إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / القضية الفلسطينية ونشأة إسرائيل، وحرب عام 1948





معارك المالكية
معركة مشمار هايردن
العملية مافيت لابوليش
العملية نخشون

أوضاع الألوية الإسرائيلية
أوضاع المحور العرضي
أوضاع القوات المصرية
أهداف القوات العربية
محصلة الجولة الأولى
مشروع لجنة بيل
مسرح عمليات فلسطين
أعمال القتال المصري ـ الإسرائيلي
معركة وادي الأردن
معركة نجبا
معركة نيتسانيم
معركة مشمار هاعيمك
معركة أسدود
معركة اللطرون (الهجوم الأول)
معركة اللطرون (الهجوم الثاني)
معركة العسلوج
معركة القدس
معركة بئروت يتسحاق
معركة جلؤون
معركة جنين
معركة يد مردخاي
معركة جيشر
الأوضاع المصرية والإسرائيلية
الموقف في نهاية الفترة الأولى
المستوطنات الإسرائيلية في فلسطين
الاتجاهات التعبوية لمسرح العمليات
الاستيلاء على مستعمرات عتصيون
الاستيلاء على صفد وتخومها
الاستيلاء على عكا
التنفيذ الفعلي للعملية يؤاف
التقسيمات العثمانية في سورية
الحدود في مؤتمر الصلح
الخطة الأصلية للعملية يؤاف
العملية هاهار
العملية ميسباريم
العملية أساف
العملية مكابي
العملية بن عامي (تأمين الجليل)
العملية باروش
العملية حوريف (حوريب)
العملية داني
العملية يبوس
العملية حيرام
العملية ديكيل
العملية يفتاح (تأمين الجليل)
العملية شاميتز
العملية عوفدا
القتال في المحور الشرقي
القتال في جيب الفالوجا
اتجاهات الجيوش العربية
اتفاقية سايكس/ بيكو
تقدم القوات المصرية في فلسطين
تقسيم فلسطين
تقسيم فلسطين الأمم المتحدة
دخول الفيلق الأردني القدس
حدود فلسطين تحت الانتداب
سورية في العصر الإسلامي
سورية في العصر البيزنطي
سورية في العصر اليوناني
سورية في عهد الأشوريين
طريق تل أبيب ـ القدس
كنعان قبل قيام إسرائيل
فلسطين في عهد الملوك



أمن البحـــر الأحمــر

المبحث الرابع

مرحلة التآمر الدولي على فلسطين

(1914 ـ 1920)

أولاً: المعاهدة العربية/ البريطانية

1. التذمر العربي من الحكم التركي

عندما خلص الحكم في الأستانة إلى "جمعية الاتحاد الترقي" بعد تنحية السلطان عبدالحميد وتعيين أخاه خلفاً له عام 1909 كان العرب يأملون أن ينجلى الحكم الجديد في الدولة العثمانية عن اتجاهات تحررية تسمح بقدر معقول من الحكم الذاتي في الولايات العربية، إلا أن الأمر جاء على غير ما يأملون، فقد بدأ الحكام الجدد ينفذون سياسة جديدة عُرفت "بالحركة الطورانية" استهدفت تخليص الثقافة التركية من المؤثرات العربية والفارسية التي دخلت عليها وسيادة الجنس التركي، بالإضافة إلى فرض التركية كلغة رسمية في المدارس والمحاكم في كافة ولايات الدولة، وبدأ تنفيذ هذه السياسة منذ عام 1911 بطريقة صارمة استفزازية مما جعل العرب يطالبون بإقامة نظام لا مركزي يحقق قدراً من الحكم الذاتي في الولايات العربية في نطاق الدولة العثمانية.

وفي إطار هذه الحركة العربية بدأت تتكون الجمعيات والتجمعات السياسية العلنية والسرية في الأستانة وباريس وبيروت ودمشق، وأنشأت هذه الجمعيات والتجمعات فروعاً لها في المدن السورية والفلسطينية والعراقية. وكان أبرز هذه الجمعيات والتجمعات هي المنتدى الأدبي الذي أنشئ عام 1908 وجمعية العربية الفتاة التي أُنشأت عام 1911 وجمعية العهد التي أنشأت عام 1913، وفي عام 1912 تأسس في القاهرة حزب اللامركزية، حيث انضم تحت لوائه الكثير من الجمعيات العربية، ومارس ذلك الحزب نشاطه بمنأى عن البطش العثماني لوقوع مصر تحت الاحتلال البريطاني في ذلك الوقت، ورحب الإنجليز والفرنسيون بهذا النشاط السياسي الذي يمهد لتفكيك ولايات المشرق العربي من الإمبراطورية العثمانية، وهو ما كانوا يسعون إليه في ذلك الوقت.

وكان أبرز مظاهر هذه الحركة العربية هو عقد المؤتمر العربي الأول في باريس صيف عام 1913 برعاية حزب اللامركزية (في القاهرة) ولجنة الإصلاح (في بيروت)، حيث طالب المؤتمرون باعتراف حكومة الأستانة بحقوق العرب باعتبارهم شركاء في الدولة، وتطبيق نظام لا مركزي في حكم الولايات العربية يسمح بالمشاركة الفعلية في إدارة شؤونها.

وقد حاولت حكومة الاتحاد والترقي في البداية منع عقد المؤتمر في باريس. وإزاء فشل المساعي التركية لدى الحكومة الفرنسية في هذا الشأن، أرسلت الأولى ممثلاً عنها لمفاوضة رؤساء المؤتمر بشأن مطالبهم، وانتهى الأمر إلى الاتفاق على مبادئ عامة كان بينها استخدام اللغة العربية كلغة رسمية في الولايات العربية، وأن يتولى العرب بعض المناصب القيادية، فيكون في الحكومة العثمانية ثلاثة وزراء عرب وفي مناصب الولاية خمسة ولاة عرب، مع تنفيذ واستخدام الخدمة العسكرية للشباب العربي في الولايات العربية، إلا أنه سرعان ما صدر في الآستانة مرسوم في 18 أغسطس 1913 أطاح بكثير من الأسس التي تم الاتفاق عليها، وفي ظل عمليات القمع التي قام بها جمال باشا في سورية، أصبح الطريق ممهداً للثورة العربية بعد أن ساد اليأس من موقف الحكومة التركية كافة ولايات المشرق العربي.

2. الاتصالات العربية الاستطلاعية

عندما نفض العرب أيديهم تماماً من احتمال التحرك التركي نحو الإصلاح، بدأوا في أواخر عام 1913 وبداية عام 1914 اتصالاتهم الاستطلاعية مع كل من فرنسا وبريطانيا اللتين أبديتا اهتماماً بتقدم الحركة الوطنية في المشرق العربي، فقابل شفيق بك المؤيد (إحدى الشخصيات العربية البارزة في ذلك الوقت والعضو في مجلس المبعوثان) السفير الفرنسي في الأستانة في ديسمبر 1913 واستفسر منه عن موقف فرنسا في حالة اندلاع الثورة العربية في سورية ضد الحكم التركي، وعما إذا كانت الحكومة الفرنسية سترسل قوات عسكرية إلى حلب للتدخل إذا أرسلت تركيا قواتها إلى سورية لتبقيها تحت الحكم التركي، وبالرغم من تداخل الفرنسيين مع العرب في سورية آنذاك فقد جاء رد السفير الفرنسي سلبياً في ذلك الوقت ونصح بتعاون العرب مع الأتراك حتى يحصلوا على مطالبهم.

وبعد أقل من شهرين (في فبراير 1914) كان الشريف حسين (شريف مكة الذي يحظى بتأييد الأحزاب والجمعيات العربية) يرسل ابنه الأمير عبدالله إلى مصر لتدعيم علاقاته مع البريطانيين هناك واستطلاع موقفهم في حالة اندلاع الثورة العربية، إلا أن موقف اللورد كتشنر المندوب السامي في مصر كان متحفظا. وعندما طلب الأمير عبدالله فيما بعد مقابلة "رونالد ستورز" سكرتير الشؤون الشرقية، أصدر كتشنر تعليماته إلى ستورز أن يتجنب تشجيع الأمير عبدالله على خططه وأن يوضح له "أنه ليس لعرب الحجاز أن يتوقعوا تشجيعاً منا (بشأن الثورة على تركيا).

وهكذا فشلت الاتصالات العربية المبكرة بكل من فرنسا وبريطانيا في الحصول على وعد بحماية الثورة العربية ضد تركيا عند اندلاعها. إلا أن ذلك الموقف لم يستمر طويلاً، فمع اندلاع الحرب العالمية الأولى في أغسطس 1914 واحتمال دخول تركيا فيها إلى جانب ألمانيا قدَّم رونالد ستورز ـ الذي تذكر عرض الأمير عبدالله وما يمكن أن تقدمه الثورة العربية من خدمة إلى قضية الحلفاء خلال الحرب ـ مذكرة إلى المندوب السامي يوضح فيها أنه يمكن عن طريق محادثات يقوم بها البريطانيون في حينها أن يضمنوا ليس حياد البلدان العربية فحسب، بل وتحالفها أيضاً.

وسرعان ما أصدر اللورد كتشنر تعليماته إلى ستورز ليرسل رسولاً سرياً يحسن اختياره إلى الأمير عبدالله ليتحرى ما إذا كانت تركيا ستدخل الحرب إلى جوار ألمانيا "وما إذا كان هو وأبوه وعرب الحجاز معنا أم علينا". إلا أن رد الشريف حسين تركز على ما يخصه وعرب الحجاز، حيث أوضح لرسول البريطانيين "إن للإمبراطورية العثمانية حقوقاً علينا، ولنا نحن حقوق عليها. ولقد أعلنت الحرب على حقوقنا، ولست مسؤولاً أمام الله إن أعلنت الحرب أنا على حقوقها". ومن ثم فإنه إذا مد البريطانيون يد المساعدة للعرب فلن يقوم هؤلاء بمساعدة الأتراك، بل على العكس سيساعدون البريطانيين.

وجاء رد اللورد كتشنر في 21 أكتوبر 1914 غامضاً. فهو وإن اعترف بالشريف حسين ممثلاً للأمة العربية ووعد بمساعدة تلك الأمة ـ إن هي ساعدت بريطانيا عند دخول تركيا الحرب ـ والمح إلى تولي الخلافة واحد "من سلالة أصيلة من مكة"، إلا أنه لم يوضح مستقبل الولايات العربية في حالة انتصار بريطانيا وحليفاتها. وإزاء هذا الوعد الغامض اكتفى الشريف حسين في هذه المرحلة بالوقوف على الحياد وعدم تقديم أية مساعدة إلى تركيا التي كانت قد دخلت الحرب إلى جانب ألمانيا اعتباراً من 29 أكتوبر 1914.

وفي الأسابيع الأولى من عام 1915 تلقى الشريف حسين نداءات من الجمعيات السرية في سورية تلح عليه بالقيام بالعمل وفقاً لبرنامج دمشق[1]، طلبت اللجنة العربية من الشريف حسين أن يقوم الحجاز بالثورة حين ينفجر العصيان المسلح في سورية، لكنه لم يقتنع بما سمع من استعدادات، و ظل يراقب الأوضاع لما يقرب من شهرين، وطالب بنوع من التغطية يقوم بها الحلفاء، ومع ذلك استمرت الجمعيات السورية التي كان يمثلها آنذاك مجموعة من المستشارين في مكة بالمطالبة ببدء العمل، مما جعل الشريف حسين يتخلى عن حرصه تحت ضغط الجمعيات السورية، بالرغم من نصيحة ابنه الأمير فيصل بضرورة التأني في ظل فشل حملة الحلفاء ضد القوات التركية في منطقة الدردنيل، وفي ذلك الوقت كان قد جاء إلى مصر مندوب سامي جديد هو السير "هنري مكماهون"، الذي يحمل تعليمات من حكومته بتوطيد علاقاته مع الشريف حسين.

3. مراسلات حسين/ مكماهون

إزاء ضغط وإلحاح اللجنة العربية والجمعيات السرية في دمشق على شريف مكة لبدء الثورة، وأرسل الأخير في 14 يوليه 1915 رسالة إلى السير "هنري مكماهون" يعرض عليه فيها إشعال الثورة ضد الأتراك إذا قبلت الحكومة البريطانية شروطه المبنية على برنامج دمشق، والتي يمكن تلخيصها فيما يلي: (اُنظر ملحق رسالة الشريف حسين إلى السير هنري مكماهون 14 يوليه 1915)

أ. اعتراف بريطانيا باستقلال البلاد العربية التي يحدها شمالاً الخط الواصل من مارسين ـ أدنه (أطنه) غرباً حتى الخليج الفارسي (العربي) ويحدها شرقاً بلاد فارس حتى خليج البصره، كما يحدها جنوباً المحيط الهندي باستثناء عدن فيبقى وضعها كما هي عليه. (اُنظر ملحق رسالة السير هنري مكماهون إلى الشريف حسين 30 أغسطس 1915)

ب. موافقة بريطانيا على إعلان خليفة عربي على المسلمين.

وبعد ما يقرب من شهر ونصف تلقى الشريف رسالة من السير هنري مكماهون بتاريخ 30 أغسطس تحمل رداً بريطانياً مُغرقاً في دبلوماسيته، فهو وإن أكد رغبة بريطانيا في استقلال البلاد العربية وتنصيب خليفة عربي من آل البيت على المسلمين، إلا أن الرد البريطاني حاول أن يتملص من تحديد أبعاد وتخوم البلاد العربية بحجة أن ذلك سابق لأوانه في ظل أوضاع الحرب آنذاك.

ولم يقبل الشريف حسين ومستشاروه هذا التهرب من بريطانيا في واحدة من أكثر المسائل حيوية بالنسبة للعرب، فأرسل رده على خطاب السير هنري مكماهون في 9 سبتمبر مع عودة الرسول السري بينهما، موكداً على أهمية الحدود والأبعاد التي أشار إليها في خطابه السابق، لأنه لا يبحث ذلك بشكل فردي وإنما بالنيابة عن جميع الشعوب العربية التي تدرك أن وجودها مرهون بالحدود التي تطالب بها، وهذا ما جعل الشعب يعتقد أنه من الضروري البحث في هذه النقطة قبل كل شئ ووكلوه أمر عرضها، وأن هذا يصدق أيضاً على العرب الذين يحاربون وقتئذ تحت العلم التركي كما يصدق على أي عربي آخر. وأوضح الشريف حسين لمكماهون أن الدور الذي يقوم به الآخرون في الحرب وقتئذ يعتمد علىمدى قبول أو رفض الحكومة البريطانية للشروط الواردة في كتابه الأول. (اُنظر ملحق رسالة الشريف حسين إلى السير هنري مكماهون 9 سبتمبر 1915)

وفي الخامس والعشرين من نوفمبر رد المندوب السامي البريطاني على رسالة الشريف حسين الثانية بقبول بريطانيا للشروط التي أوردها في رسالته الأولى، فهي تقبل شريف مكة بوصفه المتحدث الرسمي المخول بصلاحية التحدث باسم جميع الشعوب العربية (الخاضعة للحكم التركي في المشرق العربي)، وتتعهد بالإعتراف باستقلال العرب ـ داخل نطاق الحدود التي عينها الشريف حسين نفسه ـ وتأييد ذلك الاستقلال، إلا أن الحكومة البريطانية كان لها تحفظان، فهي ترفض مطالبة العرب بمرسين والأسكندرونة في شمال الحدود الغربية التي حددها الشريف حسين، كما تتحفظ على ما قاله شريف مكه بشأن امتداد الحدود الغربية بطول الشاطئين الشرقيين للبحرين المتوسط والأحمر على التعاقب، لأنه ـ من وجهة نظرها ـ أن أجزاءً من سورية تقع غرب ألوية دمشق وحماة وحمص وحلب (لبنان حالياً) لا يمكن أن يُقال أنها عربية خالصة، ويجب استثناؤها من الأبعاد والحدود المقترحة. (اُنظر ملحق رسالة السير هنري مكماهون إلى الشريف حسين 25 نوفمبر 1915)

وقد جاء تحفظ الحكومة البريطانية بشأن الجزء الساحلي من شمال سورية لتلبية المطالب الفرنسية خلال المفاوضات التي كانت تُجرى آنذاك سراً بين "مارك سايكس" ممثلاً عن بريطانيا "وجورج بيكو" ممثلاً عن فرنسا لاقتسام التركة العثمانية في المشرق العربي، وإذا كان هناك تحفظ بالنسبة للجزء الشمالي الساحلي من سورية، فلم يكن هناك تحفظ من أي نوع على الجزء الجنوبي من سورية (فلسطين)، وهو ما يعني أن الحكومة البريطانية في خطابها السابق تعهدت بمنح العرب حكومة عربية مستقلة في فلسطين، وهو ما يعطي هذه الرسالة (الوثيقة ) أهمية تاريخية، لأنه بموجب التعهد البريطاني الوارد فيها تُصبح فلسطين مندرجة تحت وعد الاستقلال كاندراج إقليم الحجاز ذاته.

وإزاء التحفظات البريطانية السابقة، أرسل الشريف حسين إلى المندوب السامي في مصر رسالته الثالثة في 7 ديسمبر، فلم يكن باستطاعته أن يترك موقف العرب من هذه التحفظات دون توضيح، فضلاً أنه كان يطلب تأكيداً من الحلفاء بأنهم لن يعقدوا صلحاً دون أن يقدموا تأييداً رسمياً لمطالب العرب وحقوقهم. (اُنظر ملحق رسالة الشريف حسين إلى السير هنري مكماهون 7 ديسمبر 1915)

وفي 14 ديسمبر من نفس العام أرسل المندوب السامي رده على رسالة الشريف حسين الثالثة مؤكداً على أن بريطانيا لن تعقد صلحاً منفرداً مع تركيا، وأن تحرير الشعوب العربية سيكون جزءاً أساسياً من أي معاهدة صلح، وبهذا الخطاب (الوثيقة) تلقى شريف مكة الضمان الذي طلبه بعدم عقد صلح منفرد مع تركيا من خلف ظهر العرب، وأن قضيتهم ستكون جزءاً أساسياً في أي اتفاق بعد الحرب. (اُنظر ملحق رسالة السير هنري مكماهون إلى الشريف حسين 14 ديسمبر 1915)

وما أن تلقى الشريف حسين الرد السابق حتى أرسل خطاباً جديداً بتاريخ 1 يناير 1916 إلى المندوب السامي يقبل فيه تأجيل تسوية الخلاف حول منطقة الساحل الشمالي لسورية ـ التي أصرت بريطانيا على موقفها بشأنها حتى نهاية الحرب. (اُنظر ملحق رسالة الشريف حسين إلى السير هنري مكماهون 1 يناير 1916)

وغداة تلقيه رسالة الشريف حسين السابقة، أبرق المندوب السامي البريطاني إلى حكومته بصدد تعليماتها النهائية بعد أن أبدى الشريف حسين مرونة كافية بقبوله تأجيل بحث المنطقة المختلف عليها إلى ما بعد الحرب، خاصة وأن ترك الباب مفتوحاً بالنسبة لهذه المنطقة يتمشى مع خطط وزارة الخارجية البريطانية بشأن مفاوضات إتفاقية سايكس ـ بيكو. وعلى ذلك أصدرت الخارجية البريطانية تعليماتها إلى السير هنري مكماهون بإنهاء الأمر على ما تم التوصل إليه من اتفاق، ومن ثم أرسل المندوب السامي إلى الشريف حسين في 30 يناير 1916 يؤكد له أن الحكومة البريطانية قد قبلت جميع مطالبه. (اُنظر ملحق رسالة السير هنري مكماهون إلى الشريف حسين 30 يناير 1916)

وهكذا يمكن القول أن مراسلات الشريف حسين ـ مكماهون السابقة قد اختُتمت كمعاهدة سياسية بقبول بريطانيا لشروط شريف مكة الأخيرة، وهو الذي وصفها في رسالته الأولى بأنها معاهدة، وأن بريطانيا قبلت شروطها على هذا الأساس. إلا أن هذه المعاهدة التي ألزمت بريطانيا باستقلال فلسطين أسوة بباقي البلاد العربية والتي اعترف بها لويد جورج رئيس الوزراء البريطاني أمام الفرنسيين لم تمنع وزارة الأخير من توقيع اتفاقية سايكس/ بيكو ـ بعد أقل من أربعة أشهر من اتفاقها مع شريف مكة ـ تسلخ بها فلسطين عن الدولة العربية التي وُعد بها الأخير. كما لم تمنع "آرثر بلفور" وزير الخارجية البريطانية من أن يعد الصهيونيين بفلسطين بعد أقل من عام على رسالة السير هنري مكماهون الأخيرة على نحو ما سيأتي فيما بعد.

ثانياً: اتفاقية سايكس/ بيكو (اُنظر ملحق The Sykes - Picot Agreement)

على أثر إنجاز مكماهون صفقته السياسية مع الشريف حسين رفض الأخير إعلان الجهاد كطلب الأستانة، وبدأ العرب ثورتهم ضد الحكم التركي، وإنضموا إلى دول الوفاق الثلاثي (بريطانيا وفرنسا وروسيا) في حربهم ضد الأتراك ـ وفاءً بالتزاماتهم في المعاهدة السابقة. وقبل أن يتحول ميزان الحرب لصالحها، بدأت الدول الإستعمارية السابقة تقسيم التركة العثمانية فيما بينها.

وجرت في البداية مباحثات ثنائية سرية بين بريطانيا وفرنسا لتقسيم الولايات العربية الأسيوية فيما بينهما، بالرغم من أن هذه الولايات كانت لا تزال تحت الحكم التركي، ومثل بريطانيا في تلك المباحثات "مارك سايكس" أحد الخبراء البريطانيين بشؤون الشرق الأدني[2]، بينما مثل فرنسا "شارل بيكو" قنصلها العام في بيروت، وخلال المباحثات ظهر الخلاف حول فلسطين، حيث كانت فرنسا تدَّعي لنفسها مصالح حيوية في كل سورية بما فيها فلسطين وتعتبر نفسها حامية للمصالح المسيحية الكاثوليكية في الأخيرة وراعية للموارنة في لبنان، بينما كانت بريطانيا تريد فلسطين لإبعاد فرنسا عن قناة السويس من ناحية والسيطرة على الطريق البري إلى الخليج والهند من ناحية أخرى.

ولم تكشف بريطانيا دوافعها الحقيقية أثناء المباحثات، وإنما تعللت في معارضتها للمطالب الفرنسية في فلسطين بأن القدس وضواحيها تشمل الأماكن المقدسة للديانات الثلاث، وأن ذلك يتطلب نظاماً خاصاً لفلسطين، ولكن الفرنسيين ردوا على ذلك الاعتراض بأنه يمكن جعل القدس وبيت لحم وضواحيها منطقة داخلية قائمة بذاتها تخضع لإدارة دولية تتناسب مع طابعها الديني، أما بقية فلسطين فقد أصرت فرنسا على أن تكون جزءاً مكملاً لسورية وخاضعاً للنفوذ الفرنسي.

وفي أواخر شهر فبراير 1916 أعد ممثلاً البلدين مشروعاً حدداً فيه مصير الولايات العربية الأسيوية، إلا أنهما لم يستطيعا حسم موضوع فلسطين التي طال حولها النقاش، وهنا تلقى سايكس وبيكو تعليمات حكومتيهما لعرض مشروعهما على الحكومة الروسية، وعندما بدأت مباحثات الأخيرين مع وزير الخارجية الروسي في بطرسبرج خلال شهر مارس من نفس العام، فإنهما فوجئا بروسيا تفرض نفسها دولة حامية للمسيحيين الأرثوذكس وأماكنهم المقدسة في فلسطين، وهو ما عارضه كل من سايكس وبيكو معارضة شديدة، وإزاء تضارب مصالح الدول الثلاثة تجاه فلسطين، "استقر رأي هذه الدول على وضع نظام خاص بها يتمثل في إنشاء إدارة دولية في القدس مع جعل فلسطين منطقة نفوذ بريطاني، وفي مقابل المناطق التي أُعطيت لفرنسا وبريطانيا في سورية والعراق على الترتيب، أُعطيت لروسيا مناطق نفوذ في بعض الولايات غير العربية شمال شرق الأناضول.

وفي ضوء هذا الاتفاق تم تبادل المذكرات بين البلدان الثلاثة، أما فيما يتعلق بالبلدان العربية التي تضمنها مشروع اتفاقية سايكس ـ بيكو، فقد سجل الاتفاق بين فرنسا وانجلترا حولها في إحدى عشرة رسالة وافقت فرنسا عليها في 13 و 26 أبريل 1916، كما وافقت بريطانيا عليها في 10، 23 مايو من نفس العام، وهكذا تحول المشروع إلى إتفاقية بين البلدين عرفت "باتفاقية سايكس/ بيكو".

وبموجب هذه الاتفاقية قسمت بريطانيا وفرنسا المشرق العربي باستثناء شبه الجزيرة العربية إلى خمس مناطق: منها ثلاث مناطق ساحلية هي "شقة سورية الساحلية (وتشمل ساحل سورية ولبنان) وأُعطيت لفرنسا،" و"شقة العراق الساحلية" (وتشمل السواحل العراقية من بغداد حتى البصرة) وأُعطيت لبريطانيا، ثم منطقتان داخليتان رُمز لأحدهما بالحرف (أ) وتشمل المنطقة الداخلية السورية وللأخرى بالحرف (ب) وتشمل المنطقة الداخلية العراقية. (اُنظر خريطة اتفاقية سايكس/ بيكو)

ونصت الاتفاقية على استعداد فرنسا وبريطانيا أن تحميا وتعترفا بدولة عربية مستقلة أو حلف دول عربية تحت رئاسة رئيس عربي في المنطقتين (أ) و(ب). أما في "شقة سورية الساحلية" و"شقة العراق الساحلية" فلفرنسا وبريطانيا، كل في منطقته الحق في إنشاء شكل الحكم الذي ترتضيانه بعد الاتفاق مع الحكومة أو حلف الحكومات العربية، كما قررت الاتفاقية إنشاء إدارة دولية في فلسطين يحدد شكلها بعد استشارة روسيا بالاتفاق مع بقية الحلفاء وممثلي شريف مكة، كما نصت الاتفاقية على استمرار المفاوضات مع العرب باسم الحكومتين الفرنسية والبريطانية لتحديد حدود الدولة أو الدول العربية.

وهكذا سُلخت فلسطين عن المشرق العربي وحُدد لها بالتدويل مصير مغاير لباقي البلاد العربية، لتهيئة الظروف المناسبة فيها لغرس العازل الصهيوني في المرحلة التالية.


 



[1] عند اندلاع الحرب العالمية الأولى تشكلت لجنة سرية في دمشق من عرب سورية والرافدين والجزيرة العربية، ووضعت هذه اللجنة برنامجاً لاستقلال البلاد العربية والتعاون مع الحلفاء، وأرسل هذا البرنامج إلى الشريف حسين وترك له إذا ما وافق عليه أن يتفاوض مع بريطانيا بشأن تنفيذه في مقابل مساندة العرب لها في الميدان.

[2] الشرق الأدنى تعبير دبلوماسي أطلقته وزارة الخارجية البريطانية على المنطقة التي تشمل، حالياً، تركيا وسورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن ومصر.

[3] كان عدد سكان فلسطين طبقا للاحصاء العثماني عام 1914 قد بلغ 272 689 نسمة، منهم ما لا يزيد عن 60 ألف يهودي. كما كان هناك 54 مستعمرة يهودية لا يعمل منها سوي 35 مستعمرة يسكنها ما يقرب من 12 ألف مستوطن من جملة اليهود في فلسطين.

[4] كان هربرت صموئيل من غلاة الصهاينة الأنجليز الذين دعوا إلى المشروع الصهيوني في فلسطين وحاول إقناع وزير الخارجية البريطانية به قبل دخول تركيا الحرب واتصال وايزمان به، ثم أصبح فيما بعد أول حاكم لفلسطين في ظل الانتداب البريطاني عليها ليمهد الأرض فيها لغرس المشروع الصهيوني.

[5] يوضح الطلب البريطاني مدى قوة النفوذ والتأثير الذين كانا لليهود على مسرح السياسة الدولية حتى في هذا التاريخ المبكر للحركة الصهيونية.

[6] كان إدوين منتاجو يهوديا يؤمن بالاندماج في المجتمع الذي يعيش فيه، كما كان يرى أن إثارة موضوع القومية اليهودية قد يثير مشاكل في الهند التي تتعدد فيها الديانات.

[7] كانت الحكومة البريطانية قد سبق لها عرض الموضوع على الرئيس الأمريكي في سبتمبر 1917، إلا أن الأخير أوضح للحكومة البريطانية أن الوقت غير ملائم لمثل ذلك التصريح، وقد فسرت الحكومة البريطانية ذلك على أنه موافقة على المبدأ ولكن الاعتراض منصب على التوقيت.

[8] العَرَّاب : كلمة غير عربية. معناها، عند النصارى، الكفيل والضامن. وتجوزوا في المعنى، حتى اتَّسع ليتضمن معنى النصير والمزكي والحليف والظهير.