إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / كوسوفا... التاريخ والمصير





انتشار القوات
التقسيم المؤقت
تأثير ضربات حلف شمال الأطلسي
شكل توزيع القوات

أهم الأهداف التي تعرضت للقصف



المبحث الثاني

2. الضربة الجوية

في أعقاب فشل مفاوضات السلام في رامبوييه، ونتيجة لرفض الجانب الصربي توقيع خطة السلام، على الرغم من المحاولات العديدة، والجهود الشاقة، التي بُذلت لتخلّيه عن هذا الرفض، لم يدع الصرب للمجتمع الدولي مجالاً، لاختيار أسلوب آخر غير القوة، خاصة في ظل أعمال العنف والتطهير العِرقي، التي تمارس ضد سكان إقليم كوسوفا.

وفي مساء 24 مارس 1999، بدأ حلف شمال الأطلسي، بقرار سياسي أمريكي، مؤيَّد من بريطانيا، بالأساس ـ عملياته العسكرية في يوغسلافيا، في محاولة لإقناع الرئيس اليوغسلافي، سلوبودان ميلوسيفيتش، بتوقيع إطار "رامبوييه"، بشقَّيه، السياسي والعسكري. كان الشق الأول يتعلق بإقرار حكم ذاتي موسع لإقليم كوسوفا؛ والثاني ينص على دخول قوات من حلف شمال الأطلسي إلى الإقليم، من أجل ضمان تنفيذ الاتفاق ومراقبة التطورات.

وقد أُلقيت مسؤولية فشل مفاوضات رامبوييه، في الدرجة الأولى، على كاهل الدول الأوروبية. وكانت دلالة هذا الفشل، أن دول الاتحاد الأوروبي، ولا سيما بريطانيا وفرنسا، عجزت عن تنظيم "دايتون أوروبي" ناجح، على غرار اتفاق دايتون، الذي رعته الولايات المتحدة الأمريكية، في شأن تسوية الصراع في البوسنة. لذلك، كان مضمون الموقف الأمريكي، في هذه المسألة، يوحي أن الدول الأوروبية، تظل عاجزة عن صيانة الأمن الأوروبي، بعيداً عن المظلة، السياسية والعسكرية، الأمريكية. وعلى الرغم من استمرار حركة تطور الوحدة الأوروبية، بما ينطوي عليه ذلك من إمكانية بروز أوروبا الموحدة، كعملاق اقتصادي، إلاّ أنها سوف تظل عاجزة، بمفردها، عن تسوية الصراعات، الداخلية والإقليمية، في أوروبا؛ وسيبقى الدور الأمريكي حيوياً ومحورياً، من أجل ضمان الأمن الأوروبي، وتسوية الصراعات الدولية عامة، والأوروبية خاصة.

بدأ حلف شمال الأطلسي قصف يوغسلافيا، مساء 24 مارس 1999، واشترك في عمليات القصف أربع عشرة دولة، هي: الولايات المتحدة الأمريكية، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، وبلجيكا، وكندا، والدانمارك، واليونان، وهولندا، والنرويج، والبرتغال، وأسبانيا، وتركيا. واستمرت العمليات نحو ثمانين يوماً، وكانت الأولى في نوعها؛ إذ، بدأت جواً، وانتهت، كذلك، جواً، من دون أي تدخّل عسكري بري، ولا تدخّل من قِبَل الأمم المتحدة.

ويعود اختيار واشنطن للحل العسكري، إلى عدة أسباب، أهمها:

أ. وضع رؤيتها إلى المفهوم الإستراتيجي الجديد لحلف شمال الأطلسي، موضع التطبيق. وهو ما أرادت به أن تحسم خلافها في الرؤية مع الدول الأوروبية أعضاء الحلف (وهو المبدأ الذي أُقرّ في قمة واشنطن الأخيرة، في 2 أبريل 1999).

ب. رغبتها في توجيه رسالة إلى روسيا الاتحادية، مضمونها عدم معارضة توسيع حلف شمال الأطلسي، أو مقاومة مهامه الجديدة (جاء التطبيق على حساب صربيا، وهي أقرب حلفاء روسيا، وشقيقتها في العِرق السّلافي).

ج. إفهام الدول، غير الأعضاء في الحلف، أن أمنها واستقرارها، يعتمدان على مدى حسن علاقاتها بواشنطن، ومشاركتها إياها، ومشاركتهم لها في تنفيذ ما تتخذه من قرارات.

د. الرغبة في البرهنة، أمام العالم أجمع، أنها القوة العظمى الأولى في الوقت الحالي (عالم ما بعد الحرب الباردة)؛ وأن أي مقاومة لسياستها الخارجية، سوف تواجَه بقوة الحلف العسكرية.

وقد قدّرت واشنطن أن هذه الحرب، ضد يوغسلافيا، ستكون سريعة وحاسمة، وستدعم المفهوم الإستراتيجي الجديد، إضافة إلى أنها ستكون نموذجاً لحروب المستقبل، التي يشنها الحلف على أي دولة، لا تتفق مع الرؤية الأمريكية. كما وُضعت الخطط، على أساس أن الرئيس اليوغسلافي، سوف يخضع، في اللحظة الأخيرة، ويُسلم بشروط الحلف، حتى يتجنب التعرض للغارات (والدليل على ذلك ما حدث في البوسنة)؛ فيتحقق الهدف الأساسي، من التلويح بالخيار العسكري.

وقد ثار الجدل حول قرار حلف شمال الأطلسي، فيما يختص بالحرب الجوية، الذي اتُخذ بعيداً عن الأمم المتحدة، "آلية الشرعية الدولية". وكان الرد على ذلك، هو حدوث تغيرات في بِنية النظام الدولي، والاتجاه إلى مزيد من الهيمنة الأمريكية، وتعزيز فرض نظام القطب الواحد، أو القطب المهيمن، الذي تدور في فلكه أقطاب أخرى، تشاركه في القيم والمبادئ نفسها.

وبناء على ذلك، عّلل حلف شمال الأطلسي هذه الحرب، بالآتي:

أ. الدفاع عن أوروبا الموحدة، وهو هدف يمثل أحد عناصر النظام الدولي الجديد، الذي يُعَدُّ الدفاع عن القارة دفاعاً غير مباشر عن استقراره؛ ومن ثَم، فإن عدم الاستقرار في منطقة البلقان، وما يرتبط به من أعمال تطهير عِرقي، ينعكس انعكاساً غير مباشر، على استقرار النظام الدولي نفسه.

ب. حماية ألبان إقليم كوسوفا، وهو ما عُدَّ من أهم الأهداف، التي توخاها الحلف بحربه لصربيا. وهو هدف، بقدر ما كان الغرض منه حماية الألبان في الإقليم، من التطهير العِرقي، والإبادة الجماعية؛ كان قد أسهم في تشريد الآلاف منهم؛ فقد قدمت عمليات القصف الأطلسي، غطاء للقوات الصربية، ساعدها على التوسع في أعمال الانتقام من سكان كوسوفا وتهجيرهم؛ وهو ما وافق أهداف صربيا، الرامية إلى تغيير التركيبة الديموجرافية للإقليم.

3. تطور الأحداث

كان لاستمرار غارات حلف شمال الأطلسي على يوغسلافيا، الأثر الأكبر في خسارتها ثلث عتادها العسكري، تقريباً. كما تحطمت بِنيتها التحتية فيها، حتى شُبِّه وضعها بما كان عليه عقب الحرب العالمية الثانية. وقدِّرت خسائرها بالمليارات، وهي خسائر شملت جميع القطاعات، والمراكز الحيوية.

وعلى الجانب الآخر، ضاعفت الغارات من مأساة ألبان الإقليم، فزادت من لاجئيهم، الذّين واصلت الهيئات والتنظيمات المختلفة اجتماعاتها، لبحث وضعهم، وتوفير المساعدات، المالية والعينية، لهم، مع محاولة إبقائهم في البلدان المجاورة للإقليم، حتى تسهُل عودتهم، ولا تتشتت قضيتهم. كما وقع الحلف في أخطاء جسيمة، عُرفت بـ"الأخطاء غير المقصودة"، مثل قصف بعض المدنيين الأبرياء أو السفارات (مثل قصف سفارة الصين في بلغراد، وتشدد الصين في هذا الحدث، على الرغم من تقديم الحلف ومندوب الولايات المتحدة الأمريكية، في الأمم المتحدة، اعتذارهما وأسفهما للقصف غير المقصود، ولا المخطط).

وفي ظل هذا الجو المشحون، استمرت المناشدات والوساطات المختلفة، تطالب الزعيم اليوغسلافي بالوقف الفوري للعنف في كوسوفا، والاستجابة لمطالب الحلف وشروطه، التي تلخصت في الآتي:

أ. وضع حد فوري للعنف والقمع، ولأي مظاهر للأعمال العسكرية.

ب. سحب قوات الجيش والشرطة والميليشيات، من كوسوفا.

ج. الموافقة على نشر قوات دولية.

د. الموافقة على عودة غير مشروطة، وآمنة، لجميع اللاجئين والنازحين؛ ودخول المنظمات الإنسانية إلى يوغسلافيا.

هـ. العمل على إقامة إطار سياسي في كوسوفا، على أساس اتفاق "رامبوييه"، ويتطابق مع القانون الدولي، وشرعية الأمم المتحدة.

لم يستجب الرئيس الصربي، ميلوسوفيتش، لأي من هذه المناشدات؛ بل تمادى في التحدي، وطبق في الإقليم سياسة "الأرض المحروقة"، واتخذ من بعض الألبان دروعاً بشرية، لحمايته من القصف الجوي الأطلسي. واعتمد في تخطيطه، على حسابات خاطئة، أولها حرصه الشديد على سلطاته، التي رأى أن تخّليه عن كوسوفا، سيكون على حسابها، خاصة أنه يَعُدّ نفسه مفجراً للروح القومية في يوغسلافيا؛ تلك الروح التي أسهمت في تعبئة الجيش الصربي للدفاع عن الإقليم، وشجعته إلى خوض حرب، في مواجهة أي قوة عظمى، على أساس أن خسارته كوسوفا، في هذه الحالة، ستعَدّ خسارة حرب، مع حفاظه على الكبرياء الصربية.

كما أخطأ ميلوسوفيتش في تقديره موقف روسيا؛ إذ حسِب أن الأواصر، العِرقية والدينية، التي تجمعهما، ستجعلها  في موقف مؤيد له، بل إنها سترفض أي عدوان عليه رفضاً تاماً. ولكن خطأه الأكبر، كان في تقدير مساحة رد الفعل الروسي ومداه، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة، التي تمر بها روسيا، وحاجتها الملحة إلى قروض صندوق النقد الدولي وملياراته.

ومع تطور العمليات العسكرية، وضح تمسك القيادة اليوغسلافية الشديد بموقفها، الرافض خطة السلام في "رامبوييه"، خاصة الشق الخاص بنشر قوات تابعة لحلف شمال الأطلسي في كوسوفا، لمراقبة تنفيذ الاتفاق. وازداد القمع الصربي للألبان، وكثّفت العمليات العسكرية الصربية، في إطار سياسة التطهير العِرقي، من أجل القضاء قضاءً تاماً على المقاومة الألبانية في الإقليم؛ وذلك لإيجاد أمر واقع جديد فيه.

وفي ظل هذه التطورات، نادى بعض المراقبين بضرورة مشاركة القوات البرية في العمليات العسكرية، لتحقيق أهداف حلف شمال الأطلسي في حرب يوغسلافيا. وحظي هذا الخيار بقبول الأوساط السياسية، في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية. وأُجريت الاستعدادات العسكرية، التي أوحت بأن دول الحلف تتعامل، بجدية، مع خيار الحرب البرية؛ مثل تدفّق القوات الأطلسية إلى ألبانيا ومقدونيا (نشر الحلف نحو 18 ألف فرد، نصفهم من الأمريكيين، في ألبانيا؛ إضافة إلى نحو 40 ألف فرد آخرين، في مقدونيا، وبالقرب من البوسنة).

ومع ذلك، كان هناك عدة عوامل، تجعل دول الحلف تستبعد التدخل البري في كوسوفا؛ أهمها الخوف من احتمال وقوع خسائر بشرية كبيرة في صفوف قواته، خاصة أن الإستراتيجية الصربية، كانت تركز في استدراج قوات الحلف إلى معركة برية، يكون النصر فيها من نصيبها، بسبب شن حرب العصابات على القوات الأطلسية، معتمدة في ذلك على الميليشيات الصربية المتطرفة؛ وذلك لتفادي استنزاف القوات النظامية، في هذه العمليات.

وقد أعدت القوات الصربية، ثلاثة أنواع من الخطوط الدفاعية في هذه الحرب:

أ. الخط الأول

يتألف من اللاجئين الألبان، الذين اتُّخِذَت أعداد كبيرة منهم دروعاً بشرية، في التصدي لقوات الحلف، في هذه المعركة.

ب. الخط الثاني

حقول ألغام، زرعتها القوات الصربية داخل كوسوفا، وعلى طول الحدود مع الدول المجاورة.

ج. الخط الثالث

يتمثل في شريط القرى والمدن، التي يقطن فيها الألبان، وسط كوسوفا وجنوبها.

وهكذا، فإن التدخل البري، سيؤدي إلى وقوع خسائر كبيرة في صفوف الحلف، الذي سيحتاج إلى ما لا يقل عن 200 ألف جندي، مزودين بالدبابات والمدفعية اللازمة. ومن الأسباب الأخرى لصعوبة تنفيذ الخيار البري، أن الأوضاع السياسية الداخلية، في كلًّ من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، لا تحتمل فكرة التدخل البري؛ إضافة إلى رفض اليونان استخدام أراضيها في عمليات الغزو البري لأراضي يوغسلافيا. كما أن الرأي العام الأمريكي، لم يكن مستعداً لقبول أي خسائر بشرية، في القوات الأمريكية.

وفضلاً عن العوامل السابقة، هناك الموقف الروسي، الذي يفرض قيوداً على حرية العمل العسكري لحلف شمال الأطلسي. فروسيا ترى في الغارات على يوغسلافيا، استفزازاً وتهديداً لها؛ إذ ينتمي الروس واليوغسلاف إلى الأصل السلافي؛ إضافة إلى وجود مصالح مشتركة أخرى بينهما؛ وهو ما جعل روسيا في موقف المعارضة، مهددة باستئناف تصدير السلاح إلى بلجراد، ونشر رؤوس نووية في روسيا البيضاء، رداً على هذه الهجمات.

وعلى الوجه الآخر، كانت الحرب البرية، لا تمثل لبلغراد، كذلك، خياراً ميسوراً أو مقبولاً؛ إذ يمكن أن تتحول حرباً كبرى، تطيح نظام الحكم؛ وذلك بسبب مشاركة قوات الحلف، الموجودة في ألبانيا ومقدونيا، وقوات من ألمانيا عبر سلوفاكيا، وكذلك من المجر؛ إضافة إلى استغلال الفرصة لتمرد الانفصاليين المجر في إقليم فوديفودينا؛ فضلاً عن احتمال إعلان جمهورية الجبل الأسود الانفصال عن الاتحاد اليوغسلافي؛ وهو ما حدث، بالفعل، مع تطور الأحداث، إذ طالبت الجمهورية، بعد انتهاء الحرب، بالانفصال.

4. الإستراتيجية الأمريكية

ارتبطت الإستراتيجية الأمريكية، في حرب البلقان، ارتباطاً أساسياً بالرغبة في منع توسع القتال الجاري في كوسوفا، والحيلولة دون امتداده إلى أماكن أخرى في البلقان؛ خشية الإضرار بالأمن الأوروبي. وكان الهدف من ذلك، منع تفجر حرب أكبر في المنطقة؛ لذلك ارتبط الموقف الأمريكي من تلك الحرب بوضع الولايات المتحدة الأمريكية، على قمة النظام العالمي الجديد، ورغبتها في تطبيق إستراتيجيتها، التي وضعتها في بداية التسعينيات، وهي انتهاج السبل كافة، التي تحقق استمرار تفوّقها، لأطول فترة ممكنة. الموقف الأمريكي، في حرب البلقان، لم يقتصر، إذاً، على تحقيق الاستقرار في المنطقة، بل تعداه إلى كونه ركيزة أساسية في المجهود الأمريكي، الرامي إلى توسيع حلف شمال الأطلسي، وإعادة هندسة الأمن الأوروبي، وفق الرؤية الأمريكية، التي تَعُد تأمين الجناح الجنوبي للحلف، في منطقة جنوب أوروبا بعامة، والبلقان بخاصة، مسألة حيوية، قبل استكمال توسيع الحلف، في اتجاه الحدود الروسية؛ لمنع روسيا من التحول إلى قوة عظمى، مرة أخرى.

ومن ناحية أخرى، كان موقف الإدارة الأمريكية من قضية كوسوفا، وميلها إلى تفضيل الحل العسكري ـ تطبيقاً عملياً لبعض الاتجاهات الجديدة، في السياسة الخارجية الأمريكية، وفي مقدمتها الاحتفاظ بحق الحلف في التدخل، في القارة الأوروبية، أو في أي مكان آخر في العالم، لصيانة الديموقراطية، أو حقوق الإنسان، من دون الحاجة إلى غطاء دولي، من الأمم المتحدة. وهذا المبدأ،  حاولت الإدارة الأمريكية تمريره، في القمة الخمسين لحلف شمال الأطلسي، في مايو 1999، كمبدأ أساسي من مبادئ عمل الحلف، للفترة المقبلة. ولكنه وُوجِهَ برفض العديد من الدول الأوروبية، خاصة فرنسا، التي أصرت على أولوية الأمم المتحدة ومجلس الأمن، كمظلة للتدخل العسكري في الصراعات، الدولية والداخلية.

وفي الوقت نفسه، اتخذت الإستراتيجية الأمريكية في كوسوفا، موقفاً وسطاً، بين تيارَين رئيسيَّين في السياسة الخارجية الأمريكية. الأول يرى ألاّ تكون هناك أي مهادنة، بين الولايات المتحدة الأمريكية وأي نُظُم استبدادية، تمثل تهديداً للمصالح الحيوية الأمريكية في العالم؛ أمّا التيار الثاني، فيرى أن من غير الممكن أن تؤدي الولايات المتحدة الأمريكية دور "الشرطي العالمي"؛ وأن تدخّلها العسكري في الخارج، يجب أن يقتصر على الحالات، التي تمثل تهديداً جسيماً، ومباشراً، للمصالح الإستراتيجية الأمريكية، مع ضرورة أن يكون لواشنطن أهداف سياسية واضحة، ومحددة، في تلك الحالات. كما أن من المهم جداً، في تلك الحالة، أن لا تتورط الولايات المتحدة الأمريكية في صراعات، يصعب الخروج منها، مثل فيتنام.

وهكذا، فإن الإستراتيجية العسكرية الأمريكية، المتبعة في حرب كوسوفا، حققت المعادلة الوسط بين هذَين التيارَين؛ إذ ارتكزت على مبدأ الحرب عن بعد، أو الاشتباك الآمن عن بعد، الذي يعتمد على تمكين القوات المهاجمة من تحقيق أهدافها العسكرية، وتنفيذ هجماتها، من مسافات آمنة، تضمن لها الابتعاد عن وسائل الدفاع الجوي المعادية. وقد جرى التركيز، في هذه العملية، في استخدام طائرات القتال، والصواريخ الطّوافة، كروز Tomahawk Cruise، جنباً إلى جنب مع عدم إقحام القوات البرية، في ساحة القتال، أو الإقلال منه، إلى أدنى درجة ممكنة.

وقد تألفت الخطة العسكرية، الأمريكية والأطلسية، من ثلاث مراحل. استهدفت أولاها القوات الصربية المنتشرة في كوسوفا، ومراكز الدفاع الجوي، والاتصالات داخل صربيا والجبل الأسود. أمّا المرحلة الثانية، فاشتملت على تنفيذ هجمات مركزة، وأكثر عنفاً وقوة، على مواقع القوات الصربية في كوسوفا، ومواقع الدفاع الجوي في صربيا. واستمرت المرحلتان، الأولى والثانية، مدة، راوحت بين 24 و 48 ساعة. وبعدهما، جرى تقويم الموقف، العسكري والسياسي، من أجل إتاحة الفرصة للعمل الدبلوماسي.

وارتبطت المرحلة الثالثة بالموقف، أو رد الفعل الصربي. فإذا وافق الرئيس اليوغسلافي، سلوبودان ميلوسوفيتش، على خطة السلام، فسوف يُرسل حلف شمال الأطلسي قوة، تراوح بين 28 و 30 ألف عسكري، إلى كوسوفا، للحفاظ على السلام؛ وفي هذه الحالة، تتوقف الغارات الجوية على صربيا. أمّا إذا أصر على موقفه المتشدد، مُصَعِّداً الصراع مع حلف شمال الأطلسي، فإن المرحلة الثالثة من العمليات الجوية، ستستمر وستطال حتى عمق صربيا نفسها، وهو ما حدث بالفعل.

وعلى هذا الأساس، كان هناك للإستراتيجية الأمريكية في الحرب، ثلاثة أهداف عسكرية رئيسية، هي: إسكات وسائل الدفاع الجوي الصربية، لتأمين استكمال الضربة الجوية؛ وشل عناصر القيادة والسيطرة ومراكز المواصلات والاتصالات، لإضعاف قدرة القيادة الصربية، السياسية والعسكرية، على السيطرة على القوات؛ وتدمير عناصر القوة العسكرية الصربية في كوسوفا، المتمثلة في القوات المدرعة أساساً، وأي قوات أخرى مخصصة لهذا الغرض.

وقد حشد الحلف ثلاث وسائل قتال رئيسية، يختص كل منها بتنفيذ مهام وأهداف عملياتية محددة، أثناء العمليات العسكرية، وهي:

الصواريخ البالستية، أرض/أرض، كروز ـ توما هوك Tomahawk-Cruise؛ وقاذفات القنابل الثقيلة B-2 & B-52؛ إضافة إلى قوة القاذفات المقاتلة F-15، F-16،  الشبح F-117A Stealth Fighter، والطائرة A-10، والطائرة العمودية أباتشي AH-64 Apache قانصة الدبابات. ولكن على الرغم من نشر طائرات أباتشي Apache في ألبانيا، إلاّ أنها لم تستخدَم، عملياً، في العمليات العسكرية؛ ولذلك كان الحلف قد حشد 400 طائرة قتالية حديثة، من بينها 250 طائرة قتالية أمريكية، منها القاذفات المتطورة B-2 Stealth، وF-117A Stealth، وB-52، وF-15، وF-16؛ فضلاً عن الطائرات القتالية الفرنسية، ميراج 2000 Mirage 2000، والبريطانية، تورنيدو Tornado ADV.

ومع مرور الوقت، بدا واضحاً، أن هذه القوات غير كافية لضرب الأهداف العسكرية الصربية؛ ولا سيما أن يوغسلافيا تُعد من أقوى الدول الأوروبية، من الناحية العسكرية؛ وتمتلك قدرات مهمة، في مجال الدفاع الجوي؛ إضافة إلى 200 طائرة قتالية؛ ويمكنها أن تتحمل الضربات الجوية لطائرات حلف شمال الأطلسي، لفترة طويلة. وهو ما اضطر قيادة الحلف، في جنوبي أوروبا، إلى استقدام قوات جوية من الولايات المتحدة الأمريكية، ودول الحلف، حتى فاق العدد الإجمالي للطائرات القتالية، المشاركة في القصف، ألف طائرة.

ومع تطور العمليات العسكرية، اتضح أن الإستراتيجية العسكرية، الأمريكية والأطلسية، أخفقت في تحقيق أهدافها، بل أدت إلى نتائج معاكسة لها؛ إذ عمدت حكومة بلغراد إلى تنفيذ سياسة قمعية واسعة النطاق، في إقليم كوسوفا. فدفعت إليه قوات صربية إضافية، حتى من قبل بدء العمليات الجوية الأطلسية، قدِّر حجمها بنحو 10 آلاف جندي؛ إضافة إلى وحدات من القوات الخاصة، المزودة بالدبابات والمدرعات والمدفعية؛ علاوة على وجود 30 ألف جندي على حدود صربيا مع الإقليم.

ومن ثَم، فإن الحملة الصربية على إقليم كوسوفا، ازدادت، ولم تقلّ. وكثفت القوات، العسكرية وشبه العسكرية، الصربية، عملياتها في كوسوفا، في إطار سياسة واسعة النطاق للتطهير العِرقي؛ وذلك من أجل القضاء قضاءً تاماً على المقاومة الألبانية في الإقليم؛ سعياً إلى إيجاد واقع جديد فيه. وفي الوقت نفسه، تسببت الضربات الجوية الأطلسية، بازدياد تمسك القيادة اليوغسلافية بموقفها، القائم على رفض خطة السلام، ولا سيما الشق المتعلق منها بنشر قوات تابعة لحلف شمال الأطلسي، في إقليم كوسوفا، لمراقبة تنفيذ اتفاق السلام. ومردّ هذا الموقف، أن هامش الحركة، المتاح أمام حكومة بلغراد، في قضية كوسوفا، كان محدوداً جداً، بسبب حالة التعبئة الداخلية الشديدة، والإجماع الداخلي الرافض لاستقلال إقليم كوسوفا، أو نشر قوات فيه، تابعة لحلف شمال الأطلسي في الإقليم.

يتضح مما سبق، أن خيار الحرب البرية، لم يكن خياراً مرغوباً فيه، من جانب طرفَي الصراع (حلف شمال الأطلسي وحكومة بلغراد). وقد أدت هذه التعقيدات، إلى تراجع الولايات المتحدة الأمريكية عن خطط دفع القوات البرية إلى المشاركة في القتال، ضد القوات الصربية؛ ومن ثَم، التراجع عن التخطيط العسكري الأصلي للحلف. فقد كان السيناريو الأمريكي للعمليات، يعتمد على إمكانية دفع القوات البرية للحلف، بهدف طرد القوات الصربية من إقليم كوسوفا. وربما يمتد الهدف الإستراتيجي الأمريكي ـ الأطلسي، إلى السعي إلى إطاحة نظام الرئيس اليوغسلافي، سلوبودان ميلوسيفيتش؛ وهذا ما قد يقتضي دخول قوات الحلف إلى بلغراد نفسها. وبدلاً من ذلك، تطور الموقف الأمريكي من هذه المسألة، وصولاً إلى الرفض الكامل للمشاركة بالقوات البرية، في العمليات القتالية، والتشديد على أن مشاركة هذه القوات، لن تكون ممكنة، إلاّ في إطار اتفاق سلام، في شأن كوسوفا، ومن أجل الحفاظ على هذا السلام، وبعد أن يقبله جميع الأطراف.

وهكذا، اتسمت الإستراتيجية العسكرية الأمريكية، في حرب البلقان، بدرجة عالية من الغموض؛ وهو ما أدى إلى إختلالات عديدة، من الناحيتَين، العسكرية والسياسية. وربما كان أهم الإخفاقات، التي انطوت عليها هذه الإستراتيجية، هو أن الحملة الجوية لحلف شمال الأطلسي على يوغسلافيا، اتسمت بطغيان المعايير السياسية، لا العسكرية. فقد بدأت الغارات الجوية للحلف بداية رمزية وضعيفة، ولم تكن مكثفة على الإطلاق؛ وكان الهدف منها إقناع الرئيس اليوغسلافي بجدية تهديدات الحلف، بل ربما كان غرضها، من وجهة نظر الحلف، توجيه رسالة إلى ميلوسيفيتش، من أجل إقناع شعبه، بأنه مضطر إلى الخضوع لمطالب الغرب، لوقف تلك الغارات. وعندما أصرّت حكومة بلغراد على موقفها، ورفض ميلوسيفيتش الاستجابة لتلك المطالب، وازدادت شعبيته في مواجهة التهديدات الخارجية، اضطر الحلف  إلى زيادة مطردة في قواته الجوية. ولجأ الجنرال ويسلي كلارك، قائد قوات الحلف في جنوبي أوروبا، إلى استجداء وزارة الدفاع الأمريكية المزيد من التعزيزات.

ومن ذلك يبدو، أن هناك العديد من أوجُه القصور، التي شابت الإستراتيجية العسكرية الأمريكية، بل إستراتيجية الحلف عامة، في حرب البلقان. ولكن ما ساعد الحلف، في نهاية المطاف، على إجبار الرئيس سلوبودان على قبول خطة مجموعة الدول الثماني، ليس فقط الخسائر الكبيرة والدمار، الذي لحق بالبِنية الأساسية في يوغسلافيا، بل إدراكه أن المزيد من العناد والتصلب في الموقف، سوف يمثل تحدياً، لا تقبله هيبة الحلف وكرامته؛ وهذا ما قد يوسع من دائرة المواجهة العسكرية، ويجعل خيار التدخل البري خياراً، لا مناص منه، وهو خيار ينطوي على خطر فادح ليوغسلافيا. لذلك، فإن هذا الاحتمال، كان واحداً من الأسباب، التي اضطرت الرئيس اليوغسلافي، في نهاية المطاف، إلى قبول التسوية السلمية للحرب.

وهكذا، يتضح أن أكثر هذه الاختلالات خطراً، هو أن التخطيط العسكري، الأمريكي والأطلسي، لم يحتط لاحتمالات التصعيد العسكري، من جانب يوغسلافيا. كما لم يحتط لسيناريو استمرار الرفض اليوغسلافي، لاتفاق السلام في كوسوفا. ويبدو خطر هذه النقطة بالتحديد، في أن أي تخطيط عسكري، لا بدّ أن يضع في حسبانه الإجابة عن سؤال مهم، هو: ما الذي يمكن عمله، في حالة عدم سلوك الخصم السلوك المستهدف؟

وهذا السؤال، لم تكن هناك إجابة عنه، في خطة الحلف. ويشير العديد من التحليلات الغربية، إلى أن قبول الرئيس اليوغسلافي ميلوسيفيتش، في نهاية المطاف، خطة السلام الدولية، جاء في مصلحة الحلف؛ وأخرج الولايات المتحدة الأمريكية، وحليفاتها الأطلسيات، من المأزق، الذي كان يمكن أن تجد نفسها فيه، في حالة استمرار العمليات الجوية، من دون نتيجة حاسمة. إلاّ أنّ اتفاق التسوية نفسه، اتسم بالعديد من جوانب النقص والخلل. وتشير الخبرة بالعلاقات الدولية، إلى أن الحلول الناقصة، تؤدي إلى تسويات ناقصة؛ الأمر الذي قد يؤدي، بالضرورة، إلى انفجار مستقبلي جديد لمشكلة كوسوفا، ربما يكون أقوى وأشد عنفاً وحِدَّة، من الانفجار السابق.