إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / القضية الفلسطينية ونشأة إسرائيل، وحرب عام 1948





معارك المالكية
معركة مشمار هايردن
العملية مافيت لابوليش
العملية نخشون

أوضاع الألوية الإسرائيلية
أوضاع المحور العرضي
أوضاع القوات المصرية
أهداف القوات العربية
محصلة الجولة الأولى
مشروع لجنة بيل
مسرح عمليات فلسطين
أعمال القتال المصري ـ الإسرائيلي
معركة وادي الأردن
معركة نجبا
معركة نيتسانيم
معركة مشمار هاعيمك
معركة أسدود
معركة اللطرون (الهجوم الأول)
معركة اللطرون (الهجوم الثاني)
معركة العسلوج
معركة القدس
معركة بئروت يتسحاق
معركة جلؤون
معركة جنين
معركة يد مردخاي
معركة جيشر
الأوضاع المصرية والإسرائيلية
الموقف في نهاية الفترة الأولى
المستوطنات الإسرائيلية في فلسطين
الاتجاهات التعبوية لمسرح العمليات
الاستيلاء على مستعمرات عتصيون
الاستيلاء على صفد وتخومها
الاستيلاء على عكا
التنفيذ الفعلي للعملية يؤاف
التقسيمات العثمانية في سورية
الحدود في مؤتمر الصلح
الخطة الأصلية للعملية يؤاف
العملية هاهار
العملية ميسباريم
العملية أساف
العملية مكابي
العملية بن عامي (تأمين الجليل)
العملية باروش
العملية حوريف (حوريب)
العملية داني
العملية يبوس
العملية حيرام
العملية ديكيل
العملية يفتاح (تأمين الجليل)
العملية شاميتز
العملية عوفدا
القتال في المحور الشرقي
القتال في جيب الفالوجا
اتجاهات الجيوش العربية
اتفاقية سايكس/ بيكو
تقدم القوات المصرية في فلسطين
تقسيم فلسطين
تقسيم فلسطين الأمم المتحدة
دخول الفيلق الأردني القدس
حدود فلسطين تحت الانتداب
سورية في العصر الإسلامي
سورية في العصر البيزنطي
سورية في العصر اليوناني
سورية في عهد الأشوريين
طريق تل أبيب ـ القدس
كنعان قبل قيام إسرائيل
فلسطين في عهد الملوك



أمن البحـــر الأحمــر

المبحث الثالث

مرحلة انطلاقة الصهيونية السياسية

(1897 ـ 1914)

أولاً: تنظيم الحركة الصهيونية وبناء مؤسساتها

1. ظهور "تيودور هرتزل Theodor Herzel" (1860 ـ 1904)[1] 

يعد تيودور هرتزل مؤسس الحركة الصهيونية السياسية والذي تم على يديه تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية، وفي شبابه كان هرتزل من أنصار الاندماج إلى الحد الذي كان يرى فيه أن الحل الوحيد للمشكلة اليهودية هو اعتناق اليهود للمسيحية اعتناقاً جماعياً، ثم بدأ يتحول تدريجياً من الاندماج إلى الصهيونية مع تزايد تيار معاداة السامية في أوروبا.

وقد رأي هرتزل أن كل مكان فيه تجمع يهودي فيه معاداة للسامية وأن الشعوب كلها تكره اليهود وإن يكن بعضها ـ في رأيه ـ يجاهر بعدائه للسامية، والبعض الآخر يُخفيه. وأرجع هرتزل ذلك الكُره إلى مواهب اليهود وأخطائهم "نحن على الأرجح مكروهون لمواهبنا، تماماً كما نحن مكروهون لأخطائنا". ولا يبحث هرتزل (الصهيوني) عن حل للمشكلة اليهودية إلا عن طريق استفحال معاداة السامية لتصبح المحرك الأول لدفع اليهود نحو الصهيونية، ويربط هرتزل بين الاضطهاد والقومية اليهودية. فهو يرى الشعب اليهودي جماعة تاريخية تتميز بالتماسك لأنه يجمع بينها عدو مشترك، وهذا العدو هو المعاداة للسامية.

وأودع هرتزل أفكاره عن الحل الصهيوني للمشكلة اليهودية في كتابه الذي أسماه "الدولة اليهودية" والذي كان أصلاً رسالة موجهة إلى "آل روتشيلد" بشأن مخططه السياسي. ففي ذلك الكتاب ـ الذي نشر في فبراير 1896 ـ دعا هرتزل إلى إقامة دولة يهودية ذات سيادة، وليس مهماً أن تكون في فلسطين أو الأرجنتين المهم أن تكون صالحة وكافية، وإن كان لم يخف تفضيله لفلسطين التي قال عنها. "إنها وطن اليهود التاريخي الذي لا يمكن أن ينسى، ويكفي أن سحر هذا الاسم سيجلب اليهود إليها". واقترح هرتزل دستوراً للدولة اليهودية المقترحة التي يجب أن يكون لها جيش صغير مسلح بأحدث الأسلحة للدفاع عنها.

وقام مشروع هرتزل على خطوتين رئيسيتين: الأولى الحصول على وعد دولي (براءة دولية) بإعطاء اليهود أرضاً لبناء الدولة، وليس مهماً أن يكون الوعد من تركيا أو ألمانيا أو روسيا أو بريطانيا أو فرنسا، فالمهم أن يكون وعداً دولياً قادراً على حماية المشروع، أما الخطوة الثانية هي جمع الأموال من أثرياء اليهود لشراء هذه الأرض. ولا ينسى هرتزل الأجهزة اللازمة لتنفيذ مشروعه والتي رأى أن تتكون من هيئتين هما: جمعية عامة لليهود وشركة يهودية تعمل إلى جانب الأولى في تمويل عملية إنشاء المجتمع اليهودي في الدولة المقترحة، وحدد هرتزل الوظيفة الاستعمارية للدولة التي يدعو لها (في حالة فلسطين) بقوله: "فنحن هناك نؤلف جزءاً من الاستحكام (الاستحكامات) الأوروبية ضد أسيا، وسنكون قاعدة أمامية للحضارة (الأوروبية) لمقاومة الهمجية".

وبالنسبة لفلسطين، رفض هرتزل النظر إلى قضية الاستيطان اليهودي فيها من كافة وجوهها، وصمم على أنها "قضية أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"، وأن مشكلة الاستيطان فيها لا تعدو الحصول على موافقة السلطان وتوفير وسائل نقل اليهود إليها.

وبدأ هرتزل أولى خطواته التنفيذية في مايو 1896 للحصول على موافقة السلطان عبدالحميد بعد أن دبَّر عملية التمويل الذي ستساهم فيه أسرة روتشيلد بالنصيب الأوفى. ولتحقيق هذا الهدف حاول هرتزل ـ عن طريق أحد أصدقائه المقربين للسلطان عبدالحميد إغراء الأخير على بيع أرض فلسطين نظير 20 مليون ليرة تركية. إلا أن السلطان خيب ظن هرتزل برفضه القاطع للعرض اليهودي، غير أن هذا الرفض لم يثن هرتزل عن مواصلة محاولاته فيما بعد. (اُنظر ملحق هرتزل ـ مانقله نيولنسكى الى هرتزل حول رأى السلطان عبد الحميد فى بيع فلسطين لليهود 19/6/1896)

ولم تقتصر اتصالات هرتزل في هذه المرحلة على السلطان عبدالحميد وحاشيته، وإنما غطت اتصالاته عدداً كبيراً من ساسة بريطانيا وألمانيا وفرنسا وروسيا، ويوضح خطابه إلى اللورد سالسبوري في ديسمبر 1896 منهجه وأهدافه خلال تلك الاتصالات،والتي حاول فيها الحصول على دعم إحدى الدول الكبرى لمشروعه من خلال توضيح التوافق بين مصالح تلك الدول وإقامة الدولة اليهودية في فلسطين (اُنظر ملحق رسالة هرتزل الى لورد سولزبرى ديسمبر سنة 1896).

2. المؤتمر الصهيوني الأول (29 ـ 31 أغسطس 1897)

لما كان هرتزل يعلم أن مشروعه لإقامة الدولة اليهودية لا يمكن أن يتم على يد رجل واحد، فقد دعا إلى عقد مؤتمر صهيوني عالمي، وكان مقرراً عقده في ميونخ، إلا أن الدعوات الرسمية أثارت غضب اليهود الغربيين واعتبرته الصحافة الألمانية خيانة. كما رفضته رابطة رجال الدين اليهود في ألمانيا.

وأدت هذه الحملة إلى نقل مكان المؤتمر إلى "بازل" في سويسرا وكثف هرتزل نشاطه لمراسلة كافة زعماء اليهود في العالم يحثهم على انتخاب ممثليهم في المؤتمر الذي عقد في الفترة من 29 إلى 31 أغسطس 1897 برئاسة هرتزل وحضور مائتين وأربعة أعضاء يمثلون يهود خمس عشرة دولة، وكان أبرز ما جاء في كلمة هرتزل، هو رفضه للوسائل القديمة في استعمار فلسطين قطعة بعد قطعة، وتركيزه على أهمية الوعد الدولي (البراءة الدولية )، وضرورة إنشاء مؤسسات جديدة.

وقد أسفر ذلك المؤتمر عن إنشاء منظمة صهيونية دائمة، وهي المقابل للجمعية اليهودية العامة في كتاب هرتزل. أما الجهاز التنفيذي للمنظمة الصهيونية فانبثق من اللجنة التنفيذية الكبرى التي تتألف من ممثلين عن مختلف الاتحادات الصهيونية، بينما اتسعت عضوية المنظمة الصهيونية لكل من يوافق على برنامج المؤتمر الصهيوني الأول ويدفع الرسم السنوي المطلوب وهو شيكلاً واحداً.

وانتهى المؤتمر إلى انتخاب هرتزل رئيساً للمنظمة الصهيونية، واتخاذ عدة قرارات حددت برنامج الحركة الصهيونية العالمية لإنشاء الدولة اليهودية وعُرفت تلك القرارات "ببرنامج بازل" وهي: (اُنظر ملحق The Basel Programme August 1897)

أ. تشجيع الاستعمار الاستيطاني في فلسطين على أسس مناسبة بواسطة العمال الزراعيين والصناعيين اليهود، والعمل على إنشاء مستعمرات زراعية وعمرانية في فلسطين.

ب. إنشاء منظمة تربط يهود العالم عن طريق منظمات محلية تابعة لها في كل بلد يتواجد فيه اليهود.

ج. تقوية وتعزيز الشعور القومي لدى اليهود.

د. اتخاذ الخطوات التمهيدية من أجل الحصول على موافقة حكومية دولية (البراءة الدولية) لتحقيق أهداف الصهيونية.

وقد انقسم اليهود في أوروبا تجاه المؤتمر بين مؤيد ومعارض. أما الفاتيكان فقد كان أول القوى المعارضة، حيث أصدر بياناً في أعقاب المؤتمر مباشرة عارض فيه ـ باسم المسيحية ـ سيطرة اليهود على الأماكن المقدسة.

3. المنظمة الصهيونية العالمية وأعمالها

مع تأسيس المنظمة الصهيونية العالمية وإقرار نظامها الداخلي وهيكلها التنظيمي وشروط عضويتها، وانتخاب هرتزل لرئاستها، فإن المؤتمر الصهيوني الأول وضع أولى لبنات تنظيم الحركة الصهيونية. وبانتهاء ذلك المؤتمر بدأت المنظمة أعمالها في ثلاث محاور متوازية: استكمال بناء مؤسسات الحركة الصهيونية، والحصول على الدعم والتأييد الدولي للمشروع الصهيوني[2]، مع دعم وتطوير عملية الاستيطان في فلسطين.

وبالنسبة للمحور الأول، فقد عقدت المنظمة الصهيونية ما بين مؤتمر بازل وبداية الحرب العالمية الأولى عام 1914 عشرة مؤتمرات، تم خلالها تأسيس عدد من المؤسسات الصهيونية اللازمة لتنفيذ برامج بازل، كان أبرزها:

أ. المصرف اليهودي للمستعمرات (صندوق الائتمان اليهودي للاستعمار)

وقد أُنشئ هذا المصرف عام 1899 بناءً على قرارات المؤتمرين الأول والثاني ليكون الإدارة المالية لتنمية رأس المال اللازم لبرنامج الاستيطان الصهيوني وتمويل الهجرة اليهودية إلى فلسطين، ولم يبدأ ذلك المصرف عمله جدياً إلا في عام 1901، وفتح فرع له في فلسطين عام 1903.

ب. الصندوق القومي اليهودي (كيريت كايمت)

أُنشئ ذلك الصندوق عام 1901 طبقاً لقرارات المؤتمر الصهيوني الخامس لجباية الأموال من أجل شراء الأراضي من سورية وفلسطين. وقد نص النظام الأساسي لذلك الصندوق على ما يلي:

(1) اعتبار الأراضي التي يشتريها الصندوق وقفاً أبدياً باسم الشعب اليهودي لا يجوز بيعها أو التصرف فيها.

(2) تسليم الأراضي المشتراة للمزارعين اليهود بأسلوب الإيجار المتوارث.

(3) إتاحة المجال أمام العمال اليهود لاستيطان هذه الأراضي.

(4) ضمان العمل اليهودي وتشغيل الأيدي العاملة اليهودية دون سواها.

ج. مكتب فلسطين

أُسس هذا المكتب عام 1908 بواسطة المكتب التنفيذي للمنظمة الصهيونية العالمية، وعمل كوكالة مركزية للاستيطان اليهوي، وشمل نشاطه شراء الأراضي ومساعدة المهاجرين اليهود وتوجيه الاستيطان الزراعي باسم المنظمة الصهيونية العالمية، وقد أنشأ هذا المكتب بدوره شركات لشراء الأراضي في ريف فلسطين ومدنها.

ثانياً: الجهود الصهيونية للحصول على الدعم والتأييد الدولي لمشروعها

1. هرتزل ومحاولة تنفيذ المشروع الصهيوني في فلسطين

بالرغم من فشل المحاولة الأولى لهرتزل مع السلطان عبدالحميد عام 1896 على نحو ما سبق، فقد استمرت اتصالاته مع حاشية السلطان ثم مع السلطان نفسه لمدة ست سنوات لم يقطع فيها الأمل في الحصول على وعد بفلسطين، وكان الإغراء بالمال وسيلته الوحيدة، بينما كان السلطان يريد الأخذ دون العطاء، فلم يكن على استعداد للتفريط في شبر من أرض فلسطين، خاصة بعد ما بلغه عن المؤتمر الصهيوني الأول وأطماع اليهود في فلسطين، وما تلقاه من سفيره في واشنطن من أنباء عن أهداف الصهيونية التي تبلورت في إحياء اليهودية في فلسطين وإقامة حكومة مستقلة فيها، وأن بعض اليهود في الولايات العثمانية يؤيدون هذا المشروع.

وإزاء هذه الأنباء التي زادت من مخاوف السلطان عبدالحميد، أصدرت الحكومة العثمانية تعليمات جديدة في يونيه 1898 بمنع اليهود الأجانب من دخول فلسطين، بغض النظر عن جنسياتهم، ما لم يدفعوا تأميناً ويقدموا تعهداً بمغادرة البلاد في غضون ثلاثين يوما.

ولم يفت ذلك في عضد هرتزل، الذي عاد إلى الاستانة في أكتوبر 1898، وكانت غايته أن يوسط قيصر ألمانيا "ولهلم الثاني" ـ الذي كان في زيارة لصديقه السلطان ـ من أجل إقناع الأخير بقبول تأسيس شركة قانونية (صهيونية في فلسطين) تحت الحماية الألمانية.

والتقى هرتزل بالقيصر بعد أسبوعين في القدس، آملاً أن يكون الأخير قد وفق في مسعاه لدى السلطان، إلا أن القيصر أبلغه في عبارات مبهمة أن المسألة "ما زالت في حاجة إلى دراسة شاملة وإلى المزيد من التفكير".

وعندما أحس هرتزل في ربيع عام 1901 بتشدد الحكومة العثمانية في تنفيذ قرارات منع الهجرة إلى فلسطين، صمم على التوصل إلى تفاهم من السلطان شخصياً، ونجح فعلاً في مقابلته في 18 مايو 1901 بصفته صحفياً ورئيساً لليهود وليس بصفته صهيونياً ودار الحديث بينهما حول مشاكل الدولة العثمانية الاقتصادية وتصفية دينها العام، وما يمكن لهرتزل أن يقدمه من مساعدات مالية. وفي ختام الحديث طلب الأخير من السلطان تصريحاً لصالح اليهود وعرضاً مفصلاً للوضع الاقتصادي ومشروع تصفية الدين.

وهكذا انتهى لقاء هرتزل الأول والأخير بالسلطان عبدالحميد دون أي وعود من الأخير سواء فيما يتعلق باليهود أو فلسطين، إلا أن اتصالات هرتزل استمرت بعد ذلك مع عزت باشا سكرتير السلطان وإبراهيم بك مترجمه حول حاجة الدولة إلى مبلغ أربعة ملايين جنيه خلال فترة زمنية قصيرة، ولكن هرتزل عرض عليهم في المقابل إنشاء شركة أراضي ضخمة تمنح المناطق غير المُستغلة في فلسطين لإسكان الناس فيها، وعلى حساب دخل الشركة يمكن اقتراض المبلغ المطلوب مقدماً.

وعند هذا الحد انتهت المباحثات، وتم إبلاغ هرتزل بأن السلطان في انتظار عروضه النهائية خلال شهر. وفي فبراير 1902 وصلته دعوة لزيارة الاستانة حيث جرت جولة جديدة من المباحثات مع سكرتير السلطان ومترجمه اللذين أبلغاه في 18 فبراير موقف السلطان الذي جاء مخيباً لآماله، فقد تلخص ذلك الموقف في موافقة السلطان على فتح جميع الولايات العثمانية ـ عدا فلسطين ـ لاستقبال اللاجئين اليهود من جميع الدول على أن يصبحوا رعايا عثمانيين بكل ما يفرضه ذلك عليهم من التزامات (الخضوع للقوانين العثمانية والقيام بالخدمة العسكرية )، وبشرط أن تكون الهجرة والإقامة غير جماعية وطبقاً للقرارات التي تتخذها الحكومة في المناطق التي تحدد لهم، وفي مقابل ذلك يعمل هرتزل على تكوين وكالة مالية لتصفية الدين العام للدولة واستغلال المناجم فيها مع تقديم القروض اللازمة للدولة بشروط ميسرة.

وقد رفض هرتزل العرض السلطاني الذي أفرغ الهجرة اليهودية من مضمونها وأبعدها عن فلسطين، وأوضح لرجلي السلطان أنه لا يقبل إلا بالهجرة غير المقيدة. وعندما اشار مترجم السلطان إلى الحكومة في حاجة عاجلة إلى مليون جنيه، أجاب هرتزل "اعطني الاستيطان غير المقيد وسوف تحصل على المليون في وقت قصير، أستطيع أن أعدك بذلك راساً لأن من أجله جئت".

وانتهت هذه الجولة من المفاوضات دون أن يظفر هرتزل بمراده، إلا أنه لم يدرك مدى فشله إلا في شهر مارس من نفس العام عندما أُعلن قبول السلطان لمشروع "روفييه" لتصفية الدين العام. وهنا أدرك هرتزل أن السطان ورجاله كانوا يستغلونه للحصول على أفضل العروض من المنافسين الآخرين.

وحاول هرتزل دخول فلسطين عن طريق باب آخر، فبعث إلى السلطان برسالة في 3مايو 1902، يعرض فيها إنشاء جامعة علمية ومدارس مهنية وزراعية في القدس، يمكن أن تستوعب الشبان الأتراك الذين يُبعثون للدراسة في أوروبا ويتأثرون بالأفكار الثورية. وجدد رجال السلطان الاتصال بهرتزل لعله يقدم عرضاً أفضل من مشروع "روفييه"، ومن ثم كانت زيارته الخامسة والأخيرة للأستانة في نهاية يوليه من نفس العام. وعلى الرغم من تلويحه باستثمار الأموال المطلوبة في مشروع استيطان آخر في جنوب أفريقيا، فإن السلطان لم يحد قيد أنملة عن موقفه السابق من رفض الهجرة اليهودية الجماعية إلى فلسطين.

وإزاء غلق فلسطين في وجه المشروع الصهيوني في عهد السلطان عبدالحميد. فكر هرتزل في الحصول على أرض قريبة منها (قبرص أو سيناء) تاركاً فلسطين هدفاً نهائياً عندما تتغير الأحوال في الأستانة.

2. هرتزل ومشروع قبرص ـ سيناء

كانت قبرص وسيناء في فكر هرتزل ـ كمشروعات مؤقتة ـ منذ تعثر جهوده الأولى في الأستانة فقد كتب في مذكراته بتاريخ 1 يوليه 1898: "منذ المؤتمر الأول وأنا أفكر في إعطاء الحركة الأرض الأقرب إلى الهدف تاركين صهيون هدفاً نهائياً. إن الجماهير اليائسة بحاجة ماسة إلى المساعدة، وتركيا لم تصل إلى حد اليأس لتلبية رغباتنا ... ربما نطلب قبرص من بريطانيا، بينما تبقى أعيننا على جنوب أفريقيا أو أمريكا، حتى تنحل تركيا".

وبدأ هرتزل نشاطه في إنجلترا بالاتصال بعدد من أعضاء مجلس اللوردات للتوسط لدى الحكومة البريطانية لحملها على منح المنظمة الصهيونية امتياز توطين اليهود في سيناء وقبرص، وفي يوليه 1902 قابل هرتزل اللجنة الملكية (وهي لجنة برلمانية رسمية) وعرض عليها مشروع سيناء ـ قبرص، موضحاً أن تمويل المشروع سيتم بأموال يهودية، مما جعل اللجنة تستنتج أن اللورد روتشيلد خلف المشروع.

وفي 22 أكتوبر من نفس العام تمكن هرتزل من مقابلة "جوزيف تشمبرلين" وزير المستعمرات وقدم له مشروعه الخاص بقبرص وسيناء، فأوضح له الوزير أنه لا يستطيع التكلم إلا عن قبرص كمستعمرة أما سيناء فهي من اختصاص وزارة الخارجية. وبالنسبة لقبرص، فإنه يخشى أن يقاوم سكان الجزيرة اليونانيين المشروع بمساعدة الأتراك، فضلاً أنه لا يستطيع إخراج سكانها لإحلال سكان جدد. وطلب منه مذكرة مكتوبة واعداً بالكتابة إلى اللورد كرومر في مصر بشأن سيناء.

وأرسل هرتزل لجنة من الخبراء لاستكشاف سيناء وزار القاهرة لبحث مشروعه الذي كان يهدف إلى استئجار مساحة من الأرض قدرها ستمائة وثلاثون ميلاً مربعاً حول العريش لمدة تسعة وتسعين عاماً، تكون بمثابة منطقة تجمع ووثوب إلى فلسطين عندما يحين الوقت المناسب، وكانت خطته تهدف إلى وضع هذه المنطقة تحت الحماية البريطانية بمقتضى تعهد موثق.

وبالرغم من محاولة هرتزل إغراء الخديوي عباس حلمي الثاني بالمكاسب المادية التي ستعود عليه من جراء ذلك المشروع الزراعي الاستيطاني، إلا أن الحكومة المصرية رفضت المشروع في مايو 1903 لأن مهندسي الري الإنجليز وجدوا أنه من الصعب توفير المياه اللازمة له، لأن ذلك سيؤثر على الزراعة في مصر.

3. هرتزل ومشروع شرق أوغندا

على أثر فشل مشروع سيناء توجه هرتزل مرة ثانية نحو بريطانيا، حيث قابل تشمبرلين وزير المستعمرات البريطاني الذي كان عائداً من جولة في أفريقيا، فأطلعه على نتائج مشروع سيناء. فاقترح عليه الوزير البريطاني إقامة مشروعه في شرق أفريقيا، وعلى الرغم من أن هرتزل كان يفضل أرضاً قريبة من فلسطين، فإنه وافق على النظر في العرض البريطاني، خاصة أنه واكب وقوع حملات اضطهاد جديدة في روسيا، وفي 20 مايو قدم تشمبرلين للحركة الصهيونية مساحة واسعة من الأرض شرق أوغندا تتسع لنحو مليون نسمة، مع الحق في إقامة حكومة محلية.

وعُقد المؤتمر الصهيوني السادس في 22 أغسطس 1903 بعد تلقي المنظمة الصهيونية موافقة الحكومة البريطانية رسمياً على توطين اليهود في شرق أوغندا، وعند عرض المشروع على المؤتمر أكد هرتزل في خطابه أن المشروع ليس بديلاً عن الاستيطان في فلسطين "إن أوغندا ليست صهيون، ولا يمكنها أن تكون"، وأوضح أن ذلك المشروع أملته الأوضاع القاهرة لحماية اليهود المضطهدين المشتتين، وقد أثار عرض المشروع نقاشاً حاداً بين المؤتمرين، وفي النهاية وافق المؤتمر على المشروع (بأغلبية 295 صوتاً ومعارضه 178 صوتاً وامتناع 100 عن التصويت بعد أن تعهد هرتزل بعدم البدء في عملية الاستيطان في شرق أوغندا قبل الحصول على موافقة مؤتمر صهيوني آخر.

وعلى ذلك تم الاتفاق على إرسال لجنة من المؤتمر لاستقصاء الموقف في شرق أفريقيا وتشكيل لجنة أخرى لدراسة أحوال اليهود في فلسطين، إلا أن مشروع شرق أوغندا لم يُكتب له النجاح نتيجة لمعارضة حكام المستعمرات الإنجليز في شرق أفريقيا (الذين عارضوا بشدة تدفق اليهود الروس) من ناحية والتقرير السلبي للجنة الاستقصاء من ناحية أخرى، وكان تقرير تلك اللجنة قد أوضح أن المنطقة المقترحة للمشروع لا تصلح لاستيطان جماعي، ولم يطل العمر بهرتزل ليشهد إخفاق آخر جهوده من أجل مشروع الاستيطان الصهيوني فقد توفى في يوليه 1904.

وعندما اجتمع المؤتمر الصهيوني السابع في بازل يوم 20 يوليه 1905 (موعد الذكرى السنوية الأولى لوفاة هرتزل) كان المتوقع أن يرثه الدكتور "ماكس نورداو" برئاسة المنظمة، إلا أن الأخير تخلى عن الرئاسة، فانتخب المؤتمر "دافيد وولفسون" رئيساً للمنظمة. وفي جلسة 30 يوليه قرر المؤتمر بأغلبية ساحقة رفض مشروع الاستيطان في شرق أفريقيا، ونص القرار على أن تكون فلسطين هي وطن الشعب اليهودي، ووجَّه المؤتمر الشكر للحكومة البريطانية على عرضها، الذي عُد دليلاً على اعتراف الحكومة البريطانية بالمنظمة الصهيونية وجهودها لإيجاد حل للمشكلة اليهودية، وأعرب المؤتمر عن رجائه في أن تسهم الحكومة البريطانية بجهودها الطيبة في حل أي مشكلة تتعلق ببرنامج بازل.

4. جهود المنظمة الصهيونية مع الدولة العثمانية بعد السلطان عبدالحميد

مع وصول "لجنة الاتحاد والترقي" إلى الحكم بعد ثورة يوليه 1908 ضد السلطان عبدالحميد، تهيأت ظروف أكثر ملائمة للمنظمة الصهيونية لإعادة الاتصال مع الحكومة الجديدة في الأستانة بشأن تسهيل الهجرة الجماعية إلى فلسطين، وحققت المنظمة قدراً من النجاح بفضل المساعي التي بذلها الوزراء اليهود الأربعة الذين تستروا بالإسلام (يهود الدونمة) وساهموا في الثورة على حكم السلطان عبدالحميد. وفي صيف عام 1909 صرح وزير الداخلية التركي في لندن بأنه يرحب بالهجرة إلى جميع أنحاء الدولة إلا أنه حذر من أية نوايا انفصالية. (اُنظر ملحق مذكرة السفير البريطانى فى تركيا الى وزارة خارجيته عن علاقة اليهود بحزب تركيا الفتاة (أغسطس 1910))

وعلى الرغم من سقوط " لجنة الاتحاد والترقي"، صيف عام 1912، فقد استمرت عمليات شراء الأراضي بواسطة مؤسسات المنظمة الصهيونية في فلسطين في عهد خليفتها (حكومة الحرية والائتلاف) التي تساهلت مع الحركة الصهيونية لحاجتها الماسة إلى الأموال لدعم خزينتها الخاوية بعد حروب البلقان ومن أجل ذلك أجرت الحكومة التركية ( في عهد حكومة الحرية والائتلاف ثم في عهد لجنة "الاتحاد والترقي"، التي عادت للحكم بانقلاب عام 1913) مفاوضات سرية لبيع الأراضي الأميرية في سورية وفلسطين، وانتهت تلك المفاوضات بإصدار الحكومة التركية تعليماتها عام 1913 إلى السلطات المحلية في سنجق (متصرفيه) القدس بوقف العمل بنظام "الورقة الحمراء"[3]، وفي مارس 1914، ألغت القيود المفروضة على تملك اليهود للأراضي في فلسطين، وبذلك تمت تصفية كافة القيود التي فرضتها حكومة السلطان عبدالحميد للحد من الهجرة والاستيطان الإسرائيلي في فلسطين.

وبلغ النفوذ الصهيوني ذروته في الأستانة في فبراير 1914، عندما طالبت المنظمة الصهيونية بتعيين قائمقامين يهوديين في المدن التي أصبحت فيها أكثرية يهودية مثل يافا وحيفا، كما زاحمت العرب لإرسال مبعوث يهودي عن سنجق القدس إلى مجلس "المبعوثان" (المجلس النيابي) في الأستانة.

ثالثاً: تطور الاستيطان الصهيوني في فلسطين (1882 ـ 1914)

1. موجة الاستيطان الرئيسية الأولى (1882 ـ 1903)

بدأت أولى موجات الاستيطان اليهودية الرئيسية في عهد السلطان عبدالحميد بالرغم من معارضته للهجرة الجماعية اليهودية إلى فلسطين وإصدار الحكومة التركية تعليماتها الواحدة تلو الأخرى إلى المسؤولين العثمانيين في فلسطين بهذا الشأن، الأمر الذي يعود بالدرجة الأولى إلى فساد الإدارة العثمانية في البلاد ونفوذ قناصل الدول الاستعمارية الأوروبية في القدس وإسباغهم الحماية على مواطنيهم من اليهود فيما عدا روسيا القيصرية التي تكفلت الحكومة البريطانية بوضع يهودها تحت حمايتها.

وقد استمرت موجة الاستيطان الرئيسية الأولى من عام 1882 وحتى عام 1903، وتراوح أعداد المهاجرين اليهود فيها ما بين 20 ألف و30 ألف مهاجر. وشملت تلك الموجة إتباع الجمعيات الصهيونية الأولى مثل "جمعية بيلو" و"جمعية محبي صهيون"، وغلب عليها الانتماء إلى الطبقات الوسطى في روسيا وبولندا ورومانيا وكان الدافع الأساسي لهذه الهجرة هو موجة الاضطهاد التي تعرَّض لها اليهود في روسيا القيصرية عام 1881.

واتسمت الموجة الرئيسية الأولى عن الهجرات اليهودية السابقة بأن مهاجري هذه الموجه كانوا من اليهود الأوروبيين الذين أرسوا أساس الاستيطان الصهيوني الاستعماري في فلسطين، بينما كان أغلب المهاجرين القدامى من اليهود الشرقيين الذين كانوا لا يرون في فلسطين إلا مكاناً مقدساً يلجاؤن إليه. وقد أنشأ المهاجرون الأوائل في هذه الموجة عدة مستوطنات زراعية، ولكنهم اكتفوا بالإشراف تاركين العمل للعمال العرب، واعتمدت هذه المستوطنات على المعونات التي قدمها كبار أغنياء اليهود وعلى رأسهم أسرة روتشيلد، وبالرغم من جهود الأخيرة والمؤسسات الصهيونية بعد ذلك، فلم يُقبل على الزراعة سوى ألف أسرة فقط، ومع مطلع القرن العشرين، كانت هذه الموجة قد أقامت 22 مستوطنة تبلغ مساحتها 220 ألف دونم[4].

2. موجة الاستيطان الرئيسية الثانية (1904 ـ 1914)

تراوحت أعداد موجة الهجرة الثانية إلى فلسطين ما بين 35 ألف و40 ألف مهاجر، جاء أغلبهم من روسيا القيصرية وشملت العمال الأعضاء في الحركة الصهيونية، وكان أهم دوافع هذه الموجة هي الأعمال المناهضة للسامية في روسيا القيصرية وخيبة أمل اليهود في إمكانية حل المشكلة اليهودية في أوروبا، وقد ساهمت هذه الموجة في دعم الاستيطان الاستعماري الصهيوني في فلسطين، خاصة وقد جاء فيها بعض الشخصيات الصهيونية البارزة، التي لعبت أدواراً هامة في إقامة الدولة اليهودية، مثل "دافيد بن جوريون" و"اسحاق بن زفي" و"ليفي أشكول"، وغيرهم.

وكان من أبرز سمات الموجة الثانية اعتناق الأفكار الاشتراكية ـ التي ترمي إلى إقامة مجتمع اشتراكي على النمط الأوروبي ـ والإصرار على أن تكون اللغة العبرية هي لغة تعليم اليهود في فلسطين، وعشية الحرب العالمية الأولى كان هناك ستون مؤسسة في فلسطين تستخدم اللغة العبرية في التعليم.

وابتداءً من عام 1908 بدأت المنظمة الصهيونية في الإشراف على الاستعمار الاستيطاني، فأنشأت في نفس العام فرعاً لها في فلسطين (المكتب الفلسطيني) لخدمة المهاجرين والمستوطنين الجدد وشراء الأراضي، كما أسست في نفس العام شركة فلسطين لتنمية الأراضي. وقد مكنت هذه الجهود الحركة الاستعمارية الصهيونية من إقامة 54 مستعمرة تبلغ مساحتها 420 ألف دونم حتى عام 1914 إلا أن المستعمرات العاملة منها لم تزد عن 47 مستعمرة. ولم تجذب هذه المستعمرات أكثر من 12 ألف مهاجر، بينما سكن الباقي في المدن، وخاصة تل أبيب التي اقامها الصندوق القومي لليهود عام 1909[5]. (اُنظر خريطة المستوطنات الإسرائيلية في فلسطين)

وأدى اندلاع الحرب العالمية الأولى إلى إنهاء موجة الهجرة الثانية، بعد أن بلغ عدد اليهود في فلسطين ما يقرب من ستين ألف نسمة، كانوا يمثلون 8% من سكان البلاد. وخلال تلك الحرب (1914 ـ 1918) غادر فلسطين عدة آلاف من اليهود الذين يحملون جنسيات الدول المعادية للدولة العثمانية في تلك الحرب، كما غادرها عدة آلاف غيرهم ابتعاداً عن خطر الحرب، مما أدى إلى انخفاض أعداد اليهود في فلسطين بمقدار الثلث.

رابعاً: تطور موقف الاستعمار والصهيونية تجاه فلسطين (1906 ـ 1914)

1. الاتصالات الصهيونية البريطانية قبل الحرب العالمية الأولى

بعد فشل مشروع شرق أوغندا عام 1905، لم تتوقف اتصالات المنظمة الصهيونية مع بريطانيا، حيث قام الدكتور "حاييم وايزمان" ـ أحد الشخصيات الصهيونية البارزة التي عارضت مشروع شرق أوغندا والذي تولى رئاسة المنظمة الصهيونية ثم دولة إسرائيل فيما بعد ـ بمقابلة "آرثر جيمس بلفور" (صاحب التصريح المعروف باسمه) عام 1906، حيث أبدى الأخير اهتماماً بالمشروع الصهيوني، وأوضح له وايزيمان سبب معارضتة لإقامة ذلك المشروع في شرق أوغندا، واستمرت اتصالات وايزمان مع المسؤولين البريطانيين حتى عام 1914 وعمل خلال هذه السنوات على كسب الشخصيات ذات النفوذ في بريطانيا الذين كانوا باستطاعتهم دعم المطالب الصهيونية في أوساط الحكومة البريطانية.

وبعد ثماني سنوات من لقائهما الأول، التقى وايزمان مع آرثر بلفور مرة أخرى عام 1914 في بداية الحرب العالمية الأولى، وكان الأول قد استقر في "منشستر" حيث لفتت إنجازاته العلمية في مجال الكيمياء الأنظار، وتَّعرف هناك على "س. ب. سكوت" رئيس تحرير جريدة "المنشستر جارديان"، الذي أقنعه وايزمان بالقضية الصهيونية، مما جعل تلك الجريدة أحد أبواق الصهيونية السياسية في بريطانيا.

وفي لقائهما الثاني، وجد وايزمان أن بلفور لا يزال يذكر جيداً حديثهما الأول حول أفضلية فلسطين لإقامة المشروع الصهيوني، واستكملا الحديث حول الموضوع بشكل عام. وقبل أن يفترقا تسائل بلفور عما إذا كان يستطيع تقديم أية مساعدة من أي نوع للدكتور وايزمان، إلا أن الأخير أجابه بأن "ذلك" لا يكون والمدافع تزأر، وأنه سيعود إليه مرة أخرى حين يصبح الموقف العسكري أكثر وضوحاً". وما أن دخلت تركيا الحرب حتى شرع وايزمان في تقديم مقترحات محددة بخصوص إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين تحت الحماية البريطانية.

2. مخطط بانرمان الإستعماري

مع بداية جهود حاييم وايزمان في بريطانيا على الساحتين السياسية والإعلامية عام 1906 لاكتساب المؤيدين والأنصار وتهيئة الرأي العام البريطاني لزرع المشروع الصهيوني في فلسطين، كان هناك تحرك آخرعلى الساحة الإستعمارية الأوروبية تقوده بريطانيا ويتفق في أهدافه مع المشروع الصهيوني ويساعد على تنفيذه.

فإزاء أخطار التنافس الاستعماري والخشية من اليقظة القومية في المستعمرات البريطانية، بدأت بريطانيا تفكر في تحالف أكبر من الاتفاق الودي يمكنه مواجهة الظروف الدولية المتأزمة ودرء خطر القوميات الناهضة وتهيئة الظروف لاستغلال موارد المستعمرات بطريقة آمنة.

وبدأت الحكومة البريطانية ـ في عهد وزارة "السير هنري كامبل بانرمان" ـ اتصالاتها مع الدول الاستعمارية لبحث كيفية تجنب مخاطر المنافسة والتهديد الذي قد يواجه الحركة الاستعمارية مستقبلاً، وانتهت هذه الاتصالات بتشكيل لجنة من كبار خبراء هذه الدول في مجالات الاقتصاد والبترول والزراعة والاجتماع والتاريخ وشؤون الاستعمار، فضلاً عن أعلام السياسة في هذه الدول. واجتمعت هذه اللجنة في لندن عام 1907، وتحددت مهامها فيما يلي:

أ. اقتراح الوسائل التي تمنع سقوط الإمبراطوريات الأوروبية القائمة في ذلك الوقت.

ب. اقتراح الوسائل اللازمة لإعاقة تقدم المستعمرات وتطورها بما يسمح باستعمارها أطول مدة ممكنة بطريقة آمنة.

وبعد فترة من الدراسة والبحث والمناقشة أعدت لجنة الخبراء تقريراً ضمنته توصياتها وخطة العمل التي تقترحها، وقد أوضح ذلك التقرير أن منطقة البحر المتوسط هي مكمن الخطر الذي يتهدد الاستعمار الأوروبي (باعتبار تلك المنطقة همزة الوصل بين الدول الأوروبية ومستعمراتها)، حيث يقيم على سواحله الشرقية والجنوبية شعب واحد تتوافر له كل مقومات التوحد والترابط، كما تتوفر له كل أسباب القوة والتحرر نتيجة لثرواته الطبيعية وموارده البشرية المتزايدة الذي يُنتظر أن تصل إلى مائة مليون نسمة في مدى قرن واحد.

وعندما تعرض التقرير للوسائل اللازمة لدرء هذا الخطر المحتمل على الاستعمار، فإنه أوصى الدول ذات المصالح المشتركة إلى العمل على استمرار هذه المنطقة مجزأة متخلفة، "وإبقاء شعبها على ما هو من تفكك وجهل وتناحر ". وأكد التقرير بشكل خاص على منع أي اتحاد للجماهير العربية بالسعي الدائب على تفسخها عملياً وفكرياً. وأوصى التقرير ـ كوسيلة عاجلة لتجزئة المنطقة العربية ـ "بالعمل على فصل الجزء الأفريقي في هذه المنطقة عن جزئها الآسيوي"، واقترح لذلك إقامة حاجز بشري قوي وغريب على الجسر البري الذي يربط أسيا بأفريقيا، ويربطهما معاً بالبحر المتوسط، بحيث يشكل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السويس قوة صديقة للاستعمار وعدوة لسكان المنطقة.

وهكذا عاد المستعمرون مرة أخرى إلى مشروع الحاجز الأجنبي في فلسطين الذي حاول بالمرستون إقامته عام 1840، إلا أن الغرض هذه المرة لم يكن فصل مصر عن سورية فقط ولكن فصل المشرق العربي كله عن مغربه، وفيما بعد أصبحت مقترحات لجنة الخبراء وتوصياتها السابقة هي دليل عمل القوى الاستعمارية في الوطن العربي على نحو ما ستوضح هذه الدراسة.

خامساً: حركة المقاومة الفلسطينية ضد المشروع الصهيوني (1882 ـ 1914)

ترجع جذور حركة المقاومة الفلسطينية ضد المشروع الصهيوني إلى العقد الأخير من القرن التاسع عشر، عندما بدأ يتغير موقف الفلسطينيين الذي اتسم بالهدوء خلال السنوات العشر الأولى للهجرة الجماعية، بعد أن تنبهوا إلى الخطر الصهيوني، وبدأوا يعبرون عن اعتراضهم على الهجرة اليهودية الجماعية والاستيطان الصهيوني، وأصبح مألوفاً أن يجري الاحتكام للسلاح بين السكان العرب والمستوطنين اليهود، وسجل الفلسطينيون أول تذمر رسمي من الهجرة اليهودية في 24 يونيه 1891، عندما أبرق زعماء المسلمين في القدس إلى الصدر الأعظم يعربون عن تخوفهم من وصول أعداد كبيرة من المهاجرين إليها، ويطالبون بمنع اليهود من دخول فلسطين، نظراً لعدم قدرة المسلمين من السكان على الصمود أمام منافسة اليهود في النواحي الاقتصادية.

ومع بداية العقد الأخير من القرن التاسع عشر، اتخذت المعارضة العربية شكلاً جديداً فأرسلت في عام 1900 برقيات احتجاج جماعية إلى الحكومة العثمانية ضد بيع الأراضي لليهود، وحثت برقيات أخرى المبعوثين العرب في الأستانة على الحصول على تأكيدات بأن إجراءات حاسمة ستُتخذ بشأن دخول اليهود فلسطين وتملكهم للأراضي فيها، ومع استمرار الهجرة وبدء تدفق الموجة الثانية من المهاجرين اليهود ساد التذمر الأوساط العربية في فلسطين ووقعت عدة مصادمات بين العرب والمستوطنين في يافا وطبرية عام 1908.

وما أن سيطرت "لجنة الاتحاد والترقي" على السلطة في الاستانة عام 1909 بعد إطاحتها بالسلطان عبدالحميد، حتى بدأ الانفراج في الهجرة اليهودية الجماعية، مما دفع الصحافة العربية إلى اتهام النظام الجديد في الأستانة بالتحالف مع اليهود، كما نشرت جريدة الأهرام المصرية عدة مقالات في نفس العام هاجمت فيها الحركة الصهيونية وأوضحت أطماعها في فلسطين، وطالبت الحكومة العثمانية بوضع حد لتلك الأطماع، وإزاء تزايد الشعور بالخطر الصهيوني طالب مبعوث القدس في مجلس المبعوثان العثماني (المجلس النيابي) بفاعلية إجراءات منع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، فأعادت الحكومة العمل بالقيود التي فرضت في نوفمبر 1900. إلا أن تزايد النفوذ الصهيوني في دوائر الحكم في الأستانة خلال عهد جمعية الاتحاد والترقي سمح بتدفق الهجرة الصهيونية إلى فلسطين مرة أخرى، مما أدى إلى تشكيل جمعيات فلسطينية مختلفة في أنحاء متفرقة من الدولة العثمانية، نتيجة الإحساس المشترك بالخطر الصهيوني، الذي استهدف فلسطين، وضرورة مواجهته والعمل على إبراز الشخصية الفلسطينية.

ودعا نجيب نصار محرر جريدة الكرمل إلى عقد مؤتمر عربي فلسطيني في نابلس رداً على المؤتمر الصهيوني الحادي عشر الذي كان متوقعاً عقده في فينا في سبتمبر عام 1913. ووجدت تلك الدعوة تجاوباً وطنياً ما لبث أن اتسع، فتشكلت الجمعيات الفلسطينية لمقاومة الصهيونية في القدس ويافا والأستانة. ومع ازدياد وعي الفلسطينيين بالخطر الصهيوني توسعوا في تشكيل الجمعيات لمقاومة الصهيونية ورعاية المصالح الفلسطينية مثل "جمعية الإخاء والعفاف" "وشركة الاقتصاد الفلسطيني العربي" و"شركة التجارة الوطنية الاقتصادية"، إلا أن هذه الجمعيات على كثرتها كان يعوزها التنظيم والأموال اللازمة لتنفيذ مشروعاتها.

وحاول المجلس الإداري في لواء نابلس من ناحيته مقاومة التوسع الاستيطاني الصهيوني، فاتخذ قراراََ بعدم بيع الأراضي في اللواء للصهيونيين، فعملت المنظمة الصهيونية على فصل عدد من قرى اللواء وإلحاقها بقضاء يافا، بدعوى قربها ليسهل عليهم شراء الأرض فيها.

وقد تبلورت حركة المقاومة الفلسطينية للمشروع الصهيوني حتى بداية الحرب العالمية الأولى عام 1914 في الاتجاهات التالية:

1. الدعوة إلى تكتيل الجهود الفلسطينية والعربية لمقاومة المشروع الصهيوني الذي لا يهدد فلسطين وحدها بل المنطقة العربية بأسرها.

2. المطالبة بمنع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، حتى لا يخل ذلك بالأغلبية العربية في البلاد، بما يهيئ الظروف لوضع المشروع الصهيوني موضع التنفيذ.

3. المطالبة بمنع بيع الأراضي لليهود، لأنها البعد اللازم لإقامة الدولة الصهيونية واحتواء سكانها.

4. السعي لإقامة المؤسسات العلمية والاجتماعية والاقتصادية القادرة على ترقية البلاد وتحسين أحوال السكان وتطوير الزراعة والصناعة ومنع اليهود من السيطرة على اقتصاد البلاد.

5. الدعوة إلى إعادة بناء المجتمع وإحداث التغيير الاجتماعي والاقتصادي اللازم لبنائه، حتى يقوى على مواجهة المجتمع الصهيوني الحديث.

6. نشر الوعي بالمشكلة الفلسطينية في جميع البلاد التي يوجد بها فلسطينيون بواسطة الجمعيات التي تؤسس لهذا الغرض.

وبالرغم من نجاح حركة المقاومة الفلسطينية خلال هذه المرحلة في نشر الوعي بالمشكلة الفلسطينية وتنبيه العرب إلى الخطر الصهيوني وإسماع صوتها إلى العالم، إلا أن وسائل نضالها ظلت خلال هذه المرحلة التاريخية الحرجة قاصرة على الشكاوى والبيانات والدعوة والاجتماعات والجمعيات، ولم ينبثق عنها منظمة واحدة على غرار المنظمة الصهيونية تضم في إطارها كافة الاتجاهات العربية الفاعلة لوضع تصور يتحول إلى خطة عمل يجرى تطبيقها على أرض الواقع الفلسطيني، وهو الأمر الذي يعود إلى عدة أسباب كان أبرزها ما يلي:

1.     اقتصار يقظة الوعي والحس القومي بالخطر الذي يهدد كيان الشعب الفلسطيني على سكان المدن الكبرى في فلسطين وخاصة القدس، أما جماهير الريف والبوادي الذين يشكلون الغالبية العظمى للشعب فكانوا بعيدين ـ فكرياً على الأقل ـ عن حركة المقاومة التي انتشرت في المدن.

2. الصراع الداخلي في المجتمع الفلسطيني الذي شمل جميع الطبقات أفقد ذلك المجتمع الرؤية الواحدة للمستقبل وكيفية مواجهة المشروع الصهيوني الذي يهدد كيان ذلك المجتمع.

3. افتقار الشعب الفلسطيني إلى المساندة العربية الفاعلة لوقوع المشرق العربي تحت السيطرة والقمع التركي في الوقت الذي كان مغربه واقعاً تحت الاحتلال والاستعمار الأوروبي.



[1] ولد تيودور هرتزل في بودابست عام 1860، وكان الابن الوحيد لأحد أثرياء اليهود فيها. وبعد أن أنهى دراسته الثانوية انتقلت أسرته إلى فيينا حيث التحق بكلية الحقوق التي حصل منها على درجة الدكتوراه عام 1884. وعمل هرتزل بالمحاماة لمدة عام واحد ثم تحول إلى الصحافة حيث عمل مراسلاً لأشهر الصحف النمساوية في باريس ما يزيد عن خمس سنوات (1891 ـ 1896)، ثم عاد إلى فيينا عام 1896 ليرأس القسم الأدبي في الجريدة نفسها.

[2] تعمد المؤتمر الأول استخدام لفظ الوطن القومي بدلا من الدولة لإعتبارات دبلوماسية، إلا أن المقصود منذ البداية كانت الدولة اليهودية كما كتب هرتزل في كتابه.

[3] المقصود بالورقة الحمراء هو دفتر الإقامة لمدة ثلاثة أشهر ذو اللون الأحمر الذي كان يعطي للمهاجرين اليهود في موانئ فلسطين بعد حجز جوازات سفرهم بواسطة السلطات التركية المحلية، لضمان عدم استقرارهم في فلسطين بعد إنتهاء مدة الإقامة المسموح بها.

[4] الدونم يساوي ربع فدان.

[5] تشير بعض المصادر إلى أن عدد المستعمرات العاملة كان 35 مستعمرة عام 1914.