إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الحرب الإيرانية ـ العراقية، من وجهة النظر العربية





مناطق النفوذ في العالم
موقع الجزر الثلاث
منطقة جزر مجنون
إصابة الفرقاطة الأمريكية STARK
مسارح الصراع البرية والبحرية
معركة الخفاجية الأولى
معركة تحرير الفاو
معركة سربيل زهاب
الهجوم الإيراني في اتجاه عبدان
الإغارة الثالثة على دهلران
التشابه بين مضيقي تيران وهرمز
العملية رمضان
العملية فجر ـ 8
العملية فجر ـ 9
الغارة الإسرائيلية الثانية
القواعد البحرية الإيرانية في الخليج
اتفاقية سايكس ـ بيكو 1916
حادث إسقاط الطائرة الإيرانية
حدود المياه الإقليمية الإيرانية
حرب الناقلات

مناطق إنتاج النفط
أوضاع القوات العراقية والإيرانية
مسلسل العمليات كربلاء (1 – 9)
مسرح العمليات (الاتجاهات الإستراتيجية)
مسرح العمليات (التضاريس)
مسرح العمليات والدول المجاورة
الموقع الجغرافي للعراق وإيران
المنطقة الكردية
الهجمات الثانوية للعملية بدر
الهجوم المضاد الإيراني العام
الأفكار البديلة للعملية خيبر
التواجد الأجنبي في الخليج
التجمع القتالي لقوات الطرفين
العملية مسلم بن عقيل
العملية بدر
العملية فجر النصر
القواعد والتسهيلات الأمريكية
القواعد والتسهيلات السوفيتية
بدء الهجوم العراقي
تضاريس المنطقة الإيرانية
تضاريس العراق
تقسيم إيران
سلسلة العمليات فجر
طرق المواصلات بالشرق الأوسط
فكرة الاستخدام للقوات الإيرانية
فكرة الاستخدام للقوات العراقية



حرب عام 1967

المبحث الثامن

الموقف المحلي (الداخلي)، لطرفَي الحرب

أولاً: الموقف داخل إيران

1. ولاء المجتمع الإيراني، عشية بدء الحرب

معظَم الشعب الإيراني من طبقة صغار الفلاحين والعمال. بينما لا تتجاوز الطبقة المتوسطة الصغرى خُمْس التعداد. والقِلة هي الطبقة المتوسطة العليا والطبقة الأعلى[1]. وكان كل الطبقات في عداء مع نظام حُكم الشاه، عدا الطبقة الأخيرة، ومؤيدة للثورة الإسلامية. وظل الوضع على هذا الحال، حتى وصول الثوار إلى الحكم. وبمرور الزمن تناقص تأييد الطبقة المتوسطة الصغرى، ولا سيما المتعلمين العصريين، للحُكم الثوري، إذ لم يحصلوا على أمانيهم، إنشاء نظام ديموقراطي.

تضم إيران عدة قوميات، في تركيبها الأثنولوجي. أكثرها عدداً العنصر الفارسي، ومعظَمه من الشيعة. ثم البلوشي والأكراد والتركمان، بنِسب متساوية، ثم العرب. ومعظم العناصر غير الفارسية سُنية المذهب (عدا تركمان الشمال والشمال الشرقي، فمعظَمهم من الشيعة)[2]. ومعظَم القوميات معادية لنظام الشاه، ومؤيدة للثورة. وقد تناقص حماسهم لها، خاصة غير الفرس، وغير الشيعة (الأكراد والعرب).

وفي القوات المسلحة، كانت القوات البحرية أقرب إلى الشاه. وكذا، معظَم قيادات القوات البرية. بينما أيدت القوات الجوية الثورة، منذ البداية[3]. وقد تعرضت القوات المسلحة الشاهنشاهية لحملات تطهير، أضعفت من قوّتها، إذ فقدت الخبرات القديمة والقيادات ذات الكفاءة، خلال تلك الحملات. كما أن معظَم القيادات الإمبراطورية، لجأت إلى خارج إيران، مع دلائل نجاح الثورة[4].

يُعَدّ المثقفون، وعلى رأسهم الجامعيون، من القوى الاجتماعية الرئيسية، والأكثر تأثيراً في المجتمع، لِما لها من قوة إقناع. حيث تمتلئ ساحات الجامعات بالتنظيمات اليسارية والليبرالية، ولم تكن تلك الطبقة على وفاق مع الثورة، وإن أيدتها، في البداية، وهي معادية لنظام الشاه ومعارضة، كذلك، للنظام الثوري الإسلامي المنشود.

2. النظام السياسي للجمهورية الإيرانية الإسلامية

يترأس النظام السياسي الزعيم الديني، الإمام الخميني، قلب الثورة وعقلها. وهو يتمتع بتأييد مطلَق من كافة الأطراف المؤيدة للثورة. وقوله الفصل في النزاعات بينها.

أكبر التنظيمات السياسية هي الحزب الجمهوري الإسلامي، الذي ظهر بعد نجاح الثورة، كتنظيم رسمي. وهو يسيطر على معظَم مقاعد المجلس التشريعي (البرلمان). ومعظم أعضائه من رجال الدين الشيعة[5]. وللحزب جناحان ذَوَا أهمية بالغة في فاعلية تنظيمه. فجناحه المدني، على صِغر حجمه، يرأسه رئيس الوزراء، محمد رجائي 1981، وهو معروف بعدم وفاقه مع رئيس الجمهورية المنتخَب، الحسن بني صدر، وهو مدني، كذلك. أمّا جناحه العسكري (الحرس الإسلامي)، فقد أنشئ للدفاع عن الثورة، ضد العسكريين أو غيرهم، وإحباط أي محاولة انقلابية.

يُعَدّ المدنيون، من المثقفين والمهنيين، ذوي التعليم العلماني الحديث، والمؤيدين للأمام الخميني، جناحَ السلطة الحاكمة المدني. وهم ذَوُو توجهات إسلامية، تقربهم من الإخوان المسلمين في مصر. ومعظَمهم ذَوُو خبرة خارجية بالانفتاح على الخارج[6]. وهناك تنافس بين الجناح المدني والجناح الديني للسلطة الحاكمة، من دون أن يصل إلى حدّ الصراع العدائي. ويسيطر الجناح المدني على مجلس الوزراء، ورئاسة الجمهورية، بما يتمتع به رئيس الجمهورية من شعبية، وثِقة لدى الأمام الخميني. بينما يسيطر الجناح الديني على البرلمان، بأغلبية كثيرة، مما يتيح له القيام بمزايدات سياسية، تُحرِج الحكومة، خاصة في السياسة الخارجية.

هناك عده تنظيمات سياسية معارضة، خارج الحكم. بعضها كان معارضاً، كذلك، إبّان حُكم الشاه. وأهم هذه التنظيمات:

أ. حزب توده الشيوعي

من أكثر الأحزاب السياسية تنظيماً، ولكنه لا يتمتع بتأييد شعبي. وتسببت مواقفه المتقلبة، خلال الأحداث، السياسية والوطنية، بضعف شعبيته. وعلى الرغم من خلافه الجوهري مع الإمام الخميني، فإن الحزب من مؤيديه. لذا، فإن السلطة الحاكمة لم تتعرض له، في الفترات الأولى للثورة، وإن كانت لا تثق بإخلاصه.

ب. حزب "فدائي الشعب" (الفدائيين)

تجمع ماركسي ذو توجهات إٍسلامية! معظَمه من الجامعيين (طلبة وخريجين)، من الطبقة المتوسطة الصغرى، المتأثرة بكتابات على شريعتي. حدثت بينهم وبين السلطة الحاكمة صدامات دموية، أدت إلى لجوئهم إلى العمل السري، واضطرت الحكومة إلى إقفال الجامعات، لسيطرتهم على الشباب فيها.

ج. حزب مجاهدي الشعب (المجاهدين)

إسلاميون ذَوُو توجهات اشتراكية! منشقون عن التنظيم الأساسي، الذي كان يجمعهم و"الفدائيين". لذا، فهُم من الطبقة والفئة نفسهما. صارعوا حكم الشاه معهم، قبْل أن ينشقوا عنهم، في نهاية حُكمه. وتحولوا، مثل الفدائيين، إلى العمل السري، في الفترة الأخيرة.

د. الجبهة الوطنية

قدامى السياسيين، أتَّبعوا الوسائل السلمية، في صراعهم ضد حكم الشاه السابق. توجهاتهم ليبرالية ديموقراطية. ترجع جذورهم إلى حُكم رئيس الوزراء الوطني، مصدَّق، في الخمسينيات[7]. معظَمهم كبير السن (فوق الستين). ليس لهم تنظيم سياسي ثابت. يتمتعون بنفوذ وتأييد في الطبقة الوسطى للشعب الإيراني.

3. الثورة ضد حُكم الشاه

كان أهم أسباب الثورة، وازدياد شعبيتها، ضد الشاه، انتشار الفقر بين غالبية أفراد الشعب، على الرغم من ثروة إيران النفطية الضخمة، وثرواتها الطبيعية الأخرى، التي كانت تنفَق على تسليح الجيش وبناء القصور. وقد أشعل القمع الدموي، الذي مارسته أجهزة الأمن والسلطة، نار الثورة، خاصة عندما تعرض له رجال الدين الشيعة.

التقت القوى، السياسية والشعبية، بهدف إسقاط نظام الحُكم. وساعد تصاعد التيار الديني على نشر روح الثورة، وهيأ نفسه لتولّى السلطة، مستثمراً تعاطف الشعب مع زعماء الدين الشيعة، الذين لاقوا أقسى اضطهاد. في بداية عام 1978، شهدت إيران تفجُّر الأوضاع الداخلية، وعمّت المظاهرات والاشتباكات المدن الرئيسية، تحت ضغط الظاهرة الخمينية[8]، التي قادت التيار الشيعي الموجِّه للثورة، والتي تُعَدّ رد فعل لتصاعد التيار القومي الفارسي، على حساب الدين، منذ عصر الشاه رضا بهلوي[9].

تأثرت الأوضاع الداخلية في إيران بالممارسات العنيفة، لبعض زعماء الثورة الإيرانية، مما أضعف شعبيتها، تدريجياً. وكان أكثر الإجراءات الثورية عنفاً، تلك التي اتخذتها اللجان الثورية، بأحكامها القاسية، التي أدت إلى نفور قطاع عريض من الشعب من الثورة. كما كانت سبباً في تمزق صفوف الثورة الداخلية نفسها. وكانت القيادات العسكرية أكثر الطوائف القيادية تأثراً بممارسات تلك اللجان الثورية، التي أطاحت معظَم القادة، بعد فرار الشاه وأتباعه. فأفرغت القوات المسلحة من عناصر الخبرة والكفاءة، وهو ما أثّر في أدائها مع بدء الحرب.

وبتصاعد التوتر في المنطقة، الذي كان يُؤْذِن بمواجهات عسكرية، التَفّ الشعب، والأحلاف المختلفة، القديمة والجديدة، حول السلطة الحاكمة نابذين خلافاتهم، مؤقتاً. وقد ساعد على ذلك الشعور القومي الفارسي، والكراهية للنفوذ الأمريكي في البلاد، الذي كان قد وصل إلى مداه، في عصر الشاه السابق[10]، وأدى إلى حادث اقتحام السفارة الأمريكية، في طهران، واحتجاز الرهائن بها، عقب الثورة. كما أن العلاقة المتوترة مع العراق، والشك في نيات النظام العراقي، خاصة مع الحملة الدعائية البعثية المركزة، الداعية إلى الإثارة العنصرية في إيران، والادعاءات المغلوطة أحياناً[11] زاد من تماسك الطوائف الشعبية المختلفة والتفافها حول القيادة الجديدة للدولة. وكان استمرار وحدة الطوائف والفئات المختلفة، مرهوناً، في وقت الحرب، بحسن أداء القوات المسلحة الإيرانية، التي توقع الكثيرون أن تقوم بانقلاب مسلح، لمصلحة الغرب، حال هزيمتها، أو يتمكّن حزب توده الشيوعي (وحده، أو بالتحالف مع المجاهدين والفدائيين) من الاستيلاء على السلطة. ولم يكُن أمام الثورة الإسلامية، بجناحيها، المدني والديني، سوى الانتصار في الحرب، أو المحافظة على حدود الدولة، كحد أدنى.

ثانياً: الموقف داخل العراق

على عكس ما كان يجري داخل إيران، عقب الثورة، من اضطرابات وتغيير جذري في رتابة الحياة اليومية للشعب، فإن المجتمع العراقي، كان يتم حشده وإعداده، معنوياً ومادياً، بكافة طبقاته. كانت الشواهد تؤكد تخطيط القيادة السياسية العراقية، لاحتمال نشوب حرب طويلة، نسبياً. فعملت على تجهيز الجبهة الداخلية لمثل هذه الأحداث.

بعد استقلال العراق، عام 1932، تولّى العرش الملك القاصر، فيصل الثاني، تحت وصاية خاله، الأمير عبد الإله (1939)، حتى أطاحه انقلاب عسكري، بقيادة عبدالكريم قاسم، الذي قضى على النظام الملكي، وأعلن الجمهورية (14 يوليه 1958). وظل الحُكم في العراق ينتقل من حاكم إلى آخر، بانقلاب عسكري، يطيح السابقين، باغتيال الحاكم السابق ومطاردة أعضاء الحكومة، حتى انقلاب أحمد حسن البكر، في 17 يوليه 1968[12]. وفي 16 يوليه 1979، استقال البكر[13]، ليعين مجلس قيادة الثورة صدام حسين، أقوى شخصية فيه، رئيساً للدولة، ورئيساً لمجلس قيادة الثورة، ورئيساً للوزراء. وبتجميع المناصب الكبرى في يد شخص واحد، استطاع العراق، بعد فترة طويلة من عدم الاستقرار، أن يصل إلى وضع بعض الترتيبات لسياسة حكم مستقرة، نسبياً.

1. اعتلاء حزب البعث العراقي لِقِمة الحُكم

واجَه حزب البعث العراقي، في البداية، خصومة شديدة من الحزب الشيوعي العراقي، غير الرسمي، الذي كان قد بلغ ذروة قوّته، عام 1959، بتعداد تجاوز 25 ألف عضو عامل، ونصف مليون مؤيد منتظِم، مما أعطاه قاعدة عمل متسعة لدى الجماهير. لكن حزب البعث، الذي لم يتعدَّ تعداده، في ذلك الوقت، 1200 عضو عامل، و200 عضو مؤيد، استطاع تجاوز مرحلة حُكم عبدالكريم قاسم، حين تعرض لمحاولات القضاء عليه، قلصت من أعداد أعضائه، وتبنّى سياسة دينية وسطاً، تواجِه الإلحاد الماركسي. وظهر أمام الشعب، في ثوب المحافظ على الدين، واعتمد على فتاوى رجال الدين، في مواجهة الشيوعيين ونشَر دراسات للزعيم الشيعي، محمد باقر الصدر[14].

واصل البعثيون التغلغل في صفوف الشعب، لاستقطاب طبقتَي العمال والفلاحين. كما عملوا تحت شعارات الناصرية، المزدهرة في الخمسينيات والستينيات، مما أكسبهم تأييداً شعبياً كبيراً. وتحوّل البعثيون إلى حزب قومي، شارك بجهد كبير في إسقاط حكم عبدالكريم قاسم. وتعاونوا مع الرئيس الجديد عبدالسلام عارف. إلا أن المصالح الشخصية، والصراع الحزبي، أدّيا إلى تضاؤل قوة الحزب، في الفترة من 1963 إلى 1968.

بعد انهيار حكم البعث السوري، عقب انقلاب سبتمبر 1966، لجأ عدد من قياداته إلى العراق، حيث الفرع الآخر للحزب. واستثمر البعث العراقي فرصة إيوائه المطرودين من سورية، لإقناع الجماهير العربية بأصالة الفرع العراقي، ودفاعه عن القومية العربية.

حدث انقلاب في العراق، في منتصف يوليه 1968، شارك فيه البعث والمستقلون. وأقصوا عبدالرحمن عارف من الرئاسة[15]، وتولى الحُكم أحمد حسن البكر، الذي أتاح للبعثيين الاستيلاء الكامل على السلطة، قبل أن ينتهي شهر الانقلاب (يوليه 1968) وأقصى المستقلون، واستخدم العنف والقوة، ضد كل من لا يؤيد الحزب.

أدّى وجود زعماء البعث السوري المنفيين في العراق[16]، إلى توتر العلاقات بسورية، التي تدهورت بشكل حادّ، منذ عام 1975. كما لم يكُن لفرع الحزب في الأردن شعبية تذكَر. وارتكز الحزب، في مساره الجديد، على استقطاب الأقليات من المذاهب الإسلامية الأخرى، وكذا غير المسلمين[17]! متغاضياً عن ثوبه الديني السابق. وأسفر العنف مع سيطرة الأقليات على المجموعات الحزبية على انعزال الحزب عن الشعب. ولجأ قادة الحزب الحاكم إلى البطش، مستخدمين قوة الجيش، وانقلبوا إلى منظمة شبة عسكرية، وارتدوا الملابس العسكرية.

2. إعداد الشعب العراقي للمعركة

أدى طول فترة الحكم البعثي، قبْل نشوب الحرب (1968 ـ 1980)، ووصول صدام حسين إلى الحكم من خلال انقلاب سياسي سلمي، للمرة الأولى في العراق، إلى توحيد أركان الحُكم البعثي، وزيادة انتشاره. وساعد ذلك على إجراءات إعداد الجبهة الداخلية في العراق، قبْل الحرب، إذ تمت التعبئة المعنوية للشعب، وطنياً وقومياً، باستنفار الوطنية العراقية والمطالبة بالحقوق المغتصبة في شط العرب، وإثارة المشاعر العربية القومية لدى العراقيين، بتذكّر الاغتصاب الإيراني للجزر العربية الثلاث، واستعداء العرب على الفرس، والتذكير بمعركة القادسية.

تنفيذاً لمخططات الحاكم في العراق، على الصعيد الاقتصادي، استُوردت كميات كبيرة من السلع الغذائية والاستهلاكية، تحسباً لتطورات الحرب المرتقبة. وقد أثقل ذلك الميزان التجاري للدولة وأرهق اقتصادها. بينما عكست التكديسات الغذائية، وتضخّم المخزون من البضائع، التي أتيح للشعب الحصول عليها بسهولة، حجم المخاوف لدى المسؤولين من أن يطول زمن الحرب، وضرورة عدم إشعار المواطنين بذلك[18].

للهدف عينه، قام النظام العراقي الحاكم برفع الرواتب والأجور، بشكل غير معتاد، خلال العامين السابقين على بدء الحرب (1978 ـ 1979)، حتى يتاح للطبقة المتوسطة القدرة على مواجَهة ارتفاع الأسعار المتوقَّع، والمصاحِب، دائماً، للأزمات والحروب، وزيادة إحساس المواطِن العراقي بتأمين ضرورياته، مما يرفع من معنوياته، ويزيد من ولائه للحُكم.

3. تأمين الجبهة الداخلية العراقية، سياسياً وعسكرياً

استكمالاً، لِما كان النظام الحاكم قد بدأه، منذ وصوله إلى السلطة، فإن التأمين السياسي للجبهة الداخلية، استدعى أن يقوم النظام الحاكم، حفاظاً على مكاسبه الحزبية والسلطوية، من وجهة نظر الحاكم[19]، "بالتخلص من كل مراكز المعارضة السياسية المنظمة، أو تقليصها إلى الحدّ، الذي لا يصبح لديها فيه فاعلية تذكَر". وفي العامين السابقين على الحرب، كان النظام الحاكم قد أكمل القضاء على الشخصيات البارزة، وعلى رأسها الرئيس البكر، والقيادة القُطرية للحزب. وقد سبق ذلك حملات تطهير، خارج الحزب، شملت الناصريين والقوميين والشيوعيين.

اختلف الحال، على الصعيد العسكري، إذ عُيِّنت القيادات العسكرية، ذات الكفاءة العالية، في المناصب العليا في القوات المسلحة، من دون النظر إلى انتماءاتها الحزبية. وهو ما لم يكن مستطاعاً من قبْل، في ظل وجود أقطاب حزبية قوية، قضي عليها. وقامت الدولة بإمداد القوات بالأسلحة والمعدات ونقْل خبرات الحرب، خاصة حرب أكتوبر 1973 القريبة، والتدريب على تلك المعدات الحديثة، الضخمـة الحجم، خلال السنوات الثلاث الأخيرة، قبْل الحرب، للوصول إلى درجة الاحتراف في القتال، وإحساس الجندي بقوة سلاحه وجودته، لاكتساب الثقة، ورفع المعنويات؛ وهي أساس عند الدخول في حرب.

4. الموقف الأمني للأقليات العراقية

كان لا بد للنظام العراقي من تأمين جناحَي الدولة، اللذين ينتمي كل منهما إلى إحدى الأقليات الرئيسية في المجتمع العراقي، واللذين كان يخشى هذا النظام تمردهما، في ظروف الحرب الصعبة. في الشمال، استمر النظام الحاكم في استثمار معاهدة 1975 مع إيران، التي أوقف، بموجبها، الشاه معاونته لحركة التمرد الكردية، بزعامة الملا مصطفي البرزاني، مما أدّى إلى ضعفها، والقضاء عليها. وشدّد الجيش العراقي قبْضته على المنطقة الكردية، بينما أدخلتها الحكومة في حسبانها، في خطط التنمية. وبدأت عدة مشروعات تنموية، وإصلاحات إداريـة واجتماعية، مما أدى إلى الهدوء النسبي، الذي تمتعت به المنطقة، بعد ثورات وتمردات وحروب عديدة مع النظام الحاكم في بغداد، أمست هماً من هموم الحكومات المتعاقبة، وعنصراً دائماً في سياساتها.

وفي وسط العراق وجنوبيه، كانت الأقلية الثانية من شيعة العراق، وهي أقلية خادعة[20]؛ فهُم نصف عدد سكان العراق. وعلى الرغم من ذلك، فإن نصيبهم من النفوذ، السياسي والاقتصادي، غير متلائم مع تعدادهم. كما أنهم ليسوا موالين تماماً لزعماء الشيعة الإيرانيين، كما يشاع عنهم. فالجزء الأكبـر منهم قبائل عربية، ذات ولاء عربي إسلامي. والجزء الأقل من سكان المدن، خاصة في مناطق العتبات المقدسة، من أصول إيرانية قديمة. وقد طرد النظام العراقي آلافاً منهم إلى إيران، قبْل بدء الحرب. أمّا الباقون من الشيعة، فقد أخضعهم لنظام أمني، شديد القسوة.

ثالثاً: الأخطاء التقديرية لموقف الجبهة الداخلية للطرفين

قدّر الإيرانيون، خطأً، أن النظام العراقي غير مسيطر على الأمور داخل العراق. وأن المعارضة داخل العراق قوية، ومتعددة. كما أن من المتصور أن السياسات القمعية، قد تمخضت بكرْه الجماهير والمواطنين البسطاء، وهو ما يمهد لثورة شعبية، مع بدء الحرب، خاصة من قِبل الشيعة، اللذين قدر السياسيون الإيرانيون، خطأً كذلك، أنهم سيثورون، وينقلبون على الحكم. إلا أن الأمر كان مختلفاً. فالمعارضة قد أُسكتت وقُمعت، وما تبقّى منها كان غير منظم، أو هو ضعيف التأثير. ولم تكن ظروف الحرب هي الفرصة التي يجب انتهازها، بالنسبة إليهم، بقدر ما كانت السبب في تجاوزهم محنتهم الخاصة في سبيل الوطن، وهو ما انطبق، كذلك، على الشيعة، خاصة ذوي الأصول العربية، والذين استثارت الحكومة العراقية مشاعرهم القومية، حتى إن كثيراً من الشيعة سارعوا إلى القتال ضد إيران، من دون أي تردُّد ديني، كما كان حكام إيران يتوقعون.

الرؤية نفسها، كانت لدى الحكام العراقيين، الذين قدروا انتفاض الأقليات الكثيرة في المجتمع الإيراني، وعلى رأسها العرب[21] وانتهازهم لظروف الحرب ومحاولة الاستقلال، أو الانضمام، بالنسبة إلى العرب، إلى العراق العربية. وهو ما لم يحدث. فقد شاركت تلك الأقليات الأغلبية في الثورة على نظام دكتاتوري أُسقط بالأمس القريب. ومنافسة الآخرين، هي من الشؤون الداخلية للنظام الجديد، سياسياً واجتماعياً، ولا يرجح أن يلجأ أي منها إلى قوة خارجية، خاصة إذا كانت تهدد أمن الوطن[22].



[1] نسبة الفلاحين 55%، وعمال المدن 20%، والطبقة الوسطى الصغرى 20%، والطبقة المتوسطة العليا والطبقة العليا 5%، من تعداد السكان.

[2] نسبة الفُرس الشيعة 60%، والبلوشي 10%، والأكراد 10%، والتركمان 10% والعرب 5%.

[3] يرجع الفضل لطلبة الكلية الجوية الإيرانية، في توجيه الضربة الأخيرة لنظام الشاه.

[4] ذكر بعض المصادر تعاون هؤلاء القادة مع العراق على إسقاط الحكم الثوري، إلا أنهم كفوا عن ذلك بنشوب الحرب.

[5] من قياداته البارزة آيات الله بهشتي، وخلخالي، ومنتظري.

[6] منهم الرئيس الحالي (1981) أبو الحسن بني صدر، ورئيس الوزراء المؤقت، السابق، مهدي باذرجان، وإبراهيم يازدي ومصطفى شمران وقطب زاده، من مشاهير السياسيين الإيرانيين المعاصرين.

[7] رئيس الوزراء، في بداية الخمسينيات. أصدر قانون تأميم النفط، وأجبر المجلس الوطني وشاه إيران على الموافقة عليه (20 مايو 1951). وأثار الشعور القومي لدى الشعب الإيراني، الذي تعاطف معه. وقد تمكن الجنرال زاهدي من تدبير انقلاب ضده، وتولى رئاسة الوزارة، بالاتفاق مع الشاه، للتخلص من شعبيته.

[8] نسبة إلى الإمام الشيعي آية الله روح الله الموسوي الخميني.

[9] هو الشيء نفسه، الذي فعله مصطفى كمال (أتاتورك) في تركيا، في بداية القرن الحالي في إطار قومية تركية علمانية.

[10] قدِّر حجم القوات الأمريكية في القواعد الإيرانية، الجوية والبحرية، بنحو 70 ألف جندي.

[11] ادعت وسائل الإعلام العراقية موت الإمام الخميني، خلال الحملة الإعلامية، كما دأبت على وصف الإيرانيين بالمجوس وأولاد الجواري.

[12] يُعَدّ أحمد حسن البكر الرابع، خلال عشر سنوات، في رئاسة الجمهورية، بالانقلاب، أو العزل بالقوة.

[13] بعد 11 عاماً من حُكم البكر كان لا يزال مجلس قيادة الثورة هو المتحكم في شؤون البلاد. وتُعَدّ استقالة البكر لأسباب صحية، تغطية لمشاكله مع المجلس، الذي كان يقوده صدام حسين، بشخصيته القوية، وهو أول حاكم جمهوري، ليس من العسكريين، إلا أنه جاء بموافقة العسكريين، ويرتدي الزي العسكري، ويضع رتبة القائد الأعلى على كتفَيه.

[14] أعدمه النظام البعثي، بعد الوصول إلى الحكم.

[15] كان قد قاد انقلاباً، عقب اغتيال أخيه، عبدالسلام عارف، عام 1966، واستولى على الحُكم.

[16] كان منهم ميشال عفلق، وشبلي العيسمي، من قادة `البعث` وواضعي أيديولوجياته.

[17] باستغلال وجود قطب مسيحي ذي شأن في الحزب، مثل ميشال عفلق.

[18] ازدادت قيمة الاستيراد من أوروبا الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، خلال عام 1979 فقط، 39.32 مليون دينار عراقي، بزيادة قدرها 105%، بالنسبة إلى السنة السابقة.

[19] مارس حزب `البعث` الحاكم، منذ استيلائه على السلطة، عام 1968، أسلوب القضاء على الخصم، بدءاً بالقيادات المؤيدة للرئيس السابق، أحمد حسن البكر، إلى مؤيدي صدام حسين، من ذوي النفوذ القوي في الحزب ـ عشية وصوله إلى الحكم ـ إلى القيادة القطْرية للحزب في العراق، حتى لم يبقَ فيها سوى صدام حسين فقط، الذي أجبر البكر على التنازل عن الحكم، عام 1979، ليموت مسموماً، عام 1982. وقد شمل القضاء على الخصم، الذي انتهجته قيادات الحزب، منذ الستينيات حتى ما بعد الحرب، أهم الرموز الحزبية والسياسية والعسكرية. وكان أسلوب التصفية متّبعاً من قيادات الحزب، منذ الستينيات، واستمر إلى ما بعد الحرب. كان أشهر من قُضِي عليهم: فؤاد الركابي (عام 1970) علي صالح السعدي (عام 1972)، علي ناظم كزار (عام 1973)، عبدالخالق السامرائي (عام 1973)، صالح مهدي عماش (عام 1974)، شبلي العيسى (نائب أمين سر حزب `البعث`، أي أنه نائب ميشال عفلق، وهو سوري الجنسية، قُضِي عليه عام 1988)، منيف الرزاز (عام 1979)، حردان عبدالغفار التكريتي (عام 1975)، طاهر يحيى التكريتي (كان رئيس الوزراء، في عهد الرئيس عبدالرحمن عارف، وقُضِي عليه عام 1968)، اللواء وليد محمد سيرت (عام 1979)، عبدالكريم مصطفى نصرت (عام 1969)، وغيرهم.

[20] تسمى أقلية اجتماعية سوسيولوجية.

[21] الأقليات في إيران: عربية وكردية وبلوشية وتركمانية.

[22] هو التصور الخاطئ نفسه، لإسرائيل وفرنسا وبريطانيا، عام 1956، حينما اعتدت على مصر (العدوان الثلاثي)؛ إذ قدَّرت أن تنفض الجماهير من حول القيادات الجديدة للثورة، وهو ما لم يحدث، بل دفعتها إلى مزيد من التأييد لتلك القيادات وأثارت شعورها الوطني.