إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الحرب الإيرانية ـ العراقية، من وجهة النظر العربية





مناطق النفوذ في العالم
موقع الجزر الثلاث
منطقة جزر مجنون
إصابة الفرقاطة الأمريكية STARK
مسارح الصراع البرية والبحرية
معركة الخفاجية الأولى
معركة تحرير الفاو
معركة سربيل زهاب
الهجوم الإيراني في اتجاه عبدان
الإغارة الثالثة على دهلران
التشابه بين مضيقي تيران وهرمز
العملية رمضان
العملية فجر ـ 8
العملية فجر ـ 9
الغارة الإسرائيلية الثانية
القواعد البحرية الإيرانية في الخليج
اتفاقية سايكس ـ بيكو 1916
حادث إسقاط الطائرة الإيرانية
حدود المياه الإقليمية الإيرانية
حرب الناقلات

مناطق إنتاج النفط
أوضاع القوات العراقية والإيرانية
مسلسل العمليات كربلاء (1 – 9)
مسرح العمليات (الاتجاهات الإستراتيجية)
مسرح العمليات (التضاريس)
مسرح العمليات والدول المجاورة
الموقع الجغرافي للعراق وإيران
المنطقة الكردية
الهجمات الثانوية للعملية بدر
الهجوم المضاد الإيراني العام
الأفكار البديلة للعملية خيبر
التواجد الأجنبي في الخليج
التجمع القتالي لقوات الطرفين
العملية مسلم بن عقيل
العملية بدر
العملية فجر النصر
القواعد والتسهيلات الأمريكية
القواعد والتسهيلات السوفيتية
بدء الهجوم العراقي
تضاريس المنطقة الإيرانية
تضاريس العراق
تقسيم إيران
سلسلة العمليات فجر
طرق المواصلات بالشرق الأوسط
فكرة الاستخدام للقوات الإيرانية
فكرة الاستخدام للقوات العراقية



حرب عام 1967

المبحث الحادي والعشرون

الدروس المستفادة من العقائد القتالية المطبَّقة

العقيدة القتالية مصطلح، يعني، في مفهومه العام، الأسلوب الذي تتبعه القوات، لتنفيذ مهامها القتالية، التي تكلَّف بها من قبل القيادة الأعلى. تختار كل دولة، عادة، العقيدة التي تتلاءم مع قدراتها العسكرية (قوة بشرية، أسلحة ومعدات)، وعقائدها، الأيديولوجية والدينية، وأهدافها وغاياتها الوطنية، وقدراتها الاقتصادية، للإنفاق على التسليح والحرب، وغير ذلك من الخصائص. وهو ما يسفر بالضرورة، عن اختلافات بين دولة وأخرى في ما تعتنقانه من عقيدة قتالية. بعض الدول ينقل عقيدته القتالية من دول أخرى، لديها خبرات قتالية، وفكر عسكري متقدم، إلا أنه يعدّلها بما يتماشى مع قدراته وخصائصه. والعراق وإيران، كانتا، في زمن الحرب (1980 / 1988)، من تلك الدول الناقلة، والمعدِّلة للعقيدة القتالية.

أولاً: العقيدة القتالية الإيرانية، وتطبيقاتها خلال الحرب

كان الجيش الإيراني النظامي، في عهد الشاه، يتسلح بأسلحة غربية، معظمها أمريكية الصنع. كما دأب على إرسال ضباطه، في بعثات، تعليمية وتدريبية، أمريكية وغربية. لذلك، فإن عقيدته، كانت متماشية مع العقائد، الغربية والأمريكية، مع تعديلها، لتلائم قدرات القوات الإيرانية، أقوى قوات، برية وبحرية وجوية، في المنطقة حتى عصر آخر شاه.

مع قيام الثورة الإسلامية، أعدمت محاكمها، وسجنت العديد من القيادات العسكرية، من ذوي الخبرة العالية، فضلاً عمّن فر منهم إلى الخارج. وكان السلاح البحري، هو الأكثر تأثراً، لقرب قياداته من الشاه. وقد انعكس ذلك على فقْد القوات المسلحة الخبرات التدريبية، القادرة على تطبيق العقيدة القتالية جيداً، في ميدان القتال.

ولإحداث توازن مع القوات المسلحة النظامية، أنشأت الثورة الإيرانية قوة مسلحة أخرى، سمِّيت "الحرس الثوري الإسلامي الإيراني". وفي البداية، كانت تلك القوة تعمل على تأمين الدولة من الداخل، ضد أي تدخّل منتظر من القوات المسلحة. لذا، كان تسليحها خفيفاً، وتنظيمها غير مكتمل، كعنصر مقاتل، إذ كانت تقتصر على المقاتلين، دون العناصر، المعاونة والمساعِدة والإدارية والفنية، لعدم الحاجة إليها في التأمين الداخلي. كما كان يسيطر عليها الزعماء الدينيون، وقيادات سياسية مؤيدة للثورة، بعيدة عن التأهيل العسكري.

أدت شراسة القتال، وجسامة الخسائر البشرية، إلى أن تلجأ القيادة، السياسية والدينية، إلى طلب التطوع للقتال. ونجم عن ذلك تكوين عنصر ثالث، مسلح تسليحاً ضعيفاً جداً، ذي تدريب بدائي، وتنظيم أكثر بدائية، هي قوات المتطوعين، التي كانت تُدفع، بعد أسابيع قليلة من التدريب، إلى أتون المعارك، باستغلال حماستها الفطرية للثورة، بمبادئها الإسلامية المعلنة.

تكونت القوات الإيرانية المقاتلة، في كل معاركها، من خليط من الفئات الثلاث، وهو ما جعل من الصعب، إن لم يكن مستحيلاً، تطبيق عقيدة قتالية، بأسلوب صحيح. ومع ترسخ الاعتقاد بأهمية التفوق العددي للشعب الإيراني على نظيره العراقي (ثلاثة أضعاف)، لحسم الحرب في مصلحة إيران، كان لا بدّ أن يبرز أسلوب قتالي، تعتنقه إيران، طوال الحرب، وهو أسلوب قديم، ومعروف، طالما لجأت إليه الدول ذات الكثافة السكانية الضخمة، "الموجات البشرية المتتالية".

تعتمد هذه العقيدة؛ وهي عقيدة هجومية، على تدفق القوات، في موجات متتالية، لإرهاق قوات الخصم المدافعة، واستنزاف قوّته النيرانية، مع إنزال خسائر به، واكتشاف نظامه، الدفاعي والنيراني، ونقاط الضعف، التي يمكن استغلالها، ثم دفع موجات جديدة من المقاتلين إلى الاختراق وتدمير العدو، الذي يصبح غير قادر على مواصلة القتال.

اعتمد الإيرانيون، في عقيدتهم هذه، على التعداد الكبير للشعب، الذي يشتعل حماسة لثورته، ذات المبادئ الإسلامية، والأيديولوجية الشيعية، والذي يتيح لهم طلب ما يشاءون من المتطوعين، لدفعهم إلى القتال، بعد فترة تدريب قصيرة، مستغلين حماستهم الشديدة لتنفيذ توجيهات الزعماء الدينيين، بالجهاد المقدس، عوضاً عن تدريبهم التدريب الكافي للقتال.

صنفت القوات الإيرانية، طبقاً لكفاءتها القتالية. وكان أعلاها، بالطبع، القوات النظامية، على الرغم من سوء حالة معداتها، فنياً، وتدهور مستواها التدريبي. لذلك خصصت للأعمال القتالية النهائية، لقدرتها على تطهير المَواقع المستولى عليها، والتمسك بها، وصدّ الهجمات العراقية المضادّة، القوية (تكمن قوّتها في استخدام الدبابات والمدفعية والطائرات، المقاتلة والقاذفة)، أو متابعة الهجوم في عمق الدفاعات العراقية، لتواجه الاحتياطيات العراقية المدرعة، القابعة في الخلف، وهو ما يستوجب أن تكون هذه القوات هي الأحسن إعداداً. أمّا القوات شبه النظامية، من المتطوعين المدعمين بوحدات من الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، الأحسن تسليحاً، بعد إعادة تنظيمه وتسليحه، على غرار القوات النظامية، قياساً على تسليح المتطوعين، فقد خصصت للتقدم، والهجوم في بداية القتال، في حشود كبيرة، على موجات متتالية، حتى تُخترق المَواقع الدفاعية الأمامية.

أدت تلك العقيدة إلى تحقيق نجاح مبدئي، بتمكنها من اختراق المَواقع الأمامية، في كثير من الأحيان. إلا أن ذلك جشمها خسائر عالية جداً، أدت إلى تأكّل التفوق العددي، وتناقص أعداد المتطوعين، إلى الحدّ الذي ألغى هذا التفوق، ورجّح جانب القوات العراقية؛ ففقدت العقيدة أهم أركانها: القوة البشرية، المتفوقة عدداً.

من جهة أخرى، لم تستطع القوات النظامية استغلال النجاح المبدئي، بتطويره، سواء لبطء تحركها خلْف القوات الأمامية، أو لضعف إمكاناتها، مقابل قوة الهجمات العراقية المضادة. وكان لاستخدام العراقيين الغازات الحربية السامة، وحصار القوات المخترِقة في أراضي قتلٍ مختارة، أثر مدمر في القوات الإيرانية، أرواحاً ومعدات، مما أفقد هذه العقيدة كثيراً من العناصر، التي ترتكز عليها.

على الرغم من أن القيادات العسكرية، طالبت بالتخلي عن هذه العقيدة، لثمنها الباهظ، في الأرواح والمعدات، إلا أن الزعماء الدينيين الإيرانيين، كانوا على قناعة تامة بفاعليتها، لنجاحها في المعارك الأولى للهجوم الإيراني العام، وإحداثها خسائر كبيرة في الجانب العراقي.

مع تناقص القوة البشرية، أدخل الإيرانيون تعديلاً على عقيدتهم، ببدء القتال ليلاً، والتسلل الصامت، باستخدام الطرق والوديان الجبلية، لتقليل الخسائر، أثناء الاقتراب، وفى مرحلة الاصطدام بالمَواقع الأمامية العراقية. إلا أن استخدام العراقيين الأشراك الخداعية، والموانع الصناعية، بكثرة، خاصة كهربة المياه، أدى إلى فشل هذا التعديل، في كثير من الهجمات، في القطاعَين، الأوسط والجنوبي. بينما نجحت، أحياناً، في الشمال، لطبيعة الأرض، ومعرفة المقاتلين، من أكراد العراق المتمردين، بمسالكها جيداً؛ فهي أرضهم التي عاشوا فيها، وجاسوا خلالها كثيراً.

الدروس المستفادة من العقيدة القتالية الإيرانية

تمخضت العقيدة القتالية الإيرانية بحقائق شتّى. أبرزها:

1. استيعاب القوات النظامية وقياداتها، العقيدة القتالية، والقدرة على تطبيقها، في مختلف ظروف الحرب ومسارحها، تطبيقاً سليماً.

2. عدم تكليف القوات شبه النظامية بمهام قتالية رئيسية، وقصرها على أعمال التأمين والحراسة، حتى لا يؤثر ضعفها في تطبيق العقيدة القتالية، التي تنهض بها، في نتائج المعارك.

3. تطبيق أساليب قتال ملائمة للعقيدة القتالية، حتى تحقق النجاح المطلوب. ويؤدي  الاعتماد على الجانب المعنوي للعقيدة فقط، إلى تحقيق نجاح محدود، أحياناً، إلا أنه لا يحقق نصراً مهماً أو حاسماً أو الاحتفاظ بالمكاسب المؤقتة.

4. إشراك عدة أنواع من القوات، المختلفة المستوى والتسليح والتنظيم، والمفهوم القتالي، وأساليب القتال المتبعة، يؤثر في سير أعمال القتال، ويؤدي إلى إرهاق القوى وإهدارها.

5. القيادة العسكرية هي المرجع الرئيسي في أعمال القتال، وتؤخذ في الحسبان تحليلاتها للمواقف، ومقترحاتها لتعديل (أو إتِّباع) عقيدة قتالية معينة.

6. عند إدخال تعديلات على العقيدة القتالية، أو أساليب القتال المتبعة، لا بدّ من إعطاء فرصة كافية للتدريب على تلك التعديلات، ومراعاة ملاءمتها ما يستخدمه الخصم من عقائد وأساليب قتال، حتى يمكن التغلب عليه، وتحقيق المهام.

ثانياً: العقيدة القتالية العراقية، وأساليب تطبيقها

اتَّبع العراق عقائد قتالية شرقية، منقولة من المدرسة العسكرية الشرقية، التي يرأسها الاتحاد السوفيتي، والنابعة من خبراته القتالية، وتجاربه، وقدراته، المتفوقة عسكرياً، خاصة في الأسلحة التقليدية؛ وهو نفسه ما كان يتمتع به العراق، بالنسبة إلى خصمه، إيران.

قاتلت القوات العراقية، إلى جانب القوات السورية، في حرب أكتوبر 1973. كما اطَّلعت وفودها العسكرية العديدة، على ميادين القتال في تلك الحرب، على الجبهتين، المصرية والسورية، فأفادت من الخبرات القتالية، إضافة إلى خبرات الجيش العراقي، خلال قتاله ضد الأكراد، في الشمال، قبْل حربه مع إيران.

كانت القوات العراقية أكثر تنظيماً، وأكفأ تدريباً، من نظيرتها الإيرانية. كما كانت، خاصة في بداية الحرب، مسلحة بمعدات وأسلحة متفوقة، نوعاً، في معظمها، على تلك التي كانت في حوزة الإيرانيين، ولا سيما القوات الجوية، والمدفعية والدبابات، والصواريخ والدفاع الجوي، والهندسة العسكرية.

كانت القوات العراقية تعتنق العقيدة القتالية الشرقية، هجوماً ودفاعاً، التي تعتمد على بناء أنساق متتالية، قوية، تُدفَع تبعاً لتطور أعمال القتال، مما يهيئ الاحتفاظ بمعدل قتالي عالٍ، في الهجوم، ومقاومة متزايدة في العمق، في الدفاع.

تعتمد هذه العقيدة على قوة النيران المعاونة لها، هجوماً ودفاعاً، وعلى نظام موانع كثيف، تحميه النيران، خلال الدفاع، وعلى احتياطيات متدرجة في القوة والعمق (أنساق قتالية)، هي أساس نجاح تطبيق هذه العقيدة.

نفذ العراق عقيدته القتالية بخطط مختلفة. ففي بداية الحرب ونهايتها، حينما كانت القوات العراقية، هي المهاجِمة، طبّق الشق الهجومي من العقيدة، بدفع دباباته، يعاونها قليل من المشاة، تحت ستر تمهيد نيراني بالمدفعية، كان، أحياناً، أضعف من أن يحدث التأثير المطلوب، إلى اختراق الدفاعات الأمامية وتطهيرها، قبْل أن يدفع احتياطياته، التي غالباً ما كانت من المشاة الآلية أو المدرعات، دفعاً متتالياً، متزايد القوى، إلى استكمال اختراق الدفاعات الإيرانية، حتى الخط، المحدَّد كمهمة نهائية لها.

عندما لجأت القوات العراقية إلى الدفاع، وأدارت حرب استنزاف طويلة، كان هدفها إرهاق القوات الإيرانية، وتكبيدها خسائر جسيمة، في المعدات والأرواح؛ وهو الأهم، مما يجعل ميزان القوات في مصلحة العراق ('استطاع العراق أن يصل بنسبة التفوق في المقارنة، في نهاية الحرب، إلى أكثر من 6: 1 في المشاة، 10: 1 في الدبابات.'). ولتحقيق هذا الهدف، عمدت القوات العراقية إلى بناء دفاعات قتالية، على طول الجبهة، مستفيدة من طبيعة الأرض، للسيطرة على محاور الاقتراب الرئيسية. وأحاطت تلك الدفاعات بأنساق من الموانع، الصناعية والطبيعية. كما حشدت قوات احتياطية، من المشاة الآلية والمدرعات، في مناطق تمركز خلفية لشن الهجمات المضادّة، عند تمكّن القوات الأمامية (النسق الأول) من صدّ الهجوم الإيراني وإيقافه، أو مواصلة عمليات الصدّ في المواقع القتالية (أنساق متعددة، على أعماق مختلفة)، حتى تفقد القوات المهاجِمة قوّتها الدافعة، على أثر الخسائر، الكبيرة وقوة النيران التي تواجهها، وتجبَر على التوقف، وهي اللحظة الحاسمة لتدميرها، بهجوم مضادّ، يشنه أقرب الاحتياطيات إلى مَوقع توقفها.

لم يستطع الدفاع العراقي صدّ الهجمات الإيرانية، فضلاً عن المبادرة إلى هجوم مضادّ، لاسترداد بعض المَواقع المخترَقة، نتيجة لعدم وجود عمق دفاعي كافٍ، يتمكن من الصدّ، أو لضعف قوة الاحتياطي، الذي يفترض تنفيذه الهجوم المضادّ؛ وهي الحالات الناجمة عن اضطرار القيادة العراقية العسكرية إلى سحب قوات من قطاع إلى آخر، تحسباً للهجمات الإيرانية المتوقعة فيه. وقد تمكن الإيرانيون من خداع العراقيين، عدة مرات، بهذا الأسلوب، لإبعاد جزء من قواتهم، يضعف الأنساق التالية؛ وهي أساس العقيدة العراقية في شقها الدفاعي، المطوّرة من العقيدة الشرقية السوفيتية.

امتنع العراقيون، أحياناً، عن دفع احتياطيهم تنفيذ الهجوم المضادّ، حينما كانت القوات الإيرانية، المخترقة المواقع الأمامية، أكبر حجماً منه؛ وهو قرار صحيح، في هذه الحالة، أو حينما لا يتمكنون من تحديد أي الهجمات هي الرئيسية، أو أيها الأشد خطراً، فيخسرون المعركة. ويوضح ذلك ضرورة وجود عناصر استطلاع، على مستوى عالٍ من الكفاءة، يمكنها الحصول على المعلومات اللازمة، بالدقة والوقت اللذَين يمكنان القائد من اتخاذ قراره، في شأن استخدام الاحتياطي استخداماً صحيحاً.

جهز العراق، عملاً بعقيدته العسكرية الشرقية، أربع فِرق مدرعة وفرقتَين آليتَين، في بداية الحرب، لإنهائها في وقت قصير. لكن طبيعة الأرض، في منطقة الاختراق الكبير (خوزستان)، كانت غير ملائمة للوحدات، الآلية والمجنزرة؛ إذ كانت المجاري المائية منتشرة في كل مكان (منطقة زراعية)، والمدن والقرى متناثرة، على طول محاور التقدم، والكثافة السكانية عالية، نسبياً. وأدى ذلك إلى بطء معدلات الهجوم عما هو مخطَّط، وأتاح ذلك فرصة جيدة للإيرانيين، لحشد قواتهم، وإرسالها إلى مناطق الاختراق لحصاره وصده وإيقافه. ولم تتمكن القوات، الآلية والمدرعة، من الاستفادة من خفة حركتها، التي أصبحت مقيدة تماماً. لقد افتقر العراقيون إلى العناصر المترجلة، الأكثر ملاءمة لتلك الأرض، وإلى التجهيزات المتعلقة بعبور القنوات المائية المتعددة، وإلى أسلوب للتعامل مع الكثافة السكانية والمدن والقرى الكثيرة والدفاعات حولها، في المنطقة. لقد كانت تلك المناطق في حاجة إلى قوات ذات طبيعة خاصة، ومدربة بهذا النوع من القتال (القتال في المدن والمناطق المزروعة)؛ وهو ما يحتاج إلى تعديل في العقيدة القتالية، بما يتواءم مع الموقف. ولم تكن المدن والقرى مثل الدفاعات، يجب تدميرها واختراقها، وإنما كان من الممكن عزلها وتركها حتى حين، واستثمار النجاح بمزيد من التقدم على المحاور الرئيسية. وكان من المهم استخدام القوات الخاصة بكثافة عالية، للاستيلاء على المعابر المقامة على المجاري المائية، والمهندسين العسكريين، لإنشاء كباري، بدل تلك التي يتمكن الإيرانيون من تدميرها. وقد استطاع العراقيون استيعاب ذلك، في النهاية، مما حسّن من أدائهم، وأحرز لهم النصر، في معارك العام الأخير.

كانت القوات العراقية مكونة من قوات نظامية، وأخرى شبه نظامية. وكانت القوات المسلحة النظامية ذات مستويَين؛ فهناك فيالق الجيش، التي وقع عليها العبء الرئيسي، في تغطية جبهة القتال، على اتساعها. وهي تشمل، مختلف صنوف القوات، إضافة إلى قوات الحرس الجمهوري، المتميزة، بالتسليح الأقوى، والتدريب الأكفأ، والقيادات الأكثر حنكة، لذلك فهي تكلَّف بمهام معاونة الفيالق، لزيادة قدراتها القتالية، وغالباً ما تضطلع بالجزء الأصعب من المهمة. أما القوات شبه النظامية، فكانت مكوَّنة من المتطوعين، المقسَّمين إلى وحدات، يقودها ضباط سياسيون (من أعضاء الحزب الحاكم، "البعث"). ولم يكن تنظيمهم أو تسليحهم أو تدريبهم ملائماً، وعلى الرغم من ذلك، دُفعوا إلى المَواقع الأمامية، لإيقاف الهجوم الإيراني، عام 1981، ففشلوا، واستسلم منهم كثيرون، وبزيادة خبرتهم القتالية، وباستبدال ضباط أكفاء من الجيش بقياداتهم، أصبحوا أكثر فائدة.

على الرغم من اعتماد العراق على تفوّقه بالدبابات، واعتناقه العقيدة العسكرية الشرقية، التي تستخدم الوحدات المدرعة في زيادة معدلات الهجوم، وتدمير الخصم، وسرعة الاختراق، أثناء الهجوم، أو تدمير القوات المخترِقة، وطردها خارج المواقع الدفاعية، في حالة الدفاع؛ وهو ما يعنى الاستفادة من خفة حركة الدبابة، وقدرتها العالية على المناورة، وقوة صدمتها، المعتمدة على تدريعها القوي وقوة نيرانها الهائلة ـ إلا أن الاستخدام الأولي، الذي صاحب العمليات العراقية، طوال سني الحرب، حتى ما قبل الهجوم الأخير ـ كان يعتمد على استغلال مدفع الدبابة، في الاقتراب، ثم الرميّ المباشر ضد مَواقع العدو من الثبات؛ وهو ما جعل الدبابة قطعة مدفعية ثابتة، ففقدت أهم عناصرها، وأصبحت عُرضة لنيران الأسلحة المضادّة للدبابات، فمُنِيت بخسائر فادحة. وقد تحسّن الأداء العراقي، في العام الأخير من الحرب، بالاستفادة من التمرس بالقتال، في الأعوام السابقة، واستخدام الدبابات استخداماً أفضل.

عمد العراقيون إلى الدفاع الثابت. وطوروا أداءهم، مستفيدين من الأخطاء التي وقعوا فيها، فاعتمدوا على قوة النيران الغزيرة، لمساندة القوات المدافعة، وإنشاء العوائق القوية العميقة، أمام المواقع الدفاعية، التي تطورت، كذلك، لتصبح أكثر عمقاً. ووفروا طرق تقدم ومناورة للاحتياطيات المدرعة، القابعة في الخلف، التي تشن الهجمات المضادّة. وإن كانوا قد افتقروا إلى التعاون الوثيق بين المشاة والدبابات، في بداية تحولهم إلى الدفاع، إلا أنهم استطاعوا، في العامين الأخيرين، ضبط إيقاع القوات المدرعة مع المشاة، في تناسق، أدى إلى كسب المعارك الأخيرة؛ فكل منهما لا غنى له عن الآخر في المعارك الحديثة.

بعد عام 1986، سمحت القيادة السياسية، تحت إلحاح القيادة العسكرية الميدانية، تتحول الوحدات المقاتلة من أسلوب الدفاع الثابت، إلى الدفاع المتحرك. وبذلك، تمكن العراقيون من استخدام حجم أقلّ من القوات، في حماية مواجهة كبيرة. وقد اعتمدوا في ذلك على الوحدات الجديدة، التي ضمت متطوعين أكثر ثقافة وحميّة، من طلبة الجامعات العراقيين، الذين استطاعوا استيعاب التدريبات المكثفة، التي أعدها لهم وأدارها، بحنكة وكفاءة، القادة العسكريون، قبْل أن يطالبوا القيادة السياسية، بعد اطمئنانهم إلى نتيجة التدريب، بالتحول إلى مرحلة جديدة، هي، في الواقع، إيذاناً بالتحول إلى الهجوم، حسماً للمعركة.

كان العراقيون يفضلون الدفاع على الهجوم؛ إذ استطاعت دفاعاتهم القوية (المبنية بالأسلوب السليم، كانت في البصرة)، صدّ الهجمات المكثفة للإيرانيين، وامتصت قوّتها، قبْل أن تدمرها. وعلى الرغم من إجادتهم الدفاع، إلاّ أنه كان لا بدّ، في النهاية، من التحول إلى الهجوم، لحسم القتال، الذي طال أمده. وعندما سمحت القيادة السياسية بذلك، حققوا معدلات هجوم عالية، فقد استولوا على الفاو في غضون 36 ساعة، وكان مخططاً أن يستولى عليها خلال خمسة أيام. ولم تصمد الدفاعات الإيرانية، كذلك، أمام عنف هجومهم، وسرعة اختراقهم لها، بمساندة نيرانية كثيفة، في معارك جُزُر مجنون وشلمجة ودهلران وغيرها كذلك. ويرجع ذلك إلى التدريب الراقي، الذي نالته الوحدات المشكلة حديثاً، والخطط المدروسة جيداً، والاستخدام المخطط للأسلحة الكيماوية.

اكتسب القادة العسكريون، ثقة القيادة السياسية، ولم يلبثوا أن اكتسبوا ثقة قواتهم وشعبهم، بعد السماح لهم بسيطرة عملياتية أكبر حجماً، وبرز منهم عدة شخصيات قيادية، كان لها تأثير جيد في تطور القتال في العامين الأخيرين، اللذَين انتهيا بقبول إيران وقف إطلاق النار، وإحالة القضية إلى الساحة السياسية للتفاوض وهو عينه ما كانت القيادة السياسية ترغب فيه.

الدروس المستفادة من العقيدة القتالية العراقية

أسفرت العقيدة القتالية العراقية عن جوانب عدة. أهمها:

1. اعتناق عقائد قتالية منقولة، حيث تتوافر العوامل والظروف نفسها، التي انبثقت منها تلك العقائد.

2. استخدام عناصر التفوق في القوات، طبقاً للعقيدة، بالأسلوب القتالي الذي يحقق أكبر نجاح، من دون الإخلال بالقواعد الأساسية لاستخدام القوات.

3. تنبُّه القيادة، دائماً، لتأثير أعمال العدو القتالية في تماسك قواتها وبنائها القتالي، والحيلولة دون أي خلل في ذلك البناء، حتى لا يتأثر أداء القوات.

4. مراعاة طبيعة الأرض وتأثيرها في معدلات الهجوم، حتى لا يفشل نتيجة البطء الزائد، الذي يعطي العدو الفرصة لإجراء مضادّ. وضرورة تعديل العقيدة القتالية لتتلاءم مع ظروف القتال المحلية، على ألاّ يخل ذلك بأُسسها وقواعدها الرئيسية.

لقد تمرست قوات الدولتَين بالحرب، بثمن باهظ، في الأرواح والمعدات، فأمكن كلاًّ منهما من خلاله تطوير عقيدتها القتالية، بما يوائم قدراتها وحجم قواتها[1].



[1] خلال حرب الخليج الثانية، وأثناء معركة تحرير الكويت، `عاصفة الصحراء`، عام 1991، عاد العراقيون إلى الأخطاء نفسها، في تطبيق العقيدة الشرقية، فلم تُستخدم الاحتياطيات بشكل جيد، كما بقيت الدبابات في مَواقع دفاعية ثابتة.