إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / كوسوفا... التاريخ والمصير





انتشار القوات
التقسيم المؤقت
تأثير ضربات حلف شمال الأطلسي
شكل توزيع القوات

أهم الأهداف التي تعرضت للقصف



المبحث الثامن

المبحث الثامن

اعتقال ميلوشيفيتش وردود الفعل المحلية والدولية

أولاً: اعتقال ميلوشيفيتش وردود الفعل المحلية والدولية

وجاء في أنباء الأول من أبريل أن الشرطة الصربية حاولت اعتقال ميلوشيفيتش بالقوة، لكن حرسه الخاص ومؤيديه منعوها من اعتقاله. وقال وزير الداخلية اليوغسلافي إن ميلوشيفيتش رهن الإقامة الجبرية، وسيظل كذلك إلى أن يوافق على المثول أمام قاضي التحقيقات. وقال للصحافيين: "بإمكانكم صياغة الأمر هكذا ... سيظل ميلوشيفيتش رهن الإقامة الجبرية إلى أن يوافق على المثول أمام قاضي تحقيقات". وأوضح أن ميلوشيفيتش الملاحق بتهمة "سوء استخدام السلطة، وخرق القانون الجزائي"، سيحال للقضاء. وقال سنقوم بعملنا، وسيمثل بنفسه أمام قاضي التحقيق، أو سنعمد إلى اعتقاله بالقوة أو بالطرق السلمية. وقد قدمت الشرطة إلى المدعي العام لائحة الاتهامات ووافق عليها، ولديها تصريح رسمي باعتقاله؛ لكنها لن تفعل ذلك لتسلمه إلى لاهاي.

لكن الوزير أكد أن ميلوشيفيتش يرفض ذلك، وقد قال للشرطة إنه لن يساق إلى السجن حياً"، واستنكر رئيس الوزراء زوران جينجيتش تصرف عدد من عناصر الجيش الذين أعاقوا مهمة الشرطة، وقال إن حكومته لديها تقارير مخابرات، تفيد بوجود كميات كبيرة من المتفجرات والأسلحة، داخل منزل ميلوشيفيتش. وكانت قوات الشرطة قد حاصرت مساء الجمعة 30 مارس منزل ميلوشيفيتش، وهاجمت عناصر من الوحدات الخاصة في الشرطة المنزل؛ لكن حرصه الخاص ردوها على أعقابها.

ونفى الجيش اليوغسلافي، في بيان أذاعته وكالة الأنباء اليوغسلافية، قيامه بإعاقة محاولة رجال الشرطة اعتقال ميلوشيفيتش، ووصف تصريحات وزير الداخلية بأنها غير صحيحة. وأكد مسؤول الحزب الاشتراكي الذي يرأسه ميلوشيفيتش ما جاء في بيان الجيش، زاعماً أنه لا يحظى بأي حماية من رجال مسلحين.

ظلت الشرطة تحاصر ميلوشيفيتش في القصر الذي يقيم فيه لمدة يومين، وبعد يومين من الحصار سلم الرئيس السابق نفسه من دون إراقة دماء، إثر مفاوضات طويلة وشاقة استمرت 18 ساعة بين ميلوشيفيتش ووزير الداخلية الصربي، وانضم للمحادثات الرئيس اليوغسلافي كوشتونيتسا الذي تعهد لسلفه بأن سيعامل معاملة تليق بشخصية، تم انتخابها ثلاث مرات لرئاسة صربيا.

وقبل بدء المفاوضات أبعدت الشرطة الخاصة الصربية مئات المواطنين من المؤيدين لميلوشيفيتش والمعارضين له، مئات الأمتار من قصره، كما منعت الصحافيين من الاقتراب. وقد وقعت عدة اشتباكات بين المؤيدين والمعارضين، اضطرت الشرطة إلى التدخل لمنع انفجار الوضع، ويبدو أن هذا ما أجبر الرئيس للتدخل خوفاً من اندلاع حرب أهلية تخشاها السلطات اليوغسلافية والصربية.

وتم اعتقال ميلوشيفيتش في الساعة الرابعة والنصف من صباح الأول من أبريل 2001 وأخرجت ابنته ماريا، التي كانت مع أمها إلى جانبه لحظة اعتقاله، مسدسها وأطلقت خمسة أعيرة نارية إطلاقاً عشوائياً، وهي في حالة هستيريا، لكن أحداً لم يصب بأذى.

وشكك سكان بلجراد في الأمر، للسرعة التي تم بها الاعتقال، وظنوها كذبة أبريل؛ لكن سرعان ما تكشفت لهم الحقيقة. وألقي القبض على حرسه الشخصي الذين أطلقوا النار على الشرطة الخاصة (بعد أربع ساعات من اعتقاله).

بدأ قاضي التحقيق استجواب الرئيس السابق فور وصوله إلى السجن المركزي ببلجراد، بتهم السرقة والفساد والتزوير، ولم توجه له تهمة جرائم حرب. وتلقت جميع مناطق يوغسلافيا السابقة نبأ الاعتقال بارتياح بالغ، فقد أعلن وزير خارجية البوسنة عن ارتياحه لهذا النبأ، وقال إن العدل لابد أن يأخذ مجراه، وأن هذه هي الخطوة الأولى في طريق ميلوشيفيتش إلى لاهاي. وفي كوسوفو عم الفرح بين صفوف ألبان الإقليم، الذين ذاقوا ويلات سياسته، منذ لحظة وصوله إلى سدة الحكم، قبل 13 عاماً. كما أعلن الرئيس الكرواتي عن ارتياحه لإلقاء القبض عليه وقال: إنه يتمنى أن يراه في لاهاي ليكون الشاهد الأول ضده، ومعلوم أن رئيس كرواتا (ميسيتش) كان آخر رئيس ليوغسلافيا السابقة، ويعرف جيداً دور ميلوشيفيتش في الحروب التي جرت في مناطق يوغسلافيا السابقة.

كما لقي اعتقاله ترحيباً دولياً في معظم العواصم الغربية، فقد رحب الرئيس الفرنسي جاك شيراك باعتقاله، وقال في بيان أصدرته المتحدثة باسمه "رئيس الجمهورية سعيد باعتقال سلوبودان ميلوشيفيتش، وسعيد لأن السلطات اليوغسلافية أكدت إيمانها بمسار الديموقراطية والقانون. وأضاف: طال انتظارنا لهذا اليوم. يجب أن تتحقق العدالة".

وحذا حذوه وزير الخارجية الألماني، الذي أثنى على الحكومة اليوغسلافية المنتخبة ديموقراطياً؛ لتصميمها على الالتزام بالقانون، مشيراً إلى أن نية الحكومة بدء إجراءات جنائية ضده هي الخطوة الأولى تجاه محاسبته على التهم الخطيرة من انتهاكات حقوق الإنسان الموجهة ضده.

وقال وزير الخارجية البريطاني في بيان: إنه نبأ سار لجميع أولئك الذين يبذلون جهوداً، منذ فترة طويلة لإرساء السلام والعدالة في البلقان. ورحب الاتحاد الأوروبي بالاعتقال، وقالت السويد التي تترأس الاتحاد الأوروبي، حالياً، إن رئاسة الاتحاد تأمل أن يشكل ذلك نهاية لحياة ميلوشيفيتش السياسية، التي كانت وراء اندلاع عدد من النزاعات في المنطقة، والتي ألحقت العذاب بشعبه"، وأشادت بالمبادرات الملموسة للسلطات اليوغسلافية والصربية، بصدد التعاون مع محكمة الجزاء الدولية.

وفي واشنطن أعلن الرئيس الأمريكي أن توقيف الرئيس السابق يجب أن يشكل خطوة أولى نحو محاكمته بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، مرحباً باعتقاله.

بدأ الخناق يضيق أكثر على الرئيس اليوغسلافي السابق في معتقله داخل سجن بلجراد المركزي، بسبب ازدياد الدعوات الصادرة من المؤسسات السياسية والقانونية في الغرب بتسليمه إلى لاهاي. واتساع نطاق الاتهامات الموجهة إليه داخلياً لتشمل فضلاً عن التهم السابقة (الاختلاس والفساد) تحريضه حرسه الخاص على إطلاق النار على رجال الشرطة، الذين كانوا يحاولون القبض عليه. والعثور داخل منزله على بنادق قاذفة للقنابل، وثلاثة رشاشات، وقاذفة صواريخ، وصندوقين من القنابل اليدوية، إضافة إلى كمية كبيرة من الذخائر.

وبدأت يوغسلافيا تجني ثمار القبض على ميلوشيفيتش؛ إذ قررت الولايات المتحدة منحها مساعدات اقتصادية قيمتها 50 مليون دولار إثر القبض عليه. وهذا المبلغ هو الدفعة الأولى من حزمة المعونات، التي وعدت بها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الحكومة اليوغسلافية، لإنقاذها من الإفلاس، وتمكينها من دفع مرتبات موظفيها، واستيراد الضروريات من الغذاء والوقود. وكان يوم الأحد 1 أبريل 2001 هو الموعد الأخير في الإنذار الأمريكي بإلغاء هذه المعونات، وقد استطاعت القيادة اليوغسلافية أن تستجيب للإنذار في لحظاته الأخيرة.

والسؤال الذي طرح بعد ذلك هو: هل الرئيس كوشتونيتسا راغب في تسليم سلفه إلى لاهاي؟ وقادر على ذلك في الوقت نفسه؟ كان قبل ذلك يرفض تسلميه، ولكن المراقبين للشأن اليوغسلافي توقعوا أن يكون الرئيس قد وصل إلى حقيقة أن بلاده تقف على شفا الإفلاس الاقتصادي، ليس بمقدورها أن تحمي متهماً بارتكاب جرائم الحرب.

لكن اعتقال ميلوشيفيتش لم ينهِ مشاكل صربيا، وربما لا ينهيها قريباً، فهناك الفقر والديون والدمار، وهناك مصير كوسوفو، والجبل الأسود، المعلق حتى الآن. كما أن الأمور ليست على ما يرام بين الرئيس اليوغسلافي الجديد، ورئيس الوزراء الصربي زوران جينيجيتش، إذ انتقد كوستونيتسا النقص في التنسيق ما بين الشرطة والجيش، أثناء محاولة اعتقال ميلوشيفيتش، وكانت ملاحظاته بمنزلة نقد ضمني لرئيس الوزراء، ما أثار الكثير من التساؤلات حول عمق الخلاف بين الاثنين اللذين جمعهما تحالف مدروس لإطاحة ميلوشيفيتش.

وأحد الأسباب التي جعلت اعتقال ميلوشيفيتش يتحول إلى حصار طويل، أن الشرطة عندما جاءت لاعتقاله، طلبت من الضابط العسكري المكلف حماية المنزل أن يسحب عناصره، لكن الضابط أعطى المفاتيح لمجموعة حرس ميلوشيفيتش. هذا ما قاله حلفاء جينجيتش، الذين يسيطرون على الشرطة، ونفاه رئيس الأركان، ولم يكن كوستونيتشا، وهو بحكم منصبه القائد الأعلى للقوات المسلحة، على علم بخطة الاعتقال التي بدأ تنفيذُها، وهو في طريقه عائداً إلى بلجراد من جنيف. وبعد يوم من الاعتقال عبر كوستونيتشا عن مرارته بأنه لم يُبلّغ. وقال بطريقته التي يصفها المراقبون بأنها مدروسة: لقد كان هناك نقص في التنسيق، ونقص في المعلومات، والكثير من الارتباك، وحصلت فوضى عندما وصل الأمر للعلاقة ما بين الشرطة والجيش، إنما لم يحاول الجيش وضع العراقيل.

المراقبون رأوا أن رئيس الوزراء ربما حاول أن يضع كوستونيتشا أمام الأمر الواقع؛ لأن الأخير حَذِر ويؤمن بالتوجه التدريجي، ولربما كان اعترض على أن يأتي الاعتقال في نهاية المهلة التي أعطتها واشنطن. بينما يؤمن رئيس الوزراء بالسرعة، ويعتقد أن فيها مصلحة لبلاده.

كان الرأي العام داخل يوغسلافيا متباين النظرات تجاه اعتقاله، لكن من المؤكد أن عدد المتعاطفين معه تضاءل كثيراً، حتى قبل اعتقاله؛ ورحب الشباب في بلجراد باعتقاله، أما كبار السن فيرون أن ما قام به كان للحفاظ على يوغسلافيا، وحماية الشعب الصربي. سأل سائق تاكسي أحد المراسلين: هل أنت متأكد أنه في السجن؟ أنت تعرف أن اليوم هو يوم كذبة أبريل، وقال وزير العدل الصربي إنه يواجه حكماً بالسجن من 5 ـ 14 سنة إذا أدين بالتهم الموجهة ضده، بينما قال وزير الداخلية إن الرئيس السابق يمكن أن يواجه عقوبة الإعدام.

وقال أحد الصرب إن الشعب الصربي انتخب ميلوشيفيتش ثلاث مرات، خلال تلك السنوات (الثلاث عشرة) ربما يجب أن نحاكم نحن أيضاً! وبعد يوم واحد من اعتقاله. أفادت أنباء أنه يميل إلى الانتحار. فقالت إحدى الصربيات: "لو كنت مكان المسؤولين لأعطيته مسدساً محشواً؛ ليطلق النار على نفسه اليوم قبل غد. إنه يذكرنا بمآسينا وحروبنا، بالموت والجرائم. إنه صفحة سوداء يجب حرقها بأسرع وقت، نريد الخروج من الماضي".

ويقول أحد الصحافيين الصرب: "قريباً سيقف ميلوشيفيتش في قفص الاتهام، لكنه لن يكشف أي تفاصيل عن تفكك يوغسلافيا، وعن الحروب، والمحادثات السرية، فهو طوال عمره تجنب قول الحقيقة. لقد كان الكذب مرادفاً لأسلوب قيادته، لقد كانت أكاذيبه مكشوفة وواضحة، لكننا نعرف أنه هو الذي بدأ سلسلة من الأحداث التي أدت إلى الحروب والعنف والموت، وكان طوال حكمه غير مبال بمصير أحد".

ومن التعليقات المعبرة عن الحدث ما أظهره رسام الكاريكاتير في جريدة "داناس" الصربية يوم الاثنين 2 أبريل، إذ أظهر ميزان العدالة تتراكم على إحدى كفتيه جماجم الذين قتلوا في الحروب، وعلى الكفة الثانية رأس ميلوشيفيتش. ولم يجد ميلوشيفيتش تعاطفاً واضحاً إلاّ من أنصاره في الحزب الاشتراكي وجريدة "24 ساعة" التي كان عنوانها صبيحة اعتقاله: "الأسد يدخل مرحلة جديدة".

وتحدث التقرير الذي تلا العنوان عن مؤامرة الأطلسي، مضيفاً أنه يتلقى دعماً سياسياً من كل أنحاء العالم. وكذبت الجريدة كل الوقائع بقولها: إن الرئيس السابق تبرع من تلقاء نفسه ليجيب على كل التهم الموجهة ضده، وليس صحيحاً بأنه قاوم أو هدد بالانتحار، وأن كل ما قيل بأنه لن يذهب إلى السجن وهو حي، مجرد افتراء وأكاذيب، وهذا ما ردده نائبه في الحزب غير عالم بأن محطة الـ"سي إن بي سي" أجرت مقابلة مع رئيسه ذكر فيها أنه يفضل الموت على السجن".

ويعد الرئيس كوستونيتشا حتى الثلاثاء 3 أبريل بعدم تسليم سلفه إلى لاهاي، وقال في مقابلة نشرتها جريدة "نيويورك تايمز" الأمريكية: "ذلك لن يحصل أبداً، وأعتقد أنه من الممكن القيام بكل شيء لمنع حصول هذا الأمر. وأضاف أن ذلك ليس أمراً مشروعاً، لذا، لم يتم إرسال رؤساء آخرين إلى لاهاي. يجب أن أقوم ببعض التسويات؛ لكن هناك خطأ لا يمكنني تجاوزه، فحتى الأشخاص في أوساط الحكومتين الصربية واليوغسلافية، الذين لا يفكرون في مبدأ الشرعية، بل بما هو مفيد سياسياً، فإن الاعتقاد السائد هو أن هذا الأمر لن يكون مقبولاً.

اعتقال الرئيس السابق وضع البلاد كلها في مواجهة جديدة مع محكمة جرائم الحرب، حيث وصلت مجموعة من المسؤولين في المحكمة إلى بلجراد يوم 5 أبريل حاملة طلباً رسمياً بتسليم ميلوشيفيتش، لكن الرئيس الحالي يتهم المحكمة باتخاذ موقف معادٍ للصرب، ورغم قوله إننا مستعدون للتعاون؛ إلا أنه ذكر أنه ليس متعجلاً تسليم سلفه في ظل ظروف مشكلات يوغسلافيا الراهنة؛ إذ المعارك الطائفية مستمرة في جنوب صربياً، والجبل الأسود تسعى للانفصال. كما قال إن استعداده للتعاون لا يعني أنه يقبل بكل شيء، بما في ذلك الأشياء التي تهدد الكرامةالوطنية من أجل حفنة من الدولارات.

ومن الحواجز أمام تسليم ميلوشيفيتش أن النظام الديموقراطي الجديد في يوغسلافيا لم يقر بعد قانون تسليم المجرمين. وتسعى الأجنحة الليبرالية والوطنية في التحالف الديموقراطي الحاكم إلى التوصل إلى اتفاق بهذا الصدد. في هذا الوقت يحتجز الرئيس في زنزانة مساحتها 10 × 13 متر، في سجن بلجراد، واستأنفت الشرطة تحقيقاً ضده بتهمة استغلال السلطة، وسوء استخدام الأموال، ولكن شقيقه الأكثر دافع عنه لإحدى الجرائد الإيطالية قائلاً: "إن ثروته متواضعة جداً، وزعم بعضهم أنه ربما يكون قد قام بمضاربات في البورصة. لكنه في الواقع اشترى فقط أرضاً بالقرب من منزله لتوسيعه. اعتقد أن أي رئيس شركة أو رجل دولة يملك ثروة أكبر. في يوغسلافيا، أشخاص أغنى منه بكثير. وأضاف: إن الاتهامات بسوء استخدام الأموال الموجهة إليه لا قيمة لها، وليس هنا رجل دولة حكم على مدى سنوات لا يمكننا أن نأخذ عليه أشياء من هذا النوع".

لكن تقارير المخابرات الأمريكية كشفت ما ينقض هذه المزاعم، وقدرت أن الرئيس اليوغسلافي، عبر السنوات، نسج في طول البلاد وعرضها شبكة صناعية وتجارية هائلة ومنتجة، إذ لم ينجُ قطاع اقتصادي مهم في يوغسلافيا من سيطرته المباشرة، أو من سيطرة عملائه المباشرين. فابنه ماركو يملك إذاعة ومحل أسطوانات، وشبكة انترنيت تحت الاسم التجاري "مادونا". وكان في نيّته إنشاء مدينة مَلاهٍ تحت اسم "بامبي لاند"، وله أسهم في شركات لاستيراد السجائر. وشقيقته ماريا تمتلك إذاعةً وشبكة تلفزيونية. ورئيس الوزراء الصربي ميركو مريانوفيتش يدير شركة كبرى لإنتاج الغاز، بينما مساعده نائب رئيس الوزراء نيكولا ساينوفيتش هو أحد كبار مالكي شركة لاستغلال المناجم.

أما غوفاشيفيتش (وزير البناء) فيدير إحدى أكبر الشركات للأشغال العامة والمقاولات، وزيفوتا غوزيتش (وزير الطاقة والمناجم) يدير مصنعاً كبيراً للسجاير، وميلان بيكو (وزير سابق) مدير مصنع للأسلحة والسيارات، ورئيس البرلمان الصربي دراغان توميتش مدير إحدى كبرى شركات الطاقة في البلاد. وعن بعض الإحصاءات، أن عائلة ميلوسيفيتش تملك فيلاّتٍ فخمة في اليونان، ولها عدة حسابات في مصارف سويسرا، قسم منها حوّلته ميريانا زوجة ميلوسيفيتش إلى الخارج، وتحديداً إلى مصرفَين فرنسيين. وأحد كبار مدريري بنك قبرص (بوركا فيرشيتش) نسيب للرئيس الصربي، وكان وسيطأً لاستقبال تحويلات القادة الصرب، والاهتمام بمضاعفة ثرواتهم.

هكذا كانت القطاعات اليوغسلافية في الطاقة، والزراعة، والاستيراد، والتصدير، والتسلّح منشآتٍ حيوية بين قبضة ميلوسيفيتش والمقرّبين منه. ولعلّ أغزرها إنتاجاً قطاعُ التسلّح، وتحديداً، إنتاج ذخيرة بإشراف فريق يرأسه الجنرال يوفان تشيكوفيتش، يؤمّن تصديرُها أرباحاً دورية وباهظة بالعملة الصعبة.

هذه المؤسسات كانت أهدافاً محددة لضربات حلف الأطلسي؛ بغرض إضعاف سلطة ميلوشيفيتش، لدى الأقربين؛ مما يزعزعه ويدفعه إلى الاستسلام. وهذا ما عبر عنه أحد مسؤولي الأطلسي بقوله: "طالما هو ما زال في السلطة لن يهتم لمعرفة عدد جنوده القتلى في كوسوفو تحت القنابل؛ لكن هذه القنابل إذا دمرت ممتلكاته فسوف يتحرك ويهتم".

ويؤكد هذه التقارير إعلان السلطات السويسرية، في 24/9/2001 أنها جمدت حسابات بنكية لأربعة من مساعدي الرئيس السابق ميلوشيفيتش، وقالت إنها ستحدد المبالغ المودعة في وقت لاحق رافضة الكشف عن أسماء أصحابها، مكتفية بالقول إن ذلك جرى بناء على طلبات تقدمت بها السلطات اليوغسلافية.

ظل ميلوسفيتش رهن الاعتقال، وقرر المدعي العام الصربي تمديد فترة سجنه شهرين آخرين، وأصيب أثناء ذلك بأزمة قلبية خفيفة، نقل على أثرها إلى المستشفى، وأعيد إلى السجن، ولكنه رفض قبول العلاج الذي قرره له أطباء حكوميون؛ خشية أن تكون أدوية سامة بهدف قتله. وهناك أقوال تفيد أن بعض زعماء الغرب لا يريدون أن يصل ميلوسفيتش إلى لاهاي حياً؛ كي لا يقدم شهادته أمام المحكمة، ومن هذه الأقوال ما قاله رئيس الحزب الراديكالي الصربي المتطرف بقوله: إن العلاج الذي يعطي لميلوشيفيتش داخل السجن يؤثر سلباً على نشاط القلب، وسيؤدي إلى موته، كي لا يتمكن من تقديم شهادته، التي يمكنها أن تؤثر على الكثيرين، ليس فقط في صربيا، بل في العديد من العواصم الغربية.

وجاء التمديد خوفاً من هروب الرئيس السابق، أو تأثيره على الشهود، كما جاء عن التليفزيون الرسمي، وينص القضاء الصربي على فترة اعتقال مؤقتة أقصاها ستة أشهر، يفترض أن ينتهي خلالها التحقيق لتوجيه التهمة المحتملة.

وتوقع السفير اليوغسلافي في الولايات المتحدة أن ينال الرئيس السابق حكماً بالسجن لعشرين عاماً، وهي أقصى عقوبة سجن في صربيا، إذا ما حوكم بتهم الفساد وجرائم الحرب، وتوقع له أن يقضي بقية عمره في السجن، بما أنه يبلغ الآن من العمر 59 عاماً.

وفي هذه الأثناء كررت ديل بونتي مطالبتها بتسليم ميلوشفيتش وكل المطلوبين على الفور. وقالت في مقابلة مع جريدة "لوموند" الفرنسية: نحن مستعدون للمحاكمة عن الجرائم التي ارتكبت في كوسوفو. وهي جرائم خطيرة جداً. ثم تساءلت هل يمكننا تأخير محاكمتهم لحساب محاكمة وطنية، بتهم استغلال السلطة، التي يمكن أن تجري لاحقاً؟ يجب أن يكون هناك من يستند إلى النسبية.

وتزامنت تصريحات ديل بونتي مع تسليم لائحة الاتهام إلى الرئيس السابق، عبر محكمة يوغسلافية. وتصر المدعية العامة على ضرورة أن تحدد بلجراد موعداً لتسليمه، وتسعى للضغط على بلجراد عبر الولايات المتحدة؛ فقد زارت واشنطن قبل يوم من زيارة الرئيس اليوغسلافي لها، واتفقت مع وزير الخارجية الأمريكي على ذلك، وقالت إنها تطلب من المجتمع الدولي ممارسة ضغوط ملموسة، حتى يسلم الهاربون وميلوشيفيتش.

ويبدو أن اختلاف وجهات النظر حول تسليم الرئيس السابق بدأ يتسع، لا سيما أن مساعدات غربية تصل إلى أكثر من مليار دولار متوقفة على تسليمه. وها هو رئيس الوزراء الصربي جينجتش يقول: إن يوغسلافيا لا يمكنها التغاضي عن تسليم سلوبودان ميلوشيفيتش إلى محكمة الجزاء الدولية، إذا ما أرادت الخروج من عزلتها. وقال: لا يمكننا أن نسمح بخسارة المساعدة الاقتصادية الضرورية من جراء عدم التعامل مع محكمة الجزاء الدولية. ولا يمكننا التغاضي عن تسليمه إذا كنا لا نريد أن نبقى معزولين. لكنه لطف المسألة بقوله: يجب ألا يرسل مثل رزمة إلى لاهاي؛ إذ لا بد من محاكمته في يوغسلافيا؛ لأنها فرصة فريدة لإلقاء الضوء على العقد الأخير من تاريخ يوغسلافيا، وقد يدخل متاهة النسيان إذا لم يحاكم.

بدأت الحكومة اليوغسلافية تقتنع بفكرة تسليم الرئيس السابق، ولكن لا بد من غطاء قانوني لإجراء مثل هذه الخطوة؛ فعرضت على البرلمان مشروع قانون، تسمح إحدى فقراته بتسليم ميلوشفيتش، وذكرت الصحف القريبة من التحالف القوي الديموقراطي. أن المسؤولين وافقوا على التسليم بشكل عاجل بعد إقرار القانون، وأكد ذلك محامي الرئيس السجين، الذي ذكر أن هناك مروحية جاهزة لنقله من السجن، وتسليمه إلى سلطات المحكمة خلال أيام. ولكن مشروع القانون لم يَنَلْ إجازة البرلمان الفيدرالي؛ لأن برلمانِيِّي جمهورية الجبل الأسود اعترضوا عليه، لتخوفهم من أن يطالهم القانون، إذا ما أجيز، لما قاموا به من دور خلال الحربين الكرواتية والبوسنية.

وفكر الرئيس، تفادياً للمعارضة، في سحب مشروع القانون من البرلمان الفيدرالي، وإيداعه لدى البرلمان الصربي المنفصل؛ حيث تتمتع القوى المناصرة له بأغلبية كبيرة، ولكن هناك عقبة كبرى إذ لا بد من أن يوقع الرئيس الصربي على أي قانون يقره البرلمان الصربي، والرئيس الصربي (ميلوتنوفيتش) متهم، ومطلوب مع قرينه ميلوشيفيتش، فكيف سيوقع قانوناً يدينه؟

وترى الناطقة باسم محكمة لاهاي أن لا حاجة إلى تشريع قانون أصلاً؛ لأن ميلوسفيتش لن يسلم إلى حكومة دولة أجنبية، وإنما إلى هيئة تابعة للأمم المتحدة. غير أن الرئيس اليوغسلافي أكد ضرورة وجود مثل هذا القانون، وقال إنه يريد إقراره قبل نهاية يونيه 2001 متزامناً مع مؤتمر الدول المانحة. ولما يئست الحكومة من إقرار القانون عبر البرلمان، أعرضت عنه، وقالت إن التعاون بينها وبين محكمة الجزاء الدولية سيتم عبر مرسوم حكومي. من شأنه أن يفتح الطريق أمام نقل الرئيس السابق إلى لاهاي. وبالفعل أقرت الحكومة المرسوم الذي أعده وزير العدل اليوغسلافي في 23 يونيه 2001، وقال وزير الداخلية إن المرسوم يتضمن تسليم رعايا يوغسلاف، وأنه أقر بغالبية ثمانية أصوات، ضد صوت واحد داخل الحكومة اليوغسلافية.

وتشير مصادر سياسية إلى وقوع خلافات حادة بين الرئيس كوشتونيتسا ورئيس الوزراء الصربي، زوران جينجيتش الذي يرغب في تسليم الرئيس السابق. بل بدأت بوادر انقسام في الحكومة؛ فالقادة اليوغسلاف الإصلاحيون منقسمون حول القضية، والرئيس نفسه يقف ضد التسليم، والرأي العام كذلك يقف بصلابة ضد التسليم، وحاول الرئيس كسب الوقت بإصراره على إجازة القانون، ولكن نائب رئيس وزرائه لابوس، الذي يقود خطة الإصلاح الاقتصادي هدد بالاستقالة إذا تضررت علاقات يوغسلافيا بالمانحين.

وسيُنفذ المرسوم المذكور فور نشره في الجريدة الرسمية بأمر كل المحاكم، وممثلي الادعاء، والمؤسسات الحكومية الأخرى أن تنفذ، على وجه السرعة، طلبات محكمة لاهاي؛ لتسليم المتهمين بارتكاب جرائم الحرب، وأن تطلع الحكومة على ما قامت به خلال ثلاثة أيام على الأقل. كما يحدد المرسوم أشكال التعاون مع مدعي المحكمة الدولية ومحققيها.

ويعتزم محامو الرئيس السابق ومؤيدوه تحدي المرسوم، الذي يصفونه بأنه يتناقض مع القوانين اليوغسلافية.

وعقد نائب رئيس الوزراء مؤتمراً صحفياً أعلن فيه أن الحكومة عازمة على تنفيذ قرارها بتسليم الرجل، وعدد آخر قد يبلغ 16 متهماً. وقال: لن تكون هناك مساومة. لاهاي ستطلب التسليم، ونحن سنستجيب، بينما أعلن رئيس الوزراء أن التسليم سيمر دون مشكلات، ووفق إجراءات قانونية وعلنية، وأن هذه الإجراءات ربما تستغرق من 15 إلى 20 يوماً.

ويبدو أن الحكومة تعرضت لضغط شديد لم يمكنها مغالبته؛ ذلك أن الدول المانحة قررت اجتماعاً في بروكسل في 29 يونيه 2001، والشرط الأساس تسليم ميلوشيفيتش للحصول على مساعدات قيمتها مليار دولار، وكانت الولايات المتحدة قد أوضحت أنها لن تحضر المؤتمر، ما لم يحدث تقدم في هذا السياق. واشترطت على الأقل تقديم جدول أعمال محدد لتسليم المتهمين، ومعلوم أنه من دون حضور الولايات المتحدة سيكون صعباً للغاية حصول يوغسلافيا على تلك المساعدات. وأعلنها المفوض الأوروبي صريحة: إن الدول المانحة ستكون سخية بقدر ما تتعاون بلجراد مع محكمة لاهاي.

وأدى هذا الأمر إلى تسارع الإجراءات، فقد أعلنت الحكومة الصربية أنها بدأت الإجراءات القانونية لنقل الرئيس السابق إلى لاهاي، وأن وزير العدل قدم طلباً رسمياً لمحكمة بلجراد لنقله. وسيكون أمام محاميه ثلاثة أيام لاستئناف قرار محكمة بلجراد أمام المحكمة العليا، وإذا رفضت المحكمة العليا الاستئناف فوراً، فإن النقل سيصبح نافذاً. غير أن محاميه قال إن النقل سيتم سريعاً جداً، رغم أن الرئيس كوشتونيتسا أكد أن نقل الرئيس لن يتم قبل انعقاد مؤتمر الدول المانحة.

وطلب المحامون من المحكمة الدستورية أن تمنع تنفيذ المرسوم، قبل أن تصدر حكمها في دستوريته؛ غير أن إجراءات الحكومة للتسليم كانت أسرع من المحكمة الدستورية، وبدت الدلائل على استعدادها لتسليمه للعيان؛ إذ بدأت خطوات قانونية لتسليم ثلاثة متهمين بقتل 260 مدنياً كرواتياً، قبل عشر سنوات (1991)، إلى محكمة جرائم الحرب، ما يعني أن المرسوم قد بدأت تنفيذه، وسيتبع ذلك إجراءات تسليم ميلوشيفيتش.

ويبدو أن الجهود الرامية إلى تسليم الرئيس السابق تواجه عقبات خارجية أيضاً مثلما تواجه عقوبات داخلية. إذ ذكر دبلوماسي غربي لوسائل الإعلام أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين طلب من نظيره اليوغسلافي عدم الرضوخ للمطالب الأمريكية بتسليم الرئيس المتهم، وذلك خلال زيارة مفاجئة إلى يوغسلافيا. وجاء المطلب الروسي خوفاً من انكشاف دور روسيا خلال الحرب اليوغسلافية، بمساعدتها للجيش اليوغسلافي، والقوات الصربية، التي ارتكبت العديد من جرائم الحرب إبان فترة القتال في كرواتيا والبوسنة وكوسوفو، وهذا الانكشاف يجبرها على رفع يدها عن هذه المنطقة (البلقان)، التي لم يبق لها سواها لمواجهة تهديد حلف الأطلسي والغرب بأكمله، بعد خسارتها دول شرق أوروبا ووسطها.

ولا يخفى على المراقبين أن إدارة الرئيس بوش، التي لم تبد اهتماماً كبيراً بقضية البلقان في أول أمرها، عادت لتستثمرها في الضغط على روسيا، لتحقيق مآربها، غير أن الخارجية الروسية نفت ما ذكر من إيعاز بوتين ليوغسلافيا بالامتناع عن تسليم ميلوشيفيتش، قائلة إن مثل هذه القضايا من الشؤون الداخلية ليوغسلافيا، ولم تكن موضع بحث بين الرئيسين، رغم اهتمام روسيا بوحدة الأراضي اليوغسلافية، وغير بعيد عن الأذهان رأي روسيا في محكمة جرائم الحرب الذي عبر عنه مندوبها في الأمم المتحدة في وقت سابق بقوله: إن الوقت قد حان لأن يدرس مجلس الأمن إغلاق محكمة جرائم الحرب في يوغسلافيا؛ واصفاً إياها بمناهضة الصرب. وكثيراً ما انتقدت موسكو، التي كانت حليفاً قوياً لنظام ميلوشيفيتش لسنوات طويلة، تحيز المحكمة ضد الصرب، المتمثل في تحركات ونشاطات ممثلة الإدعاء في المحكمة كارلا ديل بونتي. وأصدر البرلمان الروسي (الدوما) بياناً دعا فيه يوغسلافيا إلى عدم تسليم رئيسها السابق.

ثانياً: ميلوشيفيتش في لاهاي

تسارعت الأحداث، وحدث ما توقعه المحامون والمراقبون، وأصبح مصير الرئيس السابق في أيدي محكمة جرائم الحرب في لاهاي، إذ سلمته بلاده يوم الخميس 28 يونيه 2001 على الرغم من إيقاف المحكمة الدستورية المرسوم الحكومي الذي ييسر تسليمه، وخابت توقعات أنصاره بأن يجمد قرار المحكمة خطوات التسليم، حتى حين اتخاذ قرار حول دستورية المرسوم، الأمر الذي لم يكن متوقعاً قبل الثاني عشر من يوليه، ولكن ضغط الحاجة الماسة إلى مليار دولار من المساعدات الأجنبية لإصلاح الاقتصاد، الذي دمره وجود ميلوشيفيتش لمدة 13 عاماً على سدة الحكم، دفع الحكومة إلى اتخاذ هذه الخطوة، ضاربة بعرض الحائط قرار المحكمة الدستورية، التي قدم رئيسها استقالته قبل الشروع في نظر القضية.

الناطق باسم الحكومة الصربية قال: إن الحكومة اتخذت قرار تسليم ميلوشيفيتش اتكاءً على المادة 135 من الدستور الصربي، والمادة 16 من دستور يوغسلافيا، تلبية لواجباتها حول التعاون مع محكمة الجزاء الدولية. كما قامت السلطات في بلجراد باعتقال ثلاثة من صرب البوسنة المدرجين على القوائم السرية للمطلوبين، وسلمتهم إلى القوات الأطلسية في البوسنة تمهيداً لتسليمهم إلى محكمة لاهاي.

وصل ميلوشيفيتش مساء الخميس 28 يونيه إلى سجنه "شفنيجن" الهولندي التابع لمحكمة الجزاء الدولية في لاهاي، على متن طائرة مروحية عسكرية أمريكية، مكبلاً بالأصفاد الثقيلة، ويكون بذلك أول رئيس دولة ينقل إلى محاكمة دولية. ويقول حراسه إنه بدا واثقاً جداً من نفسه، وهادئاً، لا يتوقف عن إلقاء النكات، وعندما وقف أمام الطائرة نظر إلى السماء، وقال للجنود: أتعرفون أن اليوم هو "فيدوفان"، ثم أضاف بتأثر وداعاً يا إخواني الصرب. (وفيدوفان) اسم للمذبحة التي وقعت عام 1339، وأطاح العثمانيون بالإمبراطورية الصربية، وأصبحت تاريخاً مشهوراً لدى الصرب.

وصوره التليفزيون الهولندي في تحقيق له عند وصوله منحني الظهر، تلوح عليه علامات البؤس والحزن والألم، يسير مكبلاً في باحة السجن، يحيط به حارسان. ويحوي مركز الاعتقال التابع للمحكمة، لهذا السجن 36 زنزانة، تصفها وسائل الإعلام بأنها تبدو كنادٍ ريفي، مقارنة مع سجن بلجراد، وتقول ابنته إن أباها أخبرها أنه ينام عند الحادية عشرة ليلاً، بعد أن يشاهد القنوات الفضائية التي كان محروماً منها في بلجراد، وأنه ينعم بالنور الكهربائي طيلة الأربع والعشرين ساعة، ولديه حمام استحمام ساخن، داخله مرآة كبيرة، وسرير حديدي ممتاز، وجهاز راديو، وفيديو، وهاتف يكلم أهله عبره لمدة سبع دقائق يومياً.

على صعيد آخر تجمع عدد من أنصار ميلوشيفيتش، قدر بنحو ثلاثة آلاف وسط بلجراد، احتجاجاً على قرار تسليمه، وتوجهوا إلى مقر البرلمان الاتحادي، ورفعوا لافتة ضخمة كتب عليها من أجل صربيا حرة، ورفعوا صور الرئيس السابق وهتفوا "أطلقوا سراح سلوبودان". هذا التجمع كان وراءه الحزب الاشتراكي الذي يرأسه ميلوشيفيتش نفسه. وقدرت مصادر أخرى حجم التظاهرات المناهضة لتسليم ميلوشيفيتش بنحو 300 ألف.

أما منظمة العفو الدولية فقد رحبت بتسليم الرئيس السابق وقالت في بيان أصدرته في لندن: "لم يفت الأوان بعد ... فالقانون الدولي طال ميلوشيفيتش، وهذه لحظة مهمة في النضال من أجل حقوق الإنسان والعدالة في يوغسلافيا... إن العدالة المؤجلة هي عدالة منكرة، ومن الضروري ألا يحول شيء، بعد الآن، دون وضع ميلوشيفيتش في قفص الاتهام في لاهاي.

وأما روسيا فبدت غاضبة من تسليمه؛ إذ أعرب مجلس الاتحاد الروسي عن احتجاجه على تسليم الرئيس اليوغسلافي إلى محكمة لاهاي. وقال رئيس المجلس: "إنهم يتخاطفون يوغسلافيا اليوم وسيحل الدور على روسيا غداً. سيحاولون تجزئتها فيما نجلس نحن نتفرج". وأعرب رئيس مجلس الدوما عن دهشته إزاء تسليم سلوبودان تحت جنح الظلام. وقال إن محكمة لاهاي يجب أن تحاكم أيضاً. الناتو وحلفاءه وليس ميلوشيفيتش. وإن ما جرى يعد مساومة تجارية. أما  الرئيس الروسي فقد التزم الصمت.

والرأي الخارجي الموافق لرأي روسيا صدر عن ليبيا التي قالت إن تسليم الرئيس ليس انتصاراً للعدالة، وذكر الناطق باسم اللجنة الشعبية للاتصال الخارجي (وزارة الخارجية) في تصريح: "إن الانتصار على الضعفاء ليس مدعاة للفخر، وإن تسليم الرئيس ليس انتصاراً للعدالة، بقدر ما هو دليل على تكريس مبدأ الكيل بمكيالين، واختلال ميزان العدالة. فالضعفاء مثل الرئيس اليوغسلافي السابق ينقل عن بلاده عنوة لكي يحاكم، في حين يبقى الرئيس الأمريكي السابق رونالد ريجان، ووزير خارجيته، ووزير دفاعه طلقاء، ولا تطالهم يد العدالة على ما ارتكبوه من مجازر ضد الأبرياء الآمنين، ولا يحاكم شارون ووزير خارجيته، وهما مدانان بالإبادة الجمعية، ولا يحاكم أولئك الذين دمروا يوغسلافيا، وقتلوا الأبرياء في الفنادق والطرقات، وفي المدارس والسفارات؛ لأن هؤلاء القتلة أقوياء وليسو ضعفاء مثل ميلوشيفيتش. وأضاف: "ليس لأحد أن يخدع أو يهلل لهذا الفعل، وأن يعتبره انتصاراً للعدل؛ لأن ما تم هو مجرد عملية بيع وشراء؛ لقد بيع ميلوشفيتش مقابل مليار دولار، وبيع فيها العدل والقانون أيضاً".

على الصعيد الداخلي سلط تسليم الرئيس الضوء على الانقسام السياسي في بلجراد؛ إذ سارع الرئيس اليوغسلافي كوشتونيتسا إلى الإعراب علناً عن عدم موافقته على القرار، الذي لم يستشر فيه، وعده قراراً مخالفاً للقانون، وقال في خطاب إلى الأمة: "إن قرار الحكومة الصربية لا يمكن وصفه بأنه دستوري. ويمكن فهمه على أنه تهديد جدي للنظام الدستوري للدولة، وقال إن قرار المحكمة الدستورية كان ينبغي أن يحترم، وهو احترام أساسي للإجراءات القانونية. وأضاف إن تصرف الحكومة الصربية يعيد بعث العناصر الأكثر تعارضاً مع الديموقراطية. الفوضى واتخاذ القرارات المتسرعة لدى أنصار سياسة ميلوشيفيتش، وكل ذلك انتهى بانتهاك مباشر للقانون".

ورد جينجيتش على خطاب الرئيس بقوله: "إن الوقت كان متاحاً له للاستعلام عن قرار الحكومة الصربية تسليم ميلوشفيتش، لكنه لم يفعل، إن التسليم تم بعد ساعتين إلى ثلاث من جلسة الحكومة وهذا يعني أن كل من أراد الحصول على معلومات كان يستطيع الحصول عليها". لكن مكتب كوشونيتسا أكد أن أحداً لم يبلغ الرئيس بقرار الحكومة الصربية نقل ميلوشفيتش إلى لاهاي، بل علم بالأمر من وسائل الإعلام الإلكترونية.

وجدد اتهامه للمحكمة؛ ما دفع برئيسها الفرنسي كلود جوردا إلى الرد بأن هذه الاتهامات تهجم لا أساس له، ووصفها بأنها اتهامات منحازة ومسيسة، وتشكل حكماً بالياً لا يستند إلى أي أساس، وقال القاضي: يجب الفصل بين موقف المدعي الذي يجب أن يكون منحازاً بكل معنى الكلمة، وموقف قضاة المحكمة. إنني أتحدى كوشتونيتسا بأن يبرهن كيف يمكن لأربعة عشر قاضياً يتمتعون بالاستقلال التام، ولا ينتمون إلى أي من أطراف النزاع، ولا إلى الدول الفائزة أو الخاسرة، أن يصدروا حكمهم بأي شكل من أشكال الانحياز.

ويرى بعض المراقبين أن جينجيتش وحكومته، بتسليمهم ميلوشيفيتش على الرغم من قرار المحكمة الدستورية، قد تخلوا عن أحد المبادئ الأساسية لحكومتهم الائتلافية، ألا وهو احترام القانون.

وفي بلجراد قال رئيس الحزب الراديكالي الصربي: "إن ما فعله زوران جينجيتش مقابل وعود غربية بتقديم مساعدات نحن في غنى عنها، عبارة عن خيانة حقيقية للشعب الصربي. يجب أن يعاقب عليها، وهو يعرف عقوبة الخائن". وإن هذه الفعلة سيسجلها التاريخ وصمة عار في جبين القومية الصربية، كما سجل من قبل، إبان الحكم العثماني، في القرن الثامن عشر، ما فعله الدوق الصربي ميلوش من قتل ابن عمه، وتقديم رأسه للسلطان العثماني، مقابل إرضائه، وتقديم الطاعة له، وأتبع بقوله: إن الشعب الصربي لن يرضى بعد اليوم بأن تقوده قيادة يداها ملطختان بدم صربي.

وبلغ التصدع السياسي ذروته بسبب هذه القضية باستقالة رئيس الوزراء الفيدرالي زوران زينزتش، مما يهدد بانهيار الائتلاف الحاكم المكون من ثمانية عشر حزباً. ويحاول الرئيس كوستونيتشا إنقاذ الائتلاف بإجراء مشاورات مكثفة لتشكيل حكومة جديدة.

بعد ساعات قلائل من وصول ميلوشفيتش إلى سجن لاهاي، افتتح المؤتمر الدولي في بروكسل للدول المانحة لإعادة تعمير يوغسلافيا، وقال منظمو المؤتمر الدولي أن تسليمه سيكون ذا أثر إيجابي للغاية، على مواقف الجهات المانحة للعون المالي. وقال نائب الرئيس اليوغسلافي إن تسليم الرئيس السابق سيشجع الدول المانحة على دفع الأموال بسرعة أكبر، والتفاوض بشأن تعاون مالي إضافي لا سيما في مجال الاستثمارات الخاصة. وقال أمام المؤتمر معلقاً على تسليم الرئيس المتهم: كان لا بد من ذلك. وكان من الأفضل حصول ذلك بسرعة؛ ثم أردف بصراحة منقطعة النظير: "أيها السادة، لقد قمنا بذلك، وجاء دوركم الآن".

ولكن السؤال المطروح هو هل المبلغ الكبير الذي وعدت به الدول المانحة يوغسلافيا (المقدر 1.28 مليار دولار) كافٍ لإنقاذ البلاد من وهدتها؟

أوردت بعض وكالات الأنباء في تقاريرها أن المساعدات المالية هذه ليست سوى نقطة في بحر، بالنسبة إلى اقتصاد دُمّر تماماً في ظل حكم ميلوشيفيتش، وأوضح التقرير أن هذه الأموال لن تحدث إي تغيير في حياة الشعب الصربي الذي يشكل أكثر من 90% من السكان، إذ إن البلاد مكبلة بديون خارجية تصل إلى 12.2 مليار دولار، وبنسبة بطالة تصل إلى 30% وتضخم تصل نسبته إلى 80% سنوياً.

وتقدر مصادر أخرى الخسائر التي خلفتها حروب يوغسلافيا في وقت مبكر، عام 1992، بمائة مليار دولار، فكيف بما حدث بعد ذلك!

غير أن هناك ثمناً آخر تنتظره يوغسلافيا، عبر عنه زوران جينجيتش أمام القمة الاقتصادية الأوروبية في النمسا بقوله: "إن تسليم ميلوشيفيتش فتح الطريق أمام يوغسلافيا للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي خلال السنوات العشر المقبلة، على الرغم من تأكده من أن بلاده وغيرها من دول البلقان لن تستطيع أن تفي بمتطلبات الانضمام، لكنه واثق من أن معايير الانضمام ستصبح أكثر مرونة بمرور الوقت، ويعتقد بأن الأوروبيين سيدركون أن كلفة يوغسلافيا خارج الاتحاد أكثر من كلفتها داخله، مشيراً إلى تكلفة استضافة اللاجئين، والجريمة المنظمة وغير ذلك من القضايا التي تهم الأوروبيين".

أصبح ميلوشيفيتش في قبضة المجتمع الدولي، وسيقضي وقتاً طويلاً في السجن قبل مثوله أمام المحكمة، وقد يحكم عليه بالسجن مدى الحياة، وليس من المرجح أن تكون العدالة سريعة ومضمونة كما أنه ليس من المرجح أن ترضي أولئك الذين عانوا من القتل والتشريد، ومن المقرر أن تبدأ المحكمة بتوجيه الاتهامات ضده، لكن إجراءات المحكمة تمنح المتهمين فرصت التأخير؛ إذ تسمح له بتحدي شرعية المحكمة، وشرعية القضاة الثلاثة الذين سيختارهم رئيسها. وذكر المتحدث باسم المحكمة أن المتهم يمكنه أن يتخذ العديد من الإجراءات قبل بداية المحاكمة، لكن الخبرة الناجمة عن القضايا التي نظرت في السنوات القليلة الماضية، تمكن من تسريع هذه الإجراءات. وبعدما يعلن المتهم اعترافه بالتهم أو ردها، تبدأ إجراءات ما قبل المحاكمة، وهي مرحلة مفتوحة، وورد عن المحكمة أن هذه المرحلة قد تستغرق سنة أو تزيد، نسبة لخطورة التهم الموجهة للرئيس المتهم، وكونه أول رئيس دولة يمثل أمامها.

ويتولى الدفاع عن ميلوشيفيتش فريق قانوني من ثمانية محامين في بلجراد، ووصل اثنان منهم ليلتقيا الرئيس في سجنه، ويعدا للدفاع عنه؛ غير أن المسؤولين في المحكمة صرحوا بأن عليه أن يختار واحداً منهما ليمثله في جلسة تلاوة التهم. وأوردت صحف بلجراد أن الرئيس وزوجته قد يستعينان بمحاميين أجانب، ومن المرشحين لذلك، "رامس كلارك" وزير العدل الأمريكي في حكومة جيمي كارتر، وهو من المتعاطفين مع المتشددين الصرب منذ زمن طويل.

ويبدو للمراقبين أن يمارس هذا الدور عن بعد حين أعلن في بلجراد في قدم النصح لمحامي ميلوشيفيتش قبل مثوله أمام المحكمة، مقترحاً عليه التركيز أمام المحكمة، على مسؤولية الولايات المتحدة في القصف الأطلسي على يوغسلافيا.

ومن بين محاميه، أيضاً، تومافيلا، الذي دافع من قبل عن أربعة متهمين أمام محكمة جرائم الحرب، وهذا يعني أن المحكمة اعتمدته للدفاع عن المتهمين أمامها، رغم فشله في الحصول على البراءة، في قضاياه السابقة.

وكشفت ديل بونتي، عن الأدلة التي لديها لمحامي ميلوشيفيتشن وهذا الكشف أسلوب مطبق في معظم المحاكم الجنائية في الدول الغربية، بحيث يُعطى الدفاع بعده وقتاً كافياً لتجميع الأدلة والشهود، وعينت المحكمة قاضياً للإشراف على هذه المرحلة ولضمان السرعة.

بدا سلوبودان متماسكاً في سجنه، يبدي عنجهية وثقة بنفسه نقلتها عنه ابنته حين قالت إنه أخبرها أنه يعتقد أنه سيبقى على قيد الحياة ليعود مرة أخرى إلى صربيا، وأنه شبه نفسه بنابليون بونابرت، الذي حاربته أوروبا كلها. وأنهى حياته مسجوناً؛ لكنه ظل في ضمير شعبه بطلاً قوياً لا يبارى، وأن سمعته تفوق سمعة شارلمان ولويس الرابع عشر.

وذكر محام صربي وثيق الصلة بميلوشيفيتش أن زوجته أخبرته أن الرئيس طلب منها صورة للملك الصربي لازار الذي قتل في معركة كوسوفو سنة 1389 ضد الأتراك بقيادة السلطان مراد الأول، الذي قتل بدوره في أعقاب المعركة على يد أحد جنود لازار، ولا يزال الصرب يذكرونه حتى اليوم.

ويقول المراقبون أن ميلوشيفيتش يبدو من خلال جملة التصريحات التي صدرت عنه، ونقلتها عائلته عنه، غارقاً في الهوس القومي أكثر من ذي قبل؛ إذ يزعم أن العناية الإلهية اختارته لقيادة شعبه، ويمعن في التعلق برموز تاريخية حاولت التوسع وقتلت نتيجة ذلك. وهو يعني ما يقول عندما قال لزوجته: لو عدت ليوغسلافيا وتسنى لي أن أصبح رئيساً مرة أخرى، فسأفعل ما فعلته سابقاً.

ومن تصريحاته المثيرة ما أدلى به هاتفياً إلى شبكة التلفزة الأمريكية "فوكس" قائلاً: "أنا فخور بكل ما قمت به للدفاع عن بلدي وشعبي.. فكل قراراتي مشروعة وقانونية، وتستند إلى الدستور اليوغسلافي والحق في الدفاع المشروع عن النفس". وعد كثير من المراقبين هذا الكلام انتهاكاً لقواعد الاحتجاز في سجن المحكمة الدولية.

هذه المقابلة أثارت حفيظة المحكمة فوجهت له تحذيراً فحواه أن امتيازات الاتصالات الممنوحة له قد تسحب كلياً أو تقل، وقال المتحدث باسم المحكمة إن المقابلة التليفزيونية تصرف خاطئ كان يجب ألا يحدث، إذا إن الحوارات الإعلامية غير مسموح بها على الرغم من المعتقلين لهم الحق في إجراء مكالمات مع ذويهم ومحاميهم بما قيمته واحد وثلاثون دولاراً شهرياً، ولا شك أن المحكمة قد أحرجت من جراء محاولاته الناجحة نقل قضيته إلى الرأي العام العالمي، كما نجح في التحدث إلى بعض أعضاء الحزب الشيوعي الروسي من خلال مكالمة هاتفية مع أخيه في موسكو. ودفع ميلوشيفيتش بأنه لا يعلم بالقيود المفروضة على الحوارات الإعلامية.

ويدخل في إطار هذه العنجهية ازدراؤه المتكرر للمحكمة وتحديه لها؛ ففي أول مثول له أمامها خاطب قضاتها الثلاثة باللغة الإنجليزية قائلاً إنها هيئة غير شرعية، وأنه لا يعترف بها، ورفض أن يدلي بإجابة عن السؤال الموجه إليه أمذنب هو أم لا غير مذنب. ثم خاطبها باللغة الصربية قائلاً إنها ـ أي المحكمة ـ أداة في أيدي أعدائه الغربيين، وأضاف أن هدف المحاكمة هو الخروج بتبرير زائف لجرائم الحرب التي ارتكبها حلف الناتو في بلاده. ولذا فهي محكمة مزيفة وغير شرعية.

ونقل عنه المحامي الكندي كريستوفر بلاك رئيس فريق الخبراء القانونيين من اللجنة الدولية للدفاع عنه؛ أنه ـ ميلوشيفيتش ـ لا يريد أن يعين محامين لأن ذلك في نظره سيعتبر بمثابة اعتراف بشرعية المحكمة. ثم إنه لم يكترث بقراءة لائحة الاتهام. وعندما سأله القاضي إن كان يريد الاستماع إليه رد بقوله: "هذه مشكلتك".

وأصدر في عيد ميلاده الستين الذي احتفل به داخل السجن تنديداً شديد اللهجة بالمحكمة، ووصفها بأنها مجرد أداة سياسية في يد حلف شمال الأطلسي وأنها تمثل عدالة المنتصر. ثم إنه رفع دعوى أمام القضاء الهولندي يشكو فيها من تعرضه لاعتقال غير قانوني مستنداً إلى أن أمر اعتقاله صادر عن مجلس الأمن فقط، وليس عن الجمعية العامة للأمم المتحدة.

ويدخل في إطار هذه العنجهية تهديده بفضح شخصيات غربية مرموقة، في عدد من الحكومات؛ زاعماً أنها منحته الضوء الأخضر للمضي قدماً في سياسته الدموية، وأن هذه الشخصيات قدمت له العون والدعم ونظام حكمه طوال عقد التسعينيات، وورد ذكر ثلاثة من وزراء خارجية بريطانيا السابقين، وهم لورد هورد، ولورد كارينجتون، ولورد أوين، وطائفة من النبلاء البريطانيين شاركوا في مفاوضات السلام التي استهدفت الإبقاء عليه في السلطة على الرغم من سجلِّه الذي يحاكم عليه الآن، هذا فضلاً عن شخصيات أمريكية وفرنسية. واستعد الغربيون من جانبهم للرد؛ فالخارجية البريطانية توقعت تنفيذ هذا التهديد، وأعلنت أنها لن تشعر بالمفاجأة، إذا ما طرحت التفاصيل التي تم الاتفاق عليها بين لورد هورد وميلوشيفيتش، وأنها لا تخشى شيئاً؛ لأن أياديها نظيفة.

واستعدت المخابرات البريطانية للدفاع عن رجالها، وأعدت تقريراً مطولاً، ذكرت فيه أن لديها معلومات خطيرة تدين عدداً من المسؤولين الصرب، ومعلومات خطيرة عن سلوبودان تزيد من حجم جرائمه.

أما الولايات المتحدة الأمريكية، فقد أعلنت عن استعدادها للرد على كل هذه المزاعم الكاذبة. وبقيت فرنسا أكثر المتضررين من نيران ميلوشيفيتش؛ إذ أكد أن المسؤولين الفرنسيين كانوا يتفاوضون معه، ويعقدون صفقات خاصة بهم من وراء ظهر الناتو.

وكانت فرنسا قد أبقت على اتصالاتها الوثيقة مع الجانب الصربي أثناء الحملة العسكرية، ويزعم الصرب أن القائد الفرنسي السابق لقوات الأمم المتحدة تعهد سراً باستخدام بلاده حق النقض ضد الضربات الجوية، شريطة إطلاق سراح ثلاثمائة من رهائن الأمم المتحدة المحتجزين.