إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / العدوان الثلاثي، حرب عام 1956





مسرح الشرق الأوسط
مسرح عمليات حرب العدوان
معركة أم قطف
معركة ممر متلا
معركة رفح
خطة موسكتير المعدلة
خطة موسكتير المعدلة النهائية
خطة الآلاي الثاني

مراحل الهجوم الإسرائيلي
الهجوم على شرم الشيخ
توزيع القوات المصرية



المبحث الثالث

المبحث الرابع

تطور الأحداث

أولاً: تطور سير الأحداث من 26 يوليه إلى بدء العدوان

1. وصل "كريستيان بينو" إلى لندن يوم 28 يوليه، وفي نفس الوقت كتب "إيدن" لـ "أيزنهاور" خطاباً شخصياً يقول فيه: "إن الوقت قد حان لعمل حاسم ينهي مشكلة "ناصر" وإلا فإن المصالح الغربية في الشرق الأوسط سوف تصاب بنكسة لن تقوم منها كما أن مصالح كل الدول البحرية سوف تضار لأن المصريين لا يملكون الكفاءة اللازمة لإدارة مرفق مُعقد كقناة السويس". وختم "إيدن" خطابه بقوله "إن الضرورات تفرض الآن على الغرب إعادة "ناصر" إلى صوابه بالقوة وطرده من مصر بعد إرغامه على "استفراغ" القناة التي حاول بلعها".

2. اتفقت الحكومتان البريطانية والفرنسية على توجيه احتجاج شديد اللهجة إلى مصر بسبب تأميمها لشركة قناة السويس ورفضت مصر تسلم الاحتجاج من أساسه.

ثم قررت الحكومتان تجميد أرصدة مصر وودائعها في البنوك البريطانية والفرنسية. وتبعتهما الولايات المتحدة الأمريكية في هذا الإجراء.

وصل ميرفي مساعد وزير الخارجية الأمريكية إلى لندن وقابل إيدن كما حضر اجتماعاً مشتركاً مع "سلوين لويد" و"بينو" ثم أرسل تقريراً مبدئياً إلى "أيزنهاور" عما وجده في العاصمة البريطانية. قال فيه أنه وجد "إيدن" مصمماً على تحطيم "ناصر" بالقوة المسلحة وأنهم يرتبون للبدء في العمليات في مدى ستة أسابيع ولم يمنعهم من البدء في العمليات فوراً إلا اكتشافهم أن قواتهم في البحر المتوسط لا تستطيع القيام بالمهمة في الوقت الحاضر كما أن احتياطهم من البترول كان يكفيهم لستة أسابيع خلال فترة الإعداد ولعدة أيام من الحرب.

في 31 يوليه عقد الرئيس "إيزنهاور" اجتماعاً في البيت الأبيض لمجلس الأمن القومي حضره "دالاس" الذي عاد إلى البلاد كما حضره مدير وكالة الاستخبارات المركزية "آلان ويلشن دالاس ـ Dulles, Allen Welsh" ـ شقيق جون فوستر دالاس ـ ومدير العمليات في الجيش الأمريكي والمساعد العسكري للرئيس. ثم عرض تفاصيل ما يجري في لندن كما يظهر أمامه من التقرير المبدئي لـ"مورفي" وعلق "أيزنهاور" على التقرير "إنه يستغرب من حماقة "إيدن" الذي يدق طبول الحرب دون أن يكون جاهزاً لها ويريد أن يتدخل عسكرياً في مناطق إنتاج النفط دون أن يكون لديه الاحتياطي الذي يستغني به حتى يتمكن من تحقيق أهدافه". وفي هذا الاجتماع حدد "أيزنهاور" خطوط السياسة الأمريكية في المرحلة المقبلة على النحو التالي:

1. إن الحكومة البريطانية تتصرف بطريقة "غير عقلانية" ولا تستطيع الحكومة الأمريكية أن تسايرها في ذلك.

2. إن الولايات المتحدة الأمريكية لا تستطيع أن تشترك في عمل عسكري إلا بموافقة مسبقة من الكونجرس وهو ليس واثقاً من إمكانية الحصول على مثل هذه الموافقة في ظل الظروف الحالية.

3. إن التفكير البريطاني في هذه الأزمة متخلف عن العصر فهو يفكر في وسائل مضى وقتها ويمكن إدانتها أمام بقية شعوب العالم كنوع من المغامرات الاستعمارية في القرن التاسع عشر.

4. إن العمل في المنطقة ضد "ناصر" يجب أن يأخذ في حسابه منابع النفط التي يعتمد عليها الغرب هناك فإنه إذا توقف إمداد أوروبا الغربية ببترول الشرق الأوسط فمعنى ذلك أن أوروبا سوف تطلب من الولايات المتحدة الأمريكية إمدادها بالنفط من الاحتياطي الأمريكي وهى لا تستطيع أن تفعل ذلك لأن معناه أنها توافق على استهلاك النفط الذي ينتج في أمريكا في حين أنه يعتبر المخزون الإستراتيجي الذي يتحتم الحرص عليه.

وتدخل مدير العمليات قائلاً للرئيس "إن هيئة أركان الحرب المشتركة من رأيها أنه لابد من كسر "ناصر". ورد عليه "أيزنهاور" بـ"أنه لا يختلف معه في الهدف وإن كان يختلف في الوسيلة فالتصدي لـ"ناصر" عن طريق العمل العسكري سوف يثير ضدنا العالم الثالث كله ومن الأفضل أن نبدأ بعزل العرب وخصوصاً السعوديين عن مصر وعن "ناصر" وبعدها ننظر في الأمر".

في نهاية الاجتماع طلب الرئيس أن تركز أجهزة الخارجية والدفاع والاستخبارات أبحاثها على  دراسة ردود الفعل المحتملة للاتحاد السوفيتي في كل درجة من درجات الأزمة في الشرق الأوسط . كما تقرر أن يسافر "دالاس" فوراً إلى لندن للقاء بـ"إيدن" في محاولة لكسب الوقت لكي يسلمه رسالة شخصية من "أيزنهاور".

وصل "دالاس" إلى لندن يوم 31 يوليه لينضم إلى "ميرفي" ويشارك في اجتماعات "سلوين لويد" و"كريستيان بينو" والتقى أيضاً مع "إيدن" وطرح عليه اقتراح "أيزنهاور" بالدعوة إلى مؤتمر للدول الموقعة على اتفاقية القسطنطينية، قبل القيام بأي عمل عسكري، مبيناً أنه قد تكون الانتصارات العسكرية الأولى سهلة نسبياً، لكن الثمن النهائي قد يكون فادحاً للغاية. ولم يكن "إيدن" مقتنعاً بالفكرة تماماً فقد خشي أن تؤدي إلى إطالة الوقت وتمييع المواقف وإدخال أطراف قد لا يكون من المستحسن إدخالها في نطاق المؤتمر المقترح. وكان رأيه أنه لو أن مثل هذا المؤتمر جرت الدعوة إليه وانعقد فلا يمكن منع الاتحاد السوفيتي من حضوره لأن روسيا إحدى الدول الموقعة على معاهدة القسطنطينية. وفضلاً عن ذلك فإن الولايات المتحدة الأمريكية لم تكن بين الدول التي وقعت هذه المعاهدة. واقترح "دالاس" أن يكون انعقاد المؤتمر الدولي الموسع في لندن. وأن تكون الدول الثلاث بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية هم الداعين إليه. وأضاف "دالاس" "أن انعقاد مثل هذا المؤتمر حتى لو استغرق أسبوعين أو ثلاثة يعطي للكل فرصة الاستعداد لما بعده".

في 2 أغسطس انتهى اجتماع وزراء الخارجية الثلاث في لندن وأصدروا بياناً مشتركاً دعوا فيه إلى مؤتمر دولي حول قناة السويس تدعى إليه 26 دولة بينها مصر وحددوا موعداً لانعقاده في 16 أغسطس. وأشار البيان في إحدى فقراته إلى أن استخدام القوة ضد مصر مستبعد إلا كحل أخير.

عاد "كريستيان بينو" إلى باريس بعد انتهاء المؤتمر وقدم تقريراً لمجلس الوزراء برئاسة "جي موليه". وفي يوم 5 أغسطس وصل "شيمون بيريز ـ Shimon Peres" أمين عام وزارة الدفاع الإسرائيلية إلى باريس. وفي 7 أغسطس دعاه وزير الدفاع الفرنسي إلى لقائه في مكتبه وفاجأه بقوله: كم من الوقت تعتقد أن جيشكم يحتاج إليه لعبور شبه جزيرة سيناء والوصول إلى السويس؟ ورد بيريز "إن العسكريين في جيشنا يقدرون أن الأمر يحتاج على الأرجح إلى ما بين خمسة أيام وسبعة".

وحين بعث "شيمون بيريز" بتقريره إلى ديفيد بن جوريون رئيس وزراء إسرائيل سارع إلى إطلاع "موشي دايان" رئيس الأركان عليه وقال له طبقا لرواية "دايان" "لقد وجدت إسرائيل أخيراً حليفاً كبيراً على استعداد لخوض الحرب ضد الديكتاتور".

في 12 أغسطس عقد "عبدالناصر" مؤتمراً صحفياً في القاهرة، حضره ثلاثمائة من الصحفيين والمراسلين عرض فيه القضية واتهم بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية بالتآمر لتجويع الشعب المصري وإرهابه. فقد جمدت الدول الثلاث الودائع والأرصدة المصرية في بنوكها. وحشدت بريطانيا وفرنسا قوات الاحتياطي وأعلنتا رسمياً تحرك قواتهما وأساطيلهما صوب القناة. إن الحكومة المصرية تأسف بشدة لهذه الإجراءات، وتعتبرها تهديداً للشعب المصري لكي يسلم جزءا من أرضه وسيادته لهيئة دولية هي الاستعمار الدولي بعينه.

وأكد "عبدالناصر" مجدداً على تعهده بأن تدير مصر القناة إدارة فعالة وعادلة. وأشار إلى أن 766 سفينة قد عبرت القناة بسلام منذ التأميم. وصرح بأن مصر القادرة على إدارة القناة، لن تقبل أي رقابة دولية على إدارتها للقناة. وأكد على أن الدول التي استخدمت القناة في 1955، هي 45 دولة، وبالتالي فإن مؤتمر لندن ليس مؤتمراً دولياً حقيقياً. وأضاف "لقد اندهشت تماماً عندما وجهت الحكومة البريطانية الدعوة لبحث مسائل تتعلق بقناة السويس، التي هي جزء لا يتجزأ من مصر، دون استشارة مصر". وأشار عبدالناصر إلى الكلمة التي وجهها "إيدن" إلى شعبه من خلال التليفزيون في 8 أغسطس والتي هاجم فيها الرئيس المصري وقال: "إن معركتنا ليست مع مصر، وليست مع العالم العربي، بل هي مع الكولونيل ناصر".

قال ناصر: تحدث رئيس الوزراء البريطاني قائلاً: "إننا لا نثق في ناصر ... ومعركتنا مع ناصر. حسنا، إذا كان هذا الشعب لا يحظى بأي ثقة، فليس هناك من سبب يدعونا إلى الذهاب إلى لندن لحضور المباحثات".

ثانياً: مؤتمر لندن الأول في 16 أغسطس

في قصر "لانكستر هاوس" الفخم، افتتحت أعمال مؤتمر لندن، الذي حضره ممثلون عن 22 دولة[1] من 26 دولة  دعيت لحضور المؤتمر، (الدول الست عشر الأكثر استخداماً للقناة وباقي الدول الست الموقعة على اتفاقية القسطنطينية)، التي ضمنت حرية الملاحة في القناة. ولم تحضر مصر واليونان والنمسا والمجر المؤتمر رغم توجيه الدعوة إليهم.

كان "دالاس" هو صاحب فكرة المؤتمر، ونتيجة لذلك ولشعوره بمخاوف بريطانيا وفرنسا وعدم اطمئنانهما لموقف بلاده وإصرارهما على ضرورة اتخاذ المؤتمر للقرار النهائي تجاه مصر، فإنه كان عليه الكثير من المسؤولية إذ كان يريد لخطته أن تنجح وأن يبدد شكوك حلفائه ويبعث فيهم الثقة في الموقف الأمريكي. لذلك تقدم في الجلسة المسائية يوم 16 أغسطس 1956 ببيان قال فيه: إن قناة السويس شريان مائي ذو أهمية كبيرة لجميع الأمم. ولها طابع دولي منذ إنشائها، وبنيت على آمال دولية وبرأس مال دولي لخدمة أغراض دولية وأشرفت عليها شركة القناة العالمية. والعلاقة بين مصر والشركة نظمت باتفاقيات. معاهدة عام 1888م حددت في مقدمتها " وضع نظاماً محدداً نهائياً من شأنه أن يؤمن في جميع الأوقات لجميع الدول حرية استخدام القناة البحرية".

إن الحكومة المصرية لجأت من جانب واحد وبدون أية مفاوضات دولية سابقة نحن حريصون عليها إلى إصدار قانون التأميم.

1. أظهر الرئيس ناصر رداً على سحب عرض التمويل أنه ينوي استعمال القناة لخدمة الأهداف الوطنية المصرية. وأن قناة السويس بصفتها الدولية من الناحيتين القانونية والفعلية "هي آخر مكان .. للانتصارات المحلية ومد المطامع الوطنية ..".

2. أن هناك فرقاً بين معاهدة عام 1888م وضماناتها الدولية وعملية مصرية وطنية تضع الدول في موقف من يرجو ويلتمس .. والثقة قد تزعزعت كثيراً.

3. إن ما نحتاج إليه هو "إجراء لوضع القناة تحت نظام دولي يكفل الثقة للذين يحتاجون عادة إلى استخدام القناة".

4. إن المبادئ التي أراها أساساً لخطة عادلة هي:

أ. أن  تدار القناة بكفاءة وحرية مكفولة بصفتها ممراً دولياً تطبيقاً لاتفاقية عام 1888م.

ب. يجب أن تكون إدارة القناة منفصلة عن أثر السياسات الوطنية مهما كان مصدرها.

ج. يجب الاعتراف بحقوق مصر المشروعة ومصالحها في القناة وفي إدارتها بما في ذلك حصولها على دخل عادل.  

د. دفع تعويض عادل لشركة القناة العالمية.

5. أما خطة العمل في إدارة دولية وفقاً لمعاهدة عام 1888م، يجب أن ترتكز على الآتي:

أ. تضطلع بمسؤولياتها هيئة دولية متصلة بالأمم المتحدة وتمثل مصر فيها.

ب. يكون لمصر نصيب عادل مع مراعاة جميع الحقوق المشروعة وسيادتها. 

ج. يدفع تعويض عادل للشركة العالمية لقناة السويس.

د. كل خلاف حول ذلك يسوى أمام لجنة تحكيم تعين أعضائها محكمة العدل الدولية.

ثم أضاف جون فوستر دالاس : "إن هذا الاقتراح لا يتناقض مع سيادة مصر".

لقد كان المشروع الأمريكي هو المحور الذي دار حوله المؤتمر بين تأييد أو تعديل أو معارضة.

وهكذا تقدم "دالاس" بمشروع يؤدي في النهاية إلى تدويل قناة السويس تحت ادعاء  إبعادها عن سياسة أي بلد واحد كما ينص على إنشاء هيئة للمنتفعين بقناة السويس تشرف على إدارتها وتتولى تحصيل رسوم المرور فيها وقد اختير لها اسماً مختصراً هو SCUA [2] وقد  دار حواراً كوميدياً حول الاسم المختصر للرابطة فقد بدأ باختيار CASCU ولكن وزير خارجية هولندا أشار إلى أن الرابطة تسئ إلى نفسها بهذا الاسم القريب من كلمة[3] CASU BELLI واقترح تحويل الاسم المختصر إلى CASCU وأُعترض علية أيضاً لأنه يعني في اللغة البرتغالية "خصية" واعترض وزير خارجية فرنسا وقال إنها قريبة في نطقها إلى كلمة بالغة البذاءة بالفرنسية. وفي المقابل تقدم الاتحاد السوفيتي بمشروع مضاد شاركت في إعداده بعض الدول الصديقة لمصر.

اختتم المؤتمر أعماله في 22 أغسطس، وقد انقسم المشاركون في المؤتمر، كما هو متوقع، إلى ثلاث مواقف مؤيدة ومعارضة ومعدلة. حيث حظيت كتلة الثلاثة الكبار، التي يقودها "دالاس" بتأييد سبع عشرة دولة، وضمت الكتلة المؤيدة "لناصر" سيلان والهند وإندونيسيا والاتحاد السوفيتي فقط، وأكدت أسبانيا حق مصر في التأميم، وضمان حرية المرور يمكن كفالتها بالتفاوض مع مصر. وطالت مناقشات المؤتمر سبعة أيام متواصلة ثم طرح "سلوين لويد" مشروع "دالاس" للتصويت ونال 17 صوتاً وأصبح مشروع الأغلبية. وأعلنت أسبانيا رفضها لمشروع الولايات المتحدة الأمريكية وقدم مندوبها اقتراحاً برفض الاقتراح الخاص بإنشاء هيئة دولية للقناة والمطالبة بأن تكون الهيئة التي تشرف على القناة هيئة مصرية مع إيجاد تمثيل دولي فيها. ثم انضمت أسبانيا إلى الدول الـ17 على أساس أنه إذا رفضت مصر مقترحات لجنة الخمسة تعرض على مصر الاقتراح الأسباني بإشراك بعض ممثلي الدول في الهيئة المصرية لقناة السويس. وأما المشروع الآخر فقد أيدته 4 أصوات وأصبح مشروع الأقلية. ولم يكن للتصويت أي آثار قانونية، لكنه عبر عن موقف الغرب وحلفائه.

وبناء على اتفاق خاص بين دالاس وسلوين لويد اقترح "توماس ماكدونالد" وزير خارجية نيوزيلندا في جلسة 22 أغسطس اقتراحاً باسم السبعة عشر دولة المؤيدة للمشروع الأمريكي بأن تتولى لجنة من ممثلي استراليا وأثيوبيا وإيران والسويد والولايات المتحدة الأمريكية ويرأسها "روبرت منزيس ـ Robert Gordon Menzies" رئيس وزراء استراليا عرض الاقتراح الأمريكي وشرح أهدافه وتحري موقف الحكومة المصرية ومدى استعدادها للموافقة على الدخول في مفاوضات على أساسه.

في 3 سبتمبر استقبل عبدالناصر "منزيس" ولجنته التي أسماها "لجنة السويس". تعددت الاجتماعات، وكانت الخطة الموضوعة في لندن ألا تطول المناقشات، واستعرض منزيس مقترحات المؤتمر، وكان فظاً في أسلوبه، ملوحاً بأن التحركات التي تقوم بها القـوات الإنجلوـ فرنسية ليست خداعاً. وأوضح "عبدالناصر" أن فصل القناة عن السياسة المصرية غير ممكن. لأن القناة في أرض مصر وخاضعة لحكومتها منذ إنشائها، واحتدت المناقشة، وأحس عبدالناصر بنبرة التهديد، فأغلق الملفات التي أمامه، وأنهى الموقف، وأعلن رفض مصر لمشروع دالاس الذي أسماه مشروعاً لاستعمار جماعي، وشكلاً مقنعاً من أشكال الإمبريالية. وصمم على موقفه وسياسته التي أعلنها، وأن عملية التدويل مرفوضة شكلاً وموضوعاً.

ولقد كان منزيس يشعر بمدى الفشل الذي حققه في مهمته، وكان عليه أن يقوم بعمل جديد يعطي للجنة التي يرأسها بعض القيمة قبل أن يغادر مصر.

لذلك بعث "منزيس" في 7 سبتمبر برسالة إلى الرئيس جمال عبدالناصر جاء فيها:

"إن المناقشات كشفت عن اختلاف عميق في وجهات النظر تجاه المبادئ والاتجاهات مما يدعو إلى القول بعدم جدوى استئناف المناقشات، ولما كانت مباحثاتنا قد جرت على انفراد دون أن تدون ودون رسميات ولتفادي أي سوء تفاهم مستقبلاً .. لذلك نرى من المفيد أن تدون اللجنة أعمالها في قالب موضوعي مختصر":     

1. عرض مقترحات الدول الثماني عشرة.

2. إن مقترحات الـ 18 افترضت أن التأميم قد تم فعلاً.

3. إن ما ذكره الرئيس من اعتقاد بأن القناة لا يمكن أن تنفصل عن سياسة مصر .. يعني أن الدول الكثيرة التي تنتفع بالقناة سيتعين عليها إدراك الحقيقة وهي أن تجارتها الخارجية ستكون في أي وقت خاضعة لقرارات مصر وحدها، ثم إن الرسوم ستزيد وفقاً لمقتضيات الميزانية المصرية.

4. إن الرئيس يتمسك في صلابة بوجهة نظره التي تقول بأنه لا محل لسلطة لها صفة الدولية في القناة، ومصر قادرة على توجيه مستقبل القناة وضمانه، ورد اللجنة أن القناة تحتاج إلى خدمات موظفين من ذوي المهارة العالية والخبرة .. وهناك عدد كبير من رعايا الدول الأخرى يحتلون المراكز الرئيسية. ولا يمكن كفالة استمرارهم ما لم تكن هناك ثقة متبادلة بين الذين يديرون القناة أي الحكومة المصرية وبين المنتفعين بالقناة.

5. إن حجم المرور في القناة قد يتضاعف في السنوات القادمة، ولكن ذلك يتوقف في النهاية على ثقة مستخدمي القناة في إدارتها.

6. إن إقامة هيئة  دولية لقناة السويس ليس سيطرة أجنبية إذا قبلته مصر بمطلق حريتها.

7. إن صلة الهيئة المقترحة بالأمم المتحدة يجعلها كالبنك الدولي وكالة متخصصة، وصلته بالأمم المتحدة لا تؤثر على حريته في إدارة أعماله، كما أن هذا النظام يدعم الثقة والأمن الدوليين.

8. إن اقتراح  اللجنة يؤدي إلى تخفيف حدة التوتر الخطير الذي يسود العالم الآن على أساس ترضى عنه الدول المنتفعة بالقناة ويتفق مع كرامة مصر واستقلالها ومكانتها وبذا يتم الإسهام في تسوية سلمية للمشكلات الدولية. 

وقد رد الرئيس جمال عبدالناصر على رسالة "منزيس" في 9 سبتمبر حيث حدد موقف مصر خلال المباحثات التي تمت وأكد في رسالته حق مصر في التأميم، واستعدادها لعقد اتفاقية جديدة تكفل حرية الملاحة في القناة، وحرصها على استمرار الملاحة بنظام وكفاءة، رغم المصاعب التي خلفتها بريطانيا وفرنسا عن طريق التهديد باستخدام القوة، وتحريض المرشدين على ترك عملهم، وغير ذلك من التدابير الاقتصادية ضد مصر، وأن النظام الذي اقترحه مؤتمر لندن يعني الاستيلاء على إدارة القناة، ويقوم على العدوان، وينتهك حق الشعب المصري وسيادته، وأن أي محاولة لفرض هذا النظام ستكون نذيراً بصراع ليس في الحسبان. وختم "عبدالناصر" الرد بإجمال سياسة مصر إزاء القناة، وتتلخص في ضمان حرية الملاحة دون تمييز، وتحسين القناة، وفرض رسوم عادلة، وإدارة القناة على نحو يقوم على كفاية فنية.

في 9 سبتمبر عاد "منزيس" إلى لندن وصرح  للصحفيين: "إن مصر لن تشارك في أي عمل سلمي لمشكلة القناة". واجتمع مع "إيدن" في اليوم التالي وأعطاه صورة مفصلة لمحادثاته في القاهرة مؤداها "أن "ناصر" لن يتراجع عن موقفه ولن يغير فكره إلا إذا أرغم على ذلك بالقوة".

ثالثاً: سحب المرشدين الأجانب

14 أغسطس أعلن مدير شركة قناة السويس "المؤممة" أن جميع المرشدين مخلصون للشركة، وأنه قادر على إصدار التعليمات لوقف حركة الملاحة في القناة، كما اكتشفت رسائل مرسلة منه إلى المرشدين يعرض عليهم دفع مرتب ثلاث سنوات مقدماً إذا رفضوا العمل.

وردت مصر على هذه التحركات بإعلان في صحف غالبية الدول البحرية تطلب مرشدين، لكنها صادفت العقبات لضغط لندن وباريس على الصحف حتى لا تنشر الإعلانات المصرية، كما أثرت على بعض الحكومات لعدم تلبية طلب مصر.

وحين أعلنت مصر في نهاية أغسطس أن المعدل اليومي للسفن التي مرت بالقناة خلال شهر التأميم قد ارتفع في ظل الإدارة الجديدة من 42 إلى 44 سفينة، ضاعفت الشركة المؤممة والحكومتان البريطانية والفرنسية الجهود ليتوقف العمل في القناة، وتم إبلاغ المرشدين صراحة أنهم سيفقدون معاشاتهم لو استمروا في وظائفهم.

في 11 سبتمبر وصل "جي مولية" إلى لندن ليبحث مع "إيدن" خطوتهم التالية. وكان قرارهم الأول أن يطلبوا إلى شركة قناة السويس سحب مرشديها من العمل في القناة لكي يتعطل سير الملاحة فيها ويكون ذلك مبرراً لإطلاق قوات الغزو.

تمكنت الاستخبارات المصرية من اختراق السفارة الفرنسية في القاهرة، وصورت وثيقة من الحقيبة الدبلوماسية تحتوي على معلومات عن اشتراك فرنسا مع شركة قناة السويس في خطة لإيقاف الملاحة فجأة في القناة ليلة 14/ 15 سبتمبر، وذلك بتوقف جميع مستخدمي الشركة الأجانب من مرشدين وعاملين وفنيين، وإرسال ستين سفينة تجارية في نفس الليلة للمرور في القناة، وهذا فوق طاقتها المرورية، والهدف توقف الملاحة، وتأليب الدول ضد مصر، وبيان إخفاقها في إدارة القناة، وعندئذ تتدخل بريطانيا وفرنسا لإنقاذ القناة.

وفي 12 سبتمبر أبلغت الخارجية المصرية "داج همرشولد[4] ـ Dag Hammarskjold" السكرتير العام للأمم المتحدة ووفود الدول الأعضاء بالهيئة الدولية أن شركة قناة السويس المؤممة أصدرت أمراً إلى الموظفين غير المصريين بالقناة بترك عملهم اعتبارا من ليلة 14/15 سبتمبر، وأن مصر ستعمل من جهتها حسب الترتيبات التي وضعتها بشأن استمرار الملاحة في القناة، وأنه إذا حدث وتعطلت لأسباب خارجة عن إرادتها، فإن المسئولية تقع على الجهات التي تسببت في ذلك.

فقد كان يعمل بالشركة 204 مرشد، منهم 61 بريطانياً، 53 فرنسياً، 14 هولندياً، 12 يونانياً، 11 نرويجياً، 3 دانماركياً، 2 إيطالياً، 2 أمريكياً، 2 بلجيكياً، 2 سويدياً، وواحد لكل من يوغسلافيا وبولندا و40 مصرياً. وفي الفترة من 26 يوليه وحتى 15 سبتمبر بلغ عدد المرشدين المصريين 70 مرشداً بالإضافة إلى المرشدين اليونانيين واليوغسلاف وجنسيات أخرى تم تدريبهم في وقت قصير لمواجهة المؤامرة الجديدة.    

في يوم 15 سبتمبر رحل المرشدون والعاملون الأجانب في القناة تنفيذاً لأوامر الشركة المؤممة، عدا المرشدون اليونانيون الذين لم يتركوا العمل وبقوا بجانب المرشدون المصريين. وكان التخطيط الأنجلو ـ فرنسي على يقين بأن سحب المرشدين يعقبه توقف للملاحة في قناة السويس، مما أدى بشركة "لويدز" إلى رفع قيمة التأمين على حمولة السفن المارة بالقناة بنسبة 250%. ثم كانت المفاجأة أن سير الملاحة في القناة لم يتوقف وإنما استمر على حاله الطبيعي فقد كانت مصر مستعدة لهذا الاحتمال وجاهزة له. فقد تمكنت الإدارة المصرية للقناة خلال الأسابيع السابقة من استعارة عدد من ضباط البحرية المصرية دربتهم على عملية الإرشاد، كما تعاقدت مع 71 مرشداً جديداً منهم 47 مرشداً مصرياً، أداروا حركة الملاحة في القناة بكفاءة واقتدار. وعلى الفور أعادت شركة "لويدز" للتأمين الرسوم إلى معدلاتها. وبذلك انتصرت مصر وسقطت ذريعة بريطانيا وفرنسا، ولكن لم يسقط المخطط.




[1] الدول التي دعيت لحضور المؤتمر هي : بريطانيا وألمانيا وأسبانيا وفرنسا وإيطاليا و هولندا وروسيا وتركيا وأستراليا ونيوزيلندا وإندونيسيا واليابان وسيلان والهند وباكستان وإيران والسويد والنرويج والدانمارك والبرتغال وإثيوبيا والولايات المتحدة الأمريكية ولم تحضر مصر والنمسا والمجر واليونان.

[2] Suez Cananl Association

[3] Caus Beelli كلمة لاتينية تعني كل ما يبرر الحرب أو يتخذ ذريعة لها.

[4] ولد في 29 يوليه 1905 بالسويد، ودرس الاقتصاد والقانون، ونال درجة الدكتوراه في الاقتصاد عام 1934، وعمل بالجامعة ثم تولى إدارة البنك الأهلي السويدي، وبعدها شغل منصب وكالة الخارجية السويدية، وفي عام 1951 أصبح وزيراً للخارجية السويدية، وأخيراً تم تعينه في منصب السكرتير العام للأمم المتحدة في 7/4/ 1953، وتمتع بشخصية راقية، واتبع أسلوب العمل الدبلوماسي الهادئ

[5] كانت شركة قناة السويس قد نجحت في إقناع الحكومة الفرنسية بإعطاء الأولوية للسيطرة على منطقة القناة وإلا فإن مرافق القناة قد تتعرض للتخريب في اللحظة التي يبدأ فيها الغزو من اتجاه الإسكندرية

[6] كان الوفد يتكون من وزير الخارجية `جولدا مائير ـ Gold Meir `، ووزير النقل "موشي كامل"، ومدير وزارة الدفاع "شيمون بريز"، ورئيس أركان الجيش الإسرائيلي `موشي ديان`.

[7] هذه الدول هي: الإتحاد السوفيتي، تشيكوسلوفاكيا، رومانيا، المجر، بلغاريا، بولندا، ألمانيا الشرقية، الصين الشعبية، الهند، باكستان، سيلان، بورما، كمبوديا، إندونيسيا، أفغانستان، نيبال، المغرب، تونس، ليبيا، السودان، السعودية، اليمن، العراق، الأردن، سورية، لبنان، بنما، اليونان، أسبانيا.