إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / القضية الفلسطينية ونشأة إسرائيل، وحرب عام 1948





معارك المالكية
معركة مشمار هايردن
العملية مافيت لابوليش
العملية نخشون

أوضاع الألوية الإسرائيلية
أوضاع المحور العرضي
أوضاع القوات المصرية
أهداف القوات العربية
محصلة الجولة الأولى
مشروع لجنة بيل
مسرح عمليات فلسطين
أعمال القتال المصري ـ الإسرائيلي
معركة وادي الأردن
معركة نجبا
معركة نيتسانيم
معركة مشمار هاعيمك
معركة أسدود
معركة اللطرون (الهجوم الأول)
معركة اللطرون (الهجوم الثاني)
معركة العسلوج
معركة القدس
معركة بئروت يتسحاق
معركة جلؤون
معركة جنين
معركة يد مردخاي
معركة جيشر
الأوضاع المصرية والإسرائيلية
الموقف في نهاية الفترة الأولى
المستوطنات الإسرائيلية في فلسطين
الاتجاهات التعبوية لمسرح العمليات
الاستيلاء على مستعمرات عتصيون
الاستيلاء على صفد وتخومها
الاستيلاء على عكا
التنفيذ الفعلي للعملية يؤاف
التقسيمات العثمانية في سورية
الحدود في مؤتمر الصلح
الخطة الأصلية للعملية يؤاف
العملية هاهار
العملية ميسباريم
العملية أساف
العملية مكابي
العملية بن عامي (تأمين الجليل)
العملية باروش
العملية حوريف (حوريب)
العملية داني
العملية يبوس
العملية حيرام
العملية ديكيل
العملية يفتاح (تأمين الجليل)
العملية شاميتز
العملية عوفدا
القتال في المحور الشرقي
القتال في جيب الفالوجا
اتجاهات الجيوش العربية
اتفاقية سايكس/ بيكو
تقدم القوات المصرية في فلسطين
تقسيم فلسطين
تقسيم فلسطين الأمم المتحدة
دخول الفيلق الأردني القدس
حدود فلسطين تحت الانتداب
سورية في العصر الإسلامي
سورية في العصر البيزنطي
سورية في العصر اليوناني
سورية في عهد الأشوريين
طريق تل أبيب ـ القدس
كنعان قبل قيام إسرائيل
فلسطين في عهد الملوك



أمن البحـــر الأحمــر

ثالثاً: تطور موقف الأمم المتحدة

عندما أصدرت هيئة الأمم المتحدة قرار تقسيم فلسطين فإنها أوكلت تنفيذه إلى اللجنة الخماسية التى نص عليها ذلك القرار، وكان من المقرر أن تعمل هذه اللجنة بدعم من مجلس الأمن وتحت إشرافه.

وبدأت اللجنة الخماسية أعمالها بدعوة كلٍّ من اللجنة العربية العليا لفلسطين والوكالة اليهودية وحكومة الانتداب لتعيين مندوبين عنهم لمساعدتها والتشاور معها، إلا أن اللجنة العربية العليا رفضت هذه الدعوة على أساس عدم اعترافها بشرعية قرار التقسيم، أما الوكالة اليهودية فقد أرسلت مندوبها وحرصت على التعاون مع اللجنة، كما أرسلت حكومة الانتداب مندوباً عنها، إلا أنها رفضت أن يكون لها دور إيجابي في تنفيذ قرار التقسيم امتداداً لسياستها السلبية تجاه ذلك القرار، وأصرت على رفض قيام اللجنة بمهمتها أو التعاون معها حتى موعد انتهاء انتدابها رسمياً في 15 مايو، بل إنها رفضت السماح للجنة بدخول فلسطين بدعوى خوفها على سلامتها.

وإزاء رفض العرب والبريطانيين التعاون معها عجزت اللجنة الخماسية عن القيام بمهامها لترتيب نقل السلطة من حكومة الانتداب وإنشاء الميلشيات العربية واليهودية، بالإضافة إلى رسم الحدود والإعداد للإتحاد الاقتصادي للدولتين المقترحتين، وعلى ذلك بقيت اللجنة في نيويورك اكتفاءاً بإرسال مندوب عنها إلى فلسطين، كما تباطأ مجلس الأمن في تنفيذ التزاماته طبقاً لما جاء في قرار التقسيم، ولم يتناول قضية فلسطين بشكل جاد إلا في 24 فبراير عندما ناقش التقرير الأول للجنة الخماسية التى اتهمت فيه العرب بمحاولة تعديل قرار التقسيم باستخدام القوة، وطالبت المجلس بتزويدها بالمساعدة العسكرية للنهوض بمسؤولياتها ومنع إراقة الدماء فور جلاء القوات البريطانية عن فلسطين.

وإزاء تفجر القتال بين اليهود والعرب وإعلان الأخيرين تصميمهم على مقاومة التقسيم بالقوة، وإصرار الحكومة البريطانية على رفض استخدام قواتها لفرض قرار التقسيم، أصبحت الإدارة الأمريكية أقل تمسكاً بذلك القرار الذي ظنت أنه يمكن تنفيذه دون اللجوء إلى استخدام القوة، وقد ساعد على هذا التحول في الموقف الأمريكي تزايد العداء العربي تجاه الولايات المتحدة الأمريكية لدورها في إصدار قرار التقسيم ودعمها الكامل للمطامع الصهيونية، وتخوف الإدارة الأمريكية من التهديدات العربية بالتدخل في تدفق البترول إلى الغرب في الوقت الذي تزايد فيه ضغط السوفيت في أوروبا والشرق الأوسط[1].

وعندما اجتمع مجلس الأمن القومي الأمريكي في 17 فبراير 1948 لمناقشة الورقة التى قدمها جهاز التخطيط في وزارة الخارجية بشأن التخلي عن قرار التقسيم أوضح الجنرال "ألفريد جرونتر" أن فرض التقسيم يتطلب إرسال ما بين 80 ألف و 160 ألف جندي إلى فلسطين، وأن على الولايات المتحدة الأمريكية في هذه الحالة أن تعلن التعبئة الجزئية، وهو ما لم تكن الإدارة الأمريكية مستعدة لتنفيذه.

وهكذا نجحت وزارتا الدفاع والخارجية الأمريكية في التغلب مؤقتاً على الضغوط التى يواجهها الرئيس ترومان من المؤسسات الصهيونية والمشايعين لها من أعضاء الكونجرس ووسائل الإعلام الأمريكية، ومن ثَمَّ رفضت الولايات المتحدة الأمريكية استخدام القوة لفرض التقسيم وأوضح "وارين أوستن" ـ رئيس الوفد الأمريكي ـ يوم 24 فبراير في مجلس الأمن أن ميثاق الأمم المتحدة لا يمنح المجلس صلاحية فرض قرار التقسيم، واقترح أن يقوم ممثلو الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن بالاتفاق على ما يجب عمله بعد ذلك، وبالرغم من تصويت مجلس الأمن بالموافقة على اقتراح "أوستن"، إلا أن ممثلي الدول الخمس لم يتوصلوا إلى اتفاق جماعي بالرغم من تقديم ممثلي الولايات المتحدة الأمريكية والصين الوطنية وفرنسا مذكرة للمجلس أوضحوا فيها أنه لا يمكن تنفيذ التقسيم بطريقة سلمية.

وعندما تبين للصهيونيين تآكل المساندة الأمريكية لقرار التقسيم، قاموا وأنصارهم بحملة ضغط شديدة على الإدارة الأمريكية ، وخلال أسبوع واحد من فبراير تلقت الخارجية الأمريكية 22 ألف برقية بشأن فلسطين، وخلال أسبوعين كان قد تم جمع 35 مليون دولار من يهود الولايات المتحدة الأمريكية لدعم مشروع الدولة اليهودية، في الوقت الذي اشتد فيه النقد للتحول الجديد في الموقف الأمريكي تجاه فلسطين، والذي وصفته جريدة "نيويورك تايمز" بأنه استسلام واضح أمام التهديد باستخدام القوة، كما وصفه بعض الأمريكيين بأنه "انتصار لسياسة النفط وتهدئة مُخزيَة للعرب".

وبالرغم من الضغوط السابقة، فقد استمر تمسك الإدارة الأمريكية بموقفها الجديد من قرار التقسيم، وأعلن "أوستن" في 19 مارس أن مجلس الأمن لا يستطيع أن يفرض بالقوة مشروعاً لا يمكن تنفيذه بالطرق السلمية، وأن المجلس غير مستعد للمضي في جهوده الرامية إلى تنفيذ قرار التقسيم في ظل الظروف القائمة، مشيراً إلى أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة مجرد توصيات، ومن ثَمَّ اقترح رئيس الوفد الأمريكي قيام هدنة مؤقتة بين الجانبين العربي واليهودي، ووضع فلسطين تحت وصاية الأمم المتحدة إلى أن تُعقَد دورة خاصة ثانية للجمعية العامة بهدف إجراء مزيد من الدراسة لمستقبل فلسطين.

وإزاء هذا الموقف كثَّفَت المنظمات الصهيونية جهودها وضغوطها على الرئيس الأمريكي نفسه، الذي سرعان ما أعلن في الخامس والعشرين من مارس أن مشروع الوصاية المقترح ليس بديلاً عن مشروع التقسيم، وإنما هو تدبير مؤقت لتنظيم الإدارة في فلسطين بعد انتهاء سلطة الانتداب البريطانية وجلاء قواتها عن تلك البلاد.

وفي الثلاثين من مارس قدَّم "أوستن" في مجلس الأمن مشروع قرار يدعو زعماء العرب واليهود في فلسطين إلى إرسال مندوبين عنهم إلى مجلس الأمن لمناقشة قيام هدنة بين الجانبين كما يدعو الطرفين إلى التوقف فوراً عن أعمال العنف، كما كرر "أوستن" طلب الولايات المتحدة الأمريكية عقد دورة طارئة للجمعية العامة للأمم المتحدة لمناقشة نظام الحكم الذي يجب إرساؤه في فلسطين بعد انتهاء الانتداب.

وفي أول أبريل قرر مجلس الأمن ـ بناءاً على اقتراح أمريكي ـ دعوة الجمعية العامة للأمم المتحدة لعقد دورة خاصة تبحث فيها من جديد مستقبل الحكم في فلسطين، كما اتخذ المجلس في 17، 13 أبريل قرارين آخرين: الأول يدعو إلى وقف الاشتباكات وإقرار هدنة بين طرفي الصراع في فلسطين، والثاني يدعو إلى إنشاء لجنة هدنة تتكون من قناصل الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وبلجيكا في القدس لمراقبة أي هدنة يتفق عليها. (اُنظر ملحق القرار الرقم 46 (1948) بتاريخ 17 (أبريل) 1948، الدعوة إلى وقف العمليات العسكرية في فلسطين) و(ملحق القرار الرقم 48 (1948) بتاريخ 23 (أبريل) 1948، إقامة لجنة الهدنة لفلسطين)

وقد استقبل العرب الموقف الأمريكي الجديد بارتياح حذر، وأعلن مندوبو الدول العربية في الأمم المتحدة وجامعة الدول العربية استعدادهم لدراسة اقتراح الوصاية وقبول الهدنة في فلسطين، إلا أن اللجنة العربية العليا التى كانت أقل تقبلاً لفكرة الوصاية أبلغت مجلس الأمن أنه مادامت الهجرة اليهودية مستمرة، ومادام الصهاينة ماضيين في خططهم لإنشاء دولة يهودية، فإن عرب فلسطين لن يستطيعوا التوقف عن القتال.

وعلى الجانب اليهودي أكدت الوكالة اليهودية رفضها لاقتراح الوصاية وطالبت الأمم المتحدة بتطبيق قرار التقسيم بالقوة إذا استدعي الأمر، كما أبدت استياءها من الموقف الأمريكي الجديد الذي اعتبرته خيانة لقضيتهم، في الوقت الذي تزايدت فيه حدة الدعاية والضغط الصهيوني داخل الولايات المتحدة الأمريكية لاستعادة التأييد الأمريكي لقرار التقسيم، واتهمت الوكالة بريطانيا بالتواطؤ مع العرب في جهودهم للتسلل من الدول المجاورة إلى فلسطين، أما بالنسبة للهدنة، فقد أبدت الوكالة استعدادها لقبولها إذا تمَّ سحب كل المتطوعين العرب الذين دخلوا ذلك البلد، ومُنعت التحرشات العربية في المستقبل وسُمِح باستمرار الهجرة اليهودية دون قيود ولم تؤخر هذه الهدنة تحقيق الاستقلال.

وفي 17 أبريل كرَّر مجلس الأمن دعوته للعرب واليهود بإيقاف جميع الأعمال الحربية وشبه الحربية، وبعد خمسة أيام تشكلت لجنة للهدنة من قناصل كل من الولايات المتحدة الأمريكية وبلجيكا وفرنسا في القدس.

وفي 20 أبريل بدأت الدورة الثانية للأمم المتحدة مناقشة ورقة العمل الأمريكية التي اقترحت إنشاء وصاية مؤقتة تتولى فيها الأمم المتحدة سلطة الإدارة من خلال مجلس الوصاية وحاكم عام تُعيِّنه الأمم المتحدة مع السماح بهجرة خمسة آلاف يهودي شهرياً، وبالرغم من اعتراض العرب على بعض جوانب ورقة العمل الأمريكية فقد وجدوا أنفسهم مضطرين ـ إزاء ضيق الوقت المتبقي على انتهاء الانتداب ـ لأن يقبلوا مشروع الوصاية باعتباره الوسيلة العملية الوحيدة لوأد قرار التقسيم.

وخلال مناقشة ورقة العمل الأمريكية أبدى العرب قدراً أكبر من المرونة، وأيدتها الدول التى ساندتها في رفض مشروع التقسيم منذ البداية، كما بدأت بعض الدول التي صوَّتت ـ على مَضضٍ ـ إلى جانب التقسيم في 29 نوفمبر 1947 تُعرب عن استيائها أو اعتراضها الجاد عليه ورأت بعض الدول ان التقسيم كان خطأ يجب تصحيحه.

وفي الثالث والعشرين من أبريل أعلنت الهيئة العربية العُليا استعدادها المشروط للنظر في اقتراح الوصاية على أنه تدبير مؤقت فقط يرمي في النهاية إلى حل مقبول يرضى به العرب.

وعلى ضوء المناقشات السابقة أُحيل مشروع الوصاية الأمريكي إلى اللجنة الأولى، كما تقَّرر تشكيل لجنة فرعية (اللجنة رقم 9) لبحث جميع الموضوعات المتعلقة بتأسيس نظام انتقالي في فلسطين يستند على نظام الوصاية المقترح، وانتهت اللجنة الأخيرة إلى الموافقة على تعديل مشروع الوصاية وإقراره، كما وافقت على دعم جهود مجلس الأمن من أجل التوصل إلى هدنة في فلسطين، وتكليف وسيط الأمم المتحدة، الذي سيختاره الأعضاء الدائمون بالتوصل إلى تسوية سلمية.

وفي الوقت الذي كانت فيه اللجنة رقم (9) تبحث مشروع الوصاية، كثَّفت المنظمات الصهيونية ضغوطها لوأد ذلك المشروع والإبقاء على قرار التقسيم دون تعديل أو على الأقل تمييع الموقف في المنظمة الدولية حتى انتهاء الانتداب في 15 مايو.

وقبل بضعة أيام من ذلك اليوم الموعود، صرح حاييم وايزمان قائلاً: "لقد تمكنت من توطيد علاقتنا بأصدقائنا في واشنطن، وتأكدت انه سيتم الاعتراف بالدولة اليهودية في اللحظة التى يعلن فيها عن إنشاءها".

ومع اقتراب الانتداب البريطاني من نهايته بدأت جهود الضغط والإغراء الصهيوني تؤتي ثمارها مرة أخرى[2]، فقد تخلت الولايات المتحدة الأمريكية عن مشروع الوصاية في الوقت الذي فقدت فيه معظم الدول في الجمعية العامة حماسها لذلك المشروع، خاصةً وأن الحكومة الأمريكية لم تُبد أي استعداد للمشاركة في تنفيذه، وعلى ذلك لم يكن غريباً أن يفشل مشروع الوصاية في الحصول على أغلبية الثلثين اللازمة لإجازته عند التصويت عليه في الجمعية العامة يوم 14 مايو.

ولم تنتظر الوكالة اليهودية انتهاء الانتداب البريطاني في الساعة الثانية عشرة من مساء ذلك اليوم، فقد بادرت بعقد اجتماع للمجلس الوطني اليهودي الذي أُعلن في الساعة الرابعة من بعد ظهر 14 مايو قيام الدولة اليهودية في فلسطين باسم "إسرائيل"[3]. (اُنظر ملحق تقريري القائمقام حافظ بكري عن اجتماعات رؤساء أركان حرب الجيوش العربية (1 و10 مايو 1948))

وفي الساعة الخامسة من مساء نفس اليوم (بتوقيت نيويورك والحادية عشرة بتوقيت فلسطين) – قبل ساعة واحدة من انتهاء الانتداب البريطاني على ذلك البلد – اجتمعت الجمعية العامة لمناقشة مشروع قرار أمريكي مُعدل كانت اللجنة الأولى قد أجازته على عجل في ذلك اليوم لتدارك الموقف بعد رفض مشروع الوصاية، وقد تضمَّن ذلك المشروع ما يلي:

1. اختيار الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن وسيطاً يمثل الأمم المتحدة.

2. استخدام وسيط الأمم المتحدة مساعيه الحميدة مع السلطات والأطراف المختلفة في فلسطين لترتيب إدارة المرافق العامة الحيوية، وضمان حماية الأماكن المقدسة والعمل على التسوية السلمية للموقف في تلك البلاد.

3. انهاء مهمة اللجنة الخاصة بفلسطين.

4. تعاون كل من الحكومات والمنظمات على تنفيذ قرارات مجلس الأمن.

وبينما كانت الجمعية العامة تناقش مشروع القرار السابق، أعلن في الساعة السادسة مساءً (بتوقيت نيويورك و 12 مساءً بتوقيت فلسطين) نبأ نهاية الانتداب البريطاني على فلسطين وبعد ذلك بدقيقةٍ واحدةٍ كان الرئيس ترومان يعلن اعتراف الولايات المتحدة الأمريكية بالدولة اليهودية الجديدة، دون التشاور مع وزارة الخارجية الأمريكية.

وقد أثار هذا الانقلاب المفاجئ في الموقف الأمريكي لدى العرب من المرارة ضد الولايات المتحدة الأمريكية ما لم يحدث في أي وقت مضى، فقد أحس العرب أن الولايات المتحدة الأمريكية تعمدت خداع الجميع حتى ينتهي الانتداب قبل أن توافق الجمعية العامة على أي قرار مضاد للتقسيم.

وبينما كان "السير آلن كننجهام" ـ المندوب السامي البريطاني ـ يغادر ميناء حيفا طاوياً آخر عهود الانتداب البريطاني في المشرق العربي كانت الأطراف العربية واليهودية تعد نفسها لجولة جديدة من الصراع الدامي.

أما الجمعية العامة للأمم المتحدة فقد وافقت – بعد فوات الأوان – على مشروع القرار الأمريكي الذي قدمته اللجنة الأولى وكان يدعو إلى اختيار وسيط دولي. وجاءت نتيجة التصويت 31 صوتاً مقابل 7 أصوات وامتناع 16 صوتاً.

رابعاً: تطور الموقف الصهيوني في فلسطين

لتحقيق النصر على العرب وفرض الدولة اليهودية عليهم لخص بين جوريون الإجراءات الواجب عملها فيما يلي:

·   التعبئة الشاملة للقوة البشرية اليهودية للعمل العسكري والاقتصادي بأفضل الطرق الممكنة مع إعطاء الأسبقية لاعتبارات الأمن.

·   الإعداد لإنتاج وشراء المعدات والمهمات اللازمة للعمل العسكري في البر والبحر والجو وفقاً للتحضيرات التي تمت والتي لا تزال تجرى.

·   عمل الإجراءات اللازمة لمعالجة النواحي المالية والصناعية والزراعية والصادرات والواردات، وتوزيع المواد الغذائية والمواد الخام، بحيث تعمل على دعم القوة العسكرية اليهودية دون الإضرار بالمجتمع اليهودي في فلسطين (الييشوف).

·   الإعداد لوراثة حكومة الانتداب بتشكيل هيئة مركزية واحدة تمارس سلطاتها على شؤون الدفاع والصناعة والزراعة والتمويل والحكومة، على أن تتلقى هذه الهيئة الدعم الكامل من الحركة الصهيونية والشعب اليهودي في الشتات.

·   التحول إلى الهجوم على طول الجبهة في الوقت المناسب، مع عدم قصر العمليات الهجومية داخل حدود الدولة اليهودية أو في فلسطين فحسب بل يجب مهاجمة العدو حيثما وُجد.

وقد مثلت الإجراءات السابقة برنامج العمل الذي سارت عليه الوكالة اليهودية والمؤسسات الصهيونية واليهودية المختلفة داخل فلسطين وخارجها لتأمين قيام الدولة اليهودية في الوقت المحدد لها.

1. التعبئة اليهودية للقوى البشرية

أ. تعبئة القوة البشرية اليهودية داخل فلسطين

على ضوء الإحصاء الذي أجرته الوكالة اليهودية في نهاية عام 1947 لوضع خطة التعبئة كان هناك 185 ألف من الذكور يمكن أن يشكلوا وعاء القوة البشرية للمجهود الحربي (97 ألف رجل تراوح أعمارهم بين 18، 35 عاماً و 78 ألف آخرين تراوح أعمارهم بين 36 و 50 عاماً، بالإضافة إلى 9500 شاب تراوح أعمارهم بين 16، 17 عاماً)، أما بالنسبة للنساء فقد كان هناك 41 ألف امرأة تراوح أعمارهم بين سن 18 و 25 عاماً بالإضافة إلى 9 آلاف فتاة.

وعلى ذلك كان وعاء التعبئة البشرية يسمح بدعم الهجناه بأعداد كافية لصد أي هجوم عربي محتمل، ومن ثم أصدر مركز الإحصاء للخدمة الشعبية في اليوم التالي لصدور قرار التقسيم أول أمر لتعبئة الأفراد الذين تتراوح أعمارهم بين 17 و 25 عاماً ولم يتم تأهيلهم بعد، حتى يجرى تجنيدهم وتدريبهم، ونظراً لأن المتقدمين خلال شهر ديسمبر 1847 ويناير 1948 لم يزد عددهم عن 23212 فرد، فقد أصدر مركز الإحصاء أمره الثاني في 18 فبراير 1948 يستدعي فيه الرجال غير المتزوجين والذين ليس لهم أولاد حتى سن 35 عاماً، وفي نهاية فبراير أعلنت التعبئة العامة.

وكان قد تم قبل ذلك استدعاء فئات معينة عديدة من بينها الضباط والرقباء، والذين خدموا في الجيش البريطاني وجيوش أخرى في أثناء الحرب العالمية الثانية (تقدر أعدادهم بنحو 5500 شخص)، والممرضات من جميع الأعمار (2000 ممرضة). ووصل عدد الذين تقدموا للخدمة حتى 15 مارس 1948 إلى 52000 رجل وامرأة. إلا أن إجراءات الرقابة ومناخ الحرب في ربيع عام 1948 رفعت أعداد المعبئين حتى منتصف أبريل إلى 82500 فرد، وعندما أعلن التجنيد لوحدات المعاونة النسائية في 29 أبريل ارتفعت الأعداد السابقة إلى 94500 رجل وامرأة، وفي 20 يونيه ارتفع سن التجنيد حتى سن 41 عاماً، مما أضاف أعداداً جديدة إلى الفئات السابقة.

أما في المستعمرات العمالية (الكيبوتزات) فقد جرت التعبئة وفقاً لأسلوب خاص تعود جذوره إلى الحرب العالمية الثانية، حيث حُددت نسبة 7% من العاملين في المستعمرات لأداء الخدمة بصورة كاملة، أما مستعمرات الحدود فقد أُعفيت من الخدمة الإجبارية، على اعتبار أن وجود المستوطنين في هذه المستعمرات أحد عوامل الأمن الرئيسية، كما أُعفى من الخدمة الإجبارية كل المستعمرات الزراعية التي لا يتجاوز عدد العاملين فيها 25 رجلاً ومن ضمنها كل مستعمرات النقب كما أُعفى من نفس الخدمة الأعضاء الذين يعملون في مستعمرات الموشاف. وقد جُند عملياً من المستعمرات للخدمة الكاملة 1987 فرد حتى نهاية مايو 1948.

كما أضافت عمليات الهجرة الشرعية وغير الشرعية التي تمت خلال شتاء وربيع عام 1948 دعماً جديداً للقوة البشرية اليهودية في فلسطين، وخلال تلك الفترة تراجعت الدوافع الإنسانية عند اختيار المهاجرين الذين سيتم ترحيلهم لتفسح المجال لجلب الشباب اللائقين للحرب، وكانت التعليمات التي أُعطيت لرجال مؤسسة الهجرة في تلك الفترة، هى أن يرسلوا على ظهر سفن الهجرة غير الشرعية ـ على قدر ما يستطيعون ـ شباباً مستعداً للانضمام إلى قوات الهجناه المحاربة فور نزولهم من تلك السفن، وخلال الشهور الخمسة الأولى من عام 1948 وصل إلى فلسطين أكثر من ستة آلاف فرد عن طريق الهجرة غير الشرعية ممن تنطبق عليهم المواصفات المطلوبة.

ب. التجنيد من خارج فلسطين (غاحل)

في أوائل عام 1948 تقدمت مؤسسة الهجرة إلى قيادة الهجناه في أوروبا باقتراح القيام بعمل مشترك من أجل تجنيد الشباب لحمل السلاح وبناء الاقتصاد اليهودي، وكان على الهجناه أن تجند هؤلاء الشباب وتدربهم على أن تقوم مؤسسة الهجرة بنقلهم إلى فلسطين، وفي فبراير من نفس العام دُعيت مؤسسة الهجرة والهجناه إلى مؤتمر طارئ في "براغ" شارك فيه ممثلون عن حركات الشبيبة اليهودية في أوروبا، وعلى أثر هذا المؤتمر تم إنشاء مركز جديد لتنظيم عملية التجنيد.

وفي نهاية فبراير أصدرت الوكالة اليهودية أمراً صريحاً إلى قيادة الهجناه في أوروبا بالعمل خلال الأشهر الخمسة التالية على تدريب أقصى عدد من الشباب اليهودي وتشكيلهم في فصائل مع قادتهم تمهيداً لترحيلهم إلى فلسطين، وكانت الأوامر التي تلقتها قيادة الهجناه في أوروبا صريحة "بأن يأخذوا الأشخاص الملائمين مع الجهازين الآخرين (مؤسسة الهجرة ومؤسسة الهروب) بلا رحمة، فالأمن الآن أصبح قبل كل شيء".

وبناءاً على الأمر السابق قامت قيادة الهجناه في أوروبا بتنظيم عملية التجنيد والتدريب بمساعدة القوى المحلية، وشكلت لجان تجنيد في معظم دول أوروبا وأمريكا اللاتينية وشمال أفريقيا، ولم تكن مهمة هذه اللجان تنظيم التجنيد فحسب، وإنما أيضاً الجباية المالية لتمويل العملية، وأنشأت قاعدتان لتجهيز المجندين: الأولى في منطقة مرسيليا جنوب فرنسا والثانية في إيطاليا، كما كانت فرنسا بمثابة قاعدة لتجميع وفرز المجندين القادمين من معسكرات ألمانيا وشمال أفريقيا وإنجلترا وأمريكا في ثماني معسكرات كان أكبرها في مرسيليا يستوعب ألف فرد في الدفعة الواحدة.

وعندما بدأ العمل المنتظم في منتصف مارس 1948 كانت لجان التجنيد تُولي اهتماماً خاصاً للخبراء (مثل الضباط والطيارين وأطقم الدبابات والمدفعية ورجال البحرية والكوماندوز والفنيين في مجالات اللاسلكي والطيران والبحرية والأطباء والممرضات، حيث كان يتم فرزهم عن باقي المجندين وإرسالهم إلى فلسطين بأسرع ما يمكن، أما باقي المجندين فقد كان يتم تدريبهم لمدة ثلاثة أو أربعة أسابيع ثم يحولون إلى معسكرات انتقالية لانتظار دورهم في الترحيل إلى فلسطين. وحتى 15 مايو 1948 كانت حركة التجنيد خارج فلسطين قد دعمت القوة البشرية العسكرية اليهودية بعشرين ألف مجند، كان منهم عدة آلاف من الضباط والطيارين ورجال البحرية والفنيين في المجالات العسكرية المختلفة، الذين اكتسبوا خبرات الحرب العالمية الثانية.

ج. المتطوعون من خارج فلسطين (ماحل)

على التوازي من الجهود السابقة للتجنيد الإجباري لليهود داخل فلسطين وخارجها، بُذلت جهود ماثلة لتجنيد المتطوعين من المحترفين اليهود وغير اليهود في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وجنوب أفريقيا لتغطية النقص في بعض الكوادر والتخصصات العسكرية المختلفة، فمع بداية عام 1948 أُنشئ في الولايات المتحدة الأمريكية مكتب لتجنيد المتطوعين باسم Land and labor for Palestine. وقد وصل إلى فلسطين عن طريق هذا المكتب 1500 متطوع من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، وفي ربيع عام 1948 جرت عملية خاصة لتجنيد المتطوعين اللازمين للسلاح الجوي التابع للهجناه ممن خدموا في السلاح الجوي الأمريكي خلال سنوات الحرب العالمية الثانية، وتمت هذه العملية بالتوازي مع عمليات شراء الأسلحة من الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد ظهر من تحقيق قامت به المخابرات العسكرية الأمريكية في مايو 1948، أن العقيد "أليوت نلز" ـ أخو "دافيد نلز" مساعد الرئيس ترومان ومن أكثر الناس نفوذاً في البيت الأبيض ـ قام ومعه شخص آخر يعمل في مكتب حفظ سجلات الضباط، بتصوير ستة وستين سجلاً من سجلات الضباط الصالحين للعمل لحساب الهجناه وأرسلاها إلى فلسطين، واعتبرت هذه السجلات مع ملفات سرية جداً أخرى، الأساس الذي اعتمدت عليه قيادة الهجناة في اختياراتها للضباط الذين تم تجنيدهم أو التعاقد معهم.

وكانت العروض المالية التي قُدمت للطيارين الذين سيذهبون إلى فلسطين أعلى مما كان الطيارون يتقاضونه في القوات الأمريكية آنذاك حتى يمكن إغراؤهم بالسفر، مع قيام المنظمات الصهيونية بالولايات المتحدة الأمريكية بتذليل أي مصاعب تعوق سفرهم إلى فلسطين حتى لو كانوا لا يزالون بالخدمة.

وتمت عمليات تجنيد مماثلة في جنوب أفريقيا للخدمة في القوات الجوية، وطبقاً لرواية سلوتسكي: "وصل المتطوعون الأوائل في أبريل 1948 وكان عددهم أحد عشر طيـاراً".

وقد غطت عمليات تجنيد المرتزقة والمتطوعين كلاً من كندا وبريطانيا وفرنسا وهولندا، والدول الإسكندنافية ودول أمريكا اللاتينية، وقد تزايد عدد المتطوعين حتى نهاية الحرب فوصل إلى ثماني مائة شخص في القوة الجوية. وقدر الأخوان كمش عدد الطيارين فيهم بمائة ستة وخمسين طياراً. وكان باقي هؤلاء المتطوعين والمرتزقة من الملاحين وعمال اللاسلكي والتسليح، والمهندسين. "وكانت خبرة هؤلاء المتطوعين أوسع كثيراً من خبرة زملائهم في أرض إسرائيل".

وبلغ جملة المتطوعين المحترفين الذين تم تجنيدهم خلال مراحل الحرب المختلفة نحو ثلاثة آلاف من الضباط والطيارين ورجال البحرية والفنيين والأخصائيين والأطباء. وقد شكل هؤلاء المتطوعون ما يقرب من 75% من طياري السلاح الجوي الإسرائيلي في ذروة أيام الحرب في خريف عام 1948، وما يقرب من 30% من رجال السلاح البحري و 20% من أطباء جهاز الخدمات الطبية.


 



[1] شهد شهر فبراير 1948 انقلاباً شيوعياً في تشيكوسلوفاكيا في الوقت الذي كان فيه الاتحاد السوفيتي يمارس ضغوطه وتهديداته ضد النمسا وإيران وتركيا.

[2] في صباح يوم 14 مايو تمكن "كلارك كليفورد" ـ مستشار ترومان الذي كان على اتصال مستمر بالقيادات الصهيونية وزعماء الحزب الديمقراطي ـ من إقناع الرئيس الأمريكي بوجوب القيام بعمل فوري لإنقاذ ذلك الحزب من هزيمة محققة في الانتخابات القادمة، خاصة وأن قادة الحملة الانتخابية قد أبلغوه أن مشروع الوصاية الذي قدمته الإدارة الأمريكية سيؤدي بالحزب والرئيس ترومان إلى فشل ذريع، وأنه هناك ثورة داخلية في الحزب ضد الرئيس.

[3] عندما اجتمع المجلس الصهيوني العام في تل أبيب يوم 16 أبريل 1948، قرَّر إقامة مجلس وطني يهودي من ممثلين عن الحركة الصهيونية المقيمين في فلسطين والهيئات اليهودية الأخرى فيها، على أن يتكون ذلك المجلس من 37 عضواً، مع تشكيل مجلس مديرين من 13 عضواً يكون مسؤولاً أمام المجلس الوطني الذي اجتمع للمرة الأولى في 18 أبريل.

[4] الكولونيل (عقيد) "بنجامين كاجان" كان أحد المسؤولين عن مشتروات الطائرات من تشيكوسلوفاكيا عام 1948، ثم من فرنسا في الخمسينيات، وأصبح مديراً لمشتروات القوات الجوية بعد ذلك.

[5] أصيبت إحداها في حادث أثناء إقلاعها في أوروبا، واستخدم الباقي في النقل وقذف القنابل.

[6] يحتمل وصولها بعد 15 مايو أو خلال شهر يونيه 1948.

[7] قامت وزارة الدفاع الأمريكية في أوائل شهر مايو 1948 بإجراء دراسة لتقدير الموقف على ضوء الأوضاع في فلسطين، وجاء في ذلك التقدير أن القوات اليهودية كانت متفوقة على جميع القوات العربية بالرجال والسلاح والعتاد والتدريب.

[8] كان اثنان من الهيئة التنفيذية محاصرين في القدس والثالث في الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى ذلك حضر الجلسة المصيرية عشرة فقط من الهيئة التنفيذية.

[9] حينما أتمت بعض وحدات الجيش الإنقاذ (الذي موَّلته الدول العربية) تدريبها في سورية قرَّرت اللجنة العسكرية إرسال أولى كتائبه إلى فلسطين عن طريق شرق الأردن، وعند وصول الكتيبة إلى درعا في 9 يناير 1948، أرسل قائدها يستأذن المسؤولين في الحدود الأردنية، الذين طلبوا بدورهم الإذن من عمان، فطلبت الأخيرة بدورها الإذن من السلطات البريطانية. وتحت إلحاح الحكومة الأردنية وافقت السلطات البريطانية على دخولها على أن تتجه إلى القسم العربي في قرار التقسيم.