إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / كوسوفا... التاريخ والمصير





انتشار القوات
التقسيم المؤقت
تأثير ضربات حلف شمال الأطلسي
شكل توزيع القوات

أهم الأهداف التي تعرضت للقصف



المبحث التاسع

المبحث التاسع

محاكمة ميلوشيفيتش

أولاً: الجلسة الأولى

مثل ميلوشيفيتش أمام المحكمة للمرة الأولى في 3/7/2001 من غير محامين يمثلونه، وذلك أمام الدائرة الابتدائية التي يرأسها القاضي البريطاني ريتشارد ماي، المشهور بعلامة مميزة هي الرصانة المعززة بالبعد عن المبالغة، ويصفه الذين تابعوا القضايا التي شارك فيها بالتهذيب الشديد، واعتدال المزاج في جميع الأحوال، واللين الخادع، ويجمعون على حزمه الدائم.

قال عنه شاهد سابق: "أقول أنه جبل من البلاتين المقوَى". وعبَر أسلوب القاضي ماي عن نفسه في المحكمة في أول مواجهة مع الرئيس اليوغسلافي السابق. كان هذا الأخير يتحدث باحتقار عن "المحكمة غير القانونية" و "ما يسمى بالمحكمة". وبنفس الطريقة التي يتعامل بها ناظر المدرسة مع تلميذ مشاغب، وصعب المراس، كان القاضي ماي يردد بصبر الأسئلة التي يتجاهل ميلوشيفيتش الإجابة عليها. وقد امتشق القاضي سلاحه. وهو زر صغير بالقرب من يده اليمنى ـ عدة مرات، ليسحب الصوت من مايكروفون ميلوشيفيتش، عندما يرى أنه خارج الموضوع والنظام.

ويحظى هذا القاضي (62 سنة) والذي التحق بالمحكمة عام 1997، باحترام الادعاء والدفاع؛ لسيطرته الحازمة على المحكمة. ويُضفي عليه هذا التحكم المتقن من الإجراءات مهابة كبيرة وهو يطل من علٍ بحلته القرمزية ونظارته.

وبينما يلقى المراسلين بتحية مهذبة، فإنه لا يدلي بتصريحات مطلقاً.

وفي عالم المحكمة الصغير، الذي لا يخلو من النميمة، يصعب أن تجد من يطعن في سمعة ماي.

قال ميشيل فلاديميروف، المحامي الهولندي والعضو السابق بهيئة الدفاع: "لم استغرب اختياره لرئاسة محاكمة ميلوشيفيتش، فالقاضي ماي لا ينزعج مهما حدث، ولا يمكن استفزازه، سواء من قبل المحامين الصرب العدوانيين، أو حتى من قبل ميلوشيفيتش.

ويتفق العالمون ببواطن الأمور على أن القاضي ماي هو الأنسب لرئاسة هذه المحاكمة المعقدة، والهامة، من بين قضاة المحكمة الآخرين.

وتقول نانسي باترسون، الأمريكية التي قادت فريق التحقيق في جرائم ميلوشيفيتش، والتي استقالت مؤخراً بعد 7 سنوات من التحقيقات: "أنه ببساطة من أفضل القضاة.. هو أفضل القضاة قاطبة من التحكم في المحكمة، وفي المحامين وفي تحريك القضية إلى الأمام".

وتخرج المحامي ماي من جامعة كمبردج، ومارس المحاماة في مجال القانون الجنائي، قبل أن يصبح قاضي دائرة بأكسفورد. ويعتبر خبيراً في "الأدلة" والإجراءات الجنائية، وقد نشر عدة أوراق في هذه المجالات.

ويحتل القضاة موقعاً هاماً في هذه المحكمة التابعة للأمم المتحدة، لأن القضاة الثلاثة الذين يرأسون المحكمة يقومون بدور القضاة والمحلفين في الوقت نفسه. ويقومون بمهمة معقدة تتمثل في اختبار وصياغة القوانين، إذ يتعاملون مع قانون دولي، ظل في أغلبه غير مطبق.

قضاة المحكمة الـ 14 ينتمون إلى أمم مختلفة، ويأتون من تقاليد قانونية وفقهية متباينة، مثلهم مثل المحامين، مما يجبرهم على التعامل مع تركيبة هجينة من القوانين. وهم مطالبون أيضاً بإصدار الأحكام في قضايا ارتكبت بعيداً عن الثقافات التي ينتمون إليها.

وهذه ليست القضية الكبرى الأولى التي يشرف عليها القاضي ماي. فقد كان على رأس محكمة ميلان كوفاشيفتش مدير المستشفى الصربي السابق الذي اتهم بإقامة معسكرات اعتقال في البوسنة. وقد انتهت تلك المحاكمة بصورة مفاجئة، ومن دون أن تبلغ نهايتها، عندما توفى كوفاشيفتش بزنزانته نتيجة نزيف داخلي.

وعيّن القاضي ماي رئيساً لمحاكمة اثنين من المعاونين السابقين لميلوشيفيتش، هما بيليانا بلافيستش ومومسيلو كرايسنيك، والذين كانا قائدين صربيين كبيرين في الحرب البوسنية. وبينما حدد فصل الخريف القادم لهذه المحاكمة، إلا أن محاكمة ميلوشيفيتش يمكن أن تغير هذه المواعيد. كما رأس أيضاً محاكمة داريو كورديتش القائد الكرواتي السابق.

سأل القاضي ماي سلوبودان إن كان يرغب في أن تتلى عليه صحيفة الاتهام بكاملها وعدد صفحاتها اثنتان وثلاثون صفحة، لأن هذا من حقه، فأجاب إجابته تلك باللغة الإنجليزية. وهنا التفت القاضي ماي إلى زميليه على المنصة للتشاور معهما. ثم قال: سنتعامل مع إجابتك على أساس أنها تنازل عن حقك في قراءة عريضة الاتهام عليك. وعندها بدأ ميلوشيفيتش كأنه على وشك أن يدلي بتصريح آخر، إلا أن القاضي ماي بادره بنبرة صوت قاطعة قائلاً: "ليس هذا وقت إلقاء خطب". وأضاف: "سنتعامل مع ردك باعتباره عجزاً عن الإجابة على الاتهام الموجه إليك، لذا سنعتبر إجابتك هي لست مذنباً في كل اتهام موجه إليك".

وأعلن القاضي، بعد أن طلب من ميلوشيفيتش مراراً وتكراراً أن يعيد التفكير في قراره بعدم اختيار هيئة للدفاع عنه، أنه قرر البحث مجدداً في الإجراءات التمهيدية للمحاكمة في جلسة جديدة نعقد خلال الأسبوع الأول من أغسطس ثم رفع الجلسة.

وقد ذكر القاضي أن المحكمة قد تعين محامياً للدفاع عن ميلوشيفيتش إذا ما استمر في الإصرار على القول بأنه لا يعترف بالمحكمة، حيث إن هذا يمكن تفسيره عجزاً عن الإتيان بدفاع عن نفسه.

وظهرت تكهنات مفادها أنه ربما يقرر تولي الدفاع عن نفسه عند بدء المحاكمة. ووصف أحد مسؤولي الادعاء بالمحكمة قراراً مثل هذا بأنه مجرد حيلة تتسم بحماقة شديدة. وأن المحكمة كانت ستجري حتى لو رفض ميلوشيفيتش حضور جلستها.

وأوردت وكالات الأنباء أنه وقف منتصب القامة، عابس الوجه، وذقنه مرتفعة عندما طُلب منه الوقوف لدى دخول القضاة الثلاثة قاعة المحكمة. وقد بدا طوال الجلسة، التي استغرقت اثنتي عشرة دقيقة، هادئاً ومتماسكاً يحيط به حارساً أمن. ويرتدي حلة زرقاء ورباط عنق مقلماً بأقلام حمراء وبيضاء وزرقاء، وهي الألوان الثلاثة للعلم اليوغسلافي. أما مكان جلوسه فمحمي بزجاج مضاد للرصاص.

ويقول المراقبون إن ميلوشيفيتش، وبعضهم التقاه في سجنه ليس في نيته الاعتراف بالمحكمة، وأنه على علم بتفاصيل التهم الموجهة إليه، وأنه ما زال مصراً على أنه لم يرتكبْ أي خطأ في كوسوفو. وطبقاً لوجهة نظره، فإن الخطوات التي اتخذت ضد تمرد "جيش تحرير كوسوفو" كانت مشروعة، في إطار حرمان الانفصاليين المسلحين من اقتطاع جزء تاريخي من صربيا، أكثر جمهوريات يوغسلافيا هيمنة.

كما يعتقد كذلك إن قصف طائرات حلف الناتو بغرض إخراج الجيش اليوغسلافي وقوات الأمن، هو الذي أدى إلى فرار مئات الآلاف من الألبان من كوسوفو، نافياً وقوع أي عمليات قمع وتطهير عرقي للألبان. ويصر ميلوشيفيتش على أنه حاول إخضاع قوات الأمن اليوغسلافية التي تورطت في ارتكاب بعض الفظائع بحق ألبان كوسوفو، وادعى كذلك أنه حاول اتخاذ إجراءات تأديبية بحق بعض الوحدات الأمنية، وهو ادعاء يمكن أن يستخدمه في دفاعه أمام المحاكمة. وقال كريستوفر بلاك، وهو محام كندي يرأس لجنة قانونية فرعية للدفاع عن ميلوشيفيتش، أن الرئيس اليوغسلافي الأسبق شكا إليه عندما زاره في يوليه الماضي من أن الناس لا يعرفون تاريخ يوغسلافيا، والتاريخ الصربي. وأضاف بلاك إن ميلوشيفيتش فعل ما بوسعه لوقف أي انتهاكات من جانب القوات الصربية في كوسوفو.

بوسع ميلوشيفيتش طرح كل هذه النقاط إذا أراد أن يوكل عنه دفاعاً رسمياً، كما أن له الحق في استدعاء الشهود، إذ في إمكانه استدعاء ريتشارد هولبروك، السفير السابق بالأمم المتحدة ووزيرة الخارجية الأمريكية السابقة مادلين أولبرايت، وقائد قوات الناتو السابق الجنرال ويسلي ملارك. ويقول الصحافي الهولندي فاركيفيسر أن بوسع ميلوشيفيتش استدعاء الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون إذا رغب في ذلك.

ويقول خبير قانوني أن قضاة المحكمة الذين من المفترض أن يقرروا في طلبات ميلوشيفيتش سيكونون في أشد الحذر تجاه صلاحيات الاستدعاء للمحكمة، ويعتقد الخبراء كذلك أن الرجل إذا قرر الدفاع عن نفسه، فإن القضاة سيبذلون ما في وسعهم لإنصافه.

وبما أن غالبية هؤلاء المسؤولين تركوا مناصبهم السابقة، فلن يكون لديهم حصانة ضد الشهادة بما في ذلك الرئيس السابق بيل كلينتون وهولبروك وأولبرايت. ويقول فاركيفيسر أنه لا توجد نية الآن لاستدعاء أي شهود؛ لأن خط دفاع ميلوشيفيتش يعتمد على أن اعتقاله في هولندا يعتبر انتهاكاً للقانون الهولندي، والقانون الدولي على السواء، مضيفاً أن هذا الادعاء سينتهي بالقضية في المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حيث يوجد عدد من القضاة المتعاطفين مع أوروبا الشرقية، حسبما يرى واحد من أعضاء لجنة الدفاع عن ميلوشيفيتش.

وكان عدد من مسؤولي المحكمة قد حذر ميلوشيفيتش من أن رفضه لوجود هيئة للدفاع عنه أمر قد يسفر عن مخاطر في قضية معقدة مثل هذه القضية. وأعرب متحدث باسم المحكمة عن أمل المسؤولين في عدوله عن رأيه وقبول فريق للدفاع عنه.

ثانياً: الجلسة الثانية

بدأت المحكمة في 23/8/2001 الاستماع إلى عرض محامي الرئيس اليوغسلافي السابق سلوبودان ميلوشيفيتش، الذي يريد الاحتجاج أمام القضاء الهولندي على ظروف توقيفه واعتقاله في سجن محكمة الجزاء الدولية ليوغسلافيا السابقة.

ويطالب ميلوشيفيتش الذي لم يحضر الجلسة بالإفراج عنه، مندداً مرة جديدة بعدم شرعية محكمة الجزاء الدولية "التي أنشأها مجلس الأمن الدولي وليس الجمعية العامة". وعدم وجود هذه الشرعية يجعل، على حد رأيه، الاتفاق لاغياً بين السلطات الهولندية والأمم المتحدة، ذلك الاتفاق الذي يعطي محكمة الجزاء في لاهاي حصانة سياسية، تخضع فيها لقوانين الأمم المتحدة.

ومن ثم يرى ميلوشيفيتش أن السلطات الهولندية هي التي تعتقله، ما يتناقض مع قانون هذا البلد، الذي يحظر اعتقال سجين أوقف بطريقة غير شرعية في بلد ما. ويرى الرئيس اليوغسلافي السابق أيضاً أن ظروف نقله تنتهك الدستور اليوغسلافي. وقال نيكو ستيينين محامي ميلوشيفيتش في بداية الجلسة أنه سيكون بحاجة إلى ثلاث ساعات لكي يقدم حججه.

ومثل الرئيس مرة ثانية أمام المحكمة في الثلاثين من أغسطس، وطلب الادعاء العام من هيئة المحكمة تعيين مستشار للدفاع يمثل المتهم أمام المحكمة، غير أن هيئة المحكمة رفضت هذا الطلب، وقررت تعيين محام يساعدها في ضمان منح ميلوشيفيتش محاكمة عادلة.

لكن ميلوشيفيتش قال إنه يرغب في التقدم باعتراض حول "عدم شرعية المحكمة" مكرراً عدم اعترافه بقانونية ما تقوم به، وأكد أنه يتعرض للتمييز؛ نظراً لجعله بعيداً عن أهله وهيئة الدفاع والصحافة أيضاً.

وقال في مرافعته التي استمرت اثنتي عشرة دقيقة فقط، قاطعه القاضي خلالها أكثر من مرة، قال إنه لا يعترف بشرعية الإجراءات، ورفض الاستماع للتهم الموجهة إليه. وواصل في اتجاهه الهجومي حين قال للقضاة إنه يواجه محكمة زائفة لتهم باطلة، وشكا من ظروف احتجازه، فما كان من القاضي أن قطع مكبر الصوت، ورفع الجلسة بعد نحو نصف ساعة من بدئها، وقال لميلوشيفيتش لن نستمع لهذه المجادلات السياسية.

واشتكى ميلوشيفيتش من الرقابة على الزيارات التي يقوم بها المقربون منه له داخل السجن في لاهاي في محاولة للتأثير في الصحافة والرأي العام.

ورد القاضي بأن ذلك يمكن النظر فيه وتسويته في حالة تراجعه عن موقفه الرافض لتعيين محام، وانتدب من يدافع عنه في المحكمة، واستهل الإجراءات القانونية. وقال القاضي أن اعتراضات المتهم غير قانونية، ولو أنه عين محامياً للدفاع عنه لتجنبنا الكثير من الاشكالات.

وأضاف لقد التزمت المحكمة بواجبها وفق القانون الدولي، وكان على ميلوشيفيتش الإجابة عن لائحة الاتهام التي قدمت له، كما أن المحكمة تؤكد أن اعتراضاته باطلة وغير قانونية، ومن مصلحة العدالة أن يكون هناك محام لمساعدة المحكمة في التفاهم معه، والنظر في مطالبه واعتراضاته المختلفة. ووجه كلامه لميلوشيفيتش قائلاً: "من المهم جداً أن نطلب منكم تعيين محام للدفاع عنكم، فمن وجهة نظر القانون الدولي من حق المتهم أن يعين محامياً، كما أنه من حقه أن يدافع عن نفسه بنفسه، وسيكون خرقاً للقانون الدولي لو قامت المحكمة بتعيين محام لفرضه على ميلوشيفيتش، ولكن المحكمة ستلجأ لتعيين محام، ليس لفرضه على ميلوشيفيتش، ولكن لتسهيل إجراءات التعامل معه".

وقد بدا الرئيس اليوغسلافي السابق متجهم الوجه في قاعة المحكمة عندما سأله القاضي: "هل هناك قضايا تريد أن تطرحها تتعلق بوضعك الجسدي والمعنوي، في هذه الجلسة؟". ورد الرئيس اليوغسلافي على سؤال القاضي بسؤال قائلا: "هل أستطيع أن أتحدث بدون أن تقطع الميكروفون كما فعلت في المرة السابقة؟". وهنا رد عليه القاضي «يمكنك التحدث في إطار القانون وعدم الخروج عن حيثيات القضية التي أنت بسببها الآن في السجن». فقال ميلوشيفيتش: "أريد أن اقدم اعتراضا بخصوص عدم شرعية المحكمة، لقد قمت بتقديم اعتراض خطي حول هذا الموضوع هو الآن أمامكم". وسأله القاضي "هل تريد أن تقدم الاعتراض شفهيا؟" ورد ميلوشيفيتش: "إذا لم استطع شفهيا سأسلم ردي لزملائي لنشره في الصحافة الدولية، إذا رفضتم عرضه الآن أمامكم شفهيا". وأضاف: "كأشخاص متحضرين يجب أن تكون اعتراضاتي شفهية ومباشرة ودون قطع الميكروفون، ولكني سأترك الجواب لكم، وأقدم اعتراضاتي خطيا، وبالنسبة للاتهامات الموجهة إلي فإني اكرر ما قلته في 3 يوليه (تموز) الماضي من ان هذه الاتهامات كاذبة واتهمت بعد الاعتداء على يوغسلافيا سنة 1999 عندما كنت أدافع عن بلادي".

وقال: "سمعت انه ليس لديكم أدلة، وحتى الآن، وبعد سنتين ونصف السنة، لا توجد أدلة على اتهامي وهو اتهام كاذب وتحقيقاتكم لا يمكن استكمالها، وهذا يدل على صدق أقوالي، ولذلك فأنا لا اعترف بالمحكمة، فهي ليس لها رأي واضح، وأستطيع أن اثبت بالأدلة أنها غير شرعية، فهي تصر على مثولي للمحاكمة بتهم كاذبة، وبالتالي فان إجراءات سجني غير شرعية". ورد القاضي: "يمكنك طرح أسئلة، وليس ترديد الكلام الذي قلته في المرة السابقة، وسمعناه وقدمت اعتراضا مكتوبا في هذا الشأن، هل لديك طلبات؟".

فقال ميلوشيفيتش: "هذه المحكمة غير الشرعية، لماذا تضعني في سجن انفرادي؟ لماذا لا يستطيع أصدقائي زيارتي، وفي نفس الوقت يتاح للآخرين ذلك؟ لماذا زيارات أسرتي مراقبة؟ وحتى حديثي مع حفيدي البالغ من العمر سنتين ونصف السنة؟ لماذا تقومون بخرق حقوقي بهذا الشكل؟ لماذا أنا في سجن انفرادي؟ ولماذا امنع من التحدث للخبراء القانونيين بخصوص وضعي القانوني؟".

ورد القاضي على تساؤلات ميلوشيفيتش بالقول «سنحقق في هذا الموضوع، لكن الصعوبة تكمن يا سيد ميلوشيفيتش في أنك لم تعين محامياً ليبلغنا بكل طلباتك، ويخبرنا عن وضعك، ثم إذا كنت مصراً على الدفاع عن نفسك بنفسك فان القوانين تمنعك من الاتصال بالخبراء القانونيين، هذا هو وضعك الذي اخترته أنت لنفسك".

وأصر ميلوشيفيتش على أن من حقه الاتصال بالمستشارين والمحامين الذين يديرون أموره في يوغسلافيا، والذين يؤيدون موقفه، وقال أن معاملته تتم «بشكل عنصري منذ اليوم الأول". وأعاد القاضي على مسمع ميلوشيفيتش القول أن السبب هو عدم وجود محام له قائلا "إذا قمت بتعيين محام فسيتم تسهيل جميع أمورك". لكن ميلوشيفيتش قال: "من حقي التحدث للأشخاص الذين يريدون زيارتي، لماذا أنا ممنوع من الصحافة بينما ينشر الإعلام الدولي الأكاذيب ضدي؟ ممنوع من لقاء الصحافة ومن التحدث للتلفزيون، هناك من يريد التحدث معي لمعرفة الحقيقة". وهاجم المحكمة قائلا: "انتم تمثلون المخابرات لماذا تخافون من الحقيقة، إذا كنتم تمنعون الصحافة من التحدث معي فانتم تمارسون التمييز العنصري ضدي، أنا لم أعين محاميا لأني اعتبركم غير شرعيين، والمحكمة غير شرعية، والمحامين غير شرعيين، والتمثيل غير شرعي، والادعاء غير شرعي، وكلكم غير شرعيين". ورد القاضي: "قوانين السجن والقوانين الدولية في كل الدول تمنع على المتهم إعطاء تصريحات للصحافة، وهذا يطبق على كل المعتقلين، وبهذا لا يوجد أي تمييز يمارس ضدك، وعن عدم اعترافك بالمحكمة فقد سمعنا هذا منك، وهي وجهة نظرك، فهل لديك أسئلة أخرى". لكن ميلوشيفيتش رد يقول: "انتم لستم مؤسسة قضائية انتم تمثلون الدول التي عينتكم". وقال له القاضي مجددا: "لقد تحدثت عن ذلك وقدمت طلبا خطيا وسنأخذ ذلك في عين الاعتبار". ثم أعلن القاضي رفع الجلسة إلى 29 أكتوبر القادم.

في هذه الأنباء رفضت محكمة هولندية في لاهاي الدعوى التي رفعها محاموه مطالبين باعتبار محكمة جرائم الحرب، وكذلك عملية اعتقاله من قبل المحكمة غير شرعيين، كما طالبوا بإخلاء سبيل موكلهم، وقالوا إن محكمة دولية لا يمكن أن تنشأ إلا بمعاهدة دولية، وهو ما لا ينطبق على هذه المحكمة. لكن المحكمة الهولندية رأت في قرارها أن محكمة جرائم الحرب تأسست بقرار من مجلس الأمن، وتعمل في ظل القانون الهولندي والقانون الدولي، ومن ثم فلا يكون احتجاز ميلوشيفيتش ومحاكمته أمرين غير شرعيين.

ثالثاً: الجلسة الثالثة

مثل ميلوشيفيتش أمام المحكمة للمرة الثالثة في 29/10، وقد استمع في هذه الجلسة لاتهامات جديدة تخص جرائم حرب في كرواتيا، وذكر في هذه الاتهامات لأول مرة أسماء لأشخاص الذين ساعدوه على تنفيذ هذه الجرائم، مما جعل المراقبون يرون أن في هذا إشارة إلى عزم المحكمة على محاكمة عدد آخر من القيادة الصربية. وقال لرئيس المحكمة عبر مترجم: "إني اتهمت لأني دافعت، وهذا يشرِّفني، عن أمتي بطريقة قانونية، وسبل مشروعة وعلى أساس حق تقرير المصير الذي تملكه كل أمة ضد العدوان الإجرامي، الذي ارتكب ضدنا للدفاع عن شعبي ضد الإرهاب".

وقد حاول ميلوشيفيتش تذكير هيئة المحكمة بأنه كان شخصية قوية ذات يوم تخطب الولايات المتحدة وده. وقال إن الحكومة الأمريكية لجأت إليه للمساعدة في ملاحقة أسامة بن لادن، إذ كانت الإدارة الأمريكية تعلم أنه في ألبانيا بعد عامين من نسف سفارتيها في نيروبي ودار السلام.

وتجاهلت المحكمة تصريحاته المعتادة عن "عدم شرعية المحكمة"، ومضت في جدول أعمالها الذي تصدرته التهم الجديدة. وبرز تطور مثير عند تقديم الفريق القانوني المساعد للمحكمة، وهو فريق تشاور للمحكمة وللمتهم في آن واحد بصدد الإجراءات القانونية، لمداخلته الأولى التي تضمنت مجموعة من الاقتراحات التي تبنى عملياً المرتكزات التي يرفض على أساسها قانونية المحاكمة وشرعية المحكمة.

قال ستيفن كاي، عضو الفريق "إن هنالك أساساً للشكوك" التي أثارها ميلوشيفيتش بشأن عدم حياد المحكمة، التي حركت الاتهامات ضده بعد قرار مجلس الأمن في 31 مارس 1998. واقترح كاي على رئاسة المحكمة طلب المشورة القانونية من محكمة العدل الدولية قبل المضي في المحاكمة. وطالب عضو آخر في الفريق التشاوري أن يضيف اعتقال ميلوشيفيتش وترحيله مخالفاً للاتفاقات الدولية؛ لأنه حصل على يد سلطات جمهورية صربيا، التي لا تعد دولة مستقلة، بل جزءاً من الاتحاد اليوغسلافي. وأكد براتسيلاف تابوسكوفيتش، وهو من أصل صربي، أن الاعتقال يبدو بلا أساس قانوني وشرعي.

وردت كارلا ديل بونتي على مداخلات الفريق بقوة، وقالت إن السلطات التنفيذية في الاتحاد اليوغسلافي تقع أساساً في يد جمهورية صربيا، وقدمت أمثلة عدة على الحالات التي تكفلت بها مؤسساتها بواجبات تتصل بتنفيذ التزامات الاتحاد اليوغسلافي أمام المحكمة. كما رفضت المدعية العامة اقتراح التشاور مع محكمة العدل الدولية بصدد شرعية المحكمة أو نزاهتها، ورأت أن قرارات مجلس الأمن بشأن الوضع اليوغسلافي لا تشكل ضغطاً سياسياً على هيئة المحكمة. وقالت "إنها تتضمن الدعوة للتحقيق من ارتكاب جرائم، وهو أمر مشروع ويقع ضمن اختصاص المحكمة".

وبرز خلال الجلسة الثالثة هذه، تعارض واضح بين الادعاء العام وفريق المشاورين، وصل حد الجفاء والنقد، وهو أمر يمهد لإطالة أمد المحاكمة، وقد يلقي بحبل النجاة لميلوشيفيتش؛ في الوقت الذي كان المراقبون يتوقعون أن تكون هذه الجولة الثالثة حاسمة في إثبات التهم المنسوبة إليه؛ وذلك لمسؤوليته المباشرة عن كل الجرائم التي ارتكبت في يوغسلافيا السابقة بين عامي 91 ـ 1999م، وهي الفترة التي كان فيها صاحب القرار الأول على الصُّعُد السياسية والعسكرية.

رابعاً: الجلسة الرابعة

وجاءت الجولة الرابعة من المحاكمة في 11/12/2001، واستمر المتهم في تحدي المحكمة، مبدياً عزمه على متابعة السلوك الاستفزازي تجاه المحكمة، ووجهت إليه هذه المرة تهم جديدة، تتصل بارتكاب مجازر وجرائم إبادة في البوسنة وكرواتيا بين عامي 92 ـ 1995.

وأبدى القاضي "ماي" ثقة عالية، وأسكت المتهم الذي أراد أن يبدأ خطاباً سياسياً، وبدا ميلوشيفيتش أكثر قلقاً مما كان عليه في الجلسات السابقة، مستعيناً بصياغة أدبية للرد على مساءلات قانونية، واصفاً مذكرة الاتهام بأنها في منتهى العبثية. وقال بنبرة فخار: "ينبغي أن تنسبوا إلىَّ السلام في البوسنة، ليس الحرب".

وقد تلا كاتب المحكمة نص الاتهام كاملاً، بينما كان ميلوشيفيتش يعبر عن ضيقه، ويكرر النظر في ساعة يده، وبدت المحكمة أكثر ثباتاً، ولم تبد أوساطها أيَّ قلق من سلوك الرئيس المتهم الذي كرره في الجلسات الثلاث السابقة.

جملة التهم الموجهة للرئيس اليوغسلافي السابق:

كانت التهمة الأولى التي من جراها قبض على الرئيس السابق، وسلّم لمحكمة جرائم الحرب، هي اتهامه بارتكاب جرائم حرب في إقليم كوسوفو؛ تمثلت فيما قامت به القوات الصربية من مذابح، وإبادة، وقمع وحشي للألبان في كوسوفو. وأصدرت المحكمة في مايو 1999 لائحة اتهام في حقه، تتهمه بالمسؤولية عن جرائم قتل جماعي، وطرد للسكان الألبان. وتضمنت أيضاً جرائم ضد الإنسانية من قتل وترحيل واضطهاد، وانتهاك للقوانين، وعادات الحروب.

نظرت المحكمة في جلستيها الأولى والثانية هذه التهمة، واستطاع ميلوشيفيتش فيهما استغلال الضربات الجوية الأطلسية لبلاده، ليصور نفسه وبلاده بمنزلة الضحية، مسوغاً رفضه الانسحاب من الإقليم، ومقتل الألبان بأن الجيش اليوغسلافي كان يدافع عن أراضي يوغسلافيا ووحدتها. وهو ما رفضته المحكمة؛ إذ رأت أنّ ما ارتكبه الجيش اليوغسلافي كان تطهيراً عرقياً اتخذ شكل الإبادة، وهذا ما تثبته صور المذابح التي التقطت للضحايا قبل حملهم للمقابر، فرادى، كما أنّ المقابر الجماعية التي أخفيت فيها آثار الجرائم والتي أمكن اكتشاف خمس منها حتى مطلع أكتوبر 2001 بالقرب من العاصمة بلغراد، تثبت جلياً ما تذهب إليه ممثلة الادعاء، على الرغم من أن ميلوشيفيتش كان قد أمر وزير داخليته بإتلاف الأدلة، والقضاء على كل الآثار التي يمكن أن توفر أدلة على جرائم القوات في كوسوفو، جاء هذا في اعتراف رئيس قطاع الجريمة المنظمة في وزارة الداخلية الصربية أمام مؤتمر صحفي في 25/5/2001.

أما التهمة الثانية فقد جاءت في وثيقة رفعتها المدعية العامة ضد ميلوشيفيتش، اتهمته فيها بارتكاب جرائم حرب وإبادة في كرواتيا أثناء الهجوم الواسع الذي شنه الجيش اليوغسلافي على زغرب ومناطقتها بين عامي 91 ـ 1995م.

وأكدت المدعية أن ثمة أدلة كافية لإدانة الرئيس اليوغسلافي السابق بجرائم ارتكبت في كرواتيا. وأعلنت هيئة المحكمة في 9 أكتوبر 2001، أنها اعتمدت وثيقة الاتهام بعد أن نظرت فيها لعدة أيام، ويرتكز الاتهام فيها على إجباره السكان من غير الصرب على النزوح من كرواتيا بين عامي 91 ـ 1992. ولم تتضمن هذه الوثيقة جريمة (الإبادة) لكن كبيرة الادّعاء ذكرت أنها ستضم إلى وثيقة الاتهام البوسنية.

وجاء في هذه الوثيقة أيضاً أنّ القوات الصربية قتلت مئات المدنيين من غير الصرب منهم نساء ومسنون خلال عمليات الترحيل من كرواتيا. وجاءت التهم حول كرواتيا قبل التهم البوسنية؛ لأن الأخيرة أرجئت بضعة أسابيع بغية القيام بتدقيقات إضافية، كما تقول المدعية، التي أضافت قولها: "احتراماً للضحايا، ونظراً للعدد الكبير من الفظاعات المرتكبة خلال حرب البوسنة ترغب المدعية في عدم نسيان أيّ جانب من الجوانب المتعلقة بدور ميلوشيفيتش في هذه التهمة الأخيرة.

وأعلنت المحكمة في 23/1/2001 رسمياً أنها وجهت الاتهام إلى الرئيس السابق بارتكاب مذبحة جماعية في البوسنة والهرسك، ووصف هذا بأنه أخطر اتهام توجهه المحكمة إلى ميلوشيفيتش، وأوضحت المحكمة أن الاتهام الجديد الذي أعدته كبيرة ممثلي الادعاء، ليغطي الفظائع التي ارتكبتها القوات الصربية ضد الكروات والمسلمين خلال حرب البوسنة في الفترة ما بين عامي 92 ـ 95، ورد في إطار أدلة كافية تدينه أمام المحكمة، وهذه هي التهمة الثالثة.

وادعت المحكمة أن ميلوشيفيتش شارك في واقعة جنائية مشتركة استهدفت الإزاحة الجبرية والدائمة لغير الصرب من جمهورية البوسنة والهرسك. وجاء في لائحة الاتهام أن آلاف المسلمين والكروات من سكان البوسنة قتلوا، كما أسر آلاف آخرون في أكثر من 50 معسكر اعتقال في أحوال غير إنسانية، ونقل آخرون قسراً من ديارهم.

وكانت المحكمة في وقت سابق قد أوضحت أنها ترى أن ميلوشيفيتش هو الذي أمر مختلف مؤسسات الدولة في الفترة التي كان مسؤولاً فيها (91 ـ 99)، بفتح مخازن المال والسلاح لصالح صرب كرواتيا والبوسنة، وكان يبارك الجرائم التي يقترفونها باسم المصالح الصربية العليا، ثم إنه لم يصدر أيّ إدانة للمذابح التي كانت ترتكب بحق المدنيين في كل من بيهاتش، وبريتشكو، وغوراجدة، وسراييفو، بل إنه لم يدن مجزرة سربيريتشا البشعة التي ارتكبها الصرب ضد المدنيين المسلمين في منتصف يوليه 1995، وراح ضحيتها أكثر من عشرة آلاف قتيل معظمهم من النساء والأطفال.

وجملة الجرائم المثبتة في وثيقة الاتهام هذه تسع وعشرون جريمة، وتكون المدعية بهذه التهمة قد وسعت جداً مدى محاكمة الرئيس السابق؛ ما سيجعل المحاكمة أكثر إرهاقاً وتعقيداً، وكان القاضي ماي قد حذر الادعاء من قبل (في آخر أغسطس) أنه يريد بداية المحاكمة في أقرب وقت ممكن؛ وأنه لا يمكن للادعاء الاستمرار في تحقيقاته إلى الأبد مذكراً بأن الاتهام قد صدر قبل عامين، وأن ميلوشيفيتش محتجز منذ أكثر من شهرين.

ويدور نقاش في الأوساط القانونية العالمية حول ما إذا كان من الأفضل محاكمة ميلوشيفيتش على جميع التهم الموجهة إليه، أم على التهم الموجهة من أجل كوسوفو أولاً، ثم محاكمته على الجرائم التي ارتكبها الجيش اليوغسلافي في كرواتيا والبوسنة. والذين يرفضون توجيه كل التهم له يقولون إنّ الوثائق التي جمعت ضده لا يمكن إحصاؤها، ولن يستطيع أحد تمحيصها بالكامل، حتى القضاة الثلاثة الذين أوكلت لهم القضية لن يتمكنوا من قراءة كل ما سيصلهم ضده، لذلك وزعت هذه الوثائق على ألف قانوني لتمحيصها واختيار الأهم منها.

وقال أحد المحامين البريطانيين الذين شاركوا في محاكمة داريو كورديتش، وهو كرواتي من البوسنة حكم عليه بالسجن 25 سنة؛ لارتكابه جرائم حرب بحق المسلمين في البوسنة: "خلال محاكمة كورديتش وُجدت وثائق وأدلة كثيرة لم يتسع لنا الوقت لقراءتها كلها، فكيف سيتمكن أحد من قراءة كل ما جمع ضد ميلوشيفيتش؟!".

بينما يقول خبير قانوني دولي آخر: "كل شئ يمكن أن يكون دليلاً، فلا يجب إهمال أي وثيقة، إضافة إلى الشهود الذين يجب العمل على حماية سرية هويتهم للكشف على جرائم قتل فيها عشرة آلاف شخص في كوسوفو، ومائتا ألف في البوسنة، وكل ذلك عمل شاق ومُضنٍ؛ لكنه يجب أن تنفذ".

ومعارضون آخرون لتوسيع لائمة الاتهامات ضده يرون أن المتهم يكفي أن يحكم عليه مرة واحدة بارتكابه جرائم حرب. يقول خبير قانوني: "من الأفضل أن يتم التركيز على قضية واحدة، إذ يتخوف المعارضون من توسيع دائرة الاتهام ضد ميلوشيفيتش لتضم الجرائم التي ارتكبت في كرواتيا والبوسنة، حتى لا تأخذ صيغة الاتهام صفة (عدوان دولي) يصعب على المحكمة إثبات ذلك بسبب (فيدرالية يوغسلافيا السابقة) التي كانت معقدة منذ حكم الرئيس الراحل جوزيف بروزتيتو، أما جرائمه في كوسوفو فمن السهل إثباتها لأن كوسوفو جزء من صربيا".

بينما يقول مؤيدو توسيع دائرة الاتهام أنه ليس من الصعب أن تشمل الاتهامات ضد ميلوشيفيتش ما ارتكبه في البوسنة وكرواتيا؛ لأن ذلك سيساعد في توجيه الاتهام ضد رادفان كرادجيتش زعيم صرب البوسنة والجنرال راتكوملاديتش القائد السابق لجيش صرب البوسنة، وسيثبت أن ميلوشيفيتش هو الأب الروحي لهما، وهو الذي خطط لسياسة حرب البوسنة.

ويحذر الخبراء الدوليون المحكمة الدولية من خطة ميلوشيفيتش لجعل المحاكمة نوعاً من الدعاية الإعلامية له؛ فحينها لن يتمكن القضاة من العمل بحرية.

أما المسؤولون في جمهورية صربيا فيرون أن اتهام الرئيس السابق بجرائم الإبادة الجماعية في البوسنة يعرض وجود الكيان الصربي في البلاد للخطر، وقال مستشار رئيس وزراء جمهورية صربيا لشؤون العلاقات مع محكمة الجزاء الدولية: "أن هذا الاتهام قد يخلق عواقب خطيرة على وجود جمهورية صرب البوسنة، ومن ثم على سلطات الكيان بعد أن بذل كل ما في وسعه لإسقاط هذا الاتهام". وأردف قائلاً: "سواء دافع ميلوشيفيتش عن نفسه أو لم يفعل؛ علينا نحن أن نقف في وجه هذا الاتهام باسم ميلوشيفيتش، لمصلحة جمهورية الصرب.. وألا نقف مكتوفي الأيدي".

وأشار إلى أن سلطات البوسنة المركزية تقدمت إلى محكمة الجزاء الدولية بشكوى ضد الجمهورية اليوغسلافية مطالبة بتعويضات عن حرب 92 ـ 95؛ وقال إن توجيه الاتهام إلى رئيسها السابق بارتكاب إبادة جماعية في البوسنة، سيضفي أساساً قانونياً لهذه الملاحقات.

ورحبت السلطات الكرواتية بتوجيه هذا الاتهام للرئيس السابق لكنها طالبت بألا يحصر في ما حدث في أراضي البوسنة، بل يشمل أيضاً ما ارتكبه الصرب في كرواتيا.

وهناك تهمة رابعة متصلة بهذه التهمة، وهي (الاغتصاب)؛ إذ نشر في 21 أكتوبر 2001 إعلان ممثله الادعاء، كارلا ديل بونتي أن الرئيس اليوغسلافي السابق سيحاكم على جرائم الاغتصاب في البوسنة والهرسك في ما بين 92 ـ 1995؛ وسيُستدعى عدد كبير من النساء المغتصبات للإدلاء بشهادتهن.

وتشير التقارير إلى أن أعداد النسوة اللواتي انتهكت أعراضهن كبيرة جداً، فمن أصل 200 ألف امرأة أصبح ستون ألفاً منهن حوامل من الصرب.

وروت صحفّية بوسنية عن جرائم الصرب بحق أبناء مدينتها، ومن جملة ما قالته عن موضوع ارتكاب جرائم الجنس ضد النساء المسلمات فقالت: "إنني خجلة جداً من سرد تفاصيل هذه الجرائم، ولا أتذكر أنني شاهدت طيلة حياتي مثل هذه الجرائم البشعة.. وقالت: إن الصرب أعادوا كثيراً من النساء المغتصبات إلى أهلهن لتوجيه الإهانة للمسلمين، وهن يعانين الآن من أسوأ ظروف وحالات نفسية حادة".

وقد ترجم فهمي هويدي تقريراً نشرته بعض الصحف البريطانية جاء فيه أن مصادر الحكومة البوسنية تقدر أعداد النسوة المغتصبات بأربعة عشر ألفاً، منهن ألفا فتاة بين سن السابعة والثامنة عشرة، وثمانية آلاف فتاة بين الثامنة عشرة والخامسة والثلاثين، وثلاثة آلاف بين الثامنة والثلاثين والخمسين، وألف امرأة فوق الخمسين. وذلك في العامين الأولين من اندلاع الحرب.

وأوردت الصحف قصة فتاة عربية من ليبيا اعتقلت في سنة 1992 في ضاحية الغربافيتس بالعاصمة البوسنية سراييفو، وروت حقيقة اعتقالها واغتصابها فقالت: "اقتحمت الشرطة الصربية بيتنا بحثاً عن أخي، حيث كانت تعتقل كل الشباب فوق الثانية عشرة، لكن أخي فرّ من النافذة، واعتقلوني بدلاً منه، للضغط عليه، وحمله على تسليم نفسه، لكنه لم يفعل، واغتصبت عدة مرات، وبقيت على هذه الحالة سنتين كاملتين، وأخرجت من المعتقل، وأنا أحمل عدة أمراض، ولا يمكن أن أتزوج؛ لأني فقدت الحاسة الجنسية تماماً، وقد أجريت عدة عمليات جراحية، وإذا ما دعيت إلى لاهاي فسأذهب لأدلي بشهادتي على أن عمليات الاغتصاب لم تكن تصرفاً فردياً، بل سياسة أملاها ميلوشيفيتش سلاحاً يستخدم في الحرب لتحطيم معنويات الخصم".

هذه جملة التهم التي وجهت للرئيس السابق، وستواصل المحكمة جلساتها في العام الجديد، وقد أثارت محاكمة ميلوشيفيتش عدة آراء وتعليقات من قبل المراقبين المتابعين لهذا الشأن؛ فيتساءل بعضهم: ما الذي تضيفه المحاكمة إلى الذاكرة الإنسانية؟ بل ما جدوى محاكمة شخصية دولية كانت بالأمس القريب فقط تحكم بلداً أوروبياً؟.

ثم يجيب على ذلك بقوله: إذا قمنا بتحليل حيثيات المحاكمة صورياً، فإننا سنصل إلى مفهوم جديد في معالجة القضايا التاريخية المعاصرة من حيث إن الخبراء السياسيين سيتمكنون بفضل هذا النوع من المحاكمات من تحريك عجلة التاريخ وتلقف الهفوات التكتيكية التي وقعوا فيها عند معالجتهم أزمة البلقان خلال عشرية كاملة. وبذلك تنشط الذاكرة التاريخية للمهتمين بمثل هذه القضايا، وإحداث اليقظة على المستوى الإعلامي؛ بإعداد مخيلة المشاهدين، وتحريض مشاعرهم تجاه الشخصية التي ما هي في الحقيقة إلا رمز تاريخي يكتنفه الغموض بحكم غموض السلطة التي كان يمارسها تاريخياً طبعاً.

وبذلك تكون البشرية قد قفزت قفزة نوعية نحو تطوير أساليب كتابة التاريخ، ومحاكاته عبر محاكمة زعمائه بمحاكمات لصيقة بالأحداث التاريخية الحديثة، مدعمة بالصور الحية والمراسلات، وما يقول المتفاوضون مع المحكوم عليه، الماثل أمامهم، القادم من التاريخ القريب، الراوي لعشرية كاملة من الزمن، الآمر الناهي في الأزمة، التي جمع لها المحامون ومن يقف وراءهم المعلومات، واستعانوا ببرامج للإعلام الآلي لتحليلها، ثم تصنيفها ثم ترتيبها زمنياً بالأدلة المادية الشفوية والمكتوبة.

ويرى محلل آخر أن محاكمة ميلوشيفيتش طبخة ذات نكهة باهتة، وأنها واحدة من القصص والروايات التي نسجتها عباقرة نسج المسرحيات، وما أكثرهم في الغرب والشرق؛ ليجعلوا من طبخة تسليم الرئيس السابق إلى محكمة لاهاي ذات نكهة حين أضافوا إليها عند وصوله إلى لاهاي رواية تتصل بمحاولة اغتيال رئيس الحكومة البريطانية عام 1999.

إن سكوتهم عنها سنتين يجعلها باهتة، ولا تمثل أكثر من إضافة جديدة لما فعله ميلوشيفيتش؛ هدفها تحمل الرئيس الصربي وزر العديد من المصائب، هذه المصائب من صنعه، لكن إعلانه عن متورطين غربيين فيها، لا يمكن أن تمسهم يد القضاء، يجعل المحاكمة ليست ذات قيمة، ويحولها إلى مسرحية، شبيهة بمسرحية تسليمه إلى لاهاي، مقابل ملايين من الدولارات، وتعريضه لإهانة يستحق أضعافها لو وقف أمام محكمة ترى في كل الحكام مرتكبي الجرائم بحق شعوبهم قتلة يستحقون العقاب الصارم؛ لتعم العالم شريعة جديدة بعيدة عن الانتقاء في اختيار هذا الحاكم أو ذاك وفق مزاج واشنطن.

ويشير آخر إلى سياسة واشنطن المليئة بالازدواجية والمغالطات، والانتقائية تجاه مجرمي الحرب، فبينما تسعى جاهدة للقبض على ميلوشيفيتش تقف بكل قوة في وجه كل المحاولات التي جرت وتجرى من أجل إنشاء محكمة لجرائم الحرب في فلسطين؛ بل إنها تستخدم حق الفيتو لعرقلة صدور أي إدانة من مجلس الأمن الدولي لسياسات إسرائيل، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك إذ بدأت بالضغط على بلجيكا كي تعدل من قوانينها التي تجيز محاكمة أي شخص متهم بارتكاب جرائم حرب بصرف النظر عن مكان وقوع هذه الجرائم؛ وذلك بعد أن بدأ الفلسطينيون في طرق هذا السبيل، ورفعوا دعاوى ضد شارون لمسؤوليته عن مجزرة صبرا وشتيلا.

إن قواعد الشرعية الدولية، ونصوص القانون الدولي عامة، وفروعه المتصلة بالإنسان خاصة، يجب تطبيقها على نحو عام، وتقديم جميع المتهمين بارتكاب جرائم حرب للمحاكم المختصة دون تمييز، ودون مناورات. ونظرة إلى ما يجري حالياً بشأن يوغسلافيا، تفيد بأن جرائم الحرب ارتكبت من أطراف عديدة، وقيادات بارزة من صربيا وكرواتيا والبوسنة، ولأن المحكمة تنتظر تسليم المتهمين لمحاكمتهم؛ فإن القضية باتت مرهونة بوجود جهة تتولى التسليم؛ وهنا يكمن المشكل الجوهري. فالجهة التي تتولى ذلك هي الولايات المتحدة، فهي التي تحدد المتهمين عبر دفع مواطنيها، أعضاء اللجان الدولية إلى توجيه دفة الاتهام وجهة معينة، وهي التي تمتلك أدوات الضغط الكفيلة بمنع توجيه الاتهام لأفراد أو جهات معينة، وتوجيهه لأفراد وجهات أخرى. كما أنها تمتلك القدرة على استخدام كل أساليب الضغط الاقتصادي والسياسي والعسكري.

وقد تجلت مجمل هذه العوامل في قضية ميلوشيفيتش، إذ تعده واشنطن عدواً لها لتحديه سياسات الهيمنة الأمريكية في البلقان، ولا يعني ذلك إعفاءه من مواجهة الاتهامات التي توجه له بارتكاب جرائم حرب؛ ولكن المراد هنا أن ملاحقته تمت لحسابات أمريكية حتى يكون عبرة لغيره من قادة الدول الصغيرة.

ويرى محلل آخر أننا نشهد حدثاً تاريخياً؛ لأن رئيس دولة مهمة مثل يوغسلافيا لم ينج من العقاب، ويجب ألا يفلت منه، وهنا يبدأ دورنا جميعاً (المجتمع الدولي) أن نطالب بتطبيق القانون الدولي على كل من يمارس جرائم الحرب الكبرى ضد مواطنيه، أو مواطني جيرانه، هذا القانون لا يحمي أهل كوسوفو فقط، وإنما يحمي الجميع في كل مكان.

نجح حلف شمال الأطلسي، بعد فترة قصف جوي، على مدى 78 يوماً متصلة، في فرض حل لأزمة كوسوفا على الرئيس اليوغسلافي، سلوبودان ميلوسوفيتش. غير أن ذلك لا يعني، أن الأمن والاستقرار أصبحا أمراً واقعاً. فهناك مجموعة من التحديات، تفرض نفسها على أطراف الأزمة، من بينها:

1. مستقبل النظام السياسي في بلغراد

بعد الخسائر الضخمة، التي مُنيت بها يوغسلافيا، خاصة في البِنية التحتية، اتهمت قطاعات كبيرة من الشعب اليوغسلافي سلوبودان ميلوسوفيتش، بأن تعنّته، وعدم استجابته للمجتمع الدولي، في مبادراته السلمية، لحل أزمة كوسوفا، سلمياً ـ كان من الأسباب الرئيسية، لتعرض البلاد لدمار كبير. ونشّط هذا الاهتمام تيار المعارضة، الذي حمّل الرئيس اليوغسلافي مسؤولية تردي الأوضاع الاقتصادية، وطالبه بالتنحي عن السلطة. كما طالبت المعارضة بإجراء انتخابات مبكرة؛ ووضعت خطة لتشكيل حكومة انتقالية. إلاّ أن ميلوسوفيتش تشبّث بموقعه؛ وهذا ما جعل البلاد عرضة لمزيد من التوتر السياسي، والتدهور الاقتصادي.

2. طبيعة العلاقة بين الألبان والصرب، في كوسوفا

لم ينس ألبان كوسوفا مآسي التطهير العِرقي، والمذابح الجماعية، التي ارتكبها الصرب في حقهم؛ بل حملتهم على شن عمليات انتقامية، بين الحين والآخر، على صرب الإقليم؛ مما يشير إلى أن عمليات الثأر والانتقام، قد تصبح السّمة البارزة، في العلاقات بين الطرفَين.

3. ارتباط الاستقرار بتحسن الأوضاع الاقتصادية

هناك خطة مقترحة لإعمار منطقة البلقان، على غرار "مشروع مارشال" لإعمار أوروبا، بعد الحرب العالمية الثانية. ومن الواضح أن دول الحلف، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، لا ترغب في زيادة الضغوط الاقتصادية على يوغسلافيا؛ حتى لا يحدث انتقال مفاجئ في السلطة للقوميين المتطرفين. غير أنها اشترطت، لتقديم الدعم الاقتصادي، لإعادة إعمارها، تنحية سلوبودان ميلوسوفيتش عن السلطة؛ وهو ما يعني أن البلاد عرضة لتصاعد التوتر والانقسام، ما دام ميلوسوفيتش في مستمراً في السلطة.

4. التنافس في الإعمار

إذا ما استجابت بلغراد لشروط الولايات المتحدة الأمريكية، فإن الدول الغربية، ستتنافس في الفوز بأكبر قدر من مشروعات الإعمار في المنطقة، خاصة أن تلك المشروعات ستكون وافرة؛ إذ ستشمل منطقة البلقان برمّتها.

5. موقف روسيا من سياسة الغرب تجاه البلقان

سعت روسيا إلى دور بارز في عملية التسوية النهائية لأزمة كوسوفا. وشاركت في قوات حفظ السلام الدولية. غير أن أوضاعها الاقتصادية المتردية، وكذلك مشكلاتها الأمنية، التي تبرز، بين الحين والآخر، في الجمهوريات التابعة لها (الشيشان ـ داغستان) ـ تضعفان، إلى حدٍّ كبير، موقفها من المشكلات المتفجّرة في منطقة البلقان. ومن ثَم، فإن موسكو ستسعى، جاهدة، إلى عرقلة الخطط الغربية في هذه المنطقة، التي تعمل على إنهاء الدور الروسي فيها، وإقامة أكبر سوق تجارة حرة في أوروبا.

وهكذا، يتضح أن حرب كوسوفا، تُعَدّ من الأحداث الكبرى، التي تسهم في تغيير بعض عناصر النظام الدولي؛ لكنها لا تُنشئ نظاماً دولياً جديداً. فهي قد أكدت الدور الأمريكي المهيمن. وكشفت، إلى درجة عالية من الوضوح، حقائق كامنة في قلب التفاعلات الأوروبية. وأسهمت في انطلاق الدور الألماني، على الصعيد الأمني، جنباً إلى جنب كلٍّ من الصعيد، الاقتصادي، والتقني، والسياسي. وبلورت تغيراً جوهرياً في أدوار الأمم المتحدة، وحلف شمال الأطلسي، ودور الدولة القومية. وقادت إلى نشوء مفاهيم جديدة، وكشفت عن تغير في موازين القوى، داخل القارة الأوروبية.