إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / كوسوفا... التاريخ والمصير





انتشار القوات
التقسيم المؤقت
تأثير ضربات حلف شمال الأطلسي
شكل توزيع القوات

أهم الأهداف التي تعرضت للقصف



المبحث الثاني

المبحث الثاني

شرارة الحرب، وتفجر الأزمة

أولاً: كوسوفا شرارة الحرب

تتكون يوغسلافيا السابقة من ست جمهوريات، ومقاطعتَين. تتمتعان بالحكم الذاتي. الجمهوريات هي: صربيا، وكرواتيا، وسلوفانيا، والبوسنة والهرسك، ومقدونيا، والجبل الأسود. والمقاطعتان هما: كوسوفا، وفوديفودينا. وتقع مقدونيا جنوب كوسوفا، وألبانيا في شمالها، وفي شرقها صربيا، وفي غربها الجبل الأسود.

ويُعد إقليم (مقاطعة) كوسوفا، من أفقر المقاطعات في أوروبا. فاقتصادها يعاني الشلل، بسبب السّنوات الطويلة من سوء الإدارة الشيوعية، والمشاكل الداخلية، وارتفاع معدل المواليد ارتفاعاً كبيراً،  ومع ذلك، فالمقاطعة غنية بالموارد الطبيعية.

ويبلغ عدد سكان الإقليم مليوني نسمة، 93% منهم مسلمون، من أصل ألباني؛ و7% من أعراق مختلفة، من الصرب، والجبل الأسود، وتركيا.

وتقدَّر مساحة إقليم كوسوفا بنحو 11 ألف كم2. ويعد الصّرب كوسوفا أرضهم المقدسة؛ فهي مسرح هزيمتهم التاريخية المريرة، على أيدي العثمانيين، في القرن الرابع عشر، عام 1389 (معركة ميرل). ويرجع الصّراع بين الصّرب والمسلمين الألبان في الإقليم، إلى أمد بعيد. فقد تولى الصّرب السيطرة على الإقليم، عام 1913، ومنذ ذلك الحين، وهم يتمسكون بهذه الأرض، باستثناء الفترة، التي ضمت فيها إيطاليا كوسوفا إلى ألبانيا المجاورة، أثناء الحرب العالمية الثانية. ومنذ عام 1974 حتى عام 1989، أدار الألبان، إقليم كوسوفا، الذي كان يتمتع بالحكم الذاتي.

على أن كوسوفا، في عهد الرئيس تيتو، عام 1974، نعمت بالاستقلال الذاتي، في إطار يوغسلافيا الفيدرالية. ووفقاً للحقوق الدستورية، كانت لها حكومة خاصة، وبرلمان تشريعي منتخب، وكانت اللغة الألبانية، هي المستخدمة في المدارس والجامعات ومحطات التليفزيون، والصحف المحلية. وعدّ أهالي كوسوفا نيلهم هذه الحقوق، خطوة متقدمة، على طريق إقامة دولتهم المستقلة، مستقبلاً، داخل إطار يوغسلافيا الفيدرالية، خاصة أن دولاً أعضاء في الاتحاد، مثل مقدونيا، وسلوفينيا، هي أقلّ سكاناً من كوسوفا.

وكانت مقاطعة كوسوفا تتمتع بالحكم الذاتي، حتى عام 1989، حينما بادر الصرب، من جانب واحد، وتحت تأثير تصريحات سلوبودان ميلوسيفيتش المتطرفة، إلى إلغاء حكمها الذاتي، وحل برلمانها وفرْض القانون الصربي عليها، وعدها، عام 1990، جزءاً من جمهورية صربيا.

وفي مارس 1990، أصدر الصّرب مرسوماً، بعنوان "برنامج جمهورية الصرب، لاستعمار إقليم كوسوفا"؛ فُصل، بمقتضاه آلاف من المهنيين الألبانيين. وعدَّد المرسوم الميزات، التي سوف تمنح للصرب، وأبناء الجبل الأسود، الراغبين في الاستقرار في إقليم كوسوفا. وأعلن المرسوم، إضافة إلى ذلك، استبعاد الألبانيين عن جميع الوظائف، والمراكز المؤثّرة في الإقليم. وقد لجأت الحكومة الصربية إلى تغيير التوازن الديموجرافي في المقاطعة، بترحيل أعداد كبيرة من المسلمين، من مدنهم وقراهم؛ واستخدام الإغراءات المادية، لاجتذاب الصرب، وإقناعهم بالانتقال إلى المقاطعة، والعيش قيها، لإعادة تشكيل تركيبتها العِرقية. والدافع وراء ذلك كله، هو إقامة جمهورية صربيا الكبرى، وجعلها الدولة القوية في أوروبا. لذلك، ترفض صربيا حتى النظر في مقترحات، من نوع إعادة الحكم الذاتي إلى كوسوفا.

ويعد الصّرب "كوسوفا بولي"، القريبة من بريشتينا، عاصمة الإقليم، مركزاً لحضارتهم، التي ترجع إلى العصور الوسطى. ويقول الزعيم الصربي، سلوبودان ميلوسيفيتش، بعبارة مشحونة بالعاطفة: "إن كوسوفا هي مهد صربيا، ويجب أن تعود إلينا". ويذكر الصِّربيون، أن مدينة "بيك"، في كوسوفا، هي مقر البطريركية الصِّربية.

إن صربيا، سواء في كوسوفا أو في البوسنة والهرسك، تنتهك حقوق الإنسان؛ فمعاملة الصرب للمسلمين قاسية، وغير إنسانية؛ وقد زجّت الشّرطة بالآلاف من الشباب في السّجون، وطردت عشرات الآلاف من وظائفهم. ويتعرض الأشخاص، الذين تجري في عروقهم دماء ألبانية، يومياً، للاعتقال، على يد الشّرطة، بل للضرب والتعذيب والاحتجاز، وتتعرض منازلهم للتفتيش.

وقد كشفت لجنة حقوق الإنسان، في الأمم المتحدة، لتقصي الحقائق في يوغسلافيا وكوسوفا، والتحقيق في المجازر وأعمال الإرهاب، التي يمارسها الصرب ضد الأغلبية المسلمة في كوسوفا ـ أن كثيراً من التجاوزات، ارتكبها الصرب في السجون ومعسكرات الاعتقال، في حق المسلمين المحتجزين، والسجناء والمعتقلين.

وفي مجال التعليم، أغلقت الحكومة الصِّربية كل المدارس في مقاطعة كوسوفا، أمام الطلاب الألبانيين؛ ثم بدأت في اعتماد أساليب المسخ الثقافي، ونسف الهوية الثقافية، الألبانية لحساب الثقافة الصربية. وكانت الحكومة الصّربية قد حظرت التعليم ،الثانوي والجامعي، باللغة الألبانية، وأصبحت لغة التعليم، في الإقليم، هي اللغة الصّربية؛ وصار المنهج الدراسي يوضع في بلغراد، بهدف "صربنة" الألبانيين، الذين يشكلون 93% من عدد السكان في الإقليم. وفي إطار هذه السياسة، فُصِل 800 أستاذ جامعي ألباني، من أصل 900 أستاذ، وحل مكانهم أساتذة صربيون. كما واجه عدة آلاف، من معلمي المرحلة الثانوية، المصير نفسه، الذي تأثر به نحو 400 ألف تلميذ وتلميذة.

وصارت حدة القمع تزداد، يوماً بعد يوم، ويتعرض التلاميذ للضرب، وهم في طريقهم إلى مدارسهم، بسبب حملهم كتباً لتدريس اللغة الألبانية؛ فيما يواجه آباؤهم عمليات القتل والتعذيب. ولم يُسمح إلاّ ببعض الحصص، في المدارس الابتدائية، لتدريس اللغة الألبانية؛ ولا يتقاضى المعلمون فيها أي رواتب، ويعيشون على الهدايا، التي يقدمها آباء التلاميذ. وفي رد فعل لاحتواء الفصل التعسفي، الذي يتعرض له المعلمون والتلاميذ، بدأت الجماعات الألبانية تؤسس مجتمعاتها الخاصة، وبدأ الأطفال الألبانيون يتجمعون في منازل، خاصة لتلقي التعليم، على يد المعلمين الألبانيين، الذين وصلوا من المدارس، الابتدائية والمتوسطة، ومن الجامعات، في مختلف أنحاء إقليم كوسوفا. وتحوّل كثير من أساتذة الجامعات، والمعلمين الألبانيين، الذين فصلهم الصرب إلى حِرف لا تمتّ إلى تخصصاتهم بصِلة، فعملوا سائقين لسيارات الأجرة، وموزعين للبريد، وعمال بناء. وكذلك كان الحال في مجالَي الطب والهندسة، ومختلف قطاعات العمل والعمال.

وقد جعل الفصل الجماعي للألبانيين من وظائفهم، الحياة أكثر قسوة وصعوبة، في إقليم، فاقت فيه نسبة البطالة40%، وهي أعلى نسبة، على امتداد تاريخ ما كان يعرف بيوغسلافيا. وقد فقد معظم الألبانيين، في إقليم كوسوفا، وظائفهم.

وأمعن الرئيس الصربي، سلوبودان ميلوسيفيتش، في عنصرين، فدفع شعارات، من بينها: "نحن حماة المسيحية من خطر الإسلام"، و"لا لعودة الحكم التركي"، و"لا لكوسوفا 1389م"؛ وهي شعارات تذكر اليوغسلاف بالأتراك، الذين احتلوا كوسوفا، في ذلك العام. كما أصدر ميلوسيفيتش أوامره باعتقال زعيم المسلمين الروحي، يعقوب سليم، مع 43 شخصية من علماء الدين الإسلامي، فيما يفسره المسلمون في كوسوفا، بأنه إنذار لكل مسلمي يوغسلافيا، بعدم الوقوف في وجه دولة صربيا الكبرى. كما سبق أن اعتدت الشرطة الصربية على الشيخ رجب بويا، رئيس المشيخة الإسلامية في كوسوفا.

وقد اعتمدت السلطات الصربية في كوسوفا، أساليب المسخ الثقافي للألبانيين المسلمين، في محاولة جادة لنسف هويتهم الثقافية الإسلامية، لحساب الثقافة الصربية. ومن أمثلة ذلك، أنّ نشرة الأخبار، في البثّ التليفزيوني الموجه إلى الألبانيين المسلمين، باللغة الألبانية، يقدمها مذيع صربي. كما أن بثّ هيئة الإذاعة البريطانية، تجرى ترجمته باللغة الصربية. وقد توقف كلية، في عاصمة إقليم كوسوفا، منذ عام 1991، بثّ التليفزيون باللغة الألبانية. كما قررت الحكومة حظر الجريدة الوحيدة، التي تصدر باللغة الألبانية في الإقليم.

ويخضع الإقليم بالكامل، منذ أوائل التسعينيات، لنظام من الفصل العنصري، يعيش الصرب والألبان، بمقتضاه، في مناطق منفصلة، بعد أن كانوا يسكنون في أحياء مختلطة، ويحتفظون بصداقات فيما بينهم. ولكن الحال تغير ابتداءً من عام 1993، فأصبح الطرفان لا يتبادلان التحيات، فتكرست القطيعة.

ونمت الحركات الانفصالية في يوغسلافيا الفيدرالية، فأعلنت جمهوريتا سلوفينيا وكرواتيا استقلاليهما، في يوليه 1990؛ لكن صربيا رفضت هذا الاستقلال، واقتحم الجيش الاتحادي أراضي سلوفينيا في يوليه 1991، لإلغاء قرار الاستقلال. وبتدخل الجماعة الأوروبية، أُبرم اتفاق لوقف القتال بين الجانبَين.

وانتقل الصراع إلى كرواتيا، وتدخلت الجماعة الأوروبية، مرة أخرى. ولكن بلغراد لم تستجب للوساطة الأوروبية، مما حمل الجماعة على الاعتراف باستقلال كل من سلوفينيا وكرواتيا. وبتدخل الأمم المتحدة، استطاعت تجميد الموقف بين كرواتيا وصربيا، من طريق اتفاق لوقف إطلاق النار، ونشر قوات دولية لحفظ السلام.

وفي فبراير 1992، بدأ الاستفتاء في جمهورية البوسنة، بشأن الاستقلال عن يوغسلافيا، الذي نجم عنه حرب شعواء، بين صرب البوسنة، والكروات، والمسلمين. ونتيجة لتدخل الجيش الاتحادي، تمكن الصرب من السيطرة على أكبر مساحة من الجمهورية، ثم إعلان دولتهم المستقلة، في أبريل 1992. واستمرت المعارك على أرض البوسنة، وأسفرت عن استيلاء الصرب على ما يقرب من 70% من أراضي الجمهورية، على حساب العناصر الأخرى. وخلال أربع سنوات من الصراع والحروب، وممارسة كل أنواع التطهير العِرقي والتدمير والحرق، وبعد سلسلة من الوساطات والتدخلات الدولية، أمكن التوصل إلى اتفاق "دايتون للسلام"، في 14 ديسمبر 1995، الذي نص على تقسيم البوسنة إلى قسمَين: الأول، يمثل 51% من الأراضي للمسلمين والكروات. والثاني، يمثل 49% من الأراضي، وتخصص للصرب؛ مع وجود دستور فيدرالي، يجمع القسمَين، وتصبح سراييفو عاصمة موحدة للقسمين.

إن المسلمين في كوسوفا، يعيشون في قلق دائم، وخوف مستمر، ولن يستطيعوا العيش في أمان وسلام، وممارسة شعائرهم وتقاليدهم، إلا بالحصول على الحكم الذاتي، كما كان الأمر من قبل؛ وضمان الحريات السياسية والحقوق والحماية؛ أو الانفصال عن صربيا.

وقد جاء استفتاء سبتمبر 1991، الذي تمكن المسلمون من إجرائه، بعد جهد ومشقة، ليؤكد، بالإجماع، رغبتهم في الانفصال عن صربيا، وتكوين دولة مستقلة لهم.

وقد كانت نتيجة الاستفتاء إيجابية، وبأغلبية ساحقة، مما دعاهم إلى إعلان الاستقلال، وإقامة جمهورية كوسوفا، برئاسة "إبراهيم روجوفا"؛ وهو أمر لم يُعترف به حتى الآن. ومع ازدياد أعمال القمع الصربية لألبان كوسوفا، شكل المسلمون فيها "الحركة القومية لتحرير كوسوفا"، التي انبثق منها "جيش تحرير كوسوفا".

أما الدول المحيطة بإقليم كوسوفا، فتضاربت مواقفها منه؛ إذ سعت المجر إلى تأمين الحماية للأعراق المجرية، داخل جمهورية الصّرب، من خلال مساعدتها ودعمها لكرواتيا. وعمدت ألبانيا إلى الوقوف إلى جانب جمهورية الصرب، لموازنة التحرك المجري؛ لكنها طرحت في الوقت نفسه، بوضوح، مصير المسلمين المنحدرين من أصول ألبانية، والذين يشكّلون غالبية السكان في إقليم كوسوفا. كذلك، وضعت اليونان يدها، في يد جمهورية الصرب، من أجل منع قيام دولة مقدونية. أمّا بلغاريا، التي تتبعها مقدونيا، تاريخياً، فقد اعترفت باستقلال الدولة الوليدة. ثم يأتي قرار الجماعة الأوروبية، الذي اتخذته في قمة لشبونة، والذي يقضي بعدم الاعتراف باستقلال مقدونيا، إلى حين تغيير اسمها (وهو الشرط، الذي تشبثت به اليونان). وقد أوجد هذا القرار فرصاً طيبة، لاحتواء الأزمة، على امتداد البلقان.

ونتيجة لهذه المصالح المتضاربة، يُلاحظ تبلور محورَين أساسيَّين.

المحور الأول: يحتل حزاماً جغرافياً، يمتد من الشمال إلى الجنوب، ويضم كّلاً من اليونان، وجمهورية الصرب، ورومانيا.

المحور الثاني: يمتد في حزام جغرافي، من الشرق إلى الغرب، تشكّله تركيا، وبلغاريا، وألبانيا.

وهذان المحوران، في حقيقة الأمر، حلفان غير رسميين. غير أن هذه الحقيقة، لن تنفي ما ينطويان عليه من أخطار، تحدق بالمنطقة. فمن الوارد في الحسبان أن تعمل تطورات الأحداث، على تصعيد التوتر بينهما إلى حد تصعب السيطرة عليه، وينذر بالخطر.

وأما إذا انتشرت الحرب إلى إقليم فوفودينا الصربي، فإن المجر لن تطيق الوقوف مكتوفة الأيدي، في وقت تتعرض فيه أعراق مجرية للإبادة. كما أن حرباً في مقدونيا، قد تجرّ بلغاريا؛ وأي حمامات دماء في كوسوفا، من شأنها أن تدفع بألبانيا، إلى المواجهة مع الصرب. وقد أبلغت أثينا الجهات المعنية، أنه إذا قررت تركيا تزويد، أي طرف من الأطراف المتحاربة بالسلاح، فإن اليونان سوف ترد على ذلك العمل من جنسه.

وقد اتخذت الجماعة الأوروبية أثينا، جسراً للتفاهم مع الرئيس الصربي، سلوبودان ميلوسيفيتش. وفي اجتماعات سرية، عقدت خلال شهر يوليه 1992، حذّرت اليونان الرئيس الصربي، بشدة، مغبة عدم منح العِرق الألباني في كوسوفا، حكماً ذاتياً واسع الصّلاحيات.

وتطالب ألبانيا، في محادثات، أجراها الرئيس الألباني، صالح بيريشيا، مع وزير الخارجية البريطاني، دوجلاس هيرد ـ بتهيئة الحماية للمواطنين المسلمين، القاطنين في إقليم كوسوفا. ودعا دوجلاس هيرد إلى الإسراع في عملية إرسال المراقبين الدوليين، من واقع حضوره في مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبيين. وركّز وزير الخارجية البريطاني في الأخطار، التي يشكلها العدوان الصربي. وتُعَدّ هذه المحادثات الأولى في نوعها لمسؤول بريطاني، في العاصمة الألبانية، تيرانا، جاءت بعد تحذيرات مشددة وجّهها هيرد إلى الرئيس سلوبودان، في بلغراد، يوم السبت، الموافق 18 يوليه 1992، في شأن حقوق الإنسان، وضرورة المحافظة عليها. وقال هيرد: "إذا حدث انفجار في إقليم كوسوفا، فإننا سنعود إلى نقطة البداية".

1. اتفاقية أوسلو

ونظراً إلى التجربة السابقة في البوسنة، أدرك المجتمع الدولي خطر تطور الأمر في كوسوفا، ليصل إلى حدِّ الحرب، بين الصرب والألبان، خاصة أن هناك وجوداً قوياً للألبان في كلٍّ من مقدونيا والجبل الأسود وألبانيا؛ إضافة إلى احتمال مشاركة كلٍّ من اليونان، وبلغاريا، وتركيا، مما يصعد الموقف، ويجعل من الصعب حصر الصراع الصربي ـ الألباني في كوسوفا وحدها.

لذلك، بدأت كلٌّ من فرنسا وإيطاليا وبريطانيا مساعيها، لدى بلغراد، تمخضت عن اتفاقية صربية ـ ألبانية، حملت اسم "أوسلو"، في سبتمبر 1996، وقعها الرئيس الصربي، سلوبودان ميلوسوفيتش، وإبراهيم روجوفا، رئيس جمهورية كوسوفا المعلنة. وهي خاصة بالتعليم، كنواة للعودة إلى الحكم الذاتي. إلاّ أن الضغوط، التي مارسها المتطرفون الصرب على حكومة ميلوسوفيتش، حالت دون تنفيذ هذه الاتفاقية؛ وذلك لخوفهم من أن يؤدي تنازلهم في قضية التعليم، إلى سلسلة من التنازلات الأخرى، التي ربما تنتهي بمنح الإقليم الحكم الذاتي؛ فيضيع حلمهم في قيام دولة صربيا الكبرى.

وعلى الجانب الآخر، أصبح التيار المعتدل، الذي يقوده الزعيم روجوفا، غير قادر على التحكم في سكان الإقليم، من الألبان، الذين بدأوا يتشككون في سياسة زعيمهم المعتدلة، التي لم تحقق لهم أملهم في الحكم الذاتي. وقد دعاهم ذلك إلى الانتفاضة، التي رد عليها الصرب بالمذابح، والقصف بالمدفعية والدبابات، وتهجير سكان الإقليم، لإفراغه، وإسكان النازحين الصرب من كرواتيا والبوسنة مكانهم؛ وذلك لمعادلة الأغلبية السكانية المسلمة في كوسوفا، حيث تمثل المشكلة الديموجرافية مصدراً رئيسياً لقلق السلطات الصربية.

وتمثل قضية التعليم مرتكزاً خاصاً؛ ذلك أنه منذ عام 1989، عندما أُلغي الحكم الذاتي لكوسوفا، انتُزع معظم المباني، المدرسية والتعليمية، من الألبان في الإقليم، فجاءت الاتفاقية لتنص على تطبيع النظام التعليمي، ودعوة الطلاب إلى العودة إلى مدارسهم وجامعاتهم، التي كانت قد أُخذت منهم.

إلاّ أن الشارع الألباني، انقسم على نفسه، بين مؤيد، رأى الاتفاق خطراً على طريق التفاوض في الاستقلال وإعلان الجمهورية؛ ومعارض، رأى الاتفاقية تخلياً عن الحلم القومي في الاستقلال، وإعلان الجمهورية، عام 1991. ثم جاء تباطؤ الصرب في إنفاذ بنود اتفاقية أوسلو، ليزيد من السخط عليها، وأُحرج موقف الدكتور إبراهيم روجوفا، أمام سكان الإقليم؛ ومع تصاعد الغضب الكوسوفي، بدأ التخلي عن الخط، الذي تمسك به منذ عام 1991، وهو النضال السلمي. ومع الذكرى السنوية الأولى للاتفاقية، كان الجيش الجمهوري لتحرير كوسوفا، قد تكَوَّن (سبتمبر 1997)؛ وإن اعتُقِدَ في البدء، بأنه منظمة اسمية، فقد جاءت الأحداث، لتؤكد عكس ذلك؛ لتتكرر مأساة البوسنة مرة أخرى: من إرهاب الصرب للمواطنين، وارتكاب مذابح جماعية في حقهم، ومحاولات إفراغ إقليم كوسوفا من سكانه؛ لتشهد أوروبا واحدة من أكبر عمليات النزوح الجماعي. كل ذلك، بدعوى تعقب جيش تحرير كوسوفا.

2. اتجاهات الفكر الألباني

انقسم الفكر الألباني تجاه أزمة كوسوفا، إلى اتجاهَين: الأول سياسي تفاوضي؛ والثاني، عسكري.

أ. الاتجاه الأول: السياسي التفاوضي

تبنى هذا الاتجاه العمل السياسي التفاوضي، كمنهج للتعامل مع الأزمة. وظهرت عدة اتجاهات سياسية، مثل الحزب البرلماني الألباني، وحكومة المنفى، ورابطة كوسوفا الديموقراطية. لكن هذه القوى السياسية، مالبثت أن ناصرت العمل العسكري، سوى حزب الاتحاد الديموقراطي لكوسوفا، برئاسة الدكتور إبراهيم روجوفا، الذي استمر في النهج السياسي السلمي.

والدكتور إبراهيم روجوفا (55 عاماً)، هو السياسي الألباني الأكثر اعتدالاً بين زعماء الألبان. وقد نشأ في ظل أجواء القهر والقمع، اللَّذَين انتهجهما الشيوعيون اليوغسلاف، الذين أعدموا والدَيه، بعد الحرب العالمية الثانية. هو كاتب وعالم، في الأدب الألباني، درس علم اللغويات في جامعة السّوربون في فرنسا.

ومن قادة هذا التيار، كذلك الدكتور فهمي أغاني (66 عاماً)، وهو نائب رئيس حزب الاتحاد الديموقراطي لكوسوفا، ويوصف بأنه منظّر الأهداف الاستقلالية لألبان كوسوفا. وهو حاصل على الدكتوراه في علم الاجتماع، وعمل أستاذاً في جامعة بريشتينا، نحو ثلاثين عاماً. وقد عُثر عليه مقتولاً في كوسوفا، في مايو 1999؛ وأكدت وزارة الخارجية الألمانية، أنه قُتل على يد القوات الصربية.

وقد نجح هذا التيار في تكوين مؤسسات، موازية للمؤسسات الصربية؛ وفي مقاطعة الأنشطة الحكومية المركزية؛ في إطار سياسة المقاومة غير العنيفة، وإبراز حدة الضغوط الصربية على الألبان؛ ولا سيما انتزاع مَدارسهم، وحظر استخدام اللغة الألبانية في وسائل الإعلام.

وقد تدهورت شعبية هذا الاتجاه، لتمسكه بالحل السلمي، واتهامه بالسلبية والمهادنة؛ ثم تدهورت علاقته بحكومة المنفى، مما أفقده مصادر التمويل الخارجية. وقد اشتهر الدكتور روجوفا بصلابته وقدرته على الإقناع، وتمسكه بالمقاومة السلمية، على نمط الزعيم الهندي، غاندي.

ب. الاتجاه الثاني: العمل العسكري

أنشأ الألبان، عام 1993، جناحاً عسكرياً، لحماية المدنيين، وتحقيق الاستقلال في بريشتينا، عرف باسم جيش تحرير كوسوفا. إلاّ انه لم يعلن وجوده إلاّ في يوليه 1997، وبدأ مقاتلوه بالظهور العلني، بأسلحتهم وملابسهم العسكرية، منذ مطلع أبريل 1998. وكان أول ظهور علني للمتحدث الرسمي للجيش، في تليفزيون تيرانا، في منتصف يونيه 1998، وهو يرتدي الزي الرسمي للجيش، بشعاره على القبعة والكتف، الذي يتكون من أرضية حمراء، في وسطها النسر الألباني الأسود ذو الرأسَين، محاطاً باسم "جيش تحرير كوسوفا"، مكتوباً باللغة الألبانية.

ولهذا الجيش مبادئ أساسية محددة، منها أنه يحرم على أفراده التورط في أي أنشطة إجرامية، أو تلقي أسلحة أو أموال من دول تساند الإرهاب. ولا يضم مقاتلين أجانب في صفوفه. وتمنع قياداته أي تمييز، ديني وطائفي، وتصرّ على المنطلق القومي الألباني. وهو يتبع نظام التجنيد الإجباري، ويُعاقب كل ألباني لا يتعاون معه. وقد بدأ الجيش بعدد لا يزيد على مائتي رجل، ثم ازداد، ليراوح، طبقاً لمعلومات وزارة الدفاع الأمريكية، بين 18 و20 ألف مقاتل. كما أن النظام في الجيش، ليس مركزياً؛ فلا يوجد شخص واحد، يجمع السلطة في يده؛ وإنما يعمل على أساس وحدات منفصلة، في جميع أنحاء كوسوفا، لتنفيذ سياسته. ولذلك، فهناك تعدد للقيادات والآراء، ولا يوجد من يطلق عليه الشخص الأول في الجيش.

وقد عمل الجيش على إحداث انتفاضة حقيقية، في ربيع 1997، في كوسوفا. واستطاع تهريب كميات كبيرة من الأسلحة، المسروقة من مخازن الجيش الألباني. وأصبح أكثر تنظيما وقدرة على إحداث  خسائر في الجيش الصربي، وكسب تعاطف الألبان، الذين عَدُّوه قوة دفاع شعبية.

ومن أهم رموز الجيش، هاشم تاجي (29 عاماً)، من مواليد درينتسا، المعقل الأساسي لثورات الألبان، وهو عضو الهيئة العامة للجيش، والقائد السياسي له، والمنسق الرئيسي للوفد الألباني في مفاوضات "رامبوييه"، وحاصل على دراسات عليا في السياسة، من سويسرا، ثم التحق بجيش التحرير، وأصبح أكثر قادته تأثيراً. وقد وافق على خطة السلام الدولية، في مفاوضات "رامبوييه"، متجاهلاً توصية رئيس الجناح السياسي للجيش، بضرورة مقاطعة المفاوضات. وبدا وكأنه القائد الفعلي للألبان.

ومن قادة الجيش،كذلك، آدم ديماتشي (63 عاماً)، من مواليد بريشتينا، لأسْرة فقيرة مكافحة. فاق في الفنون والآداب، ودرس الأدب العالمي، في جامعة بلغراد. وقضى 28 عاماً من عمره في السجن، في قضايا سياسية، حتى أُفرج عنه، في أبريل 1990. ثم منحه البرلمان الأوروبي جائزة Shakharav للسلام، كما منحه النادي الأوروبي، لرؤساء جامعات أوروبا، جائزة السلام، عام 1992. وكان ديماتشي رئيساً لمجلس الدفاع عن حقوق الإنسان وحرياته، في بريشتينا. ترأس الحزب البرلماني الألباني، ثم عُيّن رئيساً للجناح السياسي للجيش. ويُعد آدم من أكثر العناصر تشدداً، في جيش تحرير كوسوفا.

ثانيا: تفجّر الأزمة وتدويلها

اقتصرت المرحلة الأولى، التي شهدت بداية تفجر الأزمة الألبانية وتدويلها، خلال عامي 1997/1998 ـ على العمل السّياسي السّلمي. وقد استمرت خلالها سياسة العنف الصربي تجاه الألبان، على الرغم من دعوة الصّرب إلى إجراء الحوار معهم.

وكان الموقف الحاكم لهذا الاتجاه، هو التمسك بالاستقلال، كهدف أساسي، وهذا ما أعلنه الألبان، في 7 سبتمبر 1990 بإعلان الجمهورية، واختيار الدكتور "روجوفا" رئيساً لهم، عام 1992م. وقد اتخذ هذا المعسكر من الحل السلمي السياسي، نهجاً وآلية، لتحقيق هدف الاستقلال، من طريق الحوار والتفاوض، وتعبئة مساندة القوى الكبرى. غير أنه لم يحقق أي تقدم، سوى المزيد من التنازلات، التي لم يقابلها تنازل صربي واحد. ويمكن الاستدلال على موقف هذا الاتجاه، من خلال عدة شواهد، منها:

·   استجابة أنصار هذا الاتجاه لدعوة الصرب، إلى إجراء حوار معهم، مع التمسك بخيار الاستقلال، ورفض الحكم الذاتي. واشترط الدكتور "روجوفا"، أن يكون الحوار مع ممثلي الاتحاد اليوغسلافي، وليس مع ممثلي الحكومة الصربية، وبوجود وسيط دولي.

·   القبول بمحددات المبعوث الأمريكي، "هولبروك"، في إجراء الحوار مع الصّرب، من دون المطالبة باستقلال كوسوفا، كشرط مسبق لإجراء الحوار. وكذلك، عقد لقاء بين "روجوفا" و"ميلوسيفيتش"، من دون وسيط دولي؛ وهو ما جرى، بالفعل، في 15 مايو 1998. وأثمر هذا اللقاء جولة أولى من المفاوضات الصربية ـ الألبانية، لم تستأنف، بسبب استمرار سياسة العنف الصربي تجاه الألبان.

·   بدء التراجع عن خيار الاستقلال، عقب لقاء الدكتور "روجوفا" المسؤولين الأمريكيين، الذين يعارضون الاستقلال؛ واقتراحه وضع الإقليم تحت الانتداب الدولي، كحل مؤقت؛ ومحاولة إقناع الألبان بقبول الحل الوسط؛ وأن يصبح إقليم كوسوفا جمهورية، ضمن الاتحاد اليوغسلافي، مثل صربيا والجبل الأسود.

·   مع تردد حلف شمال الأطلسي في التدخل، عسكرياً؛ وتخاذل الموقف الدولي من الألبان، أقدم أنصار هذا الاتجاه على تقديم تنازلات أخرى، منها الموافقة على بدء المفاوضات، مع التمسك بفكرة الفترة الانتقالية لحكم ذاتي مؤقت، لمدة ثلاث سنوات، من دون تحديد لما بعدها. ومع ذلك، لم يستجب الصرب لشروط استئناف الحوار، واستمروا في سياسة العنف؛ وهو ما دعا أنصار الحل السياسي، إلى ضرورة التدخل العسكري لحلف شمال الأطلسي.

ثم جاءت المرحلة الثانية، التي شهدت تفجر أحداث الأزمة، خلال عام 1999. وعُقدت مفاوضات "رامبوييه"، في فرنسا، وانتهت إلى تدخّل حلف شمال الأطلسي، عسكرياً. ولكن الدكتور إبراهيم روجوفا، واصل التزامه بالنهج السلمي، كآلية لتحقيق الاستقلال، في وقت انتفت فيه مبررات العمل السياسي السلمي. فوافق على خطة السّلام الدولية، في مفاوضات "رامبوييه"، التي قررت منح الإقليم الحكم الذاتي، لمدة ثلاث سنوات، يتحدد بعدها مصيره، من طريق الاستفتاء العام. ولكن رفض الصرب لهذه الخطة، كان العامل المباشر لتدخّل حلف شمال الأطلسي، عسكرياً.

1. مفاوضات "رامبوييه"

منذ فبراير 1998، ظلت عمليات الإبادة العِرقية لألبان كوسوفا مستمرة، على الرغم من الجهود، التي بذلها كثير من دول أوروبا، والولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا الاتحادية. وبعد جولات مكوكية عديدة، للمبعوث الأمريكي، ريتشارد هولبروك، أمكن التوصل إلى اتفاق بينه وبين سلوبودان ميلوسوفيتش، في أكتوبر 1998؛ وصف بأنه اتفاق هش، ومؤقت. ويمكن حسبانه اتفاقاً من أجل هدف إنساني، ليُسّهل على الأمم المتحدة تقديم المساعدات، الإنسانية والغذائية إلى اللاجئين.

وعلى الرغم من توقيع الصرب الاتفاق، الذي لا يُلبي مطالب ألبان كوسوفا، بل ينكر حقهم في الاستقلال، بعد مرحلة من المواجهات المسلحة، أدت إلى تحويل آلاف من مسلمي كوسوفا إلى لاجئين ـ بدأ خرق الاتفاق، الذي أخذ يتسع، وفق مجريات الأحداث اليومية، ليظهر في صورة تطهير عِرقي واضح؛ لتغيير الجغرافيا السكانية في كوسوفا.

وبدأ حلف شمال الأطلسي يهدد بالتدخل، وتوجيه الضربات الجوية. وعلى الجانب الآخر، عادت المساعي الدولية تأخذ طريقها، من جديد، حتى تقدمت مجموعة الاتصال الدولية بخطة تسوية، اقتُرح تسميتها "مفاوضات رامبوييه"، نسبة إلى المكان، الذي عقدت فيه، في فرنسا. وقد جرت في جولتَين:

أ. الجولة الأولى:

في 6 فبراير 1999، بدأت المفاوضات، في قصر رامبوييه؛ الذي يبعد 50 كم من باريس. وفيها بحثت تفاصيل التسوية السياسية لمستقبل كوسوفا، التي أعُدت من قِبَل مجموعة الاتصال الدولية: الولايات المتحدة الأمريكية، وروسيا، وألمانيا، وفرنسا، وبريطانيا، وإيطاليا؛ وبرعاية كلٍّ من فرنسا وبريطانيا، ممثَّلتَين في وزيرَي خارجيتَيهما هوبير فيدرين، وروبن كوك، وذلك في محادثات منفصلة، حيث لم يجتمع الجانبان، الصربي والألباني، في قاعة واحدة.

وقد ارتكزت هذه التسوية على شقَّين: سياسي وعسكري

(1) الشق الأول: السياسي، ويعتمد على:

(أ) منح إقليم كوسوفا حكماً ذاتياً ديموقراطياً، يتمثَّل في مؤسسات، تشريعية وتنفيذية وقضائية؛ وإعطاء الإقليم حرية كافية ليدبّر شؤونه، ثم يُجرى استفتاء، بعد ثلاث سنوات، لتقرير مصيره.

(ب) تسليم جيش تحرير كوسوفا أسلحته.

(ج) سيطرة الصرب على وحدة الأراضي، والاحتفاظ بسوق مشتركة وسياسة نقدية، وكذلك السياسة الخارجية والجمارك.

(2) الشق الثاني: العسكري، ويعتمد على:

تهيئة قوات لحفظ السلام، لضمان التطبيق، تضم 28 ألف رجل، من قوات حلف شمال الأطلسي، تمّول من قِبل الدول الأوروبية عامة (وهذا الشق، هو ما يعترض عليه الصرب).

وعقب مرور أسبوع، من دون التوصل إلى نتائج إيجابية، لجأت مجموعة الاتصال الدولية إلى منح الوفدَين مهلة إضافية، مدتها أسبوع آخر.

وفي ظل هذه الظروف، تقرر تمديد المهلة حتى 23 فبراير 1999، التي انتهت، فعلاً، إلى اتفاق مؤقت، على الجانب السياسي فقط (وهو الخاص بالحكم الذاتي للإقليم)؛ على أن يلتقي الطرفان، من جديد، في فرنسا، بعد ثلاثة أسابيع (15 مارس 1999)، لاستكمال المفاوضات.

ردود الفعل

قوبل الاتفاق المؤقت بردود أفعال مختلفة، على الوجه الآتي:

(1) دعا الاتحاد الأوروبي طرفَي الاتفاق، من الصرب والألبان، إلى اغتنام هذه الفرصة الأخيرة، حتى يفلتا من العواقب الوخيمة لفشل مفاوضاتهما. كما تعهد الاتحاد بإعادة إعمار كوسوفا، والرفع التدريجي للعقوبات المفروضة على بلجراد، إذا أمكن التوصل إلى اتفاق سلام.

(2) أبدى الرئيس الأمريكي، بيل كلينتون، تفاؤله، بأن شعب كوسوفا، سيدعم، بقوة، الاتفاق المبدئي، الذي وافق عليه مفاوضوه؛ لأنه سيتيح لهم فرصة لحياة أفضل، بعد سنوات من القمع والخوف. كما نصح الصرب بضرورة استئناف المفاوضات، في الجولة المقبلة (15 مارس عام 1999)، وموافقتهم على الاتفاق برمّته، بما في ذلك الشق العسكري؛ وذلك تمهيداً لتطبيق اتفاق السلام.

(3) لم يذعن الجانب الصربي لنصيحة واشنطن، ولا للنداءات التي وُجهت إليه. وواصل الصرب اجتياحهم للإقليم، واستمروا في تصعيد الهجمات على القرى. كما نفذوا عدة عمليات عسكرية، على حدود كوسوفا مع مقدونيا، شرقاً، وحاصروا النازحين، ومنعوهم من دخول الأراضي المقدونية. كذلك لغّموا جسراً، يربط ما بين مقدونيا وكوسوفا، لمنع قوات حلف شمال الأطلسي، المتمركزة في مقدونيا، من دخول الإقليم، فضلاً عن منع الأهالي والمراقبين الغربيين، من الخروج.

(4) عيّن جيش تحرير كوسوفا، مسؤوله السياسي، هاشم تقي، رئيساً للوزراء، وفوض إليه تشكيل حكومة  مؤقتة للإقليم. وفي الوقت نفسه، استقال زعيم الجناح السياسي المتشدد آدم ديماتشي، الرافض لجهود السلام الغربية. أما الأمريكيون فقد اجتمعوا مع وفد، يضم خمسة أعضاء من جيش تحرير كوسوفا؛ وذلك ضمن المساعي الأمريكية، للإعداد لمحادثات الجولة الثانية من مفاوضات "رامبوييه"، لمساعدة جيش التحرير على التخطيط للتحول من "جماعة متمردة"، إلى "منظمة سياسية"، تحت الحكم الذاتي المقترح، في ظل السلام المنشود. كذلك عقد وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي اجتماعاً، في يوم 13 مارس 1999، في برلين؛ كما عقدت مجموعة الاتصال الدولية اجتماعاً، في 14 مارس 1999، في باريس؛ وذلك لتحذير طرفَي الصراع من خطر فشل المباحثات، في الجولة المقبلة.

ب. الجولة الثانية:

في 15 مارس 1999، وصل إلى رامبوييه وفد ألبان كوسوفا، برئاسة هاشم تقي، ويضم 19 عضواً. وبدأت مفاوضات الجولة الثانية من المباحثات، التي أظهر فيها الجانب الألباني موقفاً إيجابياً؛ إذ أبدى موافقته على الاتفاق ووقعه، من دون أي تحفظات.

أمّا الوفد الصربي، المكون من 13 عضواً، برئاسة "راتكو ماركوفيتش"، رئيس الوزراء، فقد رافقه الرئيس الصربي، "ميلان ميلوتينوفيتش"، كمبعوث خاص للرئيس "سلوبودان ميلوسوفيتش". وقد أكد الوفد، منذ الوهلة الأولى، معارضة بلجراد نشر أي قوة متعددة الجنسيات في كوسوفا، بل إن وجودها سيدفع الصرب إلى التعامل معها كعدو؛ لأن انتشارها يُعَدّ انتهاكاً للسيادة الوطنية.

ثم أعلن الوفد الصربي، أنه جاء للتفاوض حول الشق السياسي فقط من الاتفاق، من دون العسكري؛ وأن قبول الاتفاق معلق بشرط تعديله، طبقاً للمطالب اليوغسلافية، التي سبق أن تقدم بها الجانب الصربي إلى وسطاء مجموعة الاتصال، في لائحة اعتراضات على مسودة الاتفاق، طالباً تعديل 70% منه؛ وهي تعديلات، تجعل الحكم الذاتي لألبان كوسوفا، أقلّ مما هو عليه الآن. وقد رفضت هذه المطالب، من قِبل مجموعة الاتصال، والوسطاء الدوليين.

ردود الفعل

قوبل الرفض الصربي لاتفاق السلام، بردود فعل مختلفة، تتلخص في الآتي:

(1) حذّر الرئيس الأمريكي، بيل كلينتون، نظيره اليوغسلافي، من أن حلف شمال الأطلسي لن يكون أمامه خيار، سوى توجيه الضربات الجوية إلى الأهداف الصربية في كوسوفا.

(2) أكد وزير الخارجية الروسي، إيجور إيفانوف، أن فشل تلك المحادثات، سيؤدي إلى اتساع نطاق الصراع في البلقان.

(3) حذر خافيير سولانا، أمين عام حلف شمال الأطلسي، من أنّ رفض الصرب توقيع الاتفاق، سيعجل احتمالات وقوع الكارثة، وتدخّل الحلف، عسكرياً.

(4) أعلن رئيسا مؤتمر باريس، هوبير فيدرين، وروبن كوك، في 19 مارس 1999، تأجيل المؤتمر إلى أجل غير مسمى. كما قررت منظمة الأمن والتعاون الأوروبيين، إجلاء 1400 من المراقبين والمحققين الدوليين، إلى مقدونيا، بصفة مؤقتة، لتجنّب اتخاذهم دروعاً بشرية، من قِبَل الصرب. كما بدأت الولايات المتحدة الأمريكية، وعدة دول غربية، خفض عدد دبلوماسييها في بلغراد.

(5) حمّل الرئيس الفرنسي، جاك "شيراك" والمستشار الألماني، جيرهارد شرودور، الجانب الصربي المسؤولية الكاملة عن فشل محادثات السلام في رامبوييه. في حين رأت موسكو وبلغراد، أن المحادثات ما زالت قائمة، وأن الحل السياسي ليس له بديل.

(6) حشدت يوغسلافيا ما بين 30 و40 ألف جندي، استعداداً لشن حرب على حلف شمال الأطلسي؛ ونشرت بعضهم في إقليم كوسوفا نفسه، وبعضهم على الحدود ما بين كوسوفا ومقدونيا (نحو 21 ألف جندي). كما أصدرت الحكومة اليوغسلافية قراراً، يقضي بتوقيف هاشم تقي، رئيس الوفد الألباني، في فرنسا، بدعوى علاقته الوثيقة بالثوار الألبان.

أمّا الأوضاع الأمنية في الإقليم، فتدهورت بصورة واضحة. ومضت القوات اليوغسلافية في سياسة الأرض المحروقة، وإجبار أهلها الألبان على النزوح عنها. كما كان لانسحاب المراقبين الدوليين من الإقليم، الأثر الأكبر في تصاعد خطر انهيار الموقف الأمني.

واحتياطاً لضربة حلف شمال الأطلسي المتوقعة، أقال الرئيس اليوغسلافي قائد جيشه، وعين قائداً آخر، أكثر ولاء له، لإحكام قبضته على القوات المسلحة الصربية.

وتتالت التحذيرات الغربية لميلوسلوفيتش، بالرجوع عن التصلب. ووجّه ريتشارد هولبروك، المبعوث الأمريكي، تحذيراً أخيراً إلى الرئيس اليوغسلافي، بوقف الاعتداءات الصربية على ألبان كوسوفا، وقبول خطة التسوية، أو تحّمل المسؤولية الكاملة عن الضربة العسكرية الجوية، التي يستعد حلف شمال الأطلسي لتنفيذها، فور صدور التعليمات.

كذلك، أكد ريتشارد هولبروك، أن الموقف الأمريكي، يحظى بالتأييد الأوروبي الكامل؛ وذلك في أعقاب المحادثات، التي أجراها في بروكسل، قبل توجهه إلى بلجراد، مع خافيير سولانا، الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، وويسلي كلارك، قائد القوات الأمريكية في أوروبا، وروبن كوك وهوبير فيدرين، وزيرَي خارجيتَي بريطانيا وفرنسا. كما تحوّل الجمهوريون، في الكونجرس الأمريكي، عن موقفهم المبدئي، بتدعيم قرار الرئيس الأمريكي الخاص بالضربة العسكرية الجوية لحلف شمال الأطلسي.

وإمعاناً من الصرب في التعنت، والرفض القاطع لأي محاولة لتهدئة الموقف، صوّت البرلمان الصربي، بما يشبه الإجماع، ضد أي انتشار للقوات الأجنبية في كوسوفا، ليزيد بذلك من احتمالات توجيه الضربة العسكرية الأطلسية.