إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / مذبحة قانا (1996)





قصف معسكر القوات الدولية في قانا

أوضاع مليشيات حزب الله
موقف القوات المختلفة
المخيمات الفلسطينية في لبنان



المبحث الأول

المبحث الأول

الأوضاع والمتغيرات في لبنان وفي المنطقة، قبل العدوان الإسرائيلي على لبنان

"عناقيد الغضب"

تعرض لبنان، كإحدى القوى ذات الحساسية الخاصة، والتكوين العرقي والطائفي الفريد، في المنطقة العربية، لمتغيرات حادة، خلال العقدين الأخيرين، في نهاية القرن العشرين. وشهد أحداثاً جساماً، أثرت في كيان لبنان، كدولة، وفي القضية الفلسطينية، كقضية تحرر، وكيان سليب، وكشفت عن توجهات بعض السياسات العربية تجاه بعضها، وتجاه لبنان، وتجاه القضية الفلسطينية، وتجاه التهديدات المحيطة بالمنطقة.

وشهد عقد الثمانينيات شن إسرائيل لعملية "سلام الجليل"، وانفرادها بلبنان، وبالمقاومة الفلسطينية. وشهد مقاطعة العرب لمصر، لمحاولتها استثمار نتائج حرب أكتوبر في إقامة سلام عادل ودائم، في المنطقة، طبقاً للقرارات الدولية، التي وافقت عليها من قبلُ، واقتنع بها غالبية الشعب في مصر، وأيّدها المجتمع الدولي. كما شهد اشتعال الحرب العراقية ـ الإيرانية، أو الحرب المنسية، كما كان يطلق عليها، وقتها. وهذه الحرب نفسها، كان لها انعكاساتها الخاصة على الأوضاع في لبنان، ومسار الحرب الأهلية فيه.

كيف تم التغلب على المحنة الكبرى في لبنان، الحرب الأهلية، التي لم تكـن حرباً لبنانية ـ لبنانية، بقدر ما كانت معارك، استغلتها القوى المختلفة، لإثبات وجودها على الساحة العربية بصفة عامة، وفي لبنان بصفة خاصة؟

وبعيداً عن التفاصيل، أعاد مؤتمر الطائف الاستقرار إلى لبنان، وأخمد صراعاً، دام قرابة الخمسة عشر عاماً.

أولاً: المؤتمرات العربية، لإعادة الاستقرار إلى لبنان

1. بداية التفكير في عقد مؤتمر قمة عربي

كانت البداية في الثلث الأخير من شهر سبتمبر 1988، حين تعذّر انعقاد مجلس النواب اللبناني لانتخاب رئيس جديد للبنان، بعد انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميل، التي تحين في 22 سبتمبر 1988. وازداد الأمر سوءاً بنهاية رئاسة حسين الحسيني لمجلس النواب نفسه، في 18 أكتوبر 1988. وكان الوضع الأسوأ، هو وجود حكومتين في لبنان. الأولى، برئاسة سليم الحص، في بيروت الغربية. وهي الحكومة الشرعية، المعترف بها سياسياً، والتي تعاني نقص الإمكانات، وانعدام السلطة، وفقْد السيطرة على البلاد. والثانية في بيروت الشرقية، برئاسة قائد الجيش، العماد ميشيل عون، الذي تدعمه عدة جهات أجنبية، أهمها فرنسا، إضافة إلى جهات عربية، أبرزها العراق. وهكذا عاش لبنان، نهاية الثمانينيات، في فوضى وشلل تشريعي، مع الفراغ الرئاسي، سواء للدولة أو لمجلس النواب، وفوضى تنفيذية، بازدواجية السلطة، التي تهدد بتقسيم لبنان، وتفسُّخ المجتمع اللبناني.

لذلك كله، تعالت الأصوات العربية لإنقاذ لبنان، إذ قام الأمين العام لجامعة الدول العربية بالعديد من الاتصالات، أمكن، بعدها، عقد مجلس الجامعة العربية، في دورة طارئة، في 21 يناير 1989، حين صدر القرار الرقم 4863، بتشكيل لجنة وزارية، برئاسة وزير خارجية الكويت، وتضم خمسة وزراء آخرين (الأردن، والسودان، والإمارات العربية المتحدة، وتونس، والجزائر)، إضافة إلى الأمين العام للجامعة العربية، للاتصال بالأطراف، وبذل المساعي الحميدة، وإيجاد حلول للأزمة، وتقديم تقريرها في أسرع وقت.

وزاولت اللجنة مهامها، وقدمت تقريرها، الذي كان يحوي ثماني نقاط لحل المشكلة. كان ملخصها كالآتي:

أ. وضع مبادئ، يتفق عليها الأطراف، لتطوير النظام السياسي، والمشاركة في الحكم.

ب. تحديد بقعة أمنية محايدة، في بيروت، تخضع للشرعية اللبنانية، وتكون خالية من المسلحين، في حضور مراقبين عسكريين من الدول العربية.

ج. اجتماع مجلس النواب اللبناني، لانتخاب رئيس له، ثم انتخاب رئيس الجمهورية.

د. تشكيل حكومة وطنية، تقوم بوضع برامج الإصلاح الدستوري.

هـ. تشكيل لجنة من مجلس النواب، لتنفيذ برامج الإصلاح.

و. العمل على انسحاب القوات الإسرائيلية، فوراً، من لبنان.

ز. انسحاب القوات غير اللبنانية، الموجودة بصورة غير شرعية، من لبنان.

ح. برمجة الانسحاب العسكري السوري من لبنان، بالاتفاق بين حكومتَي البلدين.

وقد أدّى إصدار هذا التقرير إلى تفجير الوضع الداخلي في لبنان، بوساطة المنشقين والمستفيدين من المشكلة. وكان أول انفجار، هو الصدام بين قوات العماد ميشيل عون، و"القوات اللبنانية"، بقيادة سمير جعجع، من أجل إحكام السيطرة على ميناء بيروت. وانتصرت فيه قوات عون، الذي سارع إلى استغلال الموقف في فرض سيطرته على جميع المرافئ، على طول الساحل اللبناني، ففجر مشكلة أخرى، رفضتها القوى، الداخلية والخارجية[1]. وتفجر الوضع الأمني، في الداخل، بصورة حادة، في الوقت الذي حاولت فيه اللجنة السداسية، برئاسة وزير خارجية الكويت، احتواء الأزمة، بجهود شتى، بما فيها عقد جلسة أخرى لمجلس الجامعة، أُعِدّ خلالها تقرير، لعرضه على مؤتمر القمة العربية، المزمع عقده في تلك المرحلة.

2. مؤتمر القمة العربية، في الدار البيضاء (23 ـ 26 مايو 1989)

كانت إحدى أوراق العمل الرئيسية، التي عرضت على هذا المؤتمر، هي تقرير اللجنة السداسية، التي كانت ـ إضافة إلى توصياتها ـ تحدد نقطتين رئيسيتين، تتعلقان بالقوى، العربية والوطنية، المؤثرة بالموقف في لبنان. هما:

أ. إن المسافة بين مواقف القيادات، المؤثرة في الأحداث السياسية، بعيدة جداً، بينما تضيق، إلى حدّ كبير، بين مواقف القيادات الروحية، التي يعتمد عليها في أي حلول مستقبلية.

ب. إن المنافسة بين العراق وسورية، على أرض لبنان، تُعَدّ حادة، وإن معظم القوى، تريد انسحاب القوات السورية من لبنان، ولكن دمشق، تقاوم هذا الاتجاه، بشدة، وهي قادرة على صد أي تحرك دبلوماسي عربي، لا يحظى بموافقتها.

وقد فوض مؤتمر القمة إلى لجنة رئاسية ثلاثية، من الملك فهد، ملك المملكة العربية السعودية، والملك الحسن الثاني، ملك المغرب، والرئيس الشاذلي بن جديد، رئيس الجمهورية الجزائرية، إيجاد حلول لهذه المشكلة. وبدأت اللجنة عملها، انطلاقاً مما شهدته في أروقة المؤتمر نفسه، من اتجاهات:

·   فالعراق يرى، أن انسحاب سورية، يُعَدّ شرطاً أساسياً لحل الأزمة، على أن يترك الأمر للبنانيين، لحل مشاكلهم.

·   وسورية، تؤيدها المملكة العربية السعودية، ترى شرعية وجودها في لبنان، حتى يتم إحياء المؤسسات الدستورية، واستتباب الأمن في لبنان.

3. إجراءات اللجنة الرئاسية، المنبثقة من مؤتمر القمة

بدأت اللجنة عملها، من خلال هيئة وزراء خارجية الدول الممثلة فيها، فواجهت العديد من الأزمات، التي كادت تعصف بها، خصوصاً ما يتعلق بالدعم العسكري للميليشيات، والحصار البحري، وأزمة الرهائن، واستمرار إطلاق النيران. وكان معنى فشل اللجنة، هو تدويل القضية "على المستوى السياسي"، وانهيار التعاون العربي؛ إذ إن للعاهلين، السعودي والمغربي، وللرئيس الجزائري، وضعاً مميزاً، على المستويين، العربي والعالمي. وقد ساعد بعض المواقف والأحداث على دفع عمل اللجنة، منها: صدور قرار مجلس الأمن الدولي، بتأييد جهود اللجنة الثلاثية. والموقف السوفيتي من منع دخول الأسلحة إلى لبنان. كذلك موقف فرنسا من تخفيض حجم أسطولها في البحر الأبيض المتوسط، الذي وضعته لتحذير سورية من التعرض للميليشيات والمناطق المسيحية. ثم الجهود، التي بذلها الرئيس الجزائري مع سورية، بهدف عودة اللجنة الثلاثية إلى مباشرة مهامها. وقد أدى ذلك كله إلى توصّل اللجنة إلى اتفاق وقف إطلاق النيران في لبنان، في 16 سبتمبر 1989، أثناء اجتماعها، على هامش مؤتمر قمة عدم الانحياز، في بلجراد. ثم دُعي مجلس النواب اللبناني، لعقد اجتماع في مدينة الطائف، في المملكة العربية السعودية، في 30 سبتمبر 1989، على أساس عاملين أساسيين. أولهما، وفاق وطني لبناني. والثاني، وفاق إقليمي، يهدف إلى انسحاب القوات الأجنبية من أرض لبنان. وقد أدّى اتفاق الطائف إلى تغيير جذري، نحو الإصلاحات الدستورية في لبنان، وتوازن طوائفه توازناً أكثر إيجابية، ويتماشى مع الواقع الجديد في لبنان، حتى لا تعود الأمور إلى الأزمات السابقة، ولا تتجدد الصراعات الطائفية. وكان أهم المتغيرات، الدستورية والسياسية، التي تم وضع أُسسها في الطائف:

أ. زيادة صلاحيات مجلس النواب، كسلطة تشريعية، تمارس الرقابة على عمل الحكومة. وزيادة مدة رئاسة المجلس، لتكون سبع سنوات، بدلاً من سنتين، حتى لا تتجدد الصراعات، على فترات متقاربة. ومنح رئيس المجلس سلطات، تعادل، أو تفوق سـلطة رئيس الحكومة، حتى يضمن رقابة فاعلة. كما التزم مجلس النواب بوضع قانون انتخابي جـديد، خارج القيد الطائفي، توزّع فيه المقاعد بالتسـاوي بين المسيحيين والمسلمين. وزيد عدد مقاعد المجلس النيابي، لتكون 158، بدلاً من 99 مقعداً.

ب. تحددت مهام السلطة التنفيذية، لتكون من مسؤولية رئيس الوزراء، وليس رئيس الجمهورية. مع إخضاع سلطة مجلس الدفاع لرئيس الوزراء أيضاً. وإلزام رئيس الجمهورية استشارة أعضاء المجلس النيابي، عند اختياره لرئيس الوزراء، الذي يخضع، بعد ذلك، لمراقبة هذا المجلس، وليس لرئيس الجمهورية أي صلاحيات عليه. وبذلك أصبح رئيس الوزراء، هو الرأس، السياسي والإداري، للدولة. وصار مجلس الوزراء، هو السلطة المسؤولة عن وضع السياسة العامة للدولة.

وقد كان مؤتمر الطائف مؤتمراً تاريخياً، إذ غير دفة الأمور في لبنان تماماً. وتم إعلان إيقاف النيران، نهائياً، في 16 أكتوبر 1989. وبدأت خطوات كثيرة على طريق الإصلاح الدستوري، على الرغم من العراقيل، والبحث عن المكاسب، من قِبل كل طـرف ضد الدولة، أو ضد أطراف أخرى. إلاّ أن الإصلاحات الدستورية، التي أقرّها مؤتمر الطائف، هي التي كانت مطبقة، لدى ارتكاب مذبحة "قانا"، عام 1996.

ثانياً: الأحداث المؤثرة في لبنان، خلال عقد التسعينيات

كانت البداية الحقيقية، لتنفيذ مقررات مؤتمر الطائف، تسير حثيثاً، في مطلع هذا العقد. ولكن القَدَر، كان للبنان بالمرصاد، ولم يمهله، حتى يجني ثمار المؤتمر بصورة طبيعية. فقد أطلّ عقد التسعينيات، على منطقة الشرق الأوسط، حاملاً بعض المتغيرات الجسام، التي أحدثت زلزالاً مروعاً، أصاب أركان المنطقة برمّتها، وغيّر مجرى الأحداث بشدة.

1. الحدث الأول: عدوان العراق على الكويت

كان الحدث الأول، هو عـدوان العراق على الكويت، وما تبعه من حملة "عاصفة الصحراء"، التي انتهت في 28 فبراير 1991 ، ليعود الحق إلى أصحابه، ولتبرز "توابعها" على السطح؛ إذ كان منها السلبي، ومنها الإيجابي:

فالجانب السلبي، انحصر في خمس نقاط. هي:

أ. انقسمت الأمة العربية إلى ثلاثة أقسام: المؤيد والمعارض والمحايد. وكان لهذا الموقف آثاره المدمرة في لبنان، كإحدى الدول "الحساسة" في المنطقة، والتي ما برحت تعاني آثار الحرب الأهلية، وما زال أطراف الصراع مستعدين لممارسة أدوارهم في الحرب بالوكالة. لذلك، كان على الإدارة اللبنانية تقدير مواقفها بميزان حساس، وتمكنت، في نهاية المطاف، من الخروج من هذه الأزمة بسلام.

ب. أثرت حرب الخليج في "إعادة أعمار لبنان"، نظراً إلى انحسار المخصصات، التي كانت تعتمدها دول الخليج لمصلحة لبنان، ومن ثمّ، فقد كان للعامل الاقتصادي، آثاره في الانعكاسات السياسية بين الطوائف والأحزاب اللبنانية نفسها، وأدّى إلى سطوع الأحزاب الشيعية، المسيطرة على لبنان الجنوبي.

ج. عودة مئات الألوف، من العرب العاملين في دول الخليج والعراق، إلى بلادهم، عامَي 1990، 1991. وبينهم حوالي 360 ألف فلسطيني، توجه زهاء 60 ألفاً منهم إلى الأردن، والباقي إلى دول أخرى، كان للبنان نصيب منها.

د. أمست مشكلة لبنان مشكلة قديمة، ومحدودة، إلى جوار مشاكل مستحدثة. وكان على لبنان أن يأخذ أموره بيده، لأن الجميع "مشغولون" بالأزمة الجديدة.

هـ. استغلت سورية الفرصة، ونقضت الوعد، الذي قطعته على نفسها، أثناء مؤتمر عدم الانحياز، عام 1989، بالانسحاب من لبنان، في غضون عامَيْن، وتمسكت بأوضاعها في هذا البلد، بل ربطت مصيره، في شأن السلام مع إسرائيل، بمصيرها هي. وهو ما خلق وضعاً فريداً، على المسار السياسي الدولي.

أمّا الجانب الإيجابي، فقد انعكس على لبنان في الآتي:

أ. خروج العراق من ساحة التأثير في التركيبة اللبنانية، والتخلص من أحد الأطراف الرئيسيين، الذي مارس الحرب بالوكالة، على الساحة اللبنانية. ومن ثمّ، فقد كان من السهل التخلص من العماد ميشيل عون، وإعادة تجميع الجيش اللبناني، تحت لواء لبنان الموحد.

ب. اتجاه جهود معظم قوى التأثير، في الساحة اللبنانية، إلى وجهات أخرى. ومن ثمّ، خفت الضغوط على الحكومة اللبنانية، ما جعلها أكثر فاعلية في تحريك الأمور لمصلحة لبنان.

ج. عقد مؤتمر مدريد في 30 أكتوبر 1991، كأحد الإفرازات الجديدة لتطور الصراع العربي ـ الإسرائيلي، في أعقاب "عاصفة الصحراء". ومن ثمّ، فقد كان لذلك تأثيره في إستراتيجيات المواجهة، والتعامل مع إسرائيل، ومع الدول الأخرى.

2. الحدث الثاني: انعكاسات سلسلة اتفاقات السلام، بين إسرائيل وبعض الدول العربية

أ. اتفاق أوسلو، بين إسرائيل والفلسطينيين

(1) اتفاق إعلان المبادئ (13 سبتمبر 1993)

بعد فشل لجنة المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية، التي بدأت أعمالها في واشنطن، في ديسمبر 1991، كنتيجة مباشرة لمقررات مؤتمر مدريد (30 أكتوبر 1991)، بدأت مفاوضات سِرية بين إسرائيل والفلسطينيين، في أوسلو، عاصمة النرويج، واستمرت نحو عشر جلسات على مدار عدة شهور، انتهت إلى توقيع اتفاقين:

الاتفاق الأول: وُقِّع، بالأحرف الأولى، في 9 سبتمبر 1993، ويختص بالاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير، مع تخلّي المنظمة عن فقرات من ميثاقها المتعلقة بتدمير دولة إسرائيل.

الاتفاق الثاني: وُقِّع في 13 سبتمبر 1993، ويختص بإعلان المبادئ، الذي يشمل الحكم الذاتي في "غزة ـ أريحا"، كخطوة أولى.

(2) اتفاق أوسلو ـ 1 (4 مايو 1994)

وُقِّع في القاهرة، ويختص بتفاصيل الحكم الذاتي الفلسطيني، والانسحاب الإسرائيلي من بعض مدن الضفة الغربية.

(3) اتفاق أوسلو ـ 2 (28 سبتمبر 1995)

وُقِّع في واشنطن، بعد توقيعه بالأحرف الأولى، في طابا، في 24 سبتمبر 1995، ويختص بتوسيع نطاق الحكم الذاتي في الضفة الغربية، وتشكيل مجلس تشريعي فلسطيني، بعد انتخابات تجرى في الضفة الغربية وقطاع غزة.

ب. معاهدة السلام الأردنية ـ الإسرائيلية (26 أكتوبر 1994)

تضمنت هذه المعاهدة بنداً فريداً في تاريخ العلاقات العربية ـ الإسرائيلية، وهو قضية "تأجير الأراضي". إذ قبِل الأردن مبدأ بقاء مستعمرتَي "صوفر" و"نهاريم" الإسرائيليتين، على الأراضي الأردنية، لمدة 25 عاماً قابلة للتجديد … وهو، وإن كانت المساحة من الأرض، لا تزيد على 48 فداناً، إلا أنه يدخل في نطاق التنازل عن سيادة الدولة، مما قد يُعَدّ مبدأً تفاوضياً بين إسرائيل وكل من لبنان وسورية، والفلسطينيين أنفسهم، في أي مباحثات سلام قادمة. وقد أثار ذلك بلبلة على النطاقين، الوطني والقومي.

ج. المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية

بدأت هذه المفاوضات، في مرحلتها الأولى، في واشنطن، في ديسمبر 1991، واستمرت حتى منتصف عام 1992، في ظل حكومة الليكود، من دون إحراز أي تقدم. ثم تلاها مفاوضات أخرى، في ظل حكومة العمل، بدأت من أغسطس 1992، واستمرت حتى أوائل عام 1995، من دون إحراز أي تقدم، كذلك، نتيجة لاختلاف وجهات النظر بين الطرفين. وفي عام 1995، وفي ضوء موافقة إسرائيل على مبدأ الانسحاب من بعض أراضي الجولان، بدأت في ولاية ميريلاند Maryland، في الولايات المتحدة الأمريكية، في 27 يونيه 1995، جولة جديدة من المباحثات بين الجانبين، السوري والإسرائيلي، للاتفاق على إجراءات الأمن في الجولان، حال انسحاب إسرائيل منها.

وعلى أثر الانفجارات، في كل من القدس وتل أبيب، في شهرَي فبراير ومارس 1996، أعلنت إسرائيل توقف المفاوضات بينها وبين سورية. ولم تُستَأنف المفاوضات مرة أخرى منذ توقفها، خاصة بعد وصول تكتل الليكود إلى الحكم في إسرائيل، في 18 يونيه 1996، الذي أعلن مبادئه، التي تتلخص في الآتي:

(1) عدم الانسحاب من الجولان.

(2) بدأ المفاوضات بين إسرائيل وسورية، من دون شروط مسبقة.

(3) عدم الالتزام بما أتُّفق عليه في محاضر المباحثات السابقة، بين سورية وإسرائيل، خلال فترة حكم حزب العمل.

وترتب على هذا الإيقاف استمرار الاحتلال الإسرائيلي لجنوبي لبنان، لارتباط نجاح المفاوضات على الجانب السوري، ببدء مباحثات سلام بين إسرائيل ولبنان، لتنفيذ قرار مجلس الأمن الرقم 425، في 19 مارس 1978.

د. المباحثات متعددة الأطراف

تزامن مع لجان مباحثات السلام الثنائية، التي عُقدت في واشنطن، في ديسمبر 1991، عقْد سلسلة أخرى من المباحثات، أطلق عليها اسم "المباحثات متعددة الأطراف". وقد بدأت أولى جلساتها، في موسكو، في يناير 1992، وتختص بدراسة خمسة موضوعات رئيسية، هي: ضبط التسلح، والتنمية، والبيئة، والمياه، واللاجئون. وحضرها من الجانب العربي، كل من مصر والأردن والفلسطينيين، إضافة إلى إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا. ورفضت سورية ولبنان حضور هذه المباحثات. وكنتيجة مباشرة لبحث موضوع التنمية، بدأت سلسلة من المؤتمرات الاقتصادية، لدول الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا، فعُقد المؤتمر الأول، في الدار البيضاء بالمغرب، في الفترة من 30 أكتوبر إلى الأول من نوفمبر 1994. وعُقد المؤتمر الثاني، في عمان بالأردن، في الفترة من 29 إلى 31 أكتوبر 1995. وعُقد الثالث في القاهرة، في الفترة من 12 إلى 14 نوفمبر 1996. وعُقد الرابع في الدوحة في دولة قَطَر، في الفترة من 17 إلى 19 نوفمبر 1997، ولم تحضره مصر، بسبب عدم حدوث تقدم في عملية السلام، بين إسرائيل والأطراف العربية.

ثالثاً: تأثير الأحداث والمتغيرات في الأوضاع اللبنانية

تعددت المؤثرات، سواء في لبنان الدولة، أو في أوضاع الفلسطينيين في لبنان، أو في علاقات الأطراف داخل لبنان نفسه، أو في العلاقات اللبنانية ـ السورية، واللبنانية ـ الإقليمية. وقد تباينت هذه المؤثرات، ما بين الشدة والليونة، وتصاعدت، في بعض الأوقات، وانخفضت في أوقات أخرى. ويمكن تلخيص هذه المؤثرات، كالآتي:

1. أوضاع الفلسطينيين في لبنان، وتأثيرهم في القضية اللبنانية

كان أهم ما أفرزته اتفاقية "أوسلو" على الساحة اللبنانية، هو تأثيران. الأول فلسطيني ـ فلسطيني، والآخر لبناني ـ فلسطيني.

أ. التأثير الأول

عبّر عنه الفلسطينيون في مخيمات اللاجئين في لبنان، برفع الأعلام السوداء، في مايو 1994، احتجاجاً على الاتفاق الإسرائيلي ـ الفلسطيني.

ب. التأثير الثاني

فهو شعور الحكومة اللبنانية بالخطر، من أن ينتهي الاتفاق بالتوطين الدائم للاجئين الفلسطينيين (الزائدين عن الحصة المسموح بعودتها)، في أماكن وجودهم الحالية. لذلك، كان تصريح الرئيس إلياس الهراوي، وقتها، بأن لبنان سيطرد كافة اللاجئين الفلسطينيين، المقيمين على أرضه، إذا لم تؤدِّ اتفاقية السلام إلى حلول في شأنهم. ثم كان إعلان وزارة الخارجية اللبنانية اقتراح إعادة توطين الفلسطينيين المقيمين في لبنان، يتوجه 20% منهم، بموجبه، إلى مناطق الحكم الذاتي، ويعاد توطين 25% في أماكن أخرى في الشرق الأوسط، ثم توطين الباقي في مناطق تحتاج إلى عمالة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، ودول كثيرة أخرى، في الشرق والغرب.

2. حقيقة أوضاع الفلسطينيين في لبنان، التي تقلق السلطات اللبنانية

طبقاً لإحصائيات 1994 ـ 1995، فإن تعداد الفلسطينيين في لبنان، هو 350000 فلسطينياً (يتمتع بالجنسية اللبنانية منهم 10 إلى 15 ألفاً فقط). ومن ثمّ، فإن تعداد الفلسطينيين، يمثل حوالي 8 ـ 9% من تعداد الشعب اللبناني نفسه " 4141000 نسمة"، مما يؤثر في التركيبة الطائفية، التي يحرص لبنان على الحفاظ عليها. لذلك، فهناك قيود شديدة على تصاريح العمل والإقامة. كما تتعدد انتماءات الفلسطينيين أنفسهم، داخل لبنان. فاللاجئون في معسكر الرشيدية، قرب صور (أهم المخيمات الفلسطينية)، يخضعون لسيطرة العناصر الموالية لياسر عرفات. وتسيطر الفصائل الفلسطينية، الموالية لسورية، على المخيمات شمال الليطاني.

أمّا الفلسطينيون في الجنوب، فهم مزيج غير متجانس، من الفصائل الموالية لعرفات أو لإيران، لذلك، يشتعل الصراع بينهم في أوقات متفرقة. ومن هذه الفصائل جماعات من منظمة حماس، التي أنشئت عام 1982، ثم أصدرت ميثاقها، في أغسطس 1988، الذي ينص على أن: "حماس جناح من أجنحة الإخوان المسلمين بفلسطين. وهي حلقة من حلقات الجهاد في مواجهة الغزوة الصهيونية، وترتبط بانطلاقة الشهيد عز الدين القسام وإخوته المجاهدين، من الإخوان المسلمين، عام 1936". أمّا مبادئ هذه المنظمة، فتتلخص في أن أرض فلسطين وقف إسلامي على أجيال المسلمين إلى يوم القيامة، وأن جهاد العدو، الذي وطئ أرض فلسطين، هو فرض على كل مسلم.

وقد تحققت المصالحة ما بين منظمة حماس ومنظمة التحرير الفلسطينية، من خلال اجتماع في الخرطوم، عام 1993، ثم اجتماع، القاهرة، عام 1995، الذي أقر عقد هدنة، وتوحيد الصفوف، في هذه المرحلة التاريخية، التي تمر بها القضية الفلسطينية.

أمّا الفصيل الآخر، فهي حركة الجهاد الإسلامي، التي تأسست عام 1979. وهي، طبقاً لميثاقها، تؤمن بالجهاد المسلح، كإستراتيجية للعمل السياسي. ولا تتمسك بتطبيق الشريعة الإسلامية، مثل حماس. وقد ذاع صيت هذه المنظمة في بداية اشتعال الانتفاضة الفلسطينية، عام 1987، ثم تلقت ضربات إسرائيلية قاسية، أدت إلى إضعافها، وانتقال أعضائها المؤثرين إلى الخارج، وبالتحديد إلى لبنان. وقد اغـتيل قائد هذه المنظمة، "فتحي الشقاقي"، في 26 أكتوبر 1995 في مالطة.

ولا شك أن معاناة لبنان إزاء وجود مثل هذه المنظمات على أرضه، والتي تتعاون مع منظمات لبنانية، أو خارجية أخرى، وتمنح إسرائيل الذرائع لضرب لبنان، كما تعوق استكمال سيطرة الجيش اللبناني على ربوع وطنه. جعل رئيس الوزراء اللبناني، "رفيق الحريري"، يوضح موقف لبنان من المقاومة الفلسطينية برمّتها، قبل شهر واحد من حادث قانا، حيث يقول: "هؤلاء اللاجئون، يجب أن يعودوا إلى فلسطين، ومن المفروض أن تتم المفاوضات، في إطار عملية السلام، من أجل إعادتهم إلى الأراضي، التي طردوا منها. إنما موضوع التوطين أو التجنيس هنا، مستحيل، لأن هذا يؤثر في التركيبة اللبنانية القائمة، خصوصاً من الناحيتين، الديموجرافية والسياسية، في البلد؛ إذ إن حصول هذا الأمر، يعني أننا نُدخل البلد في متاهات جديدة. ولهذا لن نفعله، لأن وضعنا، ليس كوضع بلد آخر. ومن موقع شعورنا بالمسؤولية، لا يمكننا الموافقة على هذا الأمر".

وهكذا، يمكن القول إن وجود الفلسطينيين في لبنان، يشكل عاملاً سلبياً، على المسار اللبناني بوجه عام. كمـا أن تمركز عناصر من المقاومة الفلسطينية (على الرغم من السيطرة على مداخل المعسكرات، وتجميع الأسلحة الثقيلة)، يشكل عبئاً على لبنان، ويؤدي إلى تصاعد الموقف العسكري على الحدود اللبنانية ـ الإسرائيلية، أو في الداخل، من خلال عمليات إغارة إسرائيل على مواقع فلسطينية داخل لبنان.

3. اتفاق يوليه 1993، بين إسرائيل وحزب الله

وقد جاء هذا الاتفاق بمساع أمريكية، قادها وزير خارجية الولايات المتحدة الأمريكية، "وارن كريستوفر "Warren Minor Christopher، لاحتواء الموقف في الجنوب اللبناني، حيث تصاعدت الاشتباكات، في بداية شهر يوليه. وقصفت ميليشيات حزب الله قرى الجليل الأعلى، في إسرائيل، بصواريخ "الكاتيوشا Katyusha"، مما أحدث فيها إصابات عديدة. كما ردَّت الطائرات والمدفعية الإسرائيلية بقصف قرى الجنوب اللبناني، مما أدى إلى قتل وإصابة حوالي 650 لبنانياً، في 9 يوليه 1993، وتصاعد التوتر الكامل على الجبهة اللبنانية ـ الإسرائيلية.

ولمّا كان المناخ السياسي، في هذا الوقت، يتصاعد في اتجاه السلام، بإصرار من مختلف الأطراف، وخوفاً من أن يؤثر تصاعد هذه الاشتباكات في العملية برمّتها. فقد تدخلت واشنطن بمبادرة "غير مكتوبة"، تتضمن إيقاف القتال، المتصاعد بين الجيش الإسرائيلي وميليشيات حزب الله. وأن يحترم كل طرف منهما إيقاف النيران. وأن يمتنع الطرفان، في أي وقت، من توجيه نيرانهما إلى القرى المدنية، أو السكان الآمنين، على جانبَي الحدود، وأن تزيد قوات الطوارئ الدولية من فعاليتها في مراقبة الموقف، والتدخل الفوري، لمنع تصاعد أي اشتباك.

وقد أدى هذا الاتفاق "الشفوي" إلى تهدئة الموقف، "نسبياً"، لفترة طويلة، تم خلالها الاتفاق الفلسطيني ـ الإسرائيلي، ومعاهدة السلام الأردنية ـ الإسرائيلية.

4. الموقف السوري، وتأثيره في القضية اللبنانية

عندما انطلقت القوات السورية، لتكون في قلب لبنان، في أبريل عام 1976، بعد عام واحد من اشتعال الحرب الأهلية اللبنانية، كان ذلك استناداً إلى أهمية لبنان، بالنسبة إلى سورية، وللروابط ذات الطبيعة الخاصة بين البلدين. وكان هذا التدخل بقرار منفرد من سورية، حاولت بعد ذلك تقنينه، من وجهة نظرها الخاصة، ورفضت أي آراء، تُفْرض عليها في هذا الصدد، سواء من أجل مصلحة لبنان، أو انطلاقاً من الثوابت العربية. وقد تعرض الوجود السوري في لبنان لكثير من التحديات، بوساطة إسرائيل، التي عملت على تفريغ مضمون الوجود السـوري في لبنان من تأثيره فيها، كما ركزت، إعلامياً، ومن خلال إجراءات عملية، في كشف الدور السوري، الذي كان يوجه ردود فعله، باستمرار، إلى عناصر فلسطينية أو لبنانية، ولكنه تجنب تماماً مواجهة إسرائيل.

ومن دون التعرض لأحداث في تلك المرحلة، وعلى الرغم من تعدد سلبيات الوجود السوري على أرض لبنان، إلاّ أن أحد الآثار الإيجابية لهذا الوجود، أنه أدى إلى إحداث توازن بين القوى اللبنانية المختلفة، المتصارعة إبّان الحرب الأهلية. وكان هذا التوازن هو الذي مكّن سورية من الحصول على تقنين وجودها هذا، في اتفاق الطائف، الذي أشار إلى أن الانسحاب السوري، "سيتم بالاتفاق بين حكومتَي البلدين". والسياسة السورية تجاه لبنان، تتحدد من خلال ثلاثة اتجاهات في العلاقات: بلبنان نفسه، وبإيران، وتجاه إسرائيل، كالآتي:

أ. العلاقات اللبنانية ـ السورية

وهي علاقات مركبة، لِما لها من أهمية إسـتراتيجية، وعمق إستراتيجي، وتداخل في العلاقات الاقتصادية. وكل ذلك يدعو سورية إلى التمسك بوجودها في لبنان، حتى تستقر الأوضـاع في هذا البلد تماماً. وقد تطورت تلك الإستراتيجية إلى جعل لبنان ورقة ضغط في مسار السلام السوري ـ الإسرائيلي، نتيجة أطماع إسرائيل في مياه نهرَي الليطاني والحصباني. كذلك نتيجة لتوجيه أعمال المقاومة ضد إسرائيل من الجنوب اللبناني، الذي تَعُدّه سورية أصلح مكان لهذا العمل، نظراً إلى طبيعته الجغرافية، وتركيبته السكانية وإلى صرف إسرائيل عن القيام بردود فعل في اتجاه سورية مباشرة، لو اشتعلت المقاومة في الجولان. لذلك، فقد حرصت دمشق على ربط المسار اللبناني بها ربطاً تاماً في أي محادثات سلام مقبِلة.

ب. العلاقات الإيرانية ـ السورية

أسفرت الحرب العراقية ـ الإيرانية عن تحالف سوري ـ إيراني، وتطور، بعد ذلك، إلى تحالف إستراتيجي، لتحقيق أهداف كل من سورية وإيران، في لبنان، وجعله مسرحا للحرب بالوكالة، لتحجيم نفوذ العراق، وتحقيق أهداف الثورة الإيرانية، التي استفادت كثيراً من علاقاتها بسورية.

والأهداف الإستراتيجية لكل من سورية وإيران، التي تحققت من وجودهما في لبنان، تأتي من منظور المصالح الفردية، والمصالح المشتركة. فسورية تهتم بدورها الإقليمي، الذي يزداد تأثيراً بوجودها في لبنان، كورقة ضغط في الاتجاه العربي، والإسرائيلي والعالمي أيضاً (لِما للبنان من أهمية، بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، خصوصاً فرنسا). كذلك تجد سورية في التحالف الإستراتيجي مع إيران، عمقاً وسنداً، وورقة ضغط على أطراف الصراع المختلفة. وفي مقابل هذا التحالف، فإن دمشق تقبل تأمين المصالح الإيرانية في لبنان، بما فيها جعل سورية ممراً للإمدادات ودعم الفصـائل الإيرانية، وحلفاء إيران في لبنان. كذلك تعمل على تخفيف المعارضة اللبنانية لحزب الله، وعلى توازن العلاقة بين منظمة أمل والحزب. كما توظف أعمال المقاومة، من خلال حزب الله، ضد إسرائيل.

أمّا إيران، فتعقد آمالاً كباراً على وجودها في لبنان، كمحطة مرحلية، تمكنت من النفاذ إليها، وتأمل بوساطتها النفاذ إلى قلب العالم العربي، لتحقيق أهداف الثورة الإيرانية. وهذا الوجود يعطيها دوراً إقليمياً في قلب الصراع العربي ـ الإسرائيلي، ويحقق لإيران حدوداً مشتركة مع إسرائيل. ومن ثمّ، يجعلها ذات تأثير فاعل في موازين القوى، بل تضع شروطها في أي حلول مقبلة. كذلك، تضمن بهذا الوجود تأثيراً أكبر للمذهب الشيعي في لبنان، الذي تحاول إيران تقويته ودعمه، في مواجهة المذهب السُّني، حتى يمكنها قيادة العالم الإسلامي، طبقاً لأيديولوجيتها وأفكارها، التي قامت من أجلها الثورة الإيرانية. وتعلم إيران جيداً، أنه لولا جهود سورية، لَما نجحت في اختراق العالم العربي، ولَما كان العرب جميعا، بمن فيهم اللبنانيون، يقبلون الوجود الإيراني في المنطقة؛ إذ حاول شاه إيران السابق ربط الشيعة في لبنان، بالنظام الإيراني، ولكنه فشل فشلاً تاماً أمام مواقف الشيعة اللبنانيين، وتكوينهم مؤسسات وطنية، شيعية، لبنانية.

ولإحداث التوازن في العلاقات والمصالح، فقد عملت سورية على احتواء حركة أمل، من خلال الدعم، العسكري والسياسي، وربطها بالقوى السياسية في لبنان، المرتبطة بالنظام السوري. في الوقت عينه، قامت إيران بإنشاء تنظيمات شيعية لبنانية، على غرار التنظيمات السياسية الثورية، داخل إيران نفسها. أهمـها "حزب الله"، الشيعي، اللبناني، كامتداد للحرس الثوري الإيراني. وتكلفت في سبيل ذلك ما يقرب من 200 مليون دولار، هي نفقة التدريب، وتكوين الكوادر، وتجهيز المعسكرات، ونحو 200 مليون دولار، من أجل التجهيزات العسكرية والسياسية للحزب. ولا تزال إيران تنفق على حزب الله بسخاء، في سبيل ربط جزء كبير من شيعة لبنان، بإيران، وجعلهم امتداداً طبيعياً لنظام الحكم في طهران.

ولم يكن التنسيق، دائماً، يسير في اتجاهه الصحيح الهادئ. ولكن شابته فترات من الصراع، كما حدث في نهاية عام 1989، في المواجهة بين أمل وحزب الله، في إقليم التفاح، وكذلك فترات من الفتور. لكن المحصلة النهائية، هي أن كلتا الدولتين، سورية وإيران، كانتا على وفاق واتفاق في شأن الحفاظ على مصالحهما في لبنان.

ج. العلاقة الإسرائيلية ـ السورية

وهي امتداد للصراع، الذي لم ينتهِ بعد إلى أي اتفاقات سلمية، بين سورية وإسرائيل. وقد استخدم الطرفان الساحة اللبنانية مسرحاً للحرب بينهما، ابتعاداً عن حدود المواجهة الطبيعية، في الجولان، التي قد تشعل الصراع من جديد. وقد أدّى ذلك إلى ما يشبه حرب الاستنزاف، التي تتفاوت حدّتها، طبقاً للمواقف المختلفة بين الدولتين.

وقد حدد كل طرف أدواته في هذا الصراع، سواء على المستوى السياسي أو العسكري، من دون النظر إلى مصالح لبنان الدولة، فجعل الطرفان، من التنظيمات، والميليشيات، والوجود العسكري، سواء السوري أو الإسرائيلي، أوراق ضغط لكل منهما على الآخر.

وفي هذا المجـال، فإن لبنان يعاني الأمرّين من تلك الضغوط، سواء من سورية، التي تصر على الوجود العسكري أو الضغوط السياسية، أو الاسـتغلال الاقتصادي، أو دعمها الميليشيات دعماً، لا يمكّن السلطة اللبنانية من اتخاذ مواقف حاسمة ضدها. كذلك من إسرائيل، من خلال السيطرة على جنوبي لبنان، واستمرار الاعتداءات المسلحة على السيادة اللبنانية. والمحصلة النهائية، هي أن الصراع السوري ـ الإسرائيلي، سيطر على الساحة اللبنانية، وأضر بلبنان ضرراً شديداً، وكان الوجود العسكري السوري في لبنان، وسيطرة القرار السياسي السوري على القرار اللبناني، هو الأشد ضرراً. ويلخـص رئيس الوزراء، رفيق الحريري، هذا الموقف، في الحديث الصحفي، المنشور في جريدة "الأهرام" في نقطتين، هما:

(1) إن لبنان بلد صغير، عانى الحرب. وفي اعتقادي، أن تباطؤ التفاوض على المسار اللبناني، مردّه إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية، ارتأت أن تنجز التفاوض مع الفلسطينيين، ثم الأردنيين، وبعد ذلك السوريين، نظراً إلى المشكلات المعقدة بين إسرائيل وسورية. وهناك مشكلات بين لبنان وإسرائيل، ولكنها مختلفة تماماً. إذ إن إسرائيل تعتقد أن سورية، تمثل خطراً أمنياً إستراتيجياً عليها. أمّا لبنان، فلا يمثل إلاّ خطراً أمنياً، بسبب أعمال مقاومة الاحتلال الإسرائيلي. ولبنان لا يمثل خطراً على إسرائيل. ونحن نعتقد أنه عندما يتم حل المشكلات بين سورية وإسرائيل، سيصبح من الطبيعي، أن يتحرك المسار اللبناني ـ الإسرائيلي.

(2) هناك اتفاق بين لبنان وسورية، على أن يشمل الاتفاق السوري ـ الإسرائيلي مشكلة لبنان، فلا السوريين يوقعون اتفاق سلام قبل لبنان، ولا نحن نوقع اتفاقاً قبلهم.

5. الموقف الإسرائيلي من لبنان

ويبنى الموقف الإسرائيلي، انطلاقاً من عدة مرتكزات، يأتي في مقدمتها:

أ. تأمين مستعمرات الجليل الأعلى الإسرائيلية، ضد أعمال المقاومة اللبنانية (التي لا تخضع لسيطرة الحكومة اللبنانية، ولكنها ميليشيات، أنشئت، وتموّل بعيداً عن السلطة اللبنانية الرسمية). وهي: حزب الله، وأمل، الشيعيتان، وحماس والجهاد الإسلامي، الفلسطينيتان، اللتان تموَّلان من إيران أيضاً.

ب. تنفيذ أطماع إسرائيل في حصة من مياه نهر الليطاني. وقد تمكنت، فعلاً، من تحقيق ذلك، في ظل احتلالها وسيطرتها على الجنوب اللبناني، وذلك بوصل نهر الليطاني بالحصباني، الذي يصب في إسرائيل.

ج. التأثير، سياسياً، في الوجود السوري في لبنان، والعمـل على تقليل تأثيره في إسرائيل نفسـها، وتحجيم الدور السياسي السوري في المنطقة.

د. محاولة القضاء على النفوذ الإيراني في لبنان، ومن ثمّ، عدم تمكين إيران من إيجاد حدود "إيرانية ـ إسرائيلية"، من خلال منظمات تابعة لإيران.

ومن خلال تنفيذ إسرائيل تلك الأهداف، فإنها جعلت لبنان مسرحاً لعملياتها، سواء من خلال الحرب الشاملة (سلام الجليل)، أو المحدودة (عملية الليطاني)، أو الإغارات العديدة ضد أهداف المقاومة الفلسطينية، في بيروت والمدن اللبنانية المختلفة، أو من خلال القصف الجوي والمدفعي للجنوب اللبناني. ولم تَأْلٌ إسرائيل جهداً في إحراج القوات السورية، من خلال قصفها المباشر، أو التحرش بها، أو ضرب أهداف لبنانية، يتولى السوريون تأمينها. وفي معظم الأحوال، لم تردّ سورية الرد المناسب، بل لم تردّ، أصلاً، على تلك الاستفزازات. كما أن إسرائيل، لم تعِر أي اهتمام، في أي وقت، لوجود قوات طوارئ دولية في جنوبي لبنان، "طبقاً لقرار مجلس الأمن الرقم 425".

وعلى الجانب الآخر، فإن إسرائيل تعرضت لأعمال المقاومة اللبنانية الناجحة، العديد من المرات، سواء من قِبل حزب الله، أو المقاومة الفلسطينية، المتمركزة في الجنوب اللبناني. وتحمل هذه الأعمال "شرعية مقاومة الاحتلال"، التي وجهت، دائماً إلى القوات الإسرائيلية في الجنوب اللبناني، أو إلى جيش لبنان الجنوبي، التابع لإسرائيل، واستهدفت، أحياناً، المستعمرات الإسرائيلية في الجليل الأعلى (كان قصف المستعمرات الإسرائيلية يتزامن، باستمرار، ويتوافق مع عنف القصف الإسرائيلي، ضد القرى اللبنانية في الجنوب، وانتقاماً منه).

6. الموقف العربي، والمصري، من القضية اللبنانية

أثرت الأوضاع اللبنانية في العالم العربي برمّته، وخصوصاً أن القضية اللبنانية تصاعدت في فترة "التفرق العربي"، الناجم عن قمة بغداد، في الفترة من 27 ـ 31 مارس 1979، وقرارها "عزل مصـر"، الذي أفقد العرب نصف قوتهم. ومع ذلك، لم يترك العرب من جانب، ومصر من الجانب الآخر، حبل الأمور في لبنان على غاربها. وكان رأي مصر المعلن، في الثمانينيات، هو: "ارفعوا أيديكـم عن لبنان"، وكان يقصد بهذا الكلام إيقاف توجيه إستراتيجية "الحرب بالوكالة"، التي مارستها دول، عربية وأجنبية، على الساحة اللبنانية. ثم شارك الجميع في إنجاح مؤتمر الطائف، وإعادة أعمار لبنان. وتبذل مصر جهوداً كبيرة للحدّ من نشاط إسرائيل، المضاد للبنان، أو في اتجاه سورية على وجه الخصوص.

7. الجنوب اللبناني، كمنطقة صراع

أصبح الجنوب اللبناني، هو الساحة الرئيسية لأنماط التفاعلات المسلحة العنيفة، التي تتخذ صوراً مختلفة، سواء كانت عمليات خاصة، أو احتكاكات مسلحة، أو عنفاً مسلحاً، أو تهديدات عسكرية، أو تحركات عسكرية، أو إجراءات أمنية، ويأتي ذلك من ظل عدة مسلّمات، التي أصبحت من الثوابت، لتحقيق أهداف أطراف الصراع. وطرفا الصراع في الجنوب اللبناني، هما: إسرائيل وجيش لبنان الجنوبي (ميليشيا أنطوان لحد)، من جانب، والميليشيات المسلحة (حزب الله ـ أمل ـ حماس ـ الجهاد ـ منظمات أخرى)، من الجانب الآخر. ويعني ذلك، أن لبنان الدولة، لا علاقة له بهذا الصراع، سوى أنه المتضرر الرئيسي، سياسياً ومعنوياً واقتصادياً، ولكنه ليس الطرف، الذي يرفع السلاح في مواجهة إسرائيل. أمّا الميليشيات، التي تمولها إيران، في الدرجة الأولى، وتُؤمِّن وجودها وتدعمها أيضاً سورية، فقد أصبحت دولة داخل الدولة، في الجنوب اللبناني. ويضمن التنسيق الإيراني ـ السوري المستمر حرية عمل حزب الله، وتقويته، وذلك منذ نشوء الحزب، عبْر سماح سورية بمرور حوالي 5000 شخص من الحرس الثوري الإيراني، إلى لبنان، ليشـكلوا نواة الحزب، الذي ضم، بعد ذلك، 10 آلاف ـ 12 ألف شيعي من لبنان. وقد كان ذلك ظاهراً، أيضاً، بعد ذلك بسنوات، عندما قطعت المفاوضات السورية ـ الإسرائيلية شوطاً في سبيل تحقيق السلام، خلال الأشهر الأخيرة من عام 1995، مما سيترتب عليه تحجيم أنشطة حزب الله في الجنوب اللبناني. وقد زار طهران، وقتئذ، وفد من قيادات حزب الله، في 21 ديسـمبر 1995، ثم زار سورية، في طريق العودة، التقى خلال زيارته مرشد الثورة الإيرانية، "علي خامنئي"، في إيران، وبعض كـبار المسؤولين في سورية، لبحث تطور العملية السلمية بين سورية وإسرائيل، وانعكاس ذلك على حزب الله. صرح، بعدها، الشيخ نعيم قاسم، أحد قادة حزب الله، قائلاً: "إن أحداً لم يحدثنا عن وقف عمليات المقاومة". وقد تلقى الوفد تأكيدات عدم المساس بهياكل الحزب، ودوره السياسي، في المرحلة القادمة، من دون وعود باستمرار عملياته العسكرية. ودلل على ذلك تصريح مسؤولين إيرانيين، قبل زيارة حسن حبيبي، نا ئب الرئيس الإيراني، إلى دمشق يوم 27 ديسمبر 1995: بـ "أن وقف عمليات حزب الله، في جنوب لبنان، ممكن، في حالة تحقيق السلام، وانسحاب إسرائيل من الجنوب اللبناني".

ويُعَدّ الشيخ محمد حسين فضل الله، رئيس الحزب، بقيادته للحزب طوال هذه السنوات، "مرجع التقليد للشيعة في لبنان"، الأمر الذي ينذر بخطر التناحر والانقسام في الأوساط الشيعية اللبنانية الموالية لطهران، والتناحر بين المقر الرئيسي لحزب الله في طهران، وفروعه المنتشرة في 18 دولة، من بينها لبنان.

وبصفه عامة، فإن حزب الله، منذ نشأته، وحتى الآن، انطلق من فلسفة "غياب دور الدولة المركزية"، وتبنّي إستراتيجية محددة، تقوم على عدد من الأهداف الخاصة، المتجاوزة لدور لبنان. هي:

أ. اعتبار الجنوب اللبناني ورقة رابحة، لتوسيع عمليات حزب الله الفدائية ضد إسرائيل.

ب. الدعوة إلى تحرير القدس والزحف نحوها (تنفيذاً للأهداف الإيرانية، المعلنة ضمن أهداف الثورة، والتي لم يكتب لها التحقق، حتى الآن).

ج. رفض وجود القوات الدولية (على أساس أنها معوقة للأعمال الفدائية).

ومن الطبيعي أن يحدث الصدام بين حزب الله، الذي يتبنّى تلك الأهـداف، التي توافق أهداف الثورة الإيرانية، وبين الحزب الشيعي الوطني اللبناني "حركة أمل"، بقيادة نبيه بري، رئيس البرلمان اللبناني، الذي يرى أن الطائفية، هي السبب المباشر للأزمة اللبنانية، واستمرار الوجود الإسرائيلي في الجنوب اللبناني. ولذلك، فهو يدعو إلى تحقيق الدولة العلمانية، التي تتماشى مع الدستور اللبناني.

ومع تصاعد الصدام، الذي حدث في بداية التسعينيات، فإن حزب الله، بدأ يتنازل عن العديد من أهدافه في تكوين الدولة الإسلامية، حتى يصبح مقبولاً في لبنان، بوجه عام، ويستقطب الشيعة اللبنانيين، بوجه خاص، ويندمج في المجتمع اللبناني، كحزب فاعل، وليس كحركة إسلامية. وهذا ما ورد في تصريح رئيس الوزراء اللبناني، رفيق الحريري: "إذا انتهى الاحتلال، فليس هناك داع للمقاومة. والجميع يسلمون أسلحتهم للبنان. وفي هذه الحالة. سيقتصر نشاط حزب الله على العمل السياسي، وهو، أصلاً، حزب موجود، ويمثل تياراً سياسياً معيناً، بحجم معين".

 



[1] كان بداية الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975، نتيجة لقرار مشابه باستغلال المرافئ الساحلية اللبنانية بقرار من كميل شمعون