوراثة لوقت أكثر ملائمة لبريطانيا.

ومن هذا المنطلق أرسل "بالمرستون" في 11 أغسطس 1840 تعليماته إلى سفيره في الأستانة بشأن تمهيد الموقف مع السلطان عبدالمجيد لهجرة اليهود إلى فلسطين، وأن يوضح له أن الحكومة البريطانية ترى أن الوقت قد حان لفتح أبواب الهجرة إليها، وأن يغري السلطان وحاشيته بالمكاسب المالية الكبيرة التي سيجنونها من اليهود فيما لو سمحوا بهذه الهجرة، وأن يؤكد للسلطان أنه إذا عاد الشعب اليهودي إلى فلسطين فإن ذلك سيكون حائلاً بين محمد على أو من يخلفه وبين تحقيق خطته الشريرة في الجمع بين مصر وسورية وتهديد الدولة العثمانية. (اُنظر ملحق مذكرة بالمرستون إلى سفير بريطانيا في تركيا بخصوص توطين اليهود في فلسطين 11 أغسطس سنة 1840)

وإزاء عدم استجابة السلطان للإغراءات البريطانية، أرسل بالمرستون تعليماته إلى سفيره مرة أخرى في فبراير 1841[2]، بأن يسعى إلى إقناع السلطان وحاشيته بأن محمد على قد يحاول مرة أخرى توحيد مصر وسورية ويعلن فيهما تأسيس خلافة جديدة تعيد ذكريات الدولة الأموية وتوحد العرب في إمبراطورية كبيرة تهدد تركيا وقد تقضي عليها، والحل السريع الممكن لمواجهة مثل هذا الاحتمال هو "إقامة عازل بين الدولة العثمانية وبين طموحات محمد على". "والعازل الذي يمكن التفكير فيه هو توطين اليهود في فلسطين لأن ذلك يجعل منهم شوكة في خاصرة محمد على تمنعه من تهديد تركيا". وأوضح بالمرستون لسفيره" أن الحكومة الإنجليزية ستكون مستعدة ـ إذا ما قبل السلطان بمشورتها ـ أن تضع المستعمرات اليهودية في فلسطين تحت حمايتها ليكون ذلك تحذيراً دائماً لمحمد علي".

وفي الوقت الذي كان فيه بالمرستون ينتظر موافقة السلطان عبدالمجيد على مشروع العازل تلقى تقريراً عن أوضاع اليهود في أوروبا وشرق البحر المتوسط ومدى استعدادهم للهجرة إلى فلسطين كان ملخصه ما يلي:

أ. إن الأراضي المقدسة (فلسطين) ليس فيها قاعدة يهودية كافية لتحمل عبء هجرة يهودية مؤثرة على فرض أن هذه الهجرة اليهودية كانت جاهزة[3].

ب. إن يهود الشرق (يهود مصر وسورية وتركيا) ليسوا متحمسين للعودة إلى فلسطين ويخشون أن كثرة الحديث عن هذه العودة سوف تعرضهم لمشاكل لا قِبَل لهم بها في البلاد التي يعيشون فيها.

ج. إن الاستعداد للهجرة يمكن أن يقتنع به يهود شرق أوروبا ولكن اقتصار الهجرة عليهم سوف يجعل من فلسطين جيتو آخر من اليهود الشرقيين تحت الحكم التركي، واليهود الأقرب إلى تقبل فكرة الهجرة هم الشيوخ الذين أُتيحت لهم قراءة التلمود ودراسته، أما شباب اليهود فهم يفضلون الاندماج في المجتمعات التي يعيشون فيها.

د. إن اليهود عموماً لا يعرفون ما فيه الكفاية عن فلسطين، وليسوا واثقين من أن أحوالهم تسمح بالاستيطان فيها ويفضلون الاستيطان في أمريكا.

هـ. إن كثيرين من حاخامات اليهود أنفسهم غير متحمسين لعودة اليهود إلى فلسطين، فمن منظورهم التوراتي فإن العودة لا يمكن أن تبدأ إلا بظهور المسيح الذي سيقود شعبه إلى هناك.

و. لا يوجد تنظيم يهودي جاهز يستطيع أن يقود شعبه إلى هذه العودة.

ويوضح هذا التقرير مدى المفارقة الكامنة في موقف كل من اليهود والحكومة البريطانية في أواخر العقد الرابع من القرن التاسع عشر، حيث أنه في الوقت الذي كانت السياسة البريطانية الاستعمارية تسعى بهمة إلى زرع اليهود في فلسطين لعزل مصر عن سورية، كان اليهود وقتئذ عازفين عن الهجرة إليها مفضلين أمريكا بدلاً منها، مما يوضح أن الفكر الصهيوني في السياسة البريطانية كان سابقاً للصهيونية اليهودية السياسية التي بشر بها هرتزل بعدما يقرب من ستة عقود.

2. وضع اليهود تحت الحماية البريطانية

وإزاء ما جاء في التقرير السابق ورفض السلطان عبدالمجيد السماح بالهجرة اليهودية الجماعية إلى فلسطين، اتجهت الحكومة البريطانية إلى إسباغ حمايتها على اليهود في الدولة العثمانية. فأصدر بالمرستون تعليماته الصريحة إلى جميع القناصل الإنجليز في الدولة العثمانية بمنح الحماية البريطانية لجميع اليهود من كل الجنسيات. كما أصدرت الحكومة البريطانية تعليمات جديدة عام 1848 لبسط حمايتها على اليهود الروس الذين سحبت الحكومة الروسية جنسياتهم.

ومع وضع الحماية البريطانية موضع التنفيذ عُقد مؤتمر يهودي في لندن عام 1849 برعاية أسرة "روتشيلد" ـ أغنى العائلات اليهودية في أوروبا وانتهى المؤتمرون إلى إعلان قبول يهود العالم للحماية البريطانية حيثما كانوا والتوجه برجاء إلى الحكومة البريطانية بأن تسهل لليهود استعمار فلسطين على نحو ما يجرى في مناطق أخرى.

وخلال العقود التالية من القرن التاسع عشر تناوب رئاسة الحكومة البريطانية اثنان من غلاة الصهيونيين البريطانيين، أولهما "جلادستون" البروتستنتي وهو صهيوني بالمعنى المسيحي للكلمة، أي من هؤلاء الذين يؤمنون دينياً بحرفية ما جاء في العهد القديم عن "عودة اليهود" إلى فلسطين، وثانيهما "دزرائيلي" اليهودي وهو صهيوني بالمعنى اليهودي للكلمة.

ويبدو أنه عُقدت في عام 1875 صفقة سياسية بين "دزرائيلي" و"روتشيلد" يقوم الأخير بموجبها بتمويل شراء الحكومة البريطانية الحصة المصرية في شركة قناة السويس ـ والتي كانت معروضة سراً للبيع ـ في نظير تسهيل الحكومة البريطانية لليهود استعمار فلسطين. فبعد أقل من سنتين بدأت تُزرع في فلسطين المستعمرات اليهودية التي يمولها أغنياء اليهود وعلى رأسهم أسرة روتشيلد خاصة بعد الاحتلال البريطاني لمصر عام 1882. فقد زُرع في فلسطين حتى عام 1890 إحدى وعشرون مستعمرة كبيرة جملة مساحتها 25453 فدان بالإضافة إلى عدد من المستعمرات الأخرى الأقل مساحة. وقد ساعد على ذلك تزايد موجات الهجرة إلى فلسطين ـ بطريقة غير شرعية رغم أنف السلطان عبدالحميد الذي رفض الهجرة الجماعية اليهودية ـ اعتباراً من عام 1882. ففي الوقت الذي لم يزد فيه عدد المهاجرين اليهود إلى فلسطين منذ عام 1840 وحتى عام 1880 عن عشرة آلاف مهاجر، فقد بلغت أعدادهم خلال عقد الثمانينيات وحده (1881 ـ 1900) إلى 25 ألف مهاجر. وعلى ذلك قفزت أعداد اليهود في فلسطين من تسعة آلاف يهودي عام 1840 إلى ما يقرب من خمسين ألف يهودي عام 1900.

ومن ناحية أخرى بدأت بريطانيا وفرنسا تتخليان عن سياسة المحافظة على الدولة العثمانية (الرجل المريض)، وأخذت كل منهما في اقتطاع بعض ولايات تلك الدولة كلما سمحت الظروف بذلك. فاحتلت بريطانيا جزيرة قبرص عام 1878، ثم مصر عام 1982، كما بسطت فرنسا حمايتها على تونس عام 1881. وباحتلال مصر أخذت بريطانيا ترنو ببصرها إلى المشرق العربي لإحكام سيطرتها على طرق مواصلاتها الإمبراطورية مع الهند وشرق أسيا، في الوقت الذي كان فيه لفرنسا ادعاءات في شرق البحر المتوسط، حيث تعد نفسها حامية للأقلية الكاثوليكية في سورية والأماكن المسيحية المقدسة في فلسطين، مما أدى إلى تعارض مصالح الدولتين في المشرق العربي.

إلا أنه إزاء التقارب بين ألمانيا والدولة العثمانية ومنافسة الأولى لكل من فرنسا وبريطانيا في استعمار أفريقيا توصلت الأخيرتان إلى الاتفاق الودي بينهما عام 1904.

 



[1] إقليم في وسط أوروبا يقع جنوب شرقي بولندا وغرب أوكرانيا (في الاتحاد السوفيتي السابق).

[2] المذكرة الأولى التي أرسلها بالمرستون إلى سفيره كانت في 11 أغسطس 1840.

[3] كان عدد اليهود في فلسطين في ذلك الوقت لا يزيد عن تسع آلاف نسمة.