إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الحرب في الصومال




محمد سياد بري
محمد فرح عيديد
شيخ شريف شيخ أحمد
عبدالله يوسف





حرب الصومال 1

المبحث الخامس

النتائج المترتبة على استمرار الحرب في الصومال

أدت الحرب الصومالية المستعرة منذ نشوبها في عام 1991، إلى نتائج عديدة، كالتالي:

أولاً: المشكلات الداخلية في الصومال

لقد فشلت جميع مشروعات البناء الدستوري وإقامة مؤسسات الحكم في الصومال، وينطبق هذا الأمر على ما اقترحته مؤسسات الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية وجماعات المثقفين الصوماليين في المنفي والغربة، وما صدر عن مؤتمرات الصوماليين في أديس أبابا والقاهرة ونيروبي بالإضافة إلى مساعٍ ومناشدات قامت بها حكومات ومنظمات عربية وأفريقية وإسلامية، وهذا هو السبب الرئيس والجوهري لاستمرار الأزمة الصومالية بدون حل، لقد كان هناك حوار حول نظام الحكم وتوزيع السلطة قبل سقوط نظام سياد بري، لكن الحوار كان حول مبادئ وعموميات أقرب إلى التمنيات - منها إلى الواقع- الذي يحظى بالإجماع أو يرضاه الأغلبية الشعبية.

فلما سقط النظام تراوحت وتغيرت مواقف وأراء القيادات الصومالية الفاعلة على مستوى الميليشيات المسلحة وعلى مستوى العشائر والقبائل وعلى مستوى الأقاليم والجهات، وتبلور الحوار حول الشكل المركزي والشكل الفيدرالي للحكم، ومع تغير المواقف ونشوب القتال وتغير التحالفات وتوالى الانشقاقات، لم يبق خط واضح ومستمر لدى جميع الأطراف الفاعلة في الأزمة، ولكن الاتجاه العام كان نحو الفيدرالية وتراجع الحديث عن الدولة المركزية، وفي نفس الوقت كان الحديث عن مبدأ الفيدرالية سهلا ومتاحا حتى للأمم المتحدة وللسياسات الأجنبية المتنوعة، إلا أن المشكلات والتعقيدات كانت وما زالت تظهر حينما ينتقل الحديث إلى مستوى التفاصيل وتوزيع سلطات الحكم، وتخصيص الميزانيات، وتقسيم الوظائف الإستراتيجية في المؤسسات المدنية والعسكرية على مستوى العاصمة وعلى مستوى الأقاليم، ويمكن بلورة مثل تلك المشكلات كالتالي:

1. استمرار انهيار الدولة الصومالية

على الرغم من الهزيمة السريعة التي لحقت بقوات المحاكم الإسلامية في مواجهة القوات الحكومية ـ الإثيوبية في حرب ديسمبر 2006، فإن الصومال ما زال بعيداً عن تحقيق الاستقرار على نحو ما تزعم إثيوبيا والحكومة الانتقالية الصومالية، بل ويبدو واضحاً أن هذه الحرب أدت إلى تفاقم الصراع الداخلي المسلح في الصومال إلى مستويات أكثر حدة وعنفاً بدرجة أكبر مما كانت عليه قبلها، بل وبدرجة ربما تكون الأكثر تصعيداً على مدى أكثر من 16 عاماً، منذ الإطاحة بنظام سياد بري في عام 1991، وما أعقب ذلك من انهيار الدولة والعجز عن وصول حكومة مركزية قوية للحكم في البلاد، علاوة على تقسيم البلاد فيما بين كيانات انفصالية وإقليمية، فضلاً عن تقسيم العاصمة مقديشيو فيما بين قادة الفصائل المسلحة. ومن ثم، فإن التدخل العسكري الإثيوبي في الصومال أو الانتصار السريع الذي حققته القوات الحكومية ـ الإثيوبية على ميليشيا المحاكم الإسلامية لم يؤد إلى تحسين المناخ الأمني في العاصمة مقديشيو، بل على العكس من ذلك أدت تداعيات هذه الحرب إلى تفاقم الحالة الأمنية بصورة أسوأ بكثير عما كانت عليه من قبلها، حيث ارتفعت معدلات العنف فيها إلى مستويات تزيد عن تلك التي كانت وقت ذروة المأساة الصومالية في عامي 1991 ـ 1992. ويتمثل السبب الرئيسي وراء تدهور الوضع الأمني في مقديشيو وبعض مناطق جنوب الصومال في فترة ما بعد الحرب في أن التدخل العسكري الإثيوبي في الصومال خلق شعوراً واسعاً بالمهانة والاستفزاز لدى قطاعات واسعة في المجتمع الصومالي، بسبب الصورة الشائعة عن إثيوبيا بحسبانها عدواً تقليدياً للصومال.ولذلك، فقد اندلعت مقاومة مسلحة سريعة ضد الوجود العسكري الإثيوبي في الصومال، وهي مقاومة تشارك فيها قطاعات اجتماعية عديدة، من دون أن يكون ذلك بالضرورة تأييداً للمحاكم الإسلامية، وإنما هو بالأساس رفض للاحتلال الإثيوبي، بل ورفض لسلوك الحكومة الانتقالية التي فضلت التحالف مع إثيوبيا ضد قطاع من مواطنيها، ورفضت مواصلة مفاوضات الخرطوم مع المحاكم الإسلامية، برغم ما كان يمكن أن تفضي إليه من الوصول إلى اتفاق للتسوية السلمية بين الجانبين.

2.  مشكلة تقسيم الدولة

تتركز تلك المشكلة في كيفية تقسيم الدولة إلى أقاليم من حيث العدد والمساحة وكثافة السكان، فكل عشيرة وكل تحالف عشائري أو عسكري يبحث عن موقعه وقيمته وتأثيره في تركيب كل إقليم، كما أن العداوات التاريخية بين القبائل والأصول الكبرى تؤثر في هذا التقييم بالقبول أو بالرفض. ومن ناحية ثانية فإن تعقيدات النزاع المسلح في الصومال أنشأت قيادات وتجمعات جديدة في داخل البناء العشائري التقليدي، وهذه القيادات والتجمعات تطلب الاعتراف بوجودها ومصالحها وضمان مستقبلها بأسلوب الانضمام إلى تحالف سياسي/ عسكري يدين بالولاء للزعامات الكبرى في البلاد، ويضاف إلى هذا ظهور مطالبات تتعلق بأحياء ومناطق العاصمة والمدن الرئيسة تتبع فروعاً وجماعات عشائرية متنوعة وينطبق هذا أيضا على سكان الموانئ الرئيسة للبلاد.

وفى حين تركزت المساعي الداخلية والإقليمية في ضرورة إقامة حكومة مركزية موحدة تسيطر على جميع أنحاء البلاد، شهدت الفترة التالية لانهيار إعلان القاهرة المزيد من مساعي التفتت في البلاد، حيث أُعلن عن قيام حكومة إقليمية في الشمال الشرقي للصومال تحت اسم بلاد بونت "بونت لاند" وعاصمتها "جروي" برئاسة عبدالله يوسف. وكانت هناك محاولات أخرى لإقامة حكومة إقليمية أخرى بالجنوب الصومالي تحت اسم بلاد جوبا "جوبا لاند". إضافة إلى أول حكومة انفصالية وهى حكومة جمهورية أرض الصومال التي أُعلن عنها في 1991 برئاسة عبدالرحمن تور، وتولى رئاستها بعد ذلك إبراهيم عقال وعاصمتها "هرجيسا" في الشمال الغربي للصومال، لتضيف بذلك مزيدًا من التفتت والتجزئة، وهو ما يهدد كيان الدولة الموحدة، ويعرقل الجهود الرامية لتشكيل حكومة مركزية موحدة بالصومال، في حين يرى بعض قادة تلك التنظيمات والحكومات الإقليمية أنها خطوة على طريق إقامة الحكومة المركزية، إن هدف المرحلة هو حفظ تلك الكيانات الإقليمية من انتشار الفوضى وعوامل الأزمة فيها. ففي حديث له أعلن عبدالله يوسف رئيس ولاية "بونت لاند" التي أعلنت استقلالها في أغسطس 1998، رفضه الاعتراف بـ "جمهورية أرض الصومال" برئاسة إبراهيم عقال باعتبار أن الأخيرة تمثل انفصالاً سافرًا عن الصومال، وأكد عبدالله يوسف معارضته الانفصال حيث أكد أن دستور "بونت لاند" الذي تم إقراره في مايو 1998 ينص على أن "بونت لاند" جزء لا يتجزأ من دولة الصومال، وأعلن عبدالله يوسف تأييده للخيار الفيدرالي سبيلاً لحل المعضلة الصومالية بدلا من تناحر الفصائل والمليشيات الصومالية.

وعلى الجانب الآخر تمسكت حكومة جمهورية أرض الصومال بحقها في الانفصال عن الصومال استناداً إلى أسس تاريخية وإثنية أجملها وزير خارجية هذه (الجمهورية) السيد/ محمود صالح نور الذي أكد أن القضية الصومالية لا يمكن حلها إلا عن طريق الصوماليين، وأشار إلى أن أرض الصومال واحة سلام وأمن في منطقة تسودها الخلافات والنزاعات الداخلية والحروب الأهلية، وأرجع ذلك إلى تجانس قبائل الجمهورية التي مثلت في المرحلة الاستعمارية الصومال الشمالي الذي خضع للاستعمار البريطاني وحصل على استقلاله في 26 يونيه 1960، ثم انضم باختياره إلى الصومال الجنوبي ليشكلا معا دولة الصومال، إلا أن الثلاثين عامًا التالية بما شهدته من حروب وممارسات قمعية ضد الشمال دفعت الشماليين إلى خيار استعادة الاستقلال. وانطلاًقا من ذلك يرفض الشماليون اتهامهم بأنهم انفصاليون. ومع فشل جمهورية أرض الصومال في الحصول على اعتراف أي من دول العالم أعلن محمد إبراهيم عقال رئيس الجمهورية المزعومة "أن التجمعات العشائرية لا يمكن أن تؤسس أركان دولة معترف بها عالمياً". وأضاف في حديثه في ندوة حول مستقبل المحافظات الشمالية الغربية " لقد بات أمرًا مفروغًا منه إخفاقنا في تأمين اعتراف دولي بحكومتنا، وهذه الحقيقة تشخص عدم إمكانية تأسيس حكم ثابت الأركان في محيط تسوده عشائر متناحرة تفعل كل منها ما يحلو لها؛ مما يفقد عنصر التناغم والتوافق اللازم لتصريف شؤون الحكم وإقامته". وذلك على الرغم من دأب مسؤولي جمهورية أرض الصومال على التقليل من أهمية الاعتراف الدولي بدعوى أن الجمهورية لم تطلب من أية دولة الاعتراف بها. ويذكر أن حسين عيديد قد وجه اتهامًا لإبراهيم عقال زعيم جمهورية أرض الصومال بالتعاون مع كل من إثيوبيا وإسرائيل، وادعى وجود رسالة منشورة أرسلها إبراهيم عقال إلى "بنيامين نتنياهو" رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق- بشأن ما سُمِّى الوفاق الجديد بين الصوماليين وإسرائيل.

ربما تتمثل الدلالة الرئيسية للصراع ولحالة الانقسام الناتجة عنها بين الحكومة الانتقالية واتحاد المحاكم الإسلامية، ثم اندلاع الحرب بين الجانبين، في أنها كشفت عن استمرار هيمنة الطبيعة العشائرية على السياسة الصومالية بصورة قوية وحادة للغاية، والمتداخلة إلى حد كبير مع خاصية التمسك الشديد بالسلطة من جانب العديد من فعاليات المجتمع الصومالي، بحيث أدى تداخل هذين العاملين معاً إلى الدفع في اتجاه التصعيد العسكري، مع صعوبة الأخذ بالحلول الوسط لتسوية الخلافات بين الجانبين، علاوة على أن هذين العاملين حكما تفاعلات ما بعد الحرب إلى حد كبير. لقد بدت الطبيعة العشائرية واضحة بدرجة كبيرة في أن كثيراً من قادة السلطة الاتحادية الانتقالية في الصومال اتخذوا موقفاً عدائياً إزاء المحاكم الإسلامية، ليس فقط بحكم طابعها الإيديولوجي المتشدد، ولكن الأهم من ذلك بسبب طابعها العشائري الناجم عن انتماء أغلب قادة وأعضاء المحاكم إلى عشيرة الهوية، لاسيما فرعى الهبرجدر والأبجال، ما كان يعنى بالنسبة للكثيرين أن المحاكم الإسلامية ما هي إلا فصيل عشائري، برغم طابعها الديني وإيديولوجيتها العابرة للعشائرية في المجتمع الصومالي.

وكان من نتيجة هذه النظرة أن كثيراً من قادة السلطة الانتقالية وأقطابها لم يعترضوا على استنجاد الحكومة بإثيوبيا وسماحها بالتدخل العسكري الإثيوبي الواسع النطاق في الصومال، برغم عدم دستورية ذلك، بل وتقبل الكثيرون منهم تدخل إثيوبيا بصورة صارخة في الشؤون الداخلية الصومالية، برغم ما هو معروف من عداء إثيوبيا التاريخي للصومال. ويبدو من المؤكد أن قادة السلطة الانتقالية ـ لا سيما في البرلمان والحكومة ـ رأوا في المحاكم الإسلامية تهديداً أكثر خطورة بكثير من التهديد الإثيوبي والأمريكي، وفق الحسابات العشائرية، واستناداً إلى عدم قبولهم بأن تهيمن عشيرة واحدة ـ هي الهوية ـ بنفوذ سياسي يتجاوز وزنها النسبي في الخريطة الديموجرافية للمجتمع الصومالي، وبالاستناد أيضاً إلى الحساسيات المريرة الموروثة من فترة الحرب الأهلية فيما بين العشائر، لاسيما بين عشيرة الهوية وعشيرة الدارود التي ينتمي إليها الرئيس عبدالله يوسف ولذلك، فإن أولئك الذين وقفوا ضد سياسة الحكومة الانتقالية المتواطئة مع إثيوبيا ضد المحاكم الإسلامية، سواء في الحكومة الانتقالية أو في البرلمان الانتقالي، كانوا بالأساس من أبناء عشيرة الهوية الممثلين في تلك المؤسسات. وكان أولئك هم الذين قادوا الاستقالات الجماعية من الحكومة الانتقالية في أغسطس 2006، بقصد إحداث حالة من الفراغ الدستوري في البلاد، إلا أن الرئيس عبدالله يوسف ورئيس الحكومة على محمد جيدى ـ ومن ورائهما إثيوبيا ـ استغلوا هذه الفرصة من أجل تشكيل حكومة جديدة تضم وزراء أغلبهم من أصدقاء إثيوبيا، ومن المؤيدين لخيار المواجهة العسكرية ضد المحاكم الإسلامية.

وكان أبناء الهوية أيضا هم الذين قادوا جهود الوساطة والمصالحة التي قام بها البرلمان الانتقالي بقيادة رئيسه السابق الشريف حسن شيخ عدن في نوفمبر 2006 من أجل تسوية الخلافات بين المحاكم والحكومة، لتفادى تصعيد الخلافات بينهما، وهى الجهود التي رفضت الحكومة التجاوب معها، بل وسعت لاحقاً إلى معاقبة وتهميش من قاموا بها. وفى المقابل، فإن أعضاء السلطة الاتحادية الانتقالية في البرلمان والحكومة من أبناء عشائر الدر والدارود والرحانوين.. وغيرهم كانوا على ما يبدو مؤيدين تماما لسياسة الرئيس والحكومة إزاء المحاكم، بما في ذلك الاستعانة بالدعم الإثيوبي والأمريكي. وهؤلاء أيضا هم الذين وفروا النصاب القانوني للحكومة الانتقالية للإفلات من محاولات سحب الثقة التي تعرضت لها، وهم الذين وفروا الدعم السياسي للرئيس عبدالله يوسف ورئيس حكومته على محمد جيدى لمواصلة سياستهم الاستئصالية ضد المحاكم الإسلامية.

ولا ينفى ذلك أن الانتماءات العشائرية لم تكن العامل الحاسم الوحيد هنا، وإنما يتداخل معها أيضا المصالح السياسية الشخصية، بمعنى أنه كان هناك ساسة تبنوا مواقف مخالفة للتوجهات العامة لعشائرهم، تحت تأثير مصالح معينة أو قناعات سياسية محددة. فرئيس الحكومة على محمد جيدى، الذي قاد السياسة المتشددة ضد المحاكم، هو من أبناء الهوية، إلا أنه لم يكن ينتمي إلى الفروع القيادية التاريخية لهذه العشيرة، علاوة على أنه كان يخشى من فقدان منصبه في حالة حدوث تقاسم للسلطة بين الحكومة والمحاكم. والأمر كذلك أيضاً بالنسبة لنائب رئيس الحكومة حسين عيديد في مرحلة معينة، فهو ينتمي إلى عشيرة الهوية، ولكنه مع ذلك كان مؤيداً بشدة لسياسة التصعيد ضد المحاكم، بل ودعا عقب الحرب مباشرة إلى إقامة شكل من الوحدة بين الصومال وإثيوبيا، ثم عاد لاحقاً لتغيير مواقفه السياسية بصورة سوف نتعرض لها لاحقا.ً والعكس صحيح أيضا، فهناك قلة من أعضاء البرلمان والحكومة من غير عشيرة الهوية تبنوا مواقف مؤيدة للمحاكم الإسلامية، وشاركوا في التفاعلات المناهضة لسياسة الرئيس والحكومة، سواء في الجهود التي قادها رئيس البرلمان لتسوية الخلافات بين الحكومة والمحاكم أو في رفض التدخل العسكري الإثيوبي في الصومال. وكان هؤلاء في أغلبهم من الإداريين (التكنوقراط) وناشطي السلام والصوماليين في المهجر (الدياسبورا الصومالية)، ممن وفدوا من الخارج، ويرفضون بشدة التقسيم العشائري المرير الذي يعانى منه المجتمع الصومالي.

وقد ظلت هذه الانقسامات العشائرية تلعب دوراً محورياً في فترة ما بعد الحرب في توجيه دفة التفاعلات السياسية، لاسيما على محورين رئيسيين هما: تصفية الحسابات، والعمل على إرساء ترتيبات سياسية جديدة على الساحة الصومالية. ففي مجال تصفية الحسابات، جرت خلال فترة ما بعد الحرب عملية واسعة لتصفية الحسابات فيما بين الحكومة ـ المدعومة من تحالف سياسي عشائري غير معلن داخل البرلمان ـ وخصومها السياسيين الذين كانوا يؤيدون المحاكم داخل البرلمان والحكومة، وبدأ ذلك بتنحية رئيس البرلمان الشريف حسن شيخ عدن بحجة بقائه خارج البلاد لمدة تصل إلى حوالي شهرين، ثم أعقب ذلك إلغاء عضوية عدد من أعضاء البرلمان ممن يقيمون في إريتريا، بسبب رفضهم للتدخل العسكري الإثيوبي في الصومال، بحجة غيابهم عن جلسات البرلمان لفترة طويلة من الزمن، مع دعوة العشائر التي ينتمون إليها لاختيار أعضاء جدد بدلاً منهم. وكانت تلك الإجراءات تفتقر إلى أي أساس دستوري، بل أنها تمثل انتهاكاً صارخاً لبنود الميثاق المؤقت، الذي تتحدد فيه في الفقرة الثانية من المادة الحادية والثلاثين الحالات التي يتم فيها سحب عضوية البرلمان، وليس من بينها قط تلك الأسباب سالفة الذكر التي استند إليها البرلمان الانتقالي. ولم يتوقف الكثيرون أمام عدم دستورية هذه الخطوات لأنه كان معروفاً أن المسألة لا صلة لها بتفاعلات برلمانية طبيعية، وإنما تمثل انعكاساً للتوازنات السياسية التي نشأت فى فترة ما بعد الحرب، فضلاً عن كونها تمثل امتداداً لسياسة الاستقواء بالخارج التي تتبعها الحكومة الانتقالية في التعامل مع كافة خصومها، مع استعدادها لهذا الغرض للعصف بالميثاق الانتقالي، بل وبالتقاليد الراسخة في المجتمع الصومالي تقوم على التمسك الشديد بالسيادة والكرامة الوطنية ورفض التدخلات الأجنبية، لاسيما إذا كانت من طرف يعد عدواً تاريخياً للصومال.

ولم تقتصر تصفية الحسابات على مجرد الإطاحة بالمعارضين من عضوية البرلمان، وإنما امتدت أيضاً إلى استهداف عشيرة الهوية، والعمل على كسر شوكتها من خلال ضربات عسكرية قاصمة تقوم بها القوات الحكومية والإثيوبية. وقد بدأت هذه السياسة عقب سيطرة القوات الحكومية والإثيوبية مباشرة على مقديشيو، حيث حاولتا تنفيذ خطة واسعة لنزع الأسلحة من العاصمة، إلا أن هذه الخطة لم تلق تجاوباً يذكر من جانب سكان العاصمة، والذين ينتمي أكثرهم إلى عشيرة الهوية، وهو ما ترافق مع ازدياد الخشية من جانب الحكومة الانتقالية وإثيوبيا من أن تنضم أعداداً متزايدة من أبناء الهوية إلى عمليات المقاومة المسلحة التي تشنها بقايا المحاكم الإسلامية، ما يمكن أن يمثل تهديداً سياسياً وأمنياً جسيماً أمام الحكومة الانتقالية، والتي قد لا تستطيع الصمود في مواجهته، لاسيما في فترة ما بعد انسحاب القوات الإثيوبية، وحلول قوات حفظ السلام الأفريقية محلها. وترتبط هذه المسألة بحسابات أكبر حجماً وأكثر تعقيداً تتعلق بالتوازنات السياسية ـ العشائرية على الساحة الصومالية، لاسيما فيما يتعلق بالأوزان النسبية للعشائر ولحركيتها السياسية داخل الصومال. فعشيرة الهوية تكاد تكون العشيرة الأكثر حيوية وديناميكية على الساحة السياسية الصومالية، وهى المحور الرئيسي في أغلب التفاعلات التي شهدها الصومال منذ انهيار الدولة. ويتمثل جانب رئيس في حيوية عشيرة الهوية في سعيها الدؤوب للاستحواذ على نصيب من السلطة يتناسب مع وزنها السكاني، ومع دورها التاريخي في الإطاحة بنظام سياد برى. وكان من نتيجة ذلك أن بعض الصراعات التي جرت داخل الهوية كانت سبباً رئيساً لانهيار الدولة الصومالية، لاسيما الصراع بين الجنرال محمد فارح عيديد (المنتمي إلى فرع الهبرجدر) وعلى مهدي محمد (المنتمى إلى فرع الأبجال)، عقب الإطاحة بنظام سياد بري مباشرة، والذي أدى إلى تقسيم العاصمة مقديشيو منذ ذلك الحين. وتبدت الحيوية السياسية والحركية الفائقة لعشيرة الهوية أيضاً في أن المحاكم الإسلامية والكثير من جماعات الإسلام السياسي كانت قد خرجت منها، كما كانت العشيرة قطباً رئيساً في الحكومات الانتقالية التي نشأت بموجب اتفاقي جيبوتي ونيروبي للمصالحة الوطنية في الصومال.

ويعنى ذلك أن من الممكن القول أن الصراع في مناطق وسط الصومال وجنوبه يبدأ بعشيرة الهوية وينتهي عندها، وهى أيضاً الفاعل الرئيس في تلك المناطق، وهو ما نظر إليه الرئيس عبدالله يوسف ورئيس حكومته على محمد جيدى بوصفه تهديداً بالغ الخطورة في فترة ما بعد الحرب، وهو ما أدى إلى ازدياد التوجه لدى الحكومة الانتقالية وإثيوبيا لضرب عشيرة الهوية عسكرياً ونزع سلاحها بالقوة، اعتقاداً منهماً بأن ذلك يمكن أن يؤدى لاحقاً إلى كسر شوكتها، وإجبارها على قبول ما يقدم لها خلال مؤتمر المصالحة الوطنية الذي كانت الحكومة الانتقالية تعتزم عقده في فترة لاحقة. وقد جرى تطبيق هذه الخطوة من خلال ما عرف بـ "خطة أمن مقديشيو"، والتي بدأ تنفيذها في منتصف مـارس 2007 . وكانت هذه الخطة في واقع الأمر عبارة عن خطة لتصفية عشيرة الهوية، حيث كان الغرض منها تفكيك مناطق السيطرة والنفوذ التي تسيطر عليها عشيرة الهوية داخل العاصمة ونزع أسلحتها بالكامل. وعلى الرغم من أن القوات الحكومية والإثيوبية نجحت بالفعل في تحقيق هذا الهدف، إلا أن ذلك قد كان عقب مقاومة عنيفة وشرسة وغير متوقعة من جانب أبناء عشيرة الهوية وبقايا المحاكم الإسلامية، واضطرت القوات الحكومية والإثيوبية إلى خوض جولتين منفصلتين من القتال لتحقيق هذا الهدف، وعلى مدى زمني طويل نسبياً.

وكانت هذه السياسة الاستئصالية ضد عشيرة الهوية من العنف والحدة لدرجة أنها تسببت في حدوث تصدعات محدودة داخل الحكومة، انعكست في انشقاق نائب رئيس الحكومة ووزير الأشغال والإسكان حسين عيديد، المنتمى إلى عشيرة الهوية، وانضمامه إلى تحالف يضم الرئيس التنفيذي للمحاكم الشيخ شريف أحمد ورئيس البرلمان السابق الشريف حسن شيخ عدن، لمناهضة الحكومة المتواطئة مع إثيوبيا، برعاية إريتريا. ومع أن حسين عيديد لم يعلن صراحة أسباب انشقاقه بالتفصيل، فإن التقارير المعلنة تشير إلى أن هذه الاستقالة جاءت لأسباب شخصية؛ إذ نشب خلافات بينه وبين كل من الرئيس الانتقالي عبدالله يوسف ورئيس وزرائه على محمد جيدى، على خلفية امتعاض عيديد المستمر من نقله من منصبه السابق وزيراً للداخلية، إلى منصب وزير الأشغال والإسكان، أما في مجال العمل على إرساء ترتيبات سياسية جديدة على الساحة الصومالية، فيمكن الإشارة إلى أن الانتصار العسكري السريع الذي حققته القوات الحكومية والإثيوبية على المحاكم الإسلامية قد ساعد الحكومة الانتقالية على اكتساب قدر من المكانة والنفوذ السياسي بصورة غير مسبوقة على الإطلاق، إذ لم يعد هناك من يتحدى سلطاتها، بعدما كانت المحاكم الإسلامية قد قضت على أمراء الحرب وفصائلهم المسلحة، ثم قُضي على المحاكم الإسلامية ذاتها، ما يعنى أن الحكومة باتت تحظى بفرصة جيدة للعمل بسلطات حقيقية في الساحة السياسية الصومالية، بعدما كانت قبل ذلك حكومة مهمشة ومعزولة في عاصمة مؤقتة، وتتمتع بسيادة اسمية فقط، من دون سلطات حقيقية على أرض الواقع.

وما حدث بعد ذلك يتمثل في أن الحكومة التي كانت لا تتمتع بأي سلطات، حاولت بعد الحرب أن توسع سلطاتها بصورة تتجاوز كثيراً ما كان منصوصاً عليه في الميثاق المؤقت، بحيث اصطبغت إجراءاتها في فترة ما بعد دخولها مقديشيو بصبغة ديكتاتورية واضحة، سواء إعلان حالة الطوارئ في البلاد، أو فرض قيود مشددة على وسائل الإعلام الوطنية والأجنبية، بل وإغلاق مكاتب عدد من الصحف والقنوات الفضائية العاملة في الصومال.. وغير ذلك. وفى الوقت نفسه، فإن جهود الحكومة الانتقالية على صعيد إعادة بناء قوات الأمن والقوات المسلحة لم تحقق نجاحاً يذكر، وإنما اتسمت بطابع انتقائي متحيز. فما فعلته الحكومة في هذا الصدد يقتصر على إدماج بعض الميليشيات المسلحة داخل صفوف الجيش والشرطة الجديدة، وهى ميليشيات كانت تابعة لبعض أمراء الحرب الذين كانوا قد تحالفوا مع القوات الحكومية ـ الإثيوبية أثناء الحرب، فضلاً عن أن القوات الحكومية التي كانت قد قاتلت ضد المحاكم هي في الأصل ميليشيات عشائرية كانت تابعة لبلاد بونت التي ينتمي إليها الرئيس عبدالله يوسف، وأحضرها معه إلى العاصمة المؤقتة بيداوة لحمايته، ما يعنى أن عملية بناء قوات مسلحة جديدة في الصومال لم تؤسس على قاعدة وطنية شاملة، مما يعمق بالقطع من الانقسامات العشائرية الموجودة في المجتمع الصومالي. ويرتبط ما سبق باتجاه الحكومة نحو العمل على التحكم تحكماً كاملاً في سير المصالحة الوطنية في البلاد، بصورة لا تستبعد فقط بقايا المحاكم الإسلامية أو العناصر المعتدلة منها، ولكنها تهدف أيضاً إلى محاولة الخروج بنتائج محددة من أي مؤتمر للمصالحة، تتفق مع الأجندة السياسية الضيقة لهذه الحكومة، وللقوى الإقليمية والدولية التي تقف وراءها، لاسيما إثيوبيا والولايات المتحدة الأمريكية، من دون الاكتراث كثيراً لما إذا كان ذلك سوف يساعد على إنهاء حالة الفوضى والانهيار في الصومال أم أنه سوف يخلق مزيداً من التعقيدات والانقسامات داخل البلاد.

3. تعاظم مشكلة اللاجئين

لقد استقلت الصومال عام 1960، بانضمام الشمال (الصومال البريطاني)، إلى الجنوب (الصومال الإيطالي)، غير أن ممارسات الحكومات المتعاقبة منذ الاستقلال قد أثارت حفيظة الشماليين سواء في جعل العاصمة في الجنوب (مقديشيو) وسواء في استئثار الجنوبيين بالمناصب السياسية المهمة وبالمنافع الاقتصادية وبالمشروعات التنويرية مع إهمال الشمال إلى حد كبير. وقد تفاقم الموقف عقب هزيمة الصومال في "أوجادين" عام 1978، عندما تدفق الألوف من اللاجئين من أبناء أوجادين إلى الصومال، وقام النظام لتوطينهم في الشمال، وسلّحهم ليقهروا معارضيه من قبائل إسحاق فاندلع الصراع في الصومال الذي أسفر عن انهيار الدولة، واتبع سياسة تفضلهم على حساب السكان المحليين في الوظائف وفي تملك الأراضي، وحتى في الفرص التعليمية والعملية. وقد اتهم النظام بأنه أنشأ ميليشيات بين اللاجئين لإرهاب أبناء قبائل إسحاق على الحدود مع أوجادين لدفعهم للنزوح عن ديارهم ففر الألوف منهم لاجئين. ولما لم تجد الاتهامات والشكاوي آذاناً صاغية لدى النظام، أنشأ أبناء إسحاق الحركة الوطنية الصومالية في المنفى بلندن عام 1981، ثم نقلت مقرها بعد ذلك إلى إثيوبيا، وبدأت في شن عمليات عسكرية ضد النظام كان أعنفها في أعوام 1984، 1988، وقد واجهها النظام بعنف واستخدام القوات الجوية في تدمير المدن، فقتل الألوف. ولذلك ليس بمستغرب أن تعلن الحركة الوطنية الصومالية، وعقب سقوط سياد بري. استقلال الشمال في 18 مايو 1991، تحت اسم جمهورية أرض الصومال. وفي ذات الوقت فإن نظام سياد بري لم يبطش بجماعة إسحاق فحسب وإنما اتبع سياسة الاضطهاد والقمع ضد كافة أبناء القبائل الأخرى ـ غير أبناء قبيلته (الأوجادين/الماريحان) ـ ما دفع هؤلاء إلى الهرب إلى المنفى وأصبحوا لاجئين وأنشأوا الجبهة الوطنية الصومالية، والمؤتمر الصومالي الموحد.. إلخ، التي حاربت النظام حتى تهاوى، وانهارت معه الدولة الصومالية عام 1990، مخلفة وراءها ألوف اللاجئين.

وعلى المستوى الإقليمي فقد هددت الحكومة الكينية مراراً بطرد اللاجئين الصوماليين من أراضيها، بذريعة تهديدهم الأمن والاستقرار، خاصة في المقاطعة الشمالية الشرقية لكينيا، ذلك أن العصابات بين صفوف هؤلاء اللاجئين ترتكب أعمال القتل، والسطو المسلح، والاغتصاب .. إلخ. بل إنها قتلت نحو أربعين من رجال الشرطة الكينيين الذين يتولون حراسة المعسكرات، ويضطر رجال الإغاثة إلى التنقل في حراسة مسلحة مخافة القتل. ويضاف إلى ما تقدم فإن الصراع العشائري قد انتقل مع اللاجئين إلى بلد الملجأ، حيث ينتقم أبناء كل عشيرة صومالية من بنات العشيرة الأخرى اغتصاباً رغبة في الإيذاء أو سعياً لاكتساب المكانة داخل عشائرهم.

وعلى الصعيد الاجتماعي وفى ظل تفاقم الأوضاع الاقتصادية -تزايدت حدة مشكلة اللاجئين حيث اقتربت أعداد اللاجئين خارج الصومال من نصف مليون لاجئ ـ يمثلون 11% من إجمالي لاجئي القارة ـ يعيشون في ظروف بالغة القسوة في كينيا وأثيوبيا وجيبوتي، فضلا عن ما يقرب من مليون لاجئ في دول العالم المختلفة. وتعانى المفوضية العليا لشؤون اللاجئين من صعوبات كثيرة فيما يتصل بتنفيذ خطط إعادة توطين اللاجئين بسبب استمرار أعمال العنف والاقتتال، ويضاعف من حدة المشكلة رفض دول الجوار استقبال المزيد من اللاجئين؛ حيث منعت السلطات الكينية حوالي 300 لاجئ صومالي من الدخول إلى البلاد، وطالبت بإعادة توطين هؤلاء اللاجئين، أو ترحيلهم إلى بلد ثالث يقبل بقاءهم على أراضيه. ومما يذكر أن عدد اللاجئين الصوماليين في الداخل يقرب من نصف مليون لاجئ يعيشون في 138 مخيماً.

4. تنامي التدهور الاقتصادي

وقد شهدت الأجزاء الجنوبية من الصومال تدهورًا اقتصاديًا من جراء الفيضانات التي اجتاحت تلك الأجزاء وأدت إلى إتلاف المحاصيل الغذائية، خاصة الحبوب، حيث حققت محاصيل الحبوب الرئيسية أقل مستوى للإنتاج منذ خمس سنوات، الأمر الذي عرض السكان خاصة في منطقة جوبا والمناطق المحيطة بها لأزمة غذائية حقيقية، ما دفع المسؤولين الصوماليين وبرنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة إلى مناشدة دول العالم والمنظمات الإنسانية إرسال المواد الغذائية للشعب الصومالي. وبالمثل ضربت الأراضي الواقعة شمال شرق الصومال عدة موجات جفاف قاسية هددت 70% من رؤوس الماشية بخطر النفوق، كما هددت أكثر من 150 ألف مواطن صومالي بخطر المجاعة، الأمر الذي دفع منظمة اليونيسيف إلى مناشدة المجتمع الدولي سرعة توفير 1.3 مليون دولار لإنقاذ مناطق شمال شرق الصومال. وذلك قبل هطول الأمطار بغزارة خلال شهر أكتوبر 1999. وعلى ذات الصعيد الاقتصادي، واصلت العملة الصومالية (الشلن) تدهورها -خاصة في ظل عدم وجود بنك مركزي منذ عام 1991- ويذكر أن الزعيمين عيديد وعلي مهدي قد أشرفا على طباعة كميات من الشلن الصومالي لتمويل العمليات الحربية ودفع مرتبات أفراد الفصائل، على أنه لم يكتب لهذه العملة النجاح في حل مشكلة البلاد النقدية، حيث تسبب التداول غير المنظم للعملة إلى زيادة التضخم وهبوط سعر صرف الشلن أمام العملات الرئيسية الأخرى؛ الأمر الذي دفع رجال الأعمال في العاصمة إلى طباعة نحو 30 بليون شلن (حوالي خمسة ملايين دولار) خارج البلاد، وأكد رجال الأعمال أن تلك الأموال لن تستخدم لمصلحة الميليشيات، وأن جزءًا منها سوف ينفق على مشاريع التنمية الموجهة للفقراء والنازحين.

5. مشكلة توزيع السلطات التنفيذية والتشريعية

تلك المشكلة تتصل بتوزيع السلطات التنفيذية والتشريعية بين المركز الحكومي في العاصمة والأقاليم، وما يتصل بهذا من ميزانيات الإنفاق على التنمية وإعداد الوظائف الحكومية المركزية والإقليمية في ضوء التوازن العشائري الواجب تطبيقه على مناصب الدولة، وأيضا توزيع إيرادات الدولة حتى التي يجرى تحصيلها من الموانئ والجمارك والضرائب. ويتصل بهذه المشكلة موضوع سلطات رئيس الدولة، ومدى سيطرته على قوات الجيش والبوليس، والضمانات الدستورية ضد استغلال السلطة الرئاسية تجاه حكومات الأقاليم، ومن المفترض أن تكون المناصب العليا في الدولة بالانتخاب في إطار نظام ديمقراطي متعدد الأحزاب ويسرى هذا على قيادات الأقاليم.

لقد ظل الصومال بلا حكومة مركزية منذ سقوط نظام الرئيس محمد سياد بري في يناير 1991، حيث انقسم الصومال من الناحية العملية منذ ذلك الحين إلى مناطق قبلية، يمارس فيها زعماء الحرب المسلحون سلطتهم، لتعزيز نفوذهم السياسي في أي تسوية مرتقبة. وقد عُقد 14 مؤتمراً مصالحة صومالية منذ 1991، كلها في عواصم عربية وأفريقية، لكن لم ينجح واحد من هذه المؤتمرات في احتواء الخلافات بين الأطراف الصومالية، وكان أكثر المؤتمرات قربا من الوفاق هو آخر مؤتمر صومالي. الذي عقد في جيبوتي عام 2000 بمبادرة من جيبوتي نفسها، وقد انتهى إلى ما يعرف باتفاق "عرتة" الذي كان من أبرز النتائج التي تمخضت عنه، اختيار الرئيس عبدالقاسم صلاد حسن"، الذي ينتمي إلى قبيلة الهوية، القبيلة نفسها التي ينتمي إليها "حسين عيديد" زعيم المعارضة. وكذلك الاتفاق تشكيل برلمان يتألف من 275 عضوا منهم 12% من النساء بواقع خمس نساء لكل مجموعة من المجموعات الخمس. فقد قرر قادة الأطراف الصومالية حينئذ أن يكون اقتسام عدد نواب البرلمان، وفق معايير قبلية بحتة تصنف القبائل الصومالية إلى 5 مجموعات قبلية هي: "در"، و"داروت"، و"هويا"، و"دجيل مرفلي"، و"الإسباهيسي"، ويمثل كل قبيلة من القبائل الأربعة الأولى 61 نائبا فيما يمثل الأخيرة 31 نائباً. وقد ضم هذا البرلمان في عضويته 17 زعيم حرب من أصل 22 من أقوى زعماء الحرب الذين يسيطرون على كل مساحة الصومال بما فيها العاصمة مقديشيو التي يقتسمها 7 منهم، ومن أبرز هؤلاء الزعماء الذين أصبحوا نواباً: حسين عيديد وعثمان عاتو وموسي سودي يلحو وعمر فنيش ومحمد قانيري، ومحمد عمر حبيب، حاكم منطقة شبيلي الوسطى، والعقيد شاتي جدود، زعيم جيش رحن وين، وبري هيرالي، زعيم تحالف وادي جوبا، والعقيد عبدالله يوسف، حاكم منطقة بونت، ومنافسه اللدود الكولونيل جامع علي جامع. وقد خصص 24 مقعدًا لمجموعة الأقليات أو التحالف من خارج هذه الفصائل، أما المقاعد العشرون الباقية فقد عُهد إلى الرئيس الجيبوتي عمر جيلي باختيار الشخصيات النافذة في المجتمع أو القبائل التي تشعر بوجود نوع من الظلم وقع عليها، بسبب هذا التقسيم، لكي تحتل هذه المقاعد، واختار البرلمان عبدالله ديرو رئيسًا له (من قبيلة الرحانوين). أما الحكومة الانتقالية فقد عهد إلى "علي خوليف جوليد" (قبيلة الدارود) بتشكيلها.

لكن هذه الحكومة لم تنجح في بسط نفوذها على البلاد بسبب معارضة زعماء الفصائل الذين رفضوها، وكذلك الكيانات التي أعلنت من جانب واحد كأرض الصومال(صوماليلاند) الواقعة شمال غرب الصومال، وبلاد بونت (بونتلاند) الواقعة شمال شرق الصومال، التي لم تعترف بسلطة الرئيس عبدالقاسم صلاد حسن، كذلك فقد سحب الرجل القوي في بايداوه (جنوب الصومال) حسن محمد نور شطيقدود مساندته لصلاد في 17 أكتوبر 2000. وقد تقاسمت عدة فصائل السيطرة على العاصمة مقديشيو، المقسمة، فالتحالف الوطني بزعامة حسين عيديد يسيطر على جنوب العاصمة وبعض المناطق في الوسط، المؤتمر الصومالي الموحّد بزعامة عثمان عاطو، وهو منشق عن التحالف الأول، ويسيطر على بعض المناطق في الجنوب، ثم التحالف لإنقاذ الصومال الذي كان يضم 13 فصيلاً بزعامة علي مهدي محمد ويسيطر على شمال العاصمة وأصبحت حكومة صلاد حسن منذ ذلك الحين حبيسة منطقة في العاصمة لا تزيد مساحتها عن 10% من مساحة العاصمة مقديشيو، على الرغم أنها وجدت متنفساً سياسياً لها عن طريق حضورها المعترف به في المحافل الدولية والإقليمية خلال السنوات الثلاث اللاحقة على تشكيلها. وقد أطلقت منظمة "إيجاد" مبادرتها للسلام في الصومال في أكتوبر 2002، عندما دعت 24 فصيلا صوماليا بالإضافة إلى الحكومة إلى مدينة إلدوريت بكينيا لبدء مفاوضات مفصلة حول مستقبل البلاد، توجت بانتخاب رئيس جديد للبلاد في 10 أكتوبر 2004.

6. تنامي المحاولات الانفصالية

أ. مشكلة انفصال أرض الصومال الشمالي (صوماليلاند)

تختص الصومال الشمالي (صوماليلاند) بهذه المشكلة؛ إذ تنقسم قياداته وعشائره حول مطلب الانفصال وتكوين دولة مستقلة، كما يوجد به اتجاه لقبول الدولة الصومالية الفيدرالية مع إقرار الحكم الذاتي الإقليمي للصومال الشمالي، وقد ترتب على هذا الوضع الجديد أن تكونت تحالفات سياسية بين قوى من الجنوب وبين قوى من الشمال، وقد غير هذا في ميزان القوى السياسي الداخلي، كما غير في الارتباطات العشائرية والقبيلة في البلاد بوجه عام.

ب. مشكلة انفصال أرض بونت (بونت لاند)

إن أحد المسائل التي لها تأثير مباشر على ما يسمى بجمهورية أرض الصومال (صوماليلاند) وقدرتها على جذب الاعتراف الدولي، هي مسألة محاولة بونتلاند المجاورة أن تحذو حذو صوماليلاندrejects. بإقامتها هي الأخرى جمهورية خاصة بإقليمها ذات حكم ذاتي، ويضم عشائر الدارود والماجرتين. وفي إطار الصراع على السلطة في بلاد بونت فقد تنافس كل من عبدالله يوسف وجامع علي جامع، وتجدر الإشارة إلى أن الميليشيات المسلحة التابعة لعبد الله يوسف حققت انتصارا عسكريا على جامع علي جامع خلال عام 2002. وأنشأت حكومة إقليمية جديدة. وكانت إثيوبيا قد أعطت دعماً عسكرياً لعبد الله يوسف في بونتلاند. ويأمل كلا الإقليمين أن يحظيا بالاعتراف الدولي.

7. مشكلة الرفض والتصدي للمبادرات السلمية للتسوية

على الرغم من طرح العديد من المشروعات والأفكار من جانب الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا والدول العربية والمنظمات الدولية والإقليمية، ولكنها جميعا قوبلت بالرفض من جانب والقبول من جانب آخر، ولم يحدث حولها إجماع أو توافق عام، ولذلك فإن الخطر كان ينمو مع تعقيدات تلك الأزمة، وبما كان يؤهل البلاد للإقبال على أوضاع تشابه أوضاع القتال في أفغانستان وأنجولا وليبريا. خصوصاً مع تجدد الصدامات المسلحة، على الرغم من إطلاق دعوات المصالحة، وذلك بين الحين والآخر نوعاً من تصفية الحسابات.

ثانياً: المشكلات الخارجية في الصومال

1. تزايد التدخل الإثيوبي في الشؤون الداخلية الصومالية

اعتمدت السياسة الإثيوبية لتحقيق أهدافها على الساحة الصومالية، الأداتين السياسية والعسكرية، وإن تباينت أشكال توظيف كل أداة من هاتين الأداتين، حسب تطور الأوضاع السياسية في الصومال، وحسب موقف حكومة أديس أبابا إزاء كل تطور من تلك التطورات. لقد اتسم الدور الإثيوبي إزاء المسألة الصومالية، من الناحية السياسية، بعدد من الخصائص المترابطة التي تصب جميعها في اتجاه الهيمنة الكاملة على حركة التفاعلات السياسية الصومالية، عبر التركيز على ثلاث عناصر رئيسية تتمثل في: التحكم في مخرجات عملية المصالحة الوطنية الصومالية، وتشجيع الحركات الانفصالية داخل الصومال، وضبط موازين القوى بين الفصائل الصومالية المتصارعة. ففيما يتصل بالتحكم في نتائج محاولات المصالحة الوطنية الصومالية، كانت إثيوبيا قد استماتت منذ فترة مبكرة من أجل الانفراد بإدارة عملية تسوية المسألة الصومالية، وساعدها على ذلك أنها حصلت على تفويض متكرر من قبل منظمة الوحدة الأفريقية منذ قمة القاهرة الأفريقية في يونيه 1993، كما حصلت على تفويض مماثل من جماعة الإيجاد. واستضافت إثيوبيا بالفعل العديد من مؤتمرات المصالحة الصومالية، إلا أنها فشلت في تحقيق نتائج حاسمة، بسبب رفض الكثير من الجماعات الصومالية للدور الإثيوبي المهيمن في الصومال، فضلاً عن رفضها لتطلعات إثيوبيا للقيام بدور القوة الإقليمية المهيمنة على مستوى منطقة القرن الأفريقي بعامة.

لقد شهدت المنطقة الجنوبية من الصومال وعلى الحدود الفاصلة بين إثيوبيا والصومال في أغسطس 1996 قتالا عنيفا بين الجيش الإثيوبي وميليشيات الاتحاد الإسلامي الصومالي، وتوسعت عمليات القتال حتى وصلت إلى المواقع الكينية على الحدود الفاصلة أيضا وقد سوغت إثيوبيا عملياتها العسكرية بأنها هجوم على جماعات متطرفة متعددة الجنسية قامت بعمليات داخل إثيوبيا، وأن الاتحاد أحد مصادر تهريب السلاح إلى داخل إثيوبيا، وقد عاد القتال والصدام مرة ثانية في شهر سبتمبر 1996 عندما تدخل الجيش الإثيوبي لمعاونة ميليشيات الجبهة الوطنية الصومالية في قتالها للاتحاد الإسلامي الصومالي لمساعدة الجبهة على إحكام سيطرتها على المناطق الجنوبية.

كذلك فقد كانت الحرب التي اندلعت في النصف الثاني من ديسمبر 2006 بين قوات الحكومة الانتقالية الصومالية المدعومة من إثيوبيا، من جهة، وبين ميليشيا اتحاد المحاكم الإسلامية، من جهة أخرى، بمنزلة تطور جذري في الصراع الصومالي، فهو واحد من مراحل التطور المهمة في هذا الصراع، إن لم يكن أكثرها أهمية على الإطلاق، بحكم ما اشتملت عليه هذه الحرب من تدخل خارجي غير مسبوق في هذا الصراع، وهو تدخل يختلف بصورة جذرية عن التدخل الدولي في الصومال خلال الفترة 1992ـ 1994، والذي كان تحت مظلة الأمم المتحدة، وفى إطار عمليات حفظ السلام، بينما كان التدخل الإثيوبي لدعم طرف معين، هو الحكومة الانتقالية، من أجل القضاء على طرف آخر، هو اتحاد المحاكم الإسلامية.

وكان من الطبيعي أن تترك هذه الحرب انعكاسات داخلية بالغة الأهمية على الأوضاع السياسية والأمنية الداخلية في الصومال، على العديد من المجالات، سواء المتعلقة بالحالة الأمنية أو على صعيد التركيبة السياسية الداخلية أو على صعيد جهود تحقيق التسوية والمصالحة الوطنية، بحيث يمكن القول أن نتائج هذه الحرب شكلت تحولاً جوهرياً في كافة هذه المجالات، ولكنه تحول ذو طبيعة عكسية في معظم تلك المجالات، إذ زادت معدلات العنف المسلح في الصومال في فترة ما بعد الحرب، كما شهدت التوازنات السياسية الداخلية في الصومال قدراً إضافياً من التعقيد في ظل الاستهداف المتعمد من جانب القوات الحكومية والإثيوبية لضرب مسلحي عشيرة الهوية ونزع أسلحتهم، من دون تنفيذ خطوات مماثلة ضد المسلحين التابعين لبقية العشائر في البلاد. وتثير هذه التطورات تساؤلات بشأن ما إذا كانت نتائج الحرب سوف تساعد على إحلال أفضل للأمن والاستقرار في الصومال، أم أنها سوف تزيد من حدة الصراع المسلح وتؤجج عمليات العنف المتبادلة بين أطراف الصراع.

ويعني ما سبق أن مناهضة التدخل العسكري الإثيوبي لم تعد شأنا خاصا بالمحاكم الإسلامية فقط، وإنما أصبحت مسألة جامعة لقطاعات واسعة من الصوماليين، حتى أولئك الذين لم يكونوا يؤيدون المحاكم أصلاً، فقد بات واضحا أن الصوماليين يعطون الأولوية التصدي للاحتلال الإثيوبي، وليس لمعالجة الانقسامات الداخلية ما بين الحكومة والمحاكم الإسلامية، وإنما تحولت تلك الانقسامات إلى مسألة مؤجلة لما بعد الانتهاء من طرد قوات الغزو الإثيوبي. وهناك دور خاص في أعمال المقاومة للعشائر التي ينتمي إليها أغلب قادة وأعضاء المحاكم الإسلامية، وهي بالأساس عشيرة الهوية، التي تعد من أكبر عشائر جنوب ووسط الصومال، والتي باتت تمثل العشيرة الوعاء البشري الرئيس الذي تتركز فيه عمليات الحشد والتعبئة من جانب المحاكم الإسلامية، ما يمكن أن يوفر للمحاكم جانباً رئيساً من حاجاتها من الأفراد والسلاح والمؤن.. وغير ذلك. وقد دخلت عشيرة الهوية إلى حلبة الصراع المسلح بقوة ضد القوات الإثيوبية والحكومية، بعدما وجدت نفسها المستهدف الأساس من تنفيذ ما يعرف بـ"خطة أمن مقديشيوالتي شرعت القوات الإثيوبية والحكومية في تنفيذها في منتصف مارس 2007، وهي الخطة التي استهدفت ليس فقط القضاء على قوة بقايا المحاكم الإسلامية، ولكن أيضاً القضاء على قدرات العشيرة التي تدعمهم، أي عشيرة الهوية، ناهيك عن أن استهداف عشيرة الهوية يصب في إطار تصفية حسابات عشائرية قديمة، علاوة على السعي من ورائها إلى تثبيت مكانة الحكومة الانتقالية قوة مهيمنة وحيدة على الساحة السياسية الصومالية، إلا أن تلك الخطة لم تحقق أهدافها، حيث فوجئت القوات الإثيوبية والحكومية بمقاومة عنيفة من جانب عشيرة الهوية، ووقوع خسائر جسيمة على الجانبين، وبروز اتهامات لإثيوبيا وللحكومة الانتقالية بارتكاب جرائم حرب في هذه الاشتباكات، بما عاد بالوضع الأمني في مقديشيو سنوات عديدة للوراء.

2. تصاعد أعمال العنف على السواحل الصومالية

بتطبيق قواعد القانون الدولي المرعية التي تحدد مفهوم القرصنة في القانون الدولي البحري على الأفعال التي تتم قبالة السواحل الصومالية يمكن التوصل إلى النتائج التالية:

أ. أنها أعمال إكراه: موجهة للمال والأشخاص، وإنها ترتكب ضد السفن، وأداة ارتكابها هي السفن.

ب. لكنها لا ترتكب بقصد تحقيق كسب أو نفع خاص، أي بنية السلب والنهب، فلم يحدث أن سلبت حمولة أي سفينة، ولم تقتل أي من أفراد طاقم السفن المخطوفة، ولكن الخاطفين يطلبون فدية للإفراج عن السفن المختطفة، ولو كان الغرض من الاختطاف تمويل الحرب في الصومال لكان الأفضل سلب حمولة السفينة الأوكرانية التي تحمل على ظهرها 23 دبابة حديثة.

ج. أن معظمها لا ترتكب في البحر العام، وإنما في المياه الإقليمية للصومال، حيث تقوم سفن أوروبية وآسيوية وأفريقية بأنشطة صيد مكثفة في مياهها (يقصد المياه الإقليمية الصومالية)، ويزعم بعض القراصنة أن أنشطتهم تستهدف حماية الموارد الطبيعية للصومال، وإنه ينبغي النظر إلى أموال الفدية على أنها ضريبة شرعية. وعليه فإن الأفعال التي ترتكب لمواجهة نشاط السفن الأجنبية في المياه الإقليمية للصومال، إنما تعد عملاً من أعمال الدفاع الشرعي عن النفس لحماية الثروة السمكية للصومال، ولمنع السفن الأجنبية من إلقاء النفايات النووية على السواحل الصومالية أو لتحصيل رسوم مرور (عنوة)، في المياه الإقليمية للصومال، طالما أنه لا توجد حكومة مستقرة وقادرة على تحصيل هذه الرسوم. وليس يجدي في هذا المقام التذرع بأن عدم وجود حكومة صومالية قادرة على حماية مياهها الإقليمية يسمح بهذه النشاطات غير المشروعة للسفن الأجنبية في المياه الإقليمية للصومال، فما زال العالم حتى تاريخه يعترف بوجود قانوني للدولة الصومالية، رغم انهيارها فعلياً، وكثير من حكومات العالم تعترف بالحكومة الانتقالية في جنوب الصومال، وبرئيس الدولة الصومالية عبدالله يوسف، وعليه فإن هذه الأفعال غير المشروعة من جانب السفن الأجنبية في المياه الإقليمية للصومال إنما يعطي مبرراً أقوى لأية جماعة صومالية لمواجهة هذه الأفعال إعمالاً لمبدأ الدفاع الشرعي عن النفس.

د. ويبدو أن ثمة وكالة مشروعة من جانب الحكومة الانتقالية، وإن كانت غير معلنة لبعض الرعايا الصوماليين للإتيان بهذه الأفعال، فوفقاً لما تذهب إليه العديد من التقارير إن بعض أموال الفدية تذهب إلى عبدالله يوسف ـ عندما كان رئيساً للدولة تعبيراً عن حسن النية تجاه قائد إقليمي.

استناداً إلى ما تقدم يمكن الإقرار بأن أركان جريمة القرصنة لا تنطبق على الأفعال التي ترتكب قبالة السواحل الصومالية، صحيح أنها أعمال إكراه، لكنها لا ترتكب في البحر العام، ثم إنها لا تستهدف مكسباً خاصاً، وإنما تستهدف حماية الموارد الطبيعية للصومال من جهة، وتحصيل رسوم (جبراً)، عن مرور السفن في المياه الإقليمية الصومالية إزاء عجز الدولة عن القيام بذلك من جهة ثانية، ثم إنه يبدو أن هناك وكالة مشروعة من جانب الحكومة الانتقالية (وإن كانت غير معلنة)، للقيام بهذه الأفعال من جهة ثالثة، وفضلاً عما تقدم فإن استمرار الحصار الجائر للسواحل الصومالية من جانب السفن الأجنبية تحت دعاوى مكافحة الإرهاب، ومخافة انتقال نشاط القاعدة إلى الصومال إنما يدفع ببعض فئات المجتمع الصومالي لكسر هذا الحصار لمواجهة ظروف المجاعة والقحط الذي يضرب الصومال. ويلاحظ أن كانت هناك محاولة لاتهام اتحاد المحاكم الإسلامية (وحركة شباب المجاهدين التي تصفها الإدارة الأمريكية بالإرهابية)، بالقيام بهذه الأفعال لتمويل مجهودها الحربي في مواجهة الحكومة الصومالية الانتقالية المدعومة بقوات إثيوبية تحت المظلة الأمريكية . غير أن واقع الحال يشير إلى أن نشاط حركة الشباب وعملياتها يبتعد كثيراً عن المناطق التي تجري فيها عمليات اختطاف السفن، وذلك أن عمليات هذه المنظمة تجري في البر، وفي جنوب الصومال، بعيداً عن مسرح عمليات اختطاف السفن، وعلى العكس مما تقدم فقد كانت الفترة الوحيدة التي اختفت خلالها فعلياً القرصنة حول الصومال، هي فترة حكم اتحاد المحاكم الإسلامية الذي استمر ستة أشهر في النصف الثاني من عام 2006، وقد عادت القرصنة بعد الإطاحة بحكم المحاكم الإسلامية، فعقب غزو القوات الإثيوبية للصومال، واستيلائها على العاصمة مقديشيو، مع قوات الحكومة الانتقالية ازدادت عمليات القرصنة، بل إن مسؤولي ميناء مقديشيو قدموا العديد من التسهيلات للخاطفين، أي أن هذه العمليات تمت تحت سمع وبصر، الحكومة الانتقالية وقوات الغزو الإثيوبية بل وبمساعدتهما، "فأين دور حركة الشباب، واتحاد المحاكم الإسلامية في هذه الأفعال"؟

والجدير بالذكر أنه منذ عام 2008 فإن الغالبية العظمى من عمليات ما يسمى بالقرصنة جدت في خليج عدن، وهذه المنطقة تبعد كثيراً عن مناطق عمليات حركة الشباب إذ أنها تقع على سواحل بلاد بونت في أقصى الشمال الشرقي للبلاد، والثابت أن هذه المنطقة التي تتمتع بشبه حكم ذاتي في شمال شرق الصومال، تمثل قاعدة لمعظم عمليات اختطاف السفن في الصومال.. وهي مسقط رأس الرئيس عبدالله يوسف، وعليه فإن أعمال القرصنة لم ترتبط من قريب أو من بعيد باتحاد المحاكم الإسلامية (حركة الشباب)، وإنما ارتبطت زماناً ومكاناً بالحكومة الانتقالية ـ وحليفتها قوات الغزو الإثيوبية ـ وبشخص رئيس الدولة عبدالله يوسف، ويشاركها في ذلك شركات الأمن الأجنبية التي استأجرتها بونت لاند (موطن الرئيس عبدالله يوسف، وهي من أكثر المناطق استقراراً وازدهاراً في الصومال إذا قورنت بغيرها من مناطق الصومال وبالتالي ليست في حاجة لشركات أمن)، والحكومة الانتقالية الصومالية. وبمراجعة ملف شركات الأمن الأجنبية في الصومال يلاحظ أن الحكومة الانتقالية، وحكومة بلاد بونت، قد عقدتا العديد من الاتفاقات مع شركات أمن فرنسية، وأمريكية، وكندية لتأمين السواحل، ومكافحة القرصنة، غير أن ثلاثة من موظفي الشركة الكندية سومكان Somcan قد حكم على كل منهم بالسجن مدة عشر سنوات في تايلاند بسبب تورطهم في أعمال القرصنة إذاً فمكان العمليات وزمانها وفاعلوها، يشير إلى إن المتورطين في عمليات اختطاف السفن ليسوا اتحاد المحاكم الإسلامية (ولا حركة الشباب)، وإنما الحكومة الانتقالية وإدارة بلاد بونت وقوات الغزو الإثيوبية المدعومين بشركات الأمن الأجنبية تحت المظلة الأمريكية ، خاصةً مع يتمتع به الخاطفون من مهارات، وما يمتلكونه من وسائل اتصالات متقدمة، وأسلحة حديثة.

في ظل التفسير الأول، الرامي إلى أن الأفعال التي ترتكب قبالة السواحل الصومالية، لا ينطبق عليها وصف "القرصنة" وفقاً لما درج عليه القانون الدولي البحري، وإنما يمكن إدراجها في أعمال الدفاع الشرعي عن النفس، فإن التفسير الثاني الذي يلقي بمسؤولية هذه الأفعال ـ على أطراف أربعة (هي الحكومة الانتقالية، وبلاد بونت، وقوات الغزو الإثيوبية، وشركات الأمن الأجنبية، فضلاً عن الرعاية الأمريكية)، لا يمكن لهذا التفسير أن يجعل من هذه الأفعال عمليات "قرصنة" بل هي تتعداها إلى ما هو أبعد من ذلك لتصبح شكلاً من أشكال "إرهاب الدول" الذي ترعاه الولايات المتحدة الأمريكية تحديداً مستخدمة في ذلك حلفاءها: الحكومة الانتقالية، وبلاد بونت، وقوات الغزو الإثيوبية، وشركات الأمن، تنفيذاً لأجندتها العالمية الخاصة.

ولعل ما سبق يطرح التساؤل الأخير وهو: من الجهة المستفيدة؟ ومن الواضح أن المستفيد الأول، بل وربما الوحيد، من هذه الأعمال هي الولايات المتحدة الأمريكية خاصةً وقد كان بمقدورهاـ ولا يزال ـ إيقاف هذه الأعمال بإنزال بري أو بحري على السواحل الصومالية انطلاقاً من جيبوتي حيث ترابط قواتها بالقاعدة الفرنسية هناك، أو من قاعدتها في دييجو جارسيا في المحيط الهندي أو من أسطولها والأساطيل الغربية المنتشرة قبالة السواحل الصومالية، خاصةً إن السفن المختطفة تسحب إلى الموانئ الصومالية، (ميناء إيل تحديداً في بلاد بونت، بل إن الخاطفين يتجمعون في مقهى دينجي في الميناء، وإن من يطلق عليهم "قراصنة" ينطلقون من هذا الميناء متزودين بالمؤن والوقود، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية اكتفت بالترويج لهذه الأعمال، بحثاً عن تحالف دول (غربي، وآسيوي، وعربي)، لمواجهة هذه الظاهرة، وسعياً منها لتحقيق نوع من الإجماع الدولي يضفي شرعية على أجندتها "الخفية". ويدل ما تقدم على ما يلي:

أ. أن الولايات المتحدة الأمريكية تسعي إلى تقويض أركان ومبادئ القانون الدولي تمهيداً لفرض مشروعها الإمبراطوري على العالم، الذي لا يقبل بوجود دولة وطنية ذات سيادة تعارض الهيمنة الأمريكية ، فقد أهدرت الولايات المتحدة الأمريكية مبادئ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، وقوضت مبدأ السلامة الإقليمية، ومبدأ حق الدفاع الشرعي عن النفس، ومبدأ المساواة في السيادة بين الدول، ووصمت حركة المقاومة للاحتلال بالإرهاب، وعملت على إحلال مبدأ "شخصنة" القوانين محل مبدأ إقليمية القوانين، وبموجبه أصبح مواطنو الولايات المتحدة الأمريكية أينما وجدوا في أية دولة لا يخضعون لقوانين هذه الدول، وإنما للقوانين الأمريكية التي تظلهم بالحماية وتلاحقهم بالعقاب أينما وجدوا، بل وتلاحق أي إنسان بالعقاب في أي بقعة من الأرض طالما اتهمته بالإرهاب.

ب. ويؤكد ما سبق الإشارة إليه أن الولايات المتحدة الأمريكية قد سيطرت، وتحاول أن تسيطر على جميع الممرات المائية الدولية، فهي تسيطر على قناة بنما، وقد أتاح لها غزوها للعراق السيطرة على مضيق هرمز في الخليج العربي، وأصبح مضيق جبل طارق تحت سيطرتها مع قبول المغرب استضافة مقر القيادة العسكرية الأمريكية (أفريكوم)، وها هي تعمل حثيثاً وتسعى لإيجاد المسبوغ، والغطاء الدولي، للسيطرة على طريق التجارة الدولية عبر مضيق باب المندب في اتجاه قناة السويس، وفي اتجاه ممر الكيب البحري، تحت دعاوى مكافحة الإرهاب مرة، ومكافحة عمليات القرصنة مرة أخرى ولربما يمكنها ذلك في مرحلة تالية من السيطرة على جزيرة سومطرة اليمنية (وهي أقرب إلى السواحل الصومالية من السواحل اليمنية)، خاصةً أن الحكومة اليمنية قد رفضت قبول عروض أمريكية باستئجارها.

ج. يؤكد ما تقدم أيضاً أن أعمال القرصنة أكثر ازدهاراً في منطقة دلتا النيجرـ جنوب نيجيريا، حيث مناطق إنتاج النفط ـ ولا نجد حشوداً عسكرية ولا ضجة إعلامية أو دبلوماسية حول هذا الموضوع على اعتبار عدم وجود ممرات بحرية دولية في هذه المنطقة.

د. ويبقى تساؤل أخير: لماذا هذه الضجة في الوقت الراهن، والسعي لإضفاء مشروعية الأمم المتحدة على اتخاذ إجراءات عقابية ضد خاطفي السفن قبالة السواحل الصومالية؟ إن الإجابة عن هذا التساؤل تبدو واضحة إذا علمنا أن قوات التدخل العسكري الأمريكية قد هزمت في الصومال، وأمراء الحرب في الصومال الذين ساندتهم الولايات المتحدة الأمريكية قد هزموا منتصف عام 2006 على يد اتحاد المحاكم الإسلامية، ثم إن قوات الغزو الإثيوبية (التي تدخلت لمساندة الحكومة الانتقالية في الصومال، بغطاء ومساعدة أمريكية)، باتت على وشك الهزيمة هي وقوات الحكومة الانتقالية مع تقدم حركة الشباب نحو العاصمة مقديشيو، بعد سيطرتها على معظم أنحاء جنوب الصومال، وإزاء وضع كهذا يبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية بفتحها ملفي الإرهاب والقرصنة (على غير الواقع)، إنما تريد تشكيل تحالف دولي يمكنها من السيطرة على الصومال على نحو ما فعلت في غزوها لأفغانستان.

3. تعاظم تدخل الولايات المتحدة الأمريكية في الشؤون الداخلية الصومالية

كان للولايات المتحدة الأمريكية دورًا في إيجاد جذور أزمات الصومال المتتالية، منذ أنْ رفضت المقترح البريطاني عام 1944م، بتوحيد البلاد، ويوجد هنا باب التشابه بين عداء الصوماليين للولايات المتحدة وعداوة العرب لبريطانيا بسبب وعد بلفور الذي منح اليهود حقوقًا ليست لهم في فلسطين. وبعد سقوط الحكومة المركزية في العام 1991م، أصبح الصومال محط أنظار الطامعين، وتدهورت الأوضاع إلى درجةٍ كبيرةٍ وانتشرت المجاعات والأمراض الوبائية في طول البلاد وعرضها، فالمساعدات كانت آنذاك مقتصرة على بعض المنظمات غير الحكومية الأوروبية واستمر الحال على ذلك آخذًا في التدهور. وفي نوفمبر من العام 1992م، قرر الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الأب إرسال 23 ألف جندي أمريكي إلى الصومال بغية إعادة الأمن والاستقرار في هذا البلد. وبعد خمسة أشهر من الإنزال الأمريكي سحبت غالبية عناصر الجيش الأمريكي من الصومال، تحت وطأة المقاومة، وبقي قسم قليل سُلِّمت قيادته للأمم المتحدة، ثمَّ قتلت المقاومة الصومالية في 3 أكتوبر عام 1993م 18 من القوات الأمريكية ، وسحلوا عددًا من الجنود الأمريكيين في بعض الشوارع، وتلقت القوات الأمريكية في الصومال هزيمةً نكراء، قررت الإدارة الأمريكية على إثرها سحب قواتها من الصومال مطلع عام 1995م، ثم تلتها باقي الدول المتعددة الجنسيات التي كانت لها قواتٌ هناك. وفي أثناء تلك الفترة العصيبة شرعت الولايات المتحدة الأمريكية في إرسال مبعوثٍ جديدٍ في محاولةٍ لحل المشكلة الصومالية، وكانت إبريل جلاسبي التي عقدت أكثر من جولة محادثاتٍ لحل الأزمة التي تتفاقم منذ ذلك الحين، إلا أنَّ كل هذه التحركات الدبلوماسية باءت بالفشل. وفى نهاية عام 2006م ساعدت الولايات المتحدة الأمريكية إثيوبيا على احتلال الصومال، وكانت إثيوبيا بمنزلة الذراع الأمريكية في الحرب بالوكالة ضد نظام المحاكم الإسلامية الذي استولى على حكم الصومال، وحقق درجةً كبيرةً من الأمن والاستقرار هناك، وكانت أديس أبابا تمثل اليد الأمريكية في المنطقة، والتي تستخدمها الولايات المتحدة الأمريكية كيفما تشاء، لمحاربة ما يسمى بالإرهاب العالمي، وأخيرًا فشل التدخل الإثيوبي في الصومال، وسحبت أديس أبابا قواتها من الصومال، فاقدةً الأطماع التي كانت تطمح بها قبل دخولها من الصومال. وإثيوبيا والصومال بلدان على طرفَيْ النقيض في التاريخ القديم والحديث، ودائمًا تتضارب مصالحها، فالعداوة بين هذَيْن البلدين تعود إلى أكثر من 500 عام، وشهد القرن العشرين المنصرم معارك قادها الزعيم السياسي والديني الصومالي محمد عبدالله حسن لنيل الحرية والاستقلال من براثن الغزو الحبشي الذي كان يحتل بعضًا من الأراضي الصومالية في مطلع القرن العشرين. وفي العام 1964م، اندلع نزاع مسلح حول إقليم الأودجادين الذي يشكل الصوماليون أغلبية سكانه، ومنذ استقلالها في العام 1960م ترفض الصومال التي يبلغ طول حدودها المشتركة مع إثيوبيا حوالي 1600 كيلومترًا، الرسم الحدودي الموروث عن العهد الاستعماري. وفي عام 1977م – 1978م بدأت المشكلة من جديد حول السيطرة على الإقليم، وألحقت إثيوبيا بزعامة مانجيستو هايلي ماريام المدعومة بقوات كوبية وخبراء سوفيت، الهزيمة بالقوات الصومالية التي لم تجد دعمًا من أيِّ جهةٍ مسلمةٍ أو عربيةٍ أو شيوعيةٍ. وفي العام 1988م، وقَّع البلدان اتفاق سلامٍ أنهى عشر سنوات من العداوة بين البلدين، ونص الاتفاق على إعادة العلاقات الدبلوماسية المقطوعة في زمن الحرب من جديدٍ. وفي العام 1996م دخلت القوات الإثيوبية جزء من الأراضي الصومالية التي تقع على الحدود، ما أدى إلى نشوب حربٍ بينها وبين حركة الإتحاد الإسلامي التي كانت تسيطر على عدة أقاليم في جنوب الصومال في حينه.

وفي عام 2000، وبعد تنصيب عبدي قاسم صلاد حسن رئيسًا للصومال، دعمت إثيوبيا أمراء الحرب للقضاء على الحكومة الجديدة التي حظيت بتأييدٍ شعبيٍّ واسع النطاق، وبالفعل أفلح أمراء الحرب في إسقاطها. وفي منتصف عام 2006 عندما سيطر الإسلاميون على أجزاءٍ واسعةٍ من الصومال، بدأ الإثيوبيين في توسيع نفوذهم إلى حدٍّ أخاف إثيوبيا من سيطرة المحاكم الإسلامية، وفي 12 ديسمبر من العام 2006، أمهلت المحاكم الإسلامية القوات الإثيوبية الموجودة في مدينة بيداوا أسبوعًا للانسحاب من الصومال ـ وإلا ستشن هجومًا على أراضيها، إلا أنَّ أديس أبابا نفت قيامها بنشر قواتها، وفى أواخر العام 2006، دخلت القوات الإثيوبية في مقديشيو، وتحديدًا في 28 ديسمبر، . وفى 14 من يناير 2009م بدأت القوات الإثيوبية في الانسحاب من مقديشيو بموجب اتفاق جيبوتي مع جناح شيخ أحمد في تحالف إعادة تحرير الصومال، وأتمت إثيوبيا انسحابها من البلاد في 21 يناير 2009.