إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / القضية الفلسطينية ونشأة إسرائيل، وحرب عام 1948





معارك المالكية
معركة مشمار هايردن
العملية مافيت لابوليش
العملية نخشون

أوضاع الألوية الإسرائيلية
أوضاع المحور العرضي
أوضاع القوات المصرية
أهداف القوات العربية
محصلة الجولة الأولى
مشروع لجنة بيل
مسرح عمليات فلسطين
أعمال القتال المصري ـ الإسرائيلي
معركة وادي الأردن
معركة نجبا
معركة نيتسانيم
معركة مشمار هاعيمك
معركة أسدود
معركة اللطرون (الهجوم الأول)
معركة اللطرون (الهجوم الثاني)
معركة العسلوج
معركة القدس
معركة بئروت يتسحاق
معركة جلؤون
معركة جنين
معركة يد مردخاي
معركة جيشر
الأوضاع المصرية والإسرائيلية
الموقف في نهاية الفترة الأولى
المستوطنات الإسرائيلية في فلسطين
الاتجاهات التعبوية لمسرح العمليات
الاستيلاء على مستعمرات عتصيون
الاستيلاء على صفد وتخومها
الاستيلاء على عكا
التنفيذ الفعلي للعملية يؤاف
التقسيمات العثمانية في سورية
الحدود في مؤتمر الصلح
الخطة الأصلية للعملية يؤاف
العملية هاهار
العملية ميسباريم
العملية أساف
العملية مكابي
العملية بن عامي (تأمين الجليل)
العملية باروش
العملية حوريف (حوريب)
العملية داني
العملية يبوس
العملية حيرام
العملية ديكيل
العملية يفتاح (تأمين الجليل)
العملية شاميتز
العملية عوفدا
القتال في المحور الشرقي
القتال في جيب الفالوجا
اتجاهات الجيوش العربية
اتفاقية سايكس/ بيكو
تقدم القوات المصرية في فلسطين
تقسيم فلسطين
تقسيم فلسطين الأمم المتحدة
دخول الفيلق الأردني القدس
حدود فلسطين تحت الانتداب
سورية في العصر الإسلامي
سورية في العصر البيزنطي
سورية في العصر اليوناني
سورية في عهد الأشوريين
طريق تل أبيب ـ القدس
كنعان قبل قيام إسرائيل
فلسطين في عهد الملوك



أمن البحـــر الأحمــر

ثالثاً: وعد بلفور

1. محصلة جهود الحركة الصهيونية عند اندلاع الحرب العالمية الأولى

عند اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، كانت الحركة الصهيونية قد خطت عدة خطوات على طريق استكمال تنظيماتها ومؤسساتها، إلا أن هذه الخطوات على أهميتها كانت لا تزال إنجازاً محدوداً بالنسبة لبرنامج "بازل" الذي استهدف إقامة الدولة الصهيونية في فلسطين، حيث كانت الأغلبية اليهودية لا تزال خارج الحركة الصهيونية، بل أنه كانت هناك تيارات يهودية عديدة تعارض المشروع الصهيوني السياسي في فلسطين، سواء لأسباب دينية أو بقناعتها بأن حل مشكلة اليهود هو اندماجهم في مجتماعاتهم، كما كانت حركة الهجرة والاستيطان لا تزال بطيئة بالنسبة لما كان معقوداً عليها، حيث كان توجهها الغالب (منذ عام 1882 وحتى 1914) لا زال في اتجاه أوروبا الغربية والولايات المتحدة، ولم يكن عدداليهود في فلسطين يتجاوز نصف في المائة من يهود العالم[3]. (اُنظر جدول الهجرة اليهودية إلى فلسطين مقارنة بالهجرة اليهودية العالمية)

ومن ناحية أخرى كانت الحركة الصهيونية لا زالت تبحث عن "البراءة الدولية" والقوة الاستعمارية الكبرى التي تتبنى مشروعها وتقدم الدعم اللازم لغرس ذلك المشروع في فلسطين ونقله من نطاق الحلم إلى أرض الواقع، فضلاً عن أن برنامج الاستيطان الصهيوني في فلسطين قد أخذ يصطدم باليقظة والوعي المتعاظم بأخطار المشروع الصهيوني من قِبل العرب أصحاب البلاد.

2. الاتصالات الصهيونية وتبني بريطانيا للمشروع الصهيوني

إزاء الوضع السابق أدرك زعماء الحركة الصهيونية أن الدولة اليهودية في فلسطين ستبقى مجرد حلم، ما لم تتبنى إحدى القوى الاستعمارية الكبرى المشروع الصهيوني وتدعمه، وكانت بريطانيا وألمانيا هما الدولتان المرشحتان لهذه المهمة، وعلى ذلك بدأت اتصالات بعض زعماء الحركة الصهيونية بكلا البلدين خلال الحرب، إلا أن تطور العمليات وتحمس البريطانيين للمشروع الصهيوني (الذي يتمشى مع مخططاتهم الإستعمارية) جعلت الحركة الصهيونية تركز جهودها في بريطانيا، مع استغلال ألمانيا لزيادة حماس البريطانيين للمشروع.

وتولى توجيه العمل الصهيوني في بريطانيا "ناحوم سوكولوف" ممثل المنظمة الصهيونية العالمية في بريطانيا والذي قدم إليها في ديسمبر 1914 لهذا الغرض، و"وحاييم وايزمان" رئيس الاتحاد الصهيوني البريطاني، وكان الأخير قد أجرى اتصالات مبكرة قبل الحرب مع العديد من الشخصيات البريطانية البارزة التي تساهم في توجيه السياسة البريطانية وعلى رأسها أرثر بلفور نفسه على نحو ما سبق.

وعند إندلاع الحرب واشتراك تركيا فيها إلى جانب المانيا، وطرح مصير ولايات الدولة العثمانية للبحث، سارع الزعماء الصهيونيهن في بريطانيا إلى تكثيف اتصالاتهم مع مراكز صنع القرار السياسي في لندن وتوضيح أهمية قيام دولة صهيونية في فلسطين بالنسبة للمصالح الاستراتيجية للامبراطورية البريطانية، وقَّدم وايزمان مقترحات محددة بشأن إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين تحت الحماية البريطانية.

ولما كان آرثر بلفور الذي التقى به وايزمان للمرة الثانية في ديسمبر 1914 بعيداً عن كرسي الوزارة وقتئذ فقد زود الأخير كما زود رفيقه سوكولوف بخطابات توصية إلى اثنين من أعضاء الوزارة هما "لويد جورج" و"هربرت صموئيل Sir Herbert Samuel"[4].

ولم يمض وقت طويل على لقاء وايزمان بآرثر بلفور حتى التقى بالوزير هربرت صموئيل الذي وجده لا يقل عنه حماساً للمشروع الصهيوني. وعلى أثر ذلك اللقاء، قدم الأخير مذكرة إلى "هربرت أسكويث" رئيس الوزراء البريطاني في 28 يناير 1915 طالب فيها بضم فلسطين إلى الإمبراطورية البريطانية حتى يحين الوقت لتقسيم الولايات العثمانية في أسيا، كما طالب بتشجيع الاستيطان الصهيوني في فلسطين بحيث يمكن استيعاب أفواج من اليهود تراوح عددها بين ثلاثة ملايين وأربعة ملايين يهودي، إلا أن هذه المذكرة لم تلق موافقة رئيس الوزراء الذي لم يكن من المتحمسين للحركة الصهيونية، كما كان يرى أن الوقت غير ملائم لمزيد من الأعباء والمسؤوليات على الوزارة.

ولم يترك زعماء الحركة الصهيونية في بريطانيا أية فرصة تفلت منهم للتحدث في أمر مشروعهم والحماية البريطانية على فلسطين كلما التقوا بشخصيات لها دور في صنع القرار البريطاني، ونجحوا فعلا في كسب أربعة من الوزراء البريطانيين تحمسوا لقضيتهم كان منهم "لويد جورج" الذي تولى منصب رئيس الوزراء فيما بعد "والسير أدوارد جراي" وزير الخارجية البريطانية في ذلك الوقت.

وشاء القدر أن يُعطي للصهيونية دفعة جديدة إلى الأمام عام 1915، فنتيجة لتشكيل الوزارة الأئتلافية الجديدة برئاسة اسكويت، فقد أصبح بلفور وزيراً للبحرية في الوقت الذي كان فيه وايزمان يقوم بتجاربه العلمية على المتفجرات، وفي ديسمبر من نفس العام قام سكوت رئيس تحرير المنشستر جارديان وأحد أبواق الصهيونية باصطحاب وايزمان لتناول الغذاء معه على مائدة لويد جورج لكي يشرح للأخير تجاربه لتطوير صنع الكورديت، وعلى أثر نجاح تلك التجارب في فبراير 1916عُين وايزمان (الحاصل على دكتوراه في العلوم) للعمل في الإدميرالية البريطانية تحت رئاسة بلفور.

ولم يحاول وايزمان الزج بهويته الصهيونية في العمل، ولكن اللورد بلفور هو الذي قام بالمبادرة في هذا الشأن. ففي أحد لقاءات، العمل بينهما بادره بلفور بقوله "إنكم قد تنالون قدسكم إذا كسب الحلفاء هذه الحرب "، وطلب إليه أن يوافيه مرة أخرى ليبحث معه الأمر.

وخلال شهري يناير وفبراير من عام 1916 ـ عندما كان يجري طبخ اتفاقية سايكس/ بيكو ـ كثف زعماء الحركة الصهيونية جهودهم لكسب أنصار جدد لمشروعهم الذي غُلف بالغموض، فلم يشيروا صراحة إلى الدولة اليهودية في أي إتصالات مع الحكومة البريطانية، وساعد هذا الغموض على نجاح الوزراء البريطانيين من أنصار ذلك المشروع على الدعوة له في اجتماعات الحكومة البريطانية وبنهاية شهر فبراير كانت الحكومة قد بدأت تتبنى المشروع الصهيوني في فلسطين.

وعلى ذلك طلبت الخارجية البريطانية في مارس 1916 من سفيرها في بطرسبرج أن يجس نبض الحكومة الروسية بشأن "استعمار اليهود لفلسطين". وعلى ذلك قام السفير البريطاني في 13 مارس بتقديم مذكرة إلى وزير الخارجية الروسي بهذا الشأن جاء فيها أن "هدف حكومة صاحب الجلالة الوحيد هو تدبير اتفاق يكون جذاباً بما فيه الكفاية لأغلبية اليهود لتسهيل عقد صفقة (معهم) تضمن لنا تأييدهم، ويُخيل لحكومة صاحب الجلالة وهي تضع هذا الاعتبار نصب عينيها، أنه إذا ما نص هذا المشروع على تمكين اليهود من أن يأخذوا في أيديهم ـ حين تصبح مستعمراتهم من القوة في فلسطين بحيث تكون قادرة على منافسة السكان العرب ـ زمام إدارة الشؤون الداخلية لهذه الرقعة من الأرض (باستثناء مدينة القدس والأماكن المقدسة) فسيكون هذا الاتفاق أكثر جاذبية بالنسبة لأغلبية اليهود.

وهكذا نرى أنه في خلال عشرة أسابيع فقط من تعهد الخارجية البريطانية للشريف حسين باستقلال البلاد العربية (بما فيها فلسطين) "بكل معنى من معاني الاستقلال" فإنها بدأت تعمل على تسليم فلسطين إلى الصهاينة حتى قبل أن تطأ أقدام الإنجليز أرض تلك البلاد. وبذلك كانت الحكومة البريطانية سابقة للتحرك الصهيوني في بريطانيا، كما كان بالمرستون من قبل، فحتى ذلك الوقت لم تكن الحركة الصهيونية قد تقدمت بعد بأي مذكرة رسمية حول فلسطين، حيث كانت كافة الاتصالات السابقة حول المشروع الصهيوني تجرى بشكل غير رسمي.

وفي نهاية عام 1916، عندما بدأت كفة الحرب تميل لصالح ألمانيا والنمسا وتركيا تقدَّم زعماء الحركة الصهيونية بوعد مفاده "أنه إذا أخذ الحلفاء على عاتقهم تسهيل إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين، فإنهم (أي الزعماء الصهيونيين) سيعملون كل ما في وسعهم لإيقاظ عاطفة اليهود في كل أنحاء العالم وحشد طاقاتهم لمعاضدة قضية الحلفاء".

وجاء هذا الوعد مواكباً لاستقالة وزارة اسكويت في ديسمبر 1916، وتشكيل وزارة حرب برئاسة لويد جورج، دخلها آرثر بلفور وزيراً للخارجية. ودفع هذا التغيير المشروع الصهيوني دفعة جديدة إلى الأمام، حيث جرت فور تشكيل الوزارة محادثات استطلاعية بين أقطاب الحركة الصهيونية في بريطانيا وبعض المسؤولين في الوزارة الجديدة. وفي هذه المحادثات أوضح المسؤولون البريطانيون للزعماء الصهيونيين أن عليهم أولاً أن يُعدِّلوا خيارهم المفتوح الذي يقوم على المطالبة بجعل فلسطين بعد الحرب من نصيب فرنسا أو بريطانيا أو الدولتين معا، وأن يركز ذلك الخيار في بريطانيا فقط دون سواها[5].

وعلى أثر موافقة الزعماء الصهيونيين على التوجه الجديد، أصدر لويد جورج توجيهاته إلى مارك سايكس للدخول في مفاوضات رسمية مع الزعماء الصهيونيين، وفي السابع من فبراير 1917 عقد الجانبان مؤتمراً في لندن، أسفر عنه تعهد الحركة الصهيونية بمقاومة أي محاولة لوضع فلسطين تحت حكم ثنائي أو تدويل لإدارة القدس، وتركيز الحركة جهودها على المطالبة بإنشاء محمية بريطانية في فلسطين. وفي مقابل هذا التعهد كان على بريطانيا معاونة الحركة الصهيونية على إنشاء وطنها القومي (دولتها) في فلسطين. وهكذا تلاقت مصالح الاستعمار والصهيونية ووُضع الأساس الذي بُنى عليه تصريح بلفور بعد تسعة أشهر من هذا المؤتمر.

وفي الوقت الذي كانت فيه الجهود الصهيونية في بريطانيا قد قاربت على الاثمار، فإن جهوداً صهيونية موازية بُذلت في الولايات المتحدة الأمريكية بقيادة القاضي اليهودي "لويس برانديس" الذي استطاع تجنيد عدد من زعماء اليهود لخدمة الحركة الصهيونية وأن يكسب تعاطف الرئيس الأمريكي "ودرو ولسن" مع تلك الحركة.

3. صياغة الوعد

بينما كانت الحرب العالمية الأولى تجتاز واحدة من أدق مراحلها، دعا بلفور في مايو 1917 كلاً من البارون روتشيلد رئيس مجلس إدارة مؤسسة روتشيلد المالية في ذلك الوقت والدكتور حاييم وايزمان رئيس الإتحاد الصهيوني البريطاني للاجتماع به، حيث أعرب لهما عن مساندته للحركة الصهيونية وآمالها، وطلب منهما مقترحات مكتوبة لصياغة "البراءة الدولية" المطلوبة للمشروع الصهيوني في فلسطين.

وعلى اثر هذا الاجتماع دعا زعماء الحركة الصهيونية إلى مؤتمر عقد في لندن لمناقشة الصياغة التي سيقدمونها للحكومة البريطانية بشأن مشروعهم في فلسطين. وخلال مناقشات ذلك المؤتمر اختلفت وجهات نظر المؤتمرين، فأراد البعض إصدار تصريح يشير، صراحة، إلى إنشاء الدولة اليهودية في فلسطين، بينما رأى البعض الآخر قصر التصريح على الاعتراف بفلسطين كوطن قومي لليهود، إلا أن انفصال الجمعية الصهيونية البريطانية عن المؤتمر أدى إلى تأجيل التوصل إلى الصياغة المطلوبة.

وفي 12 يوليه اجتمع زعماء الحركة الصهيونية برئاسة نحوم سوكولوف مع مجموعة من المستشارين ووضعوا الصيغة المطلوبة للبراءة الدولية كما يلي:

"إن حكومة جلالة الملك ـ بعد أن فكرت ملياً في أهداف المنظمة الصهيونية ـ توافق على مبدأ الاعتراف بفلسطين وطناً قومياً للشعب اليهودي، ويحق ذلك الشعب في بناء حياته القومية على أرض فلسطين، تحت حماية تتقرر عند إبرام الصلح الذي يعقب الانتصار في الحرب.

"وترى حكومة جلالة الملك ـ كأمر أساسي لتحقيق هذا المبدأ ـ منح الحكم الذاتي للقومية اليهودية في فلسطين،وحرية الهجرة لليهود، وتأسيس الاتحاد الاستعماري اليهودي القومي لتعمير وترقية الإقليم.

"ومن وجهة نظر حكومة جلالة الملك فإن شروط وأشكال الحكم الذاتي الداخلي، ووضع ميثاق الاتحاد الاستعماري اليهودي القومي يجب أن توضح بالتفصيل وبالاتفاق مع المنظمة الصهيونية".

وعندما عُرضت الصياغة السابقة على وزارة الخارجية البريطانية وُجد أنها أطول من اللازم وتحوي تفصيلات ليس من مصلحة اليهود إثارتها في ذلك الوقت المبكر ورؤى أن التصريح الذي كان على وزارة الخارجية إصداره يجب أن يشمل نقطتين أساسيتين هما: الاعتراف بفلسطين وطناً قومياً للشعب اليهودي، والاعتراف بالمنظمة الصهيونية كممثلة لهذا الشعب، وتتابع وضع عدة صياغات لذلك التصريح حتى بلغت سبعاً في الفترة من 12 يوليه حتى 31 أكتوبر 1917.

وعندما عُرضت الصياغة التي عُرفت باسم "مشروع ملنر/ أمري" على مجلس الوزراء البريطاني في 4 أكتوبر من نفس العام لاقت معارضة بعض الوزراء كان على رأسهم "إدوين مونتاجو" وزير الهند الذي قدم مذكرة مضادة أوضح فيها الأسباب التي يستند عليها في معارضته للحركة الصهيونية برمتها[6]. فتصدى له "آرثر بلفور" وزير الخارجية قائلا:"أنه إذا كان هناك عدد من أثرياء اليهود في انجلترا يعارضون الحركة الصهيونية، فإن الغالبية الساحقة من اليهود في بريطانيا وفي أمريكا وفي روسيا وفي دول أخرى يقفون وراء هذه الحركة ويساندونها قلباً وقالباً، وأن الحركة الصهيونية تقوم على الوعي القومي العميق عند اليهود، فهم يشعرون أنهم أحد الأجناس التاريخية العظيمة في العالم، وأن فلسطين هي وطنهم الأصلي، وأنهم يتحرقون شوقاً إلى وطنهم القديم" وأكد بلفور على أن الرئيس الأمريكي ولسن يتعاطف مع الحركة الصهيونية، وأن الحكومة الألمانية تبذل جهوداً جبارة لكسب ود الحركة الصهيونية.

وإزاء هذا الخلاف، قرر مجلس الوزراء إرجاء اتخاذ قرار في الموضوع ريثما يتم الاتصال بالرئيس الأمريكي للتعرف على رأيه في التصريح المنشود، ولكي تشرح له وزارة الحرب البريطانية الدوافع التي جعلت مجلس الوزراء يطرح للبحث ذلك الموضوع وقتئذ، والتي كان من أهمها الخوف من أن تسبق ألمانيا الحلفاء إلى إحتضان الحركة الصهيونية[7].

وإزاء موقف الحكومة البرطانية السابق وجد وايزمان أن الأمر يتطلب القيام بتحرك يهودي جماعي للرد على الفريق المناهض للصهيونية والضغط على الحكومة البريطانية لإنهاء ترددها. فاستصدر في 11 اكتوبر 1917 قراراً من مجلس الاتحاد الصهيوني البريطاني أعرب فيه المجلس عن رغبة اليهود في إنشاء وطن قومي لهم في فلسطين، وحث الحكومة على بذل جهودها لتحقيق هذه الغاية، وبعد عشرة أيام قامت أكثر من ثلاثمائة هيئة صهيونية بإرسال مطالب مماثلة إلى وزارة الخارجية البريطانية.

وفي 16 أكتوبر تسلمت الخارجية البريطانية رد نظيرتها الأمريكية على برقيتها بتاريخ 6 أكتوبر (التي تستفسر فيها عن رأي الرئيس ولسن بالنسبة للتصريح المزمع إصداره)، والتي تخطرها فيها بموافقة الرئيس ولسن على إصدار الصياغة المقترحة للتصريح دون الإشارة إلى موافقة الرئيس الأمريكي عليه، لأن الأخير يود أن يذيع هذه الموافقة بنفسه على يهود أمريكا. وفي 31 أكتوبر 1917، قرر مجلس الوزراء البريطاني إصدار التصريح. وفي الثاني من نوفمبر أصدرت الحكومة البريطانية النص الرسمي للتصريح، وكان بمثابة رسالة موجهة من وزير الخارجية البريطانية إلى "اللورد ليونيل والتر روتشيلد" (رداً على خطاب الأخير إلى وزير الخارجية البريطانية في 18 يوليه بشأن التصريح المطلوب) كان نصها: (اُنظر ملحق تصريح بلفور) و(النص الإنجليزي The Bolfour Declarafion)

وهكذا أعطي من لا يملك وعداً لمن لا يستحق، أخل بتعهداته السابقة لشريف مكة. وبهذا الوعد حصلت المنظمة الصهيونية على البراءة الدولية التي كانت تسعى إليها منذ إنشائها، كما حصلت على عَرَّابِها[8] الذي عمل على غرس مشروعها في فلسطين على حساب أهلها من العرب بغض النظر عما يقوله ذلك الوعد عن عدم الإضرار بالحقوق الدينية والمدنية لأهل البلاد، فقد تجاهل ذلك التصريح الحقوق السياسية للشعب العربي في فلسطين، كما تجاهل ذلك الشعب الذي اعتبره مجرد طوائف غير يهودية، في الوقت الذي كان فيه اليهود لا يمثلون أكثر من 8% من سكان البلاد.

ولم يكن صدور هذا الوعد خدمة للمصالح الصهيونية فحسب بل أنه كان يخدم المصالح البريطانية الاستعمارية بالدرجة الأولى، فقد نظروا إلى الدولة اليهودية منذ البداية على أنها ستكون عازلاً يفصل المشرق العربي عن مغربه، ونظروا إلى الحركة الصهيونية نظرة إستعمارية باعتبارها الأداة لانشاء ذلك العازل وهو ما تؤكده بعض المصادر الإنجليزية بقولها:"إن الصهيونية كانت منذ البداية حركة إنجليزية لا حركة يهودية فحسب".

4. ردود الفعل العربية

لما كانت الحكومة البريطانية قد أغفلت الجانب العربي في جميع مراحل إعداد التصريح، فقد كان صدوره في الثاني من نوفمبر صدمة أليمة للعرب، خاصة وأنهم قاموا بدورهم في الإتفاق الذي عقده الشريف حسين مع السير آرثر مكماهون، وهو ما كافأته بريطانيا عليه بالاعتراف به ملكاً على الحجاز.

وعلى ذلك أرسل الملك حسين يطلب من الحكومة البريطانية تفسيراً لهذا التصريح، فأوفدت الأخيرة في 18 يناير مبعوثاً رسمياً هو "الكومادور جورج هوجارث" يحمل مذكرة منها تؤكد أن دول الحلفاء مصممة على أن تتاح للشعب العربي الفرصة لاستعادة كيانه كأمة لها تاريخها، وهو أمر لا يتسنى تحقيقه إلا بواسطة العرب أنفسهم وبإتحادهم "وستنتهج بريطانيا العظمى وحليفاتها سياسة ترمي إلى تحقيق هذه الوحدة"، وبالنسبة لفلسطين فإن بريطانيا وحليفاتها مصممون "على الا يخضع شعب لشعب آخر". ونظراً لأن تلك البلاد تضم معابد وأوقافاً وأماكن مقدسة لكل من المسلمين والمسيحيين واليهود داخل فلسطين وخارجها "فلا مناص من أن يكون هناك نظام خاص بهذه الأماكن يوافق عليه العالم". وأوضحت المذكرة أن الرأي العام اليهودي في العالم يؤيد عودة اليهود إلى فلسطين، ونظراً لأن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تحقيق هذه الأمنية، فإنها مصممة على ألا توضع أية عقبة في سبيل تحقيق هذا الهدف، إذا كان ذلك متمشياً مع الحرية الاقتصادية والسياسية لسكان البلاد.

وقد قبل الملك حسين تفسير الحكومة البريطانية على أساس أن الاستيطان اليهودي في فلسطين لن يؤثر على حرية العرب السياسية والاقتصادية، وأرسل الملك إلى الثوار السوريين وكبار أتباعه في مصر والى إبنه الأمير فيصل في العقبة يخبرهم جميعاً أنه تلقى تأكيدات من الحكومة البريطانية بأن توطين اليهود في فلسطين لن يتعارض مع استقلال العرب فيها، وأنه لم يعد هناك مجال للشك في نوايا بريطانيا، وطلب منهم الاستمرار في التعاون معها.

ولم يمض وقت طويل على تصريح بلفور، حتى كشف زعماء الثورة الشيوعية في روسيا النقاب عن اتفاقية "سايكس/ بيكو" التي ظلت مخفاة عن العرب حتى نوفمبر 1917 حينما أذاعت الحكومة الروسية نصوصها كاملة في جريدة "برافدا".

واستغلت الحكومة التركية فرصة نشر هذه الاتفاقية لتكشف للملك حسين استغلال البريطانيين وتضليلهم له من ناحية، وحثه على مراجعة موقفه من الحرب في صفوف الحلفاء من ناحية أخرى، وعلى ذلك أرسل أحمد جمال باشا قائد القوات التركية في الشام رسالة مؤرخة في 26 نوفمبر إلى الأمير فيصل قائد القوات العربية يشرح له أبعاد الخديعة البريطانية، وأنه ليس هناك معنى للمحاربة في جانب البريطانيين في ظل هذه الخديعة، مشيراً إلى أن الحكومة التركية ترغب في عقد صلح بين العرب والأتراك ينص على إعطاء الولايات العربية في الدولة العثمانية استقلالاً ذاتياً يحقق أماني العرب القومية.

وعندما عُرضت الرسالة السابقة على الملك حسين رفض فكرة الصلح مع الأتراك وأحال الرسالة إلى سير ريجنالد ونجت "المندوب السامي البريطاني الجديد في مصر طالباً تفسيراً لتلك الاتفاقية السرية، مما أحرج الأخير الذي لم يجد مخرجاً سوى إحالة الموضوع إلى الخارجية البريطانية، إلا أن وزيرها آرثر بلفور الذي كان لا زال مصراً على عملية الخداع والتضليل رد ببرقية موجهة للملك حسين موضحاً "أن البولشفيك لم يجدوا في وزارة الخارجية الروسية معاهدة معقودة، بل محاورات ومحادثات مؤقتة بين إنجلترا وفرنسا وروسيا في أوائل الحرب لمنع المصاعب بين الدول أثناء مواصلة القتال ضد الأتراك ... وإن قيام الحركة العربية ونجاحها الباهر وإنسحاب روسيا قد أوجد حالة أخرى تختلف عما كانت عليه كلية فيما مضى". وقرن بلفور برقيته بمذكرة خطية باللغة العربية بتاريخ 8 فبراير عهد بها إلى "الكولنيل باست" نائب المعتمد البريطاني في جده. وفي هذه المذكرة أكد بلفور للملك حسين على صدق وعد الحكومة البريطانية بتحرير الأمة العربية وإستقامة قصدها بهذا الشأن، واتهم بلفور أحمد جمال باشا بأنه أدخل تغييراً في نصوص الاتفاقية لتشويه أهدافها الأساسية، وأن رسالته لا تعدو أن تكون وسيلة للوقيعة بين العرب وبريطانيا، وللمرة الثانية قبل الملك حسين التفسير البريطاني لثقته الكبيرة في بريطانيا وحليفاتها. (اُنظر ملحق رسالة الكولونيل باست إلى الملك حسين)

ولم يكن للقوميين السوريين نفس الثقة في بريطانيا، وعدّواً موقف الملك حسين ـ سواء من تصريح بلفور أو اتفاقية سايكس/ بيكو ـ تفريطاً في حقوق العرب وخضوعاً لمطامع البريطانيين والفرنسيين، وانتهوا إلى أن السياسة التي يسير عليها الملك حسين تتعارض تعارضاً أساسياً مع المبادئ التي استقر عليها الرأي قبل إعلان الثورة على الأتراك. ومن ثم قرروا العمل بمنأى عن الهاشميين، وبدأوا يعملون على تشكيل حزب منفصل أخذ شكله الرسمي في ديسمبر 1918 تحت اسم "الاتحاد السوري". وكان أبرز أهداف هذا الحزب الدفاع عن عروبة فلسطين والإبقاء عليها جزءاً لا يتجزأ من الوطن العربي بحيث تشكل مع لبنان وسورية كياناً سياسياً واحداً. وتألفت من هذا الحزب قبل إعلان تأسيسه رسمياً لجنة من سبعة أعضاء عرفت باسم لجنة السبعة، لمتابعة القضية العربية ومعالجة المسائل العاجلة، ريثما تُستكمل إجراءات تأسيس الحزب.

وقدمت هذه اللجنة مذكرة إلى المكتب العربي في القاهرة (التابع للمندوب السامي البريطاني)، أفصحت فيها اللجنة عن الشكوك التي تراود القوميين السوريين تجاه السياسة البريطانية والفرنسية حيال المشرق العربي، وطالبت المذكرة الحكومة البريطانية بتحديد سياستها تجاه البلاد العربية الأسيوية تحديداً واضحاً، وأعربت اللجنة عن تمسك العرب بمطالبهم في الوحدة والاستقلال وأن تجئ التسويات السياسية بعد الحرب محققة لهذه المطالب. وطلبت اللجنة تحويل مذكرتها إلى أي من وزارتي الخارجية أو الحربية البريطانية.

وردت الخارجية البريطانية بمذكرة مؤرخة في 16 يونيه 1918 تؤكد على رغبة الحكومة البريطانية في تخليص كل البلاد العربية من الحكم التركي وأن تحظى بالحكم الذي ترتضيه، وأوضحت الخارجية البريطانية في ردها أنها تعترف بالاستقلال التام والسيادة العربية على البلاد التي كانت حرة ومستقلة قبل الحرب والبلاد التي حررها العرب بأنفسهم من السيطرة التركية، أما "فيما يتعلق بالأراضي التي تحتلها قوات الحلفاء (بعد تحريرها من الحكم التركي)، فتلفت حكومة صاحب الجلالة أصحاب المذكرة إلى نصوص البيانات الصادرة من القادة العاملين عند الاستيلاء على بغداد والقدس. وهذه التصريحات تتضمن سياسة حكومة صاحب الجلالة تجاه سكان هذه الأقاليم، والتي تقوم على مبدأ رضاء المحكومين. وكانت هذه السياسة وستظل مؤيدة من حكومة صاحب الجلالة".

وهكذا تعهدت الخارجية البريطانية في مذكرتها تعهداً جديداً يناقض تصريح وزير خارجيتها (تصريح بلفور) في 2 نوفمبر. فطبقاً لهذه المذكرة تعهدت الحكومة البريطانية بألا تقيم في فلسطين ـ وهي الداخلة في الأراضي التي تحتلها قوات الحلفاء ـ أي نظام من أنظمة الحكم لا يقبله أهل البلاد، وأنها سوف تتمسك بهذا التعهد دوماً.

ولما كانت المذكرة البريطانية السابقة قد جاءت بعد إتفاقية سايكس/ بيكو وتصريح بلفور، والمبادئ الأربعة عشر التي أعلنها الرئيس ولسن (ومنها إنهاء المعاهدات السرية وحق تقرير المصير للشعوب التي كانت خاضعة للحكم العثماني) فقد ظن العرب أن بريطانيا قد صححت موقفها، خاصة وأن الحكومة البريطانية عملت على نشر هذه المذكرة في كل بلدان المشرق العربي، وعلى ذلك تفاءل العرب وأسرفوا في حسن الظن ببريطانيا، وأستجابوا بحماس لنداء الجنرال "اللنبي" لبذل أقصى الجهود في الحملة العسكرية على سورية، معتقدين أنهم سيحظون بالحرية والاستقلال والوحدة بعد التخلص من نير الحكم التركي، ولم يدرك العرب إلا بعد فوات الأوان أن بريطانيا وفرنسا مصممتان على تنفيذ إتفاقية سايكس/ بيكو تنفيذاً صارماً.

فقد فاجأت بريطانيا العرب بعد إتمام احتلال فلسطين بوضع تلك البلاد كلها تحت حكم إدارة عسكرية بريطانية أُطلق عليها اسم الإدارة الجنوبية لبلاد العدو المحتلة برئاسة مدير عام كان مقره في القدس ويتبع الجنرال اللنبي. وبدأت هذه الإدارة فور تشكيلها بوضع تصريح بلفور موضع التنفيذ، دون انتهاء الحرب أو عقد الصلح.


 



[1] عند اندلاع الحرب العالمية الأولى تشكلت لجنة سرية في دمشق من عرب سورية والرافدين والجزيرة العربية، ووضعت هذه اللجنة برنامجاً لاستقلال البلاد العربية والتعاون مع الحلفاء، وأرسل هذا البرنامج إلى الشريف حسين وترك له إذا ما وافق عليه أن يتفاوض مع بريطانيا بشأن تنفيذه في مقابل مساندة العرب لها في الميدان.

[2] الشرق الأدنى تعبير دبلوماسي أطلقته وزارة الخارجية البريطانية على المنطقة التي تشمل، حالياً، تركيا وسورية ولبنان وفلسطين وشرق الأردن ومصر.

[3] كان عدد سكان فلسطين طبقا للاحصاء العثماني عام 1914 قد بلغ 272 689 نسمة، منهم ما لا يزيد عن 60 ألف يهودي. كما كان هناك 54 مستعمرة يهودية لا يعمل منها سوي 35 مستعمرة يسكنها ما يقرب من 12 ألف مستوطن من جملة اليهود في فلسطين.

[4] كان هربرت صموئيل من غلاة الصهاينة الأنجليز الذين دعوا إلى المشروع الصهيوني في فلسطين وحاول إقناع وزير الخارجية البريطانية به قبل دخول تركيا الحرب واتصال وايزمان به، ثم أصبح فيما بعد أول حاكم لفلسطين في ظل الانتداب البريطاني عليها ليمهد الأرض فيها لغرس المشروع الصهيوني.

[5] يوضح الطلب البريطاني مدى قوة النفوذ والتأثير الذين كانا لليهود على مسرح السياسة الدولية حتى في هذا التاريخ المبكر للحركة الصهيونية.

[6] كان إدوين منتاجو يهوديا يؤمن بالاندماج في المجتمع الذي يعيش فيه، كما كان يرى أن إثارة موضوع القومية اليهودية قد يثير مشاكل في الهند التي تتعدد فيها الديانات.

[7] كانت الحكومة البريطانية قد سبق لها عرض الموضوع على الرئيس الأمريكي في سبتمبر 1917، إلا أن الأخير أوضح للحكومة البريطانية أن الوقت غير ملائم لمثل ذلك التصريح، وقد فسرت الحكومة البريطانية ذلك على أنه موافقة على المبدأ ولكن الاعتراض منصب على التوقيت.

[8] العَرَّاب : كلمة غير عربية. معناها، عند النصارى، الكفيل والضامن. وتجوزوا في المعنى، حتى اتَّسع ليتضمن معنى النصير والمزكي والحليف والظهير.