إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الحرب الإيرانية ـ العراقية، من وجهة النظر العربية





مناطق النفوذ في العالم
موقع الجزر الثلاث
منطقة جزر مجنون
إصابة الفرقاطة الأمريكية STARK
مسارح الصراع البرية والبحرية
معركة الخفاجية الأولى
معركة تحرير الفاو
معركة سربيل زهاب
الهجوم الإيراني في اتجاه عبدان
الإغارة الثالثة على دهلران
التشابه بين مضيقي تيران وهرمز
العملية رمضان
العملية فجر ـ 8
العملية فجر ـ 9
الغارة الإسرائيلية الثانية
القواعد البحرية الإيرانية في الخليج
اتفاقية سايكس ـ بيكو 1916
حادث إسقاط الطائرة الإيرانية
حدود المياه الإقليمية الإيرانية
حرب الناقلات

مناطق إنتاج النفط
أوضاع القوات العراقية والإيرانية
مسلسل العمليات كربلاء (1 – 9)
مسرح العمليات (الاتجاهات الإستراتيجية)
مسرح العمليات (التضاريس)
مسرح العمليات والدول المجاورة
الموقع الجغرافي للعراق وإيران
المنطقة الكردية
الهجمات الثانوية للعملية بدر
الهجوم المضاد الإيراني العام
الأفكار البديلة للعملية خيبر
التواجد الأجنبي في الخليج
التجمع القتالي لقوات الطرفين
العملية مسلم بن عقيل
العملية بدر
العملية فجر النصر
القواعد والتسهيلات الأمريكية
القواعد والتسهيلات السوفيتية
بدء الهجوم العراقي
تضاريس المنطقة الإيرانية
تضاريس العراق
تقسيم إيران
سلسلة العمليات فجر
طرق المواصلات بالشرق الأوسط
فكرة الاستخدام للقوات الإيرانية
فكرة الاستخدام للقوات العراقية



حرب عام 1967

المبحث الثالث والعشرون

الدروس المستفادة من إدارة الحرب

ترجّحت إدارة الصراع، في هذه الحرب، بين المحلية والعالمية، أو بين التركيز في المعارك المحدودة، أحياناً، وإتِّباع عمليات إستراتيجية (مَوقعة ذات نطاق متسع)، أحياناً أخرى. وقد مارس الطرفان التغيير والتبديل، مراراً، تماشياً مع النتائج والظروف، السياسية والاقتصادية والعسكرية، التي يمر بها كلٌّ منهما.

أولاً: أولاتطور أسلوب إدارة الصراع، خلال الحرب

بدأ العراق إدارته بعمليات هجومية واسعة. ثم لجأ إلى إستراتيجية دفاعية شديدة الحذر، ليلتزم بإدارة حرب استنزاف دفاعية، على أرضه، وتوجيه ضربات، جوية وصاروخية، ضد المنشآت الاقتصادية الإيرانية، خاصة النفطية منها. ولدى تحسّن الموقف السياسي الخارجي، والوضع العسكري لقواته، بادر العراق إلى استغلال العجز الإيراني عن شن الهجمات الرئيسية، وتحوّل، تدريجاً، إلى الهجوم مرة أخرى، من خلال إستراتيجية هجومية حذرة، تركز في الضربات الصاروخية ضد العمق الإيراني، خاصة المدن. ثم انتقل إلى القتال المحدود، بمعارك متتالية، لاستعادة الأراضي المحتلة، اكتساباً للثقة. وفي النهاية، تحوّل إلى العمليات الموسّعة، بشن هجمات تنتهي باحتلال أراضٍ إيرانية، متجنباً الدخول في عمليات رئيسية، تتطلب حشوداً كبيرة، لتدمير القوات الإيرانية، أو بعضها، حسماً للصراع، مفضلاً تحرير أرضه، ثم التهديد باحتلال الأراضي الإيرانية، كوسيلة ضغط عسكري، ذات أثر سياسي.

عمدت إيران إلى العمليات الهجومية، بعد أن نجحت في إدارة حرب دفاعية ضد العراق. واتَّبعت في هجومها أسلوب العمليات العامة (المَوقعة الموسّعة)، لتحقيق أهداف رئيسية، إلى جانب المعارك المحدودة، على المحاور الثانوية، لشَغْل القوات العراقية، وإرباك قياداتها. وأدى الفشل في تحقيق الأهداف الرئيسية، مثل الاستيلاء على البصرة، والوصول إلى المناطق المقدسة لدى الشيعة، في النجف وكربلاء، إلى اعتمادها المعارك المحدودة، في إدارتها للصراع، تقليلاً للخسائر، من دون أن تتخلى عن الاتجاه الهجومي. وتركزت هجماتها المحدودة ضد الموانئ العراقية القليلة، في شمالي الخليج، ومدن العراق الرئيسية وقراه الحدودية، في الشمال، إضافة إلى البنية التحتية للدولة العراقية. وقد انتهجت أسلوب الهجمات الصاروخية بأعداد محدودة ضد المدن الرئيسية، والبنية التحتية. كما لجأت إلى توسيع أعمال القتال، في الخليج العربي، ضد السفن وناقلات النفط والمنشآت النفطية، البحرية والساحلية، للعراق ودول الخليج العربية، متحولة، تدريجاً، إلى الدفاع الإستراتيجي، مع استمرار تناقص قدراتها القتالية.

دأبت إيران في رفض نداءات السلام. ولم تتعاون مع الجهود، الدولية والإقليمية، التي حاولت التوفيق بين وجهتَي نظر الدولتَين المتحاربتَين، ورفضت قبول تطبيق قرار مجلس الأمن الدولي، الرقم 598. واستمرت برفضها، على هزائمها عام 1988، ما دامت القوات العراقية متوقفة خارج حدودها. وهو ما فطن له العراقيون، فبادروا إلى الهجمات الموسّعة، واحتلال الأراضي الإيرانية، ضغطاً على القيادة السياسية الإيرانية، لقبول وقف إطلاق النار، والتفاوض.

لم يسعَ العراق، حتى في مرحلة النصر الأخيرة، إلى تحقيق أهدافه من الحرب. فلم يطالب باعتراف إيران بحقوقه الشرعية في شط العرب، أو إعادتها الجُزُر العربية الثلاث المحتلة، في الخليج العربي، إلى دولة الإمارات العربية. في المقابل، فإن إيران توقفت عن المطالبة بإطاحة الرئيس العراقي، صدام حسين ومحاكمته. بينما تمسكت بضرورة التحقيق في مسؤولية بدء القتال، والمطالبة بتعويضات عن التدمير العراقي لمدنها ومنشآتها الاقتصادية، والأضرار الأخرى الناجمة عن الحرب. ويوضح ذلك مدى التحول في إدارة الصراع. فالعراق صار لديه قناعة راسخة بعدم قدرته على هزيمة إيران هزيمة تامة. وأصبح كل اهتمامه منصباً على التخلص من هذه الحرب، بأقل الخسائر، السياسية والمعنوية. أمّا إيران، فخشيت انهيار قواتها، ومن ثَم، انهيار الثورة الإسلامية الوليدة، إلا أنها كانت في مأزق اقتصادي، لا يقلّ خطراً عن الهزائم العسكرية الأخيرة. فكانت الموافقة على التوقف عن الحرب، مع اشتراطات، تحفظ لها إمكانات التبرير لشعبها.

ينبغي أن تضع القيادات في حسبانها تغيير أسلوبها في إدارة الصراع، بما يتواءم مع المتغيرات، التي تتطرأ على الموقف، مختارة أكثر الأساليب فاعلية، طبقاً لقدراتها القتالية، مقابل قدرات العدو، ساعية إلى تحقيق أهدافها من الحرب.

ثانياً: سلبيات تعدد التنظيمات العسكرية

تشابهت الدولتان في اعتمادهما، في إدارة الصراع، على قوات أخرى، إلى جانب الجيش النظامي، مع اختلاف في الأسلوب والنتائج. فقد اعتمدت إيران على الحرس الثوري الإسلامي، الذي أنشأته الثورة، ليكون عاملاً متوازناً مع الجيش، ومنحته امتيازات واسعة، أدت إلى سلبيات عديدة، أثرت في قواتها المسلحة. وقد شاركت وحداته في كل المعارك والعمليات الحربية، في الحرب العراقية ـ الإيرانية. إلاّ أن أداءه، كان سيئاً. ولم تعوضه حماسته عما افتقده من التدريب الفاعل والقيادة العسكرية المحترفة. أمّا العراق، فاعتمد على قوات الحرس الجمهوري، وهي قوات نظامية متميزة، تسليحاً وتنظيماً وتدريباً وانضباطاً. وعلى الرغم من أن أهدافها سياسية، إلاّ أن قتالها، كان أفضل من قتال القوات النظامية، بل كانت المنقِذ في كثير من المعارك. وعلى الرغم من طول زمن الحرب، فإن سلبيات تميّز الحرس الجمهوري العراقي، لم يظهر أثرها[1]، حتى نهاية الحرب. وتمكنت القيادة، السياسية والعسكرية، من إشراك العنصرين (القوات النظامية والحرس الجمهوري) في القتال، بتعاون مثمر بينهما.

لذلك، فإن إشراك قوات متعددة الأنظمة في قتال واحد، أو تكليف قوات غير نظامية بأعمال القتال الرئيسية، هو مجازفة، تستدعي الحذر والاحتراس. فلكل نوعية من القوى المسلحة مهامها، التي أُنشئت من أجلها، والتي تلائمها، طبقاً لتنظيمها وتسليحها وتدريبها وخبراتها وقدراتها. وسيؤدي إغفال هذا الدرس إلى خسارة المعركة، وضخامة الخسائر المادية، في الأرواح والمعدات. وقد يستتبع ذلك فقد المواقع (في حالة الدفاع)، مما يترتب عليه موقف صعب في باقي القطاعات. ناهيك أن الخسارة المعنوية تكون عميقة، وقد تتفشى آثارها وحدات أخرى، وبل الشعب كذلك، وقد تؤثر في الأعمال القتالية التالية. (وضح ذلك في أداء القوات المسلحة الإيرانية والحرس الثوري الإسلامي، كما وضح في أداء الجيش العراقي)[2].

ثالثاً: القيادات العسكرية، العليا والميدانية

على الرغم من أن قرار بدء الحرب كان قراراً عراقياً، مما يوحي بأن العراقيين خططوا لها مسبقاً وجهزوا وحداتهم لخوضها، بما في ذلك تجهيز القيادات القادرة على تنفيذ خطط العمليات ـ إلا أن النتائج الأولى للمعارك، لم تعكس ذلك.

ترجع أصول النظام العسكري العراقي، والتقاليد العسكرية لضباط، إلى نشأة الجيش العراقي نفسه. فحينما استقرت القبائل الحجازية، الوافدة في رفقة الأمير فيصل بن الشريف حسين، في أرض العراق، إثر تعيينه ملكاً عليها، من قِبل السلطات البريطانية المحتلة[3]، أنشأ جيشاً جديداً من القوات الحجازية، ويضم إليه المواطنين العراقيين، الذين كانوا في الجيش العثماني. واندمج العُرْف العربي في التقاليد العسكرية العثمانية. فقد كان الضباط من الأتراك العثمانيين يدربون على يد ضباط ألمان، ويقودون الوحدات المشكلة من أهل العراق، ضمن الجيش العثماني. وما لبثت المدرسة العسكرية، البريطانية، أن صقلت تلك التقاليد والأعراف، بمفهومها الانضباطي، إبّان وجود قوات الاحتلال البريطاني في العراق، واستمر ذلك، بعد الاستقلال، من طريق ما يكتسبه الضباط العراقيون، خلال دراستهم في المدارس العسكرية البريطانية.

بعد استيلاء عبدالكريم قاسم على الحكم، وإعلان الجمهورية، تدرب الضباط العراقيون في مدارس عسكرية مختلفة، في الهند، والأردن (وهما امتداد للعسكرية البريطانية) وفي الاتحاد السوفيتي. وقد حافظ الضباط العراقيون على ميراث المدرسة العسكرية البريطانية، وكذلك العثمانية، المشوبة بالصرامة والصلف الألمانيَّين، وإن كانت قد تأثرت بالأساليب السوفيتية الجامدة، في التفكير والتخطيط.

ولدى سيطرة حزب "البعث" العراقي على الحكم، تدخّل في كل جوانب الحياة في العراق، وسيطر عليها، بما فيها القوات المسلحة، من خلال إفساح المجال أمام العراقيين الحزبيين، ليكونوا ضباطاً. وأصبح كثير من ضباط الجيش العراقي، إن لم يكن كلهم، يتولون القيادات، لكونهم منتمين إلى هذا الحزب؛ وتولوا، كذلك، إثارة المشاكل بفهْمهم القاصر للعلوم العسكرية، وسوء إدارتهم للأمور.

وسرعان ما كشفت الحرب القيادات الحزبية في الجيش العراقي، وعجّلت نتائجها في رحيلهم، خلال عام ونصف. وبالتخلص من الضباط الحزبيين، ظهرت كفاءة الضباط المحترفين ومواهبهم، وأثبتوا قدراتهم، التي نضجت خلال سنوات الحرب الأولى. غير أن بعض المؤثرات، حالت دون مرونة التنفيذ للخطط، فعلياً؛ إذ كانت القيادة العليا، تسيطر على القيادات الميدانية العملياتية، بمفهوم القيادة المركزية القوية، مما ساعد على بقاء الجمود الفكري، وأمعن فيه "تشديد القيادات الأعلى على عدم التعرض لخسائر بشرية كبيرة"، وهو ما أدى إلى زيادة الجمود في حركة القوات، وامتناع بعضها عن التقدم، لفترات طويلة، من دون أي مبرر.

أوضح التوقف العراقي، بعد فشل الهجوم العام في أن يكون افتتاحية قوية للحرب، قدرة ضباط الأركان، في القيادة العراقية، على التخطيط الجيد. إذ توقفت القوات، في الجنوب، على خط، يحقق ميزات عسكرية جيدة (خط نهر قارون Karun)، الذي يمكن أن يتخذه الدفاع كخط نهاية مرحلة. بينما في مناطق أخرى، فإن التوقف لم يكن مخططاً، ولا هو نتيجة أعمال قتال، بقدر ما كان تنفيذاً للأوامر. فخطوط التوقف، لم تكن تصلح لأي شيء، عسكرياً؛ فلا هي خطوط مراحل، ولا خطوط ذات أهمية، بل افتقدت الحد الأدنى لأن تكون خطوطاً، يصلح الدفاع عنها والتمسك بها. وتتجه أصابع الاتهام إلى قيادات أعلى، تخطت القيادات الميدانية، لتأمر بالتوقف عند تلك الخطوط؛ فكانت أوامر سياسية بعيدة كل البُعد عن الأصول العسكرية.

كان قرار القيادة السياسية، إعطاء القادة الميدانيين حرية أكبر في اتخاذ القرارات العملياتية، وتخويلهم مناقشة القيادة العليا مناقشة منضبطة، لتوضيح الرأى والمسببات ـ حافزاً لقادة الفيالق والفِرق على اتخاذ قراراتهم، بعيداً عن الضغوط السياسية المحيطة، والعمل وفق أصول العلم العسكري. وأسفر ذلك عن تحوّل كبير في نتائج القتال، أوقف الانتصارات الإيرانية، وجعل الكفة راجحة في مصلحة العراق. وأظهرت القوات العراقية المقاتلة وقيادتها، حماسة وكفاءةً، عكس ما بدا منهما في بدء الحرب؛ فالجنود شجعان، والقيادة مرنة، والأداء باهر، لتكون خاتمة قوية لحرب طويلة.

كان قرار القيادة السياسية، إتاحة الفرصة للقيادات، الإستراتيجية والعملياتية، لممارسة قيادة حقيقية، واتخاذ القرارات الذاتية ـ تشجيعاً، على الطريقة السوفيتية، يحفز على إظهار القدرات والإبداع والابتكار. ومع اقتراب نهاية الحرب (1987 ـ 1988)، كان هناك ثلاثة نجوم لامعة في سماء العسكرية العراقية. فبعد قناعة القيادة السياسية بقدرة القادة العسكريين على إدارة عمليات ناجحة، وتحملهم مسؤولية قراراتهم الميدانية، أطلق العنان لهم في التخطيط والقيادة. فتألق وزير الدفاع، الفريق عدنان خيرالله، الضابط الوحيد في مجلس قيادة الثورة العراقية، أعلى جهاز في الحكم، وهو ضابط مدرعات، كذلك، وبرزت مواهبه القيادية، منذ معركة "كربلاء 5" وأصبح رجل الساعة، حتى إن الرئيس العراقي، صدام حسين، امتدحه علانية (وهو ما لم يفعله من قبل، على الرغم من أن خيرالله هو ابن عم صدام حسين، وأخوة لأمّه). وفي المعارك التالية، ولازدياد ثقة صدام بقادة فيالقه، ترك لهم حرية أكبر في معارك "توكلنا على الله". ولمع اسم كلٍّ من اللواء رشيد، واللواء فخري، كقائدَي فيالق ميدانية ناجحَين. وأضفى عليهما الإعلام العراقي هالة من البطولة، استحقاها، فتحققت لهما الشهرة والشعبية، وعُرفا في كل أرجاء العراق، وهو أمر غير اعتيادي، بالنسبة إلى المجتمع العراقي، الذي تعود ألاّ يقدس غير الحاكم.

كان النجاح في "كربلاء 5" وما بعدها، يمثل نقطة تحول إيجابية للقيادات العراقية الميدانية، على كافة المستويات، إذ استطاعت كسر تكتيكات وإستراتيجية الموجات المتتالية، الصينية الابتكار، والتي طالما اتبعها الإيرانيون. وواجه الجندي العراقي، من دون خوف، عنف الهجمات الإيرانية، المعتمدة على الأفراد الراغبين في الموت عن عقيدة. ولم يرتبك القادة، بل واجهوا الموقف بما يناسبه من قرارات، نفذتها قواتهم بجسارة، فدان لهم النصر، الذي تغيب طويلاً، مما أثار عجب الخبراء من هذا الانقلاب المفاجئ في الأداء.

رابعاً: تأثير القرارات العليا في إدارة الحرب

كان من الواضح أن القرارات الميدانية لإدارة الحرب مفروضة من القيادات العليا في الدولتَين. وهو ما أدى إلى كوارث متعددة، وكان سبباً للعجز عن حسم القتال، وأثر في فاعلية القوات واستثمار نجاحها في المعارك استثماراً جيّداً، إضافة إلى إهداره كثيراً من القدرات.

سيطر زعماء الشيعة الإيرانيون على القوات المسلحة، بشقَّيها، من دون دراية كافية بالشؤون العسكرية، والسياسية، في بعض الأحيان. وفرضوا على العسكريين الإيرانيين عقيدة الموجات البشرية، التي أدت إلى خسائر جسيمة، وأداء سيئ، عرَّض القوات الإيرانية للهزائم المتتالية، حتى اضطروا إلى قبول وقف إطلاق النار، قبل أن تعصف الهزائم العسكرية، والأزمة الاقتصادية، بالنظام الثوري كله.

لم تكن القوات المسلحة العراقية في وضع أفضل؛ فقد سيطر السياسيون على القرارات العسكرية. ودفعت القوات العراقية ثمناً باهظاً لتدخّل السياسيين في الشؤون العسكرية. وألغى هذا التدخل التفوق العراقي النوعي، في الأسلحة وقدراتها المتميزة عن تلك الإيرانية. وتمكن العراق، في السنوات الأخيرة من الحرب، التخلص، نسبياً، من هذا الأسلوب، بالسماح للقادة العسكريين المحترفين بشيء من الحرية، في القرارات الميدانية، فتطورت قواته، تبعاً لأداء العسكريين، تنظيماً وتدريباً وتسليحاً، وحققت انتصارات متتالية، وأدارت معارك وعمليات ناجحة، في العام الأخير.

كان تدّخل القيادات العليا في القرارات الميدانية، أكبر الكوارث التي واجهتها القوات المسلحة، للدولتَين، وأثرت في أدائها وقدراتها، وأضعفتها إلى حدّ، أعجزها عن متابعة أعمال القتال، في الجانبَين. فتباطأت عجلة الحرب، واتخذ صور معارك الماضي، على الرغم من استخدام الأسلحة الحديثة.

درس خاص، يستنتج من هذه الحرب، ولعله آخر دروسها، أنها تميزت بقيادة سياسية أوتوقراطية (ديكتاتورية)، لدى طرفَيها. وسعت كل منها لتكون كلمتها هي النافذة في ميدان حرب، هي بعيدة عنه، مسافةً وعلماً، وخبرة. وأدى ذلك إلى جمود القيادات العسكرية، وخسارة المعركة تلو الأخرى. فيكون مفاد هذا الدرس، أن يترك للقادة الميدانيين، كل في قطاع مسؤوليته القيادية، حرية كاملة في اتخاذ القرارات، ومتابعة تنفيذها، ما داموا سيسألون عنها؛ فالتدخل في إدارة الصراع، واتخاذ القرارات، نيابة عن قادة التشكيلات والقطاعات، أمر غير مرغوب فيه لخطره على نتائج الحرب، وهو ما ينعكس على القادة أنفسهم، والجنود، الذين سيشعرون بالضغوط السياسية على قادتهم. كما أن هذا الأسلوب، يؤدي إلى عدم ظهور قيادات ميدانية ناجحة، ويثير التذمر بين صفوف الجنود والقادة، ويجعل القادة الأصاغر، يعتمدون على تدخل القيادات الأعلى، نيابة عنهم، في قرارات القيادة، فتضعف شخصيتهم القيادية، ويقلّ إقبالهم على العلم العسكري، والتأهل لحمل مسؤولية القيادة.

خاتمة

تواصلت الحرب العراقية ـ الإيرانية، ثماني سنوات. وراوح النصر فيها بين كفتَي الدولتَين المتحاربتَين، قبل أن تتوقف. وعُدَّت أهم أحداث العقد التاسع (الثمانينيات) من القرن العشرين، وقد استغرقته كله بمقدماتها وتوابعها. وهي حرب إقليمية، لتورط قوّتَين فيها، من أكبر القوى الإقليمية، الخليجية والشرق أوسطية. كما أنها كانت بين دولتَين إسلاميتَين، إحداهما عربية.

اندلعت هذه الحرب بين قوّتَين إقليميتَين، تملكان قوى مسلحة، عدت، آنئذٍ، الأقوى في منطقة الشرق الأوسط كلها. إلا أن إحداهما، وهي إيران، كانت في هبوط، لسوء حالة قواتها المسلحة، فنياً ومعنوياً وكفاءة، نتيجة لأحداث الثورة، والمتغيرات التي كانت تلم بها. وطبيعي أن يكون أداؤها غير مرضٍ، إلا أنها لم تنهر، واستطاعت أن تصمد، بل كان في مقدورها أن تخرج من الحرب بنتيجة أفضل، لو أنها لزمت الدفاع.

والثانية، وهي العراق، كانت في صعود، لاستقرار قيادتها السياسية في الحكم، منذ فترة غير بعيدة، استطاعت، خلالها، أن تحكم قبضتها على أجهزة الحكم والشعب، وأن تفسح لنفسها مكاناً براقاً في السياسة الإقليمية العربية، بما أطلقته من شعارات، وما أجادت أداءه من مواقف، جذبت إليها بعضاً من المناصرين لشعاراتها في الدول العربية. وكان يمكنها إحراز نصر نهائي وحاسم، لو أنها لم تخطئ مراراً. وعلى الرغم من هذا فإنها، بنهاية الحرب، صارت قوة عظمى، إقليمياً، ذات جيش ناهز المليون من المحترفين المتمرسين، وأسلحة حُدِّثَتْ واختبرت وعُدِّلَتْ. بيد أن هذا التحول في المركز الإقليمي، لم يكن ليرضي القوى الإقليمية الأخرى، كما أنه لا يرضي، كذلك، القوى العالمية، العظمى والكبرى. وكانت البداية اقتصاد يختنق من قبضة الديون، ودول مجاورة كانت، بالأمس، متحمسة لمناصرته، وأصبحت، اليوم، متخوفة من تضخمه غير المتوازن، فكان لا بدّ من التوتر.

تحتل هذه الحرب مكانتها في التاريخ، خاصة تاريخ الحروب، بما عكسته، من أزمات ومشكلات، في مجالات عدة، وما وضح، خلال أحداثها من إمكانات تطورها، بتورط دول خارجية فيها، قد تصل بها إلى العالمية. فالمنطقة التي جرت فيها الأحداث، هي الأكثر أهمية لدى العالم، اليوم، بما تحويه في باطنها، من ثروة طبيعية، هي جدُّ حيوية للحضارة الحديثة.

لقد أعقب توقف القتال بين طرفيها، تصاعد خطير، وسريع، في الأحداث، وتوتر حادّ، في العلاقات، أدّيَا إلى نشوب حرب أخرى، بين الطرف العربي في الحرب، العراق، وجاراته العربيات اتسعت لتصبح عالمية، باشتراك قوى دولية وعظمى فيها. ولولا أنها ـ أي الحرب الخليجية الثانية ـ تزامنت مع انهيار الكتلة الشرقية، وتلاشي النظام العالمي، الثنائي القطبية، وتولِّي الشرعية الدولية، المتمثلة في إشراف الأمم المتحدة على الأحداث وموافقتها على إجراءاتها، قيادة هذه الحرب، لكان للعالمية وجْه آخر، قد يجر العالم إلى ويلات، طالما تجنبها، طوال نصف قرن (منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية).

أوضحت الدراسات الإستراتيجية، واجبات ثلاثة ذات أسبقية أولى، يجب العناية بها، عند مواجهة العراق، بعد انتهاء حربه الطويلة مع إيران:

1. واجب إستراتيجي: ضرورة إزالة القوة الصاروخية لدى العراق، من ترسانة صواريخ أرض/أرض السوفيتية، والمعدلة عراقياً، والتي أصبحت من الضخامة، والكثرة، وبُعد المـدى، ما يجب أن يحسب له حساب دقيق؛ إذ أمست تهديداً داخل المنطقة، لا يمكن إغفاله.

2. واجب عملياتي: ضرورة وجود تفوّق جوي ذي قوة فاعلة في المنطقة، يتيح، بالتعاون مع غيره من الأنظمة، تدمير القوى العسكرية العراقية، وإحباط أعمالها القتالية المتوقعة، وإضعاف للقدرات العراقية فوق التقليدية، الكيماوية والنووية.

3. واجب تكتيكي: تحطيم آلة النيران العراقية، لحرمان قواته الضخمة الإسناد النيراني القوي، ذا البناء المدفعي الكثيف، مما يزيل التهديد النيراني، ويضع القوة العراقية تحت رحمة الآخرين.

تعاقب الحربَين، وضخامة الأعمال القتالية، في الحرب الخليجية الثانية، وعصرية أسلحتها وتكتيكاتها وإستراتيجياتها، جعلت حرب الخليج الأولى تقبع في زوايا النسيان، سريعاً. ونتائجها ودروسها، لمّا تزل قيد الدراسة. وهو ما دعا إلى هذه الدراسة، حرصاً على الوعي التاريخي لدى الشعوب.

لقد أصبح العراق، بعد الحرب مع إيران، تحت حكم شمولي كامل، القائد فيه، هو رمز السلطة، وهو قوتها، كذلك، واهتزازه يعني اهتزاز الحكم، واختفاؤه، يعني اختفاء الحكم. لذلك، فإن القيادة السياسية العراقية، سعت، مع آخر الطلقات في الحرب، وقبل أن ينقشع دخانها، وتبرد أسلحتها، إلى دعم سلطة الحاكم، وشرعت في حملة دعائية قوية، لزيادة شعبيته ونفوذه؛ إذ إن سقوطه يعني تفرق هيكل القيادة المركزي، وهو ما حدث في الطرف الآخر من الحرب، إيران، حينما مات قائدها بعيد الحرب، ومزقتها صراعات مراكز القوى على السلطة.



[1] وضح في حرب الخليج الثانية، أن هذه القوات تميزت، على حساب القوات النظامية، التي كانت تعاني ضعفاً واضحاً في التسليح والتدريب.

[2] متطوعين تم تدريبهم على عجل من أعضاء حزب البعث، تسليحهم خفيف وخبراتهم ضعيفة.

[3] بعد أن ساند الأمير فيصل البريطانيين في الحرب العالمية الأولى، وغزا، بقواته، من القبائل الحجازية المسلحة الشام، هازماً القوات التركية، حتى وصل دمشق وفتحها، كان ينتظر أن يعين ملكاً على الشام (سوريا ولبنان)، إلا أن البريطانيون كانوا قد اتفقوا مع الفرنسيين على غير ذلك، فقد تركت منطقة الشام للنفوذ الفرنسي، وفتح الأمير فيصل منطقة العراق ليقيم فيها مملكة، ومنح شقيقه الأمير عبدالله منطقة شرق نهر الأردن ليقيم فيها مملكة شرق الأردن.