إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / العدوان الثلاثي، حرب عام 1956





مسرح الشرق الأوسط
مسرح عمليات حرب العدوان
معركة أم قطف
معركة ممر متلا
معركة رفح
خطة موسكتير المعدلة
خطة موسكتير المعدلة النهائية
خطة الآلاي الثاني

مراحل الهجوم الإسرائيلي
الهجوم على شرم الشيخ
توزيع القوات المصرية



المبحث الثالث

المبحث الثامن

النتائج والدروس المستفادة

أولاً: تحليل نتائج الحرب

تمثل حرب العدوان الثلاثي على مصر نقطة تحول في تاريخ الشرق الأوسط، كما تشكل حدثاً عالمياً أعاد رسم الخريطة السياسية في كثير من أرجاء العالم عامة، والوطن العربي على وجه الخصوص، إذ نشطت حركات التحرر الوطني في ربوع آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية نحو آفاق الاستقلال والحرية، وأنهت الهيمنة الأنجلو ـ فرنسية على التقسيم الاستعماري للعالم الذي استمر لعدة قرون.

ونتيجة لذلك اعتبر العدوان الثلاثي نذيراً واقعياً لما ينتظره أمثاله من مغامرات سيئة التحضير والتنفيذ، نظراً لما انتهى إليه العدوان من فشل سياسي، كان من ضمن عواقبه سقوط حكومة "إيدن" قبل مضى شهرين على العدوان، ثم سقوط الجمهورية الفرنسية الرابعة في منتصف عام 1957م.

كما لم يعد الغرب بعد هذه المغامرة الفاشلة التي انتهجت شريعة الغاب وضربت بالقانون الدولي عرض الحائط، أهلا لثقة أحد من دول العالم الثالث الذي رفض مزاعمه بأنة يمثل تطلعات بني الإنسان إلى عالم تسوده العدالة وتحكمه قوانين الشرعية الدولية.

فقد تسبب العدوان في أفول نجم إمبراطوريتين استعماريتين كبيرتين، إذ تحولت بعده كل من بريطانيا وفرنسا إلى دولتين تجاريتين، وانتهى عصرهما الإمبراطوري، وبالمقابل صعد نجم قوة جديدة، هي الولايات المتحدة الأمريكية التي برز دورها إبان الحرب العالمية الثانية وما بعدها، ثم أتاحت لها أزمة السويس مسرحاً جديداً نفذت من خلاله إلى منطقة الشرق الأوسط وغيرها من المناطق المتوترة.

كما خرج الاتحاد السوفيتي بفضل العدوان الثلاثي من عزلة عصر "جوزيف ستالين ـJoseph Stallin "ليمارس دوراً نشطاً بعد أن تمكن من القفز عبر الحزام الشمالي إلى الشرق الأوسط، ليصل إلى مياهه الدافئة. كما لم تعد المواجهة بينه وبين الولايات المتحدة الأمريكية تدور من وراء الستار الحديدي ومتاريس الكتلة الشرقية، وإنما صارت صراعاً محتدماً وشديد السخونة، تلك السخونة التي أذابت ثلوج الحروب الباردة بوقائعها المتتالية التي تداخلت ديناميكيتها وتنوعت أهدافها وأساليبها، فشملت العالم الثالث مع تركيز خاص على الشرق الأوسط والوطن العربي، الذي أصبح المنطقة الحرجة في المواجهة الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية بين الكتلتين الغربية والشرقية.

ولم يكن تأميم  شركة  قناة السويس السابقة الأولى في المعترك الدولي، إذ سبقتها قرارات تأميم أخرى كانت بريطانيا نفسها واحدة منها عندما أممت صناعة الصلب وبعض الخدمات الأهلية الأخرى في أعقاب الحرب العالمية الثانية. إلا أن تأميم الشركة أزعج الدول الاستعمارية خشية أن يصبح فاتحاً لشهية الدول المقهورة على أمرها لتتطلع إلى تحرير إرادتها والتصرف في خيرات بلادها.

ويأتي على رأس نتائج حرب العدوان الثلاثي، العدوان أثبت بجلاء أن التدخل المباشر بالقوات المسلحة ضد الإرادة الوطنية للدول النامية، لم يعد له محل في عالم اليوم، فضلاً عما ينطوي عليه من مخاطر لا تؤمن عواقبها، الأمر الذي يجعل إستراتيجية الاقتراب غير المباشر في مثل تلك الأزمات، هي الأقرب للنجاح.

ترتب على ذلك أن استفحل دور مناورات إثارة الأزمات والانقلابات الداخلية، وإشعال الحروب التخريبية والأيديولوجية والمعنوية والاقتصادية، والانفجار من الداخل، حتى أصبحت هي السمة السائدة في الصراعات المحلية والإقليمية، بعد حرب العدوان الثلاثي على مصر.

ونتيجة لما سبق، تحول الاستعمار الاحتلالي إلى إمبريالية احتكارية، لا تحتل أرضاً ولا تبني معسكرات برية أو قواعد جوية أو موانئ حربية لتفرض هيمنتها على ضحاياها من الدول الصغيرة، بل صارت تسيطر على مواردها الطبيعية، وتحتكر ثرواتها الوطنية، وتتحكم في اقتصادها عن طريق البنوك ذات الفروع عبر القارات، والشركات متعددة الجنسية، ومؤسسات عبر البحار التي باتت تشكل كلها مجالاً رحباً، لنهب خيرات الشعوب وسلب موارد الدول الصغيرة التي لا تملك ترسانات نووية، أو أسلحة حرب الفضاء.

1. النتائج الاقتصادية

أ. آثار الحرب على اقتصاد بريطانيا

يرى "إيمري هيوز" عضو مجلس العموم البريطاني ـ أن هزيمة بلاده في حرب السويس حملت الخزانة البريطانية عبئاً ثقيلاً ـ فيقول " ويدعونا العجب أن نتساءل، آلم يفكر "ماكميلان ـHarold Macmillan" بصفته وزيراً للمالية ومسؤولاً عن الشؤون المالية فيما يحتمل أن تؤدي إليه حرب السويس من عواقب؟ ألم يكن من واجبه أن يحذر "إيدن" أن هذه المغامرة سوف تكون كارثة على بريطانيا؟ ". ويحمل "إيمري هيوز"، "ماكميلان" مسؤولية تأييد حملة قناة السويس، وما سببته من تدهور للاقتصاد البريطاني. بل أن الجنية الإسترليني قد أصيب بهزة عنيفة في السوق الدولية.

وطبقاً لتقديرات حزب العمال لتكلفة الغزو البحري الأنجلو ـ فرنسي، وما صرف عليه من خزينة بريطانيا، والمنشور في كتاب الشئون الخارجية بالصفحة الرقم (3) .. فقد بلغت جملة الإنفاق فيما بين أكتوبر وديسمبر 1956، ما قيمته 234 مليون جنية إسترليني، فإذا ما أضيفت إليها هبوط الإنتاج الوطني وقيمة الأسلحة، والمعدات بالقاعدة البريطانية بقناة السويس التي استولت عليها مصر كغنيمة حرب تصبح التكلفة الإجمالية للعدوان على الخزينة البريطانية 328 مليون جنية إسترليني.

ب. آثار الحرب على الاقتصاد الفرنسي

عقب حملة السويس، قطعت مصر العلاقات التجارية والاقتصادية مع فرنسا، وكان ذلك بمثابة ضربة قاضية للنشاط الفرنسي في مصر في المجالات التجارية والصناعية. وقدر مجموع الخسائر الفرنسية في القطاعين الصناعي والتجاري نحو 400 مليار فرنك قديم، أي نحو أربعة مليارات فرنك جديد. فقد وضعت الحكومة المصرية أربعة بنوك فرنسية كبرى تحت الحراسة، وكذلك شركة الرهونات وتسع شركات تأمين فرنسية وفروعها والمصالح الفرنسية في ثلاث مؤسسات للائتمان العقاري، والشركة العامة لتكرير السكر، ومعامل تكرير النفط، والشركة المصرية للبترول وثلاث مصانع تعتمد على شركة الغاز السائل وغيرها.

وشملت الخسائر أيضاً العقود الصناعية التي فقدها الفرنسيون، وهذه العقود تضمنها الاتفاق الذي وقعته مصر وفرنسا في مارس 1954 وشمل تكليف شركة كهرباء فرنسا القيام ببحوث عامة لإنتاج واستخدام الطاقة الكهربائية في مصر، وإنشاء مصنع للأسمدة الآزوتية في أسوان وإنشاء شبكة كهربائية في القاهرة. وقيمة هذا العقد 600 مليون فرنك، وكذا إنشاء محطة كهربائية في شبرا وقيمة هذا العقد 50 مليون فرنك، وتوريد 200 ألف من العوارض الخشبية اللازمة للأشغال البحرية وقيمة هذا العقد 336 مليون فرنك، وإنشاء خمسة خزانات للبترول سعة كل منها عشرة آلاف متر مكعب في القاهرة وإنشاء عشرين قاطرة سكة حديد طراز باسيفيك لخط القاهرة الإسكندرية ...الخ.

ج. آثار الحرب على الاقتصاد المصري

(1) انتعاش قناة السويس

نجحت مصر في إدارة قناة السويس، إذ ارتفع مجموع حمولة السفن التي عبرت القناة يومياً من 393000 طن عام 1957 إلى 512000 طن عام 1961، ثم ظل هذا الرقم يزداد ارتفاعاً كل يوم منذ ذلك الحين. كما وصلت الإيرادات السنوية التي كانت 31 مليون و100 ألف جنيه إسترليني عام 1955 إلى 50 مليون و400 ألف جنيه إسترليني عام 1960 بزيادة تصل إلى 62%، وذلك دون إضافة أية زيادة على رسوم المرور في القناة.

وأجريت تحسينات ضخمة في القناة، كما تم رفع نحو مائة مليون متر مكعب من الرمال من مجراها فتطورت القناة ونتج عن ذلك خدمة السفن التي لا يزيد عمق غاطسها عن 10.51 متراً لتصبح صالحة لمرور السفن التي يبلغ عمق غاطسها 11.27 م، ثم 12.19 م، كما اتسع سطح القناة حتى وصل عرضه 200 م، ولا يزال هذا الرقم في ازدياد مطرد.

تمت كل تلك التحسينات بواسطة قروض حصلت عليها مصر من البنك الدولي، وقد بلغ حجمها خلال الأعوام الستة التي تلت العدوان الثلاثي ثلاثة أمثال التحسينات التي قامت بها الشركة العالمية لقناة السويس خلال السبعين عاماً السابقة على التأميم.

(2) تحرير الاقتصاد المصري

تمكنت مصر من تحرير اقتصادها الوطني، بتمصير المؤسسات الأجنبية وفتح الأسواق التجارية مع آسيا ودول الكتلة الشرقية، والتحرر الفعلي من سيطرة رأس المال الأجنبي. وكانت المحصلة لكل ما سبق، أن جرى رسم كثير من الملامح الجديدة على الخريطة السياسية لعالم ما بعد العدوان الثلاثي.

2. النتائج السياسية

بالنسبة لأطراف التواطؤ الثلاثي

أ. بريطانيا

فقد كانت بريطانيا هي التي نزلت بها أفدح الخسائر إذ:

(1) أثار التواطؤ جدلاً سياسياً صاخباً بين الأحزاب السياسية وطوائف الشعب البريطانية، انقسم بسببه الرأي العالم إلى أقسام متضادة أفسدت التجانس القومي، ثم أسقطت حكومة "إيدن" في يناير 1956.

(2) فقدت بريطانيا احترام الرأي العام العالمي وأدانت الأمم المتحدة عدوانها على مصر، وأجبرتها على إيقافه، وسحب قواتها المسلحة من مسرحه.

(3) خسرت بريطانيا قاعدتها العسكرية الضخمة بقناة السويس، وكل ما كانت تحتوي علية من أسلحة وعتاد وذخائر.

(4) تدهور مركز بريطانيا السياسي والأدبي، كما استحكمت أزمتها الاقتصادية بتدهور قيمة الجنيه الإسترليني.

زادت الأعباء المالية والإدارية على الجهاز الحكومي بالقدر، الذي دفعه إلى تقليص وجوده في منطقة  الشرق الأوسط وجنوب آسيا، فيما عرف باسم " سياسة شرق السويس".

ب. بالنسبة لفرنسا

(1) فقدت ممتلكاتها ونفوذها في مصر والعالم العربي بما اضطرها إلى الجلاء عن الجزائر وتونس ومراكش، كما فقدت مستعمراتها في أفريقيا بجلائها عن غرب أفريقيا الفرنسية، وعن أفريقيا الاستوائية.

(2) وسقطت الإمبراطورية الفرنسية الرابعة نتيجة الأحداث الدامية التي وقعت في الجزائر، وقيام عصبة من الجنرالات الفرنسيين بشق عصا الطاعة على الحكومة الشرعية، مما ترتب علية عودة الجنرال "ديجول ـCharles de Goulle "لتولى السلطة في الجمهورية الخامسة، التي انتهجت سياسة منح المستعمرات الفرنسية استقلالها.

(3) واضطرت فرنسا إلى البحث عن وسيلة جديدة للاحتفاظ باستقلال قرارها السياسي كدرس مستفاد من العدوان الذي نال من حريتها في إدارة الأزمات وفق المصالح الوطنية الفرنسية. وهكذا ولدت قوة الضرب الفرنسية المستقلة، التي دخلت بها فرنسا النادي النووي، وهو نفس الدرس الذي استوعبته الصين بعدها، فسعت بدورها إلى دخول هذا النادي، لكي تصبح قوة عظمى مكتملة الأركان بإمكاناتها الذاتية.

ج. بالنسبة لإسرائيل

أحدثت حرب العدوان الثلاثي على مصر تحولات مهمة في سياسة إسرائيل الخارجية، إذ سعت بدورها إلى زيادة ارتباطها بالولايات المتحدة الأمريكية، وإلى ربط مصالحها الذاتية بتلك الدولة العظمى، وقد كان ذلك بمثابة بدء ممارسة إسرائيل لدور الشرطي المحلى بالمنطقة. وهو نفس النموذج الذي تكرر في بعض دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية بدعم من الولايات المتحدة الأمريكية، وإن بقيت لإسرائيل المكانة المتميزة لكونها الشرطي النووي الأوحد بين أقرانها، وذلك لأول مرة في تاريخ هذا النوع من الشرطة.

كما خرجت إسرائيل بعدة مكاسب سياسية وعسكرية، على رأسها الأتي:

(1) هزيمة جيش مصر وتدمير جزء كبير من سلاحه الشرقي، وما ترتب على ذلك من اكتساب قواتها المسلحة مكانة عسكرية، رفعت من معنوياتها ومعنويات الشعب، ووثقت ارتباطات الجاليات اليهودية بدولة إسرائيل، وذادت من تدفق التبرعات والهبات المادية والعينية عليها.    

(2) نفذت إسرائيل إلى الترسانة الحربية الفرنسية، حيث حصلت منها وبشروط ميسرة على أنواع من الطائرات النفاثة الأسرع من الصوت، وأنواع متطورة من الدبابات والعربات المجنزرة، علاوة على حصولها على مفاعل نووي فرنسي، مكنها للدخول عضواً في النادي النووي الدولي.

(3) حققت إسرائيل حرية الملاحة في خليج العقبة لسفنها الحربية والتجارية، كما ربطت ميناء "إيلات" بالطرق البحرية التجارية العالمي.

د. بالنسبة لمصر

كان هذا العدوان دافعاً لها إلى تركيز جهودها، لاستكمال استقلالها الوطني، وتحرير إرادتها، وتنمية اقتصادها وتمصيره، مع التوحد مع العالم الذي تنتمي إلية ويكن أغلب مشاعر الإعجاب بموقفها الصلد في وجه دولتين كبريتين، دون أن تبدي إزاءهما خشية أو تخاذلاً.

كما أنه بفضل هذه الوقفة الصلدة اكتشف شعب مصر مصادر قوته الذاتية وطاقاته الكامنة، بما أقنع الدول الصغيرة بأنها تستطيع أن تواجه وتتحدى أعتى الإمبراطوريات، وأن تتصدى لأشد المخاطر والتهديدات لتبلغ أمانيها الوطنية المنشودة.

فقد ساعد ذلك الحكومة المصرية على تحقيق مزيد من المكاسب، التي كان أهمها الآتي:

(1) إنهاء مشكلة تأميم قناة السويس بما حفظ لمصر كل حقوقها المشروعة في ذلك المرفق الحيوي والشريان البحري المهم، وفرض كامل هيمنة مصر عليه.

(2) إلغاء المعاهدة البريطانية المصرية، وتحطيم آخر الأغلال التي كانت تقيد حرية مصر، وتربطها بالاستعمار الغربي، وتفقدها جزءاً من ملكية ترابها الوطني، ليقيم عليه هذا الاستعمار قواعده العسكرية.

(3) استيلاء مصر على القاعدة العسكرية البريطانية على ضفتي قناة السويس، بكل ما تحويه من أسلحة ومعدات وذخائر ضخمة.

(4) تحرير الإرادة المصرية، واستكمال مقومات الاستقلال الوطني التام.

(5) إعلاء شأن مصر إقليمياً ودولياً، وتبؤها مركز الصدارة عن جدارة لريادة الوطن العربي على وجه الخصوص، ودول العالم الثالث المتطلعة إلى الحرية والاستقلال على وجه العموم.

ولقد ترتب على نجاح مصر في إدارة أزمة السويس من الناحية السياسية، أن أرتفع رصيدها من التقدير والإعجاب بين دول العالم الثالث، التي اتخذتها مثلاً يحتذي لما يمكن أن تفعله الشعوب المقهورة على أمرها، عندما تصر على تحرير رقبتها من قيود الاستعمار، وتحرير إرادتها الوطنية، إذ سرعان ما اشتعلت حركات التحرر الوطني في معظم قارات العالم، فعجلت بسقوط النظم الحاكمة المناوئة للاستعمار الغربي، بدءاً بالعراق الذي خرج من "حلف بغداد" فحرم الحلف من اسمه مما اضطر سندته إلى أن يغيروه إلى "الحلف المركزي" بعد أن انتقلت بغداد نفسها إلى المعسكر المضاد.

وإلى جانب موقف  مصر، برز الموقف العربي في أفضل صور تكاتفه، لدعم وجهة  نظر مصر، وليؤكد قدرة العالم العربي على التأثير في مجريات الأمور، ووعيه بحقائق إمكاناته السياسية والاقتصادية والعسكرية، ويقينه بحتمية الوحدة العربية، وضرورة الارتباط بالجماهير التي يعود إليها الفضل الحقيقي فيما تحقق من مكاسب، وما نزل بالأعداء من هزائم وخسائر سياسية واقتصادية جسيمة.

ثانياً: الدروس المستفادة

عندما بدأ العدوان الثلاثي على مصر، سجل التاريخ الدبلوماسي للنصف الثاني من القرن العشرين أن السياسة ليست كعلم الحساب، بل هي مفعمة بالخدع والحيل والمناورات التي يتطلب نجاحها مستوى رفيعاً من البراعة والإتقان، وهو ما افتقرت إلية الخطة السياسية الأنجلو ـ فرنسية لإدارة الأزمة، فكان أن منيت بالفشل السياسي الذريع.

1. التأثيرات السياسية على القرار العسكري

فرضت الحبكة السياسية للعدوان الأنجلو ـ فرنسي على جهاز التخطيط العسكري أن يوجه الغزو البحري إلى ساحل بورسعيد. وكانت تلك هي المرة الأولى التي ينتخب فيها رأس شاطئ ليس له مخرج سوى عنق زجاجة بالغ الطول قليل العرض بما جعل القوات المكلفة  بالانطلاق من خلالها نحو الإسماعيلية والسويس تقع في ربكة شديدة لم ينقذها إلا قبول حكومتا بريطانيا وفرنسا إيقاف إطلاق النار بعد منتصف ليلة 6/7 نوفمبر.

وكان الجنرال ستوكويل قد اعترض على اختيار شاطئ بورسعيد لعملية الغزو البحري بقوله "أنه أسوا مكان لعملية غزو، فلا هو يصلح للهجوم، أو للدفاع. أما القائد  العام الجنرال تشارلز كيتلي فقد شبهه" بعنق الزجاجة الطويل الذي  يتعين على المرء أن يحشر فيه يده ليغترف ما في بطن الزجاجة من رحيق".

وعلى حين اجتمعت كلمة العسكريين الأنجلو ـ فرنسيين على تفضيل ساحل الإسكندرية لشن العملية نظراً لأنه الأكثر مناسبة، والأقرب إلى القاهرة والأفضل لتحقيق هدف الغزو، إلا أن النزول فيه كان يتعارض مع مزاعم الذريعة التي سوف تسقط للتو إذا ما نزل الغزو بغير ساحل بورسعيد، وهو ما دفع السياسيون إلى الإصرار عليه ليلقوا بقوات الغزو في ورطتين، ورطة القتال في المناطق المبنية وورطة الدخول في عنق الزجاجة جنوب بورسعيد.

ومع التسليم بأن الخطط الحربية يجب أن تنصاع  للقرار السياسي بحكم أن الحرب امتداد للصراع السياسي بوسائل أخرى فانه يتعين على الزعامة السياسية بالمقابل ألا تورط القيادة العسكرية في وضع يتعارض مع المنطق العسكري أو يعرض قواتها المقاتلة لمواقف شديدة التعقيد على نحو ما واجهته القيادة المشتركة للعملية موسكتير النهائية المعدلة عندما فرضت عليها قيادتها السياسية رأس شاطئ بورسعيد لتنفيذ عملية الغزو البحري رغم اعتراض جميع القادة العسكريين عليه، والتركيز على غرب الإسكندرية بوصفه الأفضل والأضمن لنجاح الغزو بأقل تكلفة وأسرع وقت.

ولقد أثارت تلك الاختلافات في الرأي بين السياسيين والعسكريين جدلاً حاداً لا يزال يتردد صداه داخل مؤسسات الأمن الوطني ومراكز اتخاذ القرارات، عما إذا كان على العسكريين الطاعة العمياء، وأن ينزلوا على وجهة النظر السياسية مهما كانت خطأ من وجهة  نظر فن الحرب، أم أن من واجبهم أن يعترضوا عليها، ويوضحوا مغبتها، ثم يصروا  على وجهة نظرهم حتى يقنعوا السياسيين بها أو تنحوا هم عن  القيادة.

2. الاقتصاد في الجهد

الاقتصاد في الجهد أحد مبادئ الحرب التسعة المعتمدة في كافة المدارس العسكرية المعاصرة. ولقد كان هيكل الدفاع عن ساحل ومدينة بورسعيد من الضعف وعدم الاستعداد بالقدر الذي لم يكن يستلزم من القيادة الأنجلو ـ فرنسية كل تلك النيران والقوات الضخمة التي حشدتها لتستولي بها على رأس شاطئ. كما أن تلك القيادة وقعت بنزولها في بورسعيد في خطأ تعبوي كانت له عواقب تكتيكية خطيرة اضطرتها إلى القتال في مناطق مبنية، ثم حشد قواتها اللاحقة داخل شريحة أرضية ضيقة ليس لها إلا مخرج واحد عبارة عن عنق زجاجة يضيق في بعض أجزائه حتى لا يتجاوز بضع أمتار وتحف به المياه من الجانبين، قناة السويس شرقاً، وترعة المياه العذبة وبحيرة المنزلة غرباً.

وقد كشف حجم النيران التي وجهها العدوان الأنجلو ـ فرنسي على مصر عن مقدار التخبط الذي وقع فيه "أنتوني إيدن" بين الأمل في أن ينجح هذا القصف العنيف في إثارة جماهير شعب مصر ضد زعامتها السياسية لتسقطها، وبين الخشية من أن تثير تلك الوحشية الدموية الرأي العام العالمي بدرجة أكثر حدة وإيجابية بما يفقد بريطانيا وفرنسا احترام العالم.

والواقع إنه بعد أن نجحت الضربة الجوية الشاملة في تحطيم الغطاء الجوي المصري، ثم تحطيم دفاعات ساحل الغزو المنتخب في فترة التمهيد النيراني التالية، فانه لم يعد هناك مبرر لاستمرار ذلك القصف الجوي العنيف طيلة الأيام السبعة فيما بين مساء 31 أكتوبر وصباح 6نوفمبر 1956م، إلا أن يكون القصد منه هو مجرد تغطية بور سعيد، وهو مبرر يتعارض مع المنطق العسكري والإنساني السليم.

3. نقطة التحول في الإستراتيجية الإسرائيلية

لقد شكل العدوان الإسرائيلي في جولة خريف 1956 نقطة التحول بالنسبة للقوات المسلحة الإسرائيلية من مستوى خوض الغارات الانتقامية في ميادين القتال إلى شن العمليات الحربية في مسارح الحرب وكان وراء هذا التحول الكبير عدة مؤثرات نجملها في أن الزعامة السياسية الإسرائيلية بعد أن أيقنت أن التواطؤ كان الصخرة التي تحطم عليها العدوان، وأجبره على إعادة كل ما أكتسبه، عقدت العزم على أن تشن الجولة التالية بالقدرات القتالية الذاتية دون تواطؤ خارجي سافر.

وقد بذلت القيادة العسكرية الإسرائيلية جهداً ضخماً في دراسة حرب العدوان الثلاثي من جميع جوانبها السياسية والعسكرية والاقتصادية والمعنوية، وحصرت نقاط القوة والضعف، كما أنها استغلت الأشهر الأربعة التي ظلت تحتل خلالها شبه جزيرة سيناء حتى مارس 1957 في دراسة طبوغرافية الأرض ورسم خرائطها.

كما راجعت القيادة العسكرية مستوى أداء ضباطها في الميدان بدءاً بقادة الكتائب وحتى قادة المناطق العسكرية الإسرائيلية، فأنهت خدمات من ثبت عدم صلاحيتهم للقيادة الميدانية وهم لم يكونوا قلة، وركزت اهتمامها على زيادة كفاءة من أثبت منهم قدرة عالية على سرعة التصرف في المواقف الصعبة، مع التحلي بالروح الهجومية، والقدرة على قيادة المجموعات الكبيرة من الجنود. وتكفي النظرة على قوائم قادة مجموعات العمليات ثم قادة اللواءات في جولة صيف 1967م لنجد أنهم كانوا أبرز قادة اللواءات والكتائب في جولة خريف 1956.  

كما كتب البريجادير الأمريكي ستيوارت تقريراً عسكرياً لوزارة الدفاع الأمريكية ـ The Pentagon بوصفه الملحق العسكري الأمريكي في تل أبيب، جاء في ديباجته "إن العيب الأساسي لحملة إسرائيل ضد سيناء كان سوء التنظيم والتخطيط، بالإضافة إلى ضعف سيطرة القيادة العامة عليها والتي لم ترتفع إلى مستوى قيادة العمليات الحربية في الجيوش العصرية بل كانت أقرب شبها إلى أسلوب حرب العصابات منه إلى أسلوب الحرب الحديثة.

وعلاوة على ذلك فقد أغارت الطائرات الإسرائيلية على وحدات برية إسرائيلية، واشتبكت وحدات برية إسرائيلية ضد بعضها في "أم قطف" وفشلت لواءات إسرائيلية في احتلال مواقع دفاعية مصرية قليلة العدد ضعيفة التجهيز، وكان التنسيق والتعاون بين القوات الإسرائيلية في المحور الواحد بالغ الضعف.

وبقدر عنف النقد وتعدد مجالات الخطأ بقدر ما كان حرص المؤسسة العسكرية على معالجتها بكل جدية، الأمر الذي أستغرق منها أكثر من عشر سنوات لتأتي الجولة الثالثة في صيف عام 1967 خالية من أغلبها إن لم يكن كلها.

ثالثاً: الدروس المستفادة في المجال العسكري لمصر

1. في مجال التخطيط للعملية

يجب الالتزام بتنفيذ خطة العمليات المبنية على القرار المصدق عليه. حيث خفضت فيها القوات لصالح منطقة القناة ولتقوية احيتاطيات القيادة العامة مما أثر على القدرة القتالية وعلى اختلال المقارنات وعدم القدرة على القيام بالهجمات المضادة.

2. في مجال الاستطلاع والمخابرات الحربية

الاستفادة من كل المعلومات المتحصل عليها وعدم إهمالها وتأكيدها من أكثر من مصدر. حيث لم تهتم القيادة المصرية بالمعلومات المتحصل عليها من الملحق العسكري في تركيا وكذلك فرنسا، مما مكن قوات العدوان من تحقيق المفاجأة.

3. في مجال تولي القيادات

يجب تقييم الأداء للقادة والقيادات أثناء تنفيذ العمليات وبعد انتهاء العمليات وتنحية القادة الغير أكفاء. فلقد استمرت نفس القيادات لعمليات 1956 في مواقعها دون تقييم لأدائهم مما نتج عنه أن استفحلت الأخطاء على مدى السنوات التالية حتى ظهر ذلك جلياً في عمليات 1967.

4. في مجال تجهيز مسرح العمليات

أهمية عمل خطة لتجهيز مسرح العمليات بما يخدم تنفيذ خطة العمليات. فقد ظهر قصور في تنفيذ خطة تجهيز مسرح العمليات لأعمال القتال المنتظرة مما أثر على أداء القوات لأعمال قتالها.كما لم تأخذ خطة عبور القوات لقناة السويس الأسبقية المطلقة عن عبور السفن للقناة مما أثر على خطة التدفق للقيام بالهجمات المضادة.

5. أثناء إدارة العمليات

أ. بالنسبة للقوات البرية

(1) أن يتم تدريب القوات على جميع مهام العمليات المنتظرة وذلك أثناء فترة السلم لجميع القوات المشتركة في تنفيذ الخطة.

(2) أهمية السيطرة على القوات في جميع مراحل القتال. ففي أثناء إدارة العمليات وصدور أوامر الانسحاب لسرعة إخلاء سيناء فعلى قدر ما هي ضرورية من وجهة النظر الإستراتيجية بقدر ما كانت دون المستوى من ناحية التكتيك لأسلوب التنفيذ:

(أ) عدم وجود خطة للانسحاب المنظم للقوات تحرص على القيام بأعمال إيجابية أثناء الارتداد، تؤثر على العدو وتؤمن القوات المرتدة مثل أعمال الكمائن وبث الألغام ونسف الطرق.

(ب) اتبعت بعض القوات أسلوب الارتداد الغير منظم لا علاقة له بشكل التخلص من المعركة والذي يتم على وثبات متتالية للخلف.

ب. بالنسبة للقوات الجوية

أهمية توفير دشم للطائرات أثناء تواجدها بالمطارات لحمايتها من هجمات العدو. فقد سبب عدم وجود دشم للطائرات في خسائر جسيمة للقوات الجوية لم تمكنها من تقديم المعاونة الجوية اللازمة لأعمال القتال ولم تأخذ هذه التجربة حقها من الدروس المستفادة وتكرر وقوعها بصورة أشد عام 1967.

لقد كانت حرب العدوان الثلاثي بمثابة فصل الختام للحروب الاستعمارية، ونهاية لدبلوماسية مدفع السفينة، كما أنها أكدت استحالة اشتعال الحروب النووية، وانتهاج الدول لإستراتيجية الدمار الشامل المتبادل، إذ كان العدوان الثلاثي هو لحظة اليقظة لعودة العالم إلى ممارسة إستراتيجية الرد المرن، على نحو ما أكدته أحداث أزمة الصواريخ الكوبية عام 1961، التي حدثت بعد خمس سنوات من عدوان خريف 1956م.

ولم تكن حرب العدوان الثلاثي علامة بارزة فحسب في سجل حركات التحرر الأفريقي من قبضة الاستعمار، بل كانت أيضاً المعول الذي حطم بقايا هياكل الإمبراطوريات الاستعمارية في كثير من القارات.

وقد أقنعت الحرب غالبية الدول بأن التدخل المباشر والسافر ضد الآخرين، ينطوي على مخاطر جسيمة، بينما يستطيع العمل غير المباشر أن يحقق الأهداف المنشودة بتكلفة أقل وزمن أسرع، الأمر الذي تسبب في استفحال دور سياسات الانقلاب من الداخل، وشن الحروب الاقتصادية والنفسية والتخريبية، على نحو ما حدث بـ "موزمبيق ـMozambique"و"نيكاراجوا ـNicaragua"، وكثير من الدول التي اكتوت بنيران تلك المؤامرات التي مزقت نسيجها الوطني.

وبذلك يبدو جلياً أن أزمة السويس احتلت مكاناً مهماُ في التاريخ المعاصر على المستوى العالمي.