إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الصراع الهندي ـ الباكستاني





معارك لاهور وكاسور
معارك سيالكوت شاكارجارا
معركة بونش
معركة تشامب
معركة حسين والا
معركة راجستان
معركة سليمانكي
الفيلق الثاني الهندي
الفيلق الرابع الهندي
القتال في قطاع مج 101
القتال في قطاع الفيلق 33

انتشار الجبهة الشرقية
الحرب الهندية الباكستانية
الفتح على الجبهة الغربية
القتال على الجبهة الشرقية
القتال على الجبهة الغربية
باكستان والهندستان وحيدر أباد
قطاع عمل الطائرة TU-114
قضية كشمير ومشكلة الحدود



الصراع الهندي - الباكستاني

المبحث الثاني عشر

النظام العالمي الجديد وانعكاساته على الصراع الهندي ـ الباكستاني

أولاً: النظام العالمي الجديد

يقصد بالنظام العالمي الجديد:مجموعة القِيم والسياسات، التي تسود العالم، في الوقت الحالي، وفي المجالات المختلفة، والتي كانت حصيلة عدة عوامل، حكمت العالم، مع بداية التسعينيات من القرن العشرين. وهذه العوامل هي:

·  انفراد الولايات المتحدة الأمريكية بكونها القوة العظمى الوحيدة في العالم، وتوجهها نحو فرض قِيمها وهيمنتها وقيادتها عليه، طبقاً لإستراتيجيتها في تحقيق مصالحها الذاتية.

·  توجهات القوى الفاعلة في العالم نحو إثبات وجودها، وبذل الجهد في تحقيق مصالحها، ولو من خلال مقاومة التيار الأمريكي.

·  ضعف منظمة الأمم المتحدة، المسؤولة عن حفظ السلام والأمن العالميَّين، وتقييد حريتها في اتخاذ القرارات.

وما كان للولايات المتحدة الأمريكية، أن تهيمن على النظام العالمي الجديد، لولا امتلاكها قدرات، يستحيل على من أيّ قوة أخرى منافستها ، في أي مستوى؛ إذ إنها:

1. عسكرياً: هي الدولة، التي تمتلك قدرات عسكرية، تتفرد بتكنولوجيات لا تتأتَّى لأيّ قوة عسكرية أخرى، في مستوى العالم؛ فضلاً عن امتلاكها إمكانيات حشد قوات مسلحة في أيّ منطقة ساخنة، تيسِّر لها هزيمة الطرف المناوئ؛ والأهم أنها تُدْئِب تطوير تلك الإمكانيات. وهي اختصت الإنفاق العسكري، في ميزانية عام 2006/2007، بما يناهز 452 مليار دولار؛ وهو مبلغ، يعادل 50% من الإنفاق العسكري العالمي.

2. اقتصادياً: هي الدولة الوحيدة في العالم، التي يزيد إنتاجها القومي السنوي على 11 تريليون دولار. ويمثل اقتصادها 30% من اقتصاد العالم، وصادراتها نحو 38% من صادراته. وهي تمتلك أكبر مؤسسات اقتصادية، في مستوى العالم.

3. تكنولوجياً: هي الدولة الرئيسية، التي وصلت الأبحاث العلمية فيها إلى درجة فائقة التطور. وهى الجاذبة للعلماء والعقول من مختلف أرجاء العالم، ولديها أكبر مراكزه البحثية. وتراوح ميزانية البحث العلمي فيها، سنوياً، بين 400 و500 مليار دولار.

4. سياسياً: هي الدولة، التي فرضت نفوذها وهيمنتها على العالم كلّه أجمع، من خلال تسخير قواها الشاملة لتكون هي الفائقة. وتستخدم قدراتها: العسكرية والاقتصادية، في معاقبة أيّ دولة، تحاول معارضة سياستها.

والمتابع لحركة التاريخ، يجد أن الولايات المتحدة الأمريكية قوة عظمى وحيدة، تتربع على القمة في النظام العالمي الجديد. وأسست إستراتيجيتها، منذ بداية تسعينيات القرن العشرين، على ثلاثة مرتكزات: العولمة والتفوق والهيمنة. وطالت تأثيراتها الدول كلّها جمعاء، بما فيها الهند وباكستان؛ حتى إنهما تحاولان اتِّباع النهج الأمريكي في تطبيق تلك المرتكزات.

العولمة هي سمة العصر. وقد فرضتها ثورة المعلومات والاتصالات، والتقدم التكنولوجي الكبير في الصناعة والزراعة، وحاجة الشعوب إلى العلم والمعرفة، والنماء المطّرِد للاقتصاد العالمي؛ والولايات المتحدة الأمريكية قاطرته الرئيسية. وأغرى واشنطن امتلاكها كلّ مقومات العولمة بفرض سياساتها في جميع مجالات هذه العولمة على أرجاء العالم؛ ما أدى إلى تداخل العولمة والأمركة. وطالت العولمة الهند وباكستان، بدرجات متفاوتة. وعكست آثارها على إستراتيجيتهما في مواجهة الأحداث، في شبه القارة الهندية.

والتفوق حلم أمريكي قديم، قِدم إنشاء الدولة، في القرن الثامن عشر. فقد طمح الأمريكيون إلى أن تكون بلدهم هي "المدينة الفاضلة" ، أو أن تكون، بتعبير القس "ونثروب"، "مدينة فوق التل"؛ لتنير الطريق، أمام العالم. وما لبثوا أن طمعوا، بعد اكتمال "فتح أمريكا"، مع نهاية القرن التاسع عشر، بفتح العالم؛ حتى تحل "الإمبراطورية الأمريكية" محل الإمبراطورية البريطانية. ومع استمرار بناء القوة، تحقق الحلم الأمريكي بالتفوق. وهو ما يشير إليه المفكر الأمريكي، "ستيفنسون"، في كتابه: "التقسيم الواضح"، حيث يقول: "إن للولايات المتحدة توجهاً تاريخياً لكي ترتقي إلى تلك المرتبة، التي وصلت إليها ، إذ يرى الأمريكيون، أنها تتمتع بإمكانيات فريدة في نوعها، وأن تاريخها مفتاح لفهْم تاريخ العالم. وريثما يأتي ذلك اليوم، الذي تسود فيه الحضارة والديموقراطية والتنوير أرجاء العالم، فإن الشعوب المتحضرة، هي التي يجب أن تحكم من هو أدنى منها. ولتتبوأ الأمم والأشخاص مراكز الزعامة والقيادة، إذا كانوا مؤهلين لتحمُّل ما يفوضه إليهم القدر... إن كلّ الإمبراطوريات السابقة، نهضت على دعائم من الخزي والغزو والدماء والسلب. أمّا نحن، فقد أخذنا العبرة مما لاقته هذه الإمبراطوريات من آلام، وما ارتكبته من خطايا. وإن دستورنا، المؤسس على قواعد راسخة من الحرية، يجمع فضائل كلّ أمم الأرض، ويخدم كلّ قضايا البشرية". وتفسر العبارتان السابقتان حرص الولايات المتحدة الأمريكية على بناء القوة، من أجل أن تسود العالم السيادة، التي نراها عليها الآن؛ ولكي تفرض قرارها السياسي على كلّ أرجاء الأرض. والمتابع للأحداث في قارة آسيا، يجد أن الهند، تنتهج النهج الأمريكي عينه، وخاصة في منطقة جنوب شرقي آسيا.

أمّا الهيمنة، وهى الركيزة الثالثة، فقد انطلقت في أعقاب النصر الكبير، الذي حققه الحلفاء، في الحرب العالمية الثانية، بفضل الدعم الأمريكي. وأصبحت الولايات المتحدة الأمريكية هي إحدى قوتَين عالميتَين. وخططت إزاحة القوة الأخرى، "الاتجاه السوفيتي"، من خلال نصر، بلا حرب. وحققت ذلك فعلاً، في نهاية ثمانينيات القرن العشرين. وفي الوقت عينه، عملت على أن ترث مناطق النفوذ في العالم، سواء من دول الاستعمار القديم، مستغلة ضعف هذه الدول، في أعقاب الحرب العالمية الثانية؛ ومن دول الكتلة الشرقية، في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي.

ثم بدأت واشنطن ترسم إستراتيجيتها خلال القرن الحادي والعشرين، طبقاً لمفهوم مطلق للهيمنة. وكانت منطقتا الشرقَين: الأوسط والأقصى، في قمة اهتماماتها؛ علّها توقف نمو قوى كبرى، ولاسيما الصين والهند. وكانت إمكانيات الولايات المتحدة الأمريكية، هي السند الرئيسي لتحقيق الهيمنة. ومن ثَمّ، فقد عملت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش، عند تسلمها السلطة، في يناير 2001، على تعديل إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي تعديلاً مهماً، من خلال ثلاثة محاور رئيسية، هي : "بناء القوات المسلحة، ودور القوة العسكرية في تحقيق أهداف الأمن القومي الأمريكي ، وتحديد مصادر التهديد". وقد أَوْلَت هذه الإستراتيجية اهتماماً خاصاً لمسرح العمليات الآسيوي، حيث طائفة متنوعة، من التهديدات والتحديات، تواجه واشنطن.

وانتقلت الجهود الأمريكية في تحقيق الأمن الأوروبي، من التهديدات السوفيتية إلى تأمين المصالح الأمريكية في منطقتَي الشرق: الأوسط والأقصى؛ إذ إن التهديد الروسي قد زال؛ لا، بل استُتْبِعَت روسيا، من خلال معاهدات واتفاقيات، جعلتها عضواً مراقباً في حلف شمال الأطلسي، وبددت أيّ نية في تهديد الأمن: الأوروبي والأمريكي.

وكان الهاجس الرئيسي المتحكم في رسم الإستراتيجية الأمريكية، هو أمن الموارد، المتمثل في بترول الشرق الأوسط، والتخوف من ظهور قوى جديدة مؤثرة في هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية؛ فضلاً عن نمو الإرهاب، الذي رأت فيه واشنطن وجهاً من وجوه الحرب؛ وتأسيساً على ذلك، فقد حددت إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي، التي أعلنها الرئيس بوش. ولكن، بعد تسلّم الحزب الجمهوري للسلطة، في بداية عام 2001، وتوجهه إلى تنفيذ السياسة، التي صاغها المحافظون الجدد، لتأكيد هيمنة واشنطن على العالم، جاءت أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001 ، فكانت زلزالاً، زعزع أركان الأمن القومي الأمريكي، وطاول تأثيره أرجاء العالم كلّه. فلم يظن أحد، أن الولايات المتحدة الأمريكية، بقوّتها العسكرية، وإجراءاتها الأمنية، وموقعها المهم: الجغرافي والسياسي، يمكن أن يحدث لها ما حدث؛ إذ إنها تُؤْثِر أمنها على سائر شؤونها وشجونها؛، ولديها من الأجهزة والإمكانيات ما يحقق لها أمناً متكاملاً.

يُعْزَى نجاح هجوم الحادي عشر من سبتمبر 2001، إلى أنه باغت واشنطن، وهي مسترخية، أمنياً وعسكرياً وإستراتيجياً. فقد كان هناك خطأ في تقدير مصدر التهديد ومستواه، إذ كانت كلّ الحسابات تشير إلى أن التهديد، لن يأتي إلا من الخارج، فإذا به يأتي من الداخل. وهذا يدل على خلل في نُظُم صنع القرار الإستراتيجي في الولايات المتحدة الأمريكية، أدى إلى أخطاء في التقدير، أثرت، سلباً ، في نظام الأمن القومي الأمريكي، وأتاح لمنفذي العملية فرصة للتحرك بحُرية، وإنجاح عمليتهم. فوجود الخلل، إذاً، هو أمر ممكن في الولايات المتحدة الأمريكية، كما في غيرها؛ وتأثيره قد يكون وارداً في عملية صنع القرار الإستراتيجي نفسها أكثر من غيرها، عندما تتسع الفجوة بين دولة وسائر الدول الأخرى، فتفوقها الأُوْلى في امتلاك القوة والاعتماد عليها (وهذا ما تشير إليه، حالياً، إستراتيجية الهند ، التي تتأسى بالتجربة الأمريكية).

وقد عبّر المستشار الألماني، "شرودر"، عن تأثير هذا الحادث، بقوله إن 11 سبتمبر2001، أصبح يوماً حاسماً في تاريخ البشرية؛ فقد تحوّل العالم في هذا اليوم، ولن يعود أبداً إلى ما كان عليه قبل هذا التاريخ. ففي هذا اليوم، تمكن الإرهاب، وقوى الظلام، من تحقيق ما لم تستطع تحقيقه القوى العالمية العظمى. لقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية، حتى يوم 11 سبتمبر هي أكثر دول العالم أمناً؛ بسبب موقعها الفريد، المتمثل في كونها قارة نائية، وآمنة، لا يمكن أنواع الأسلحة كافة الوصول إليها، عدا الصواريخ العابرة للقارات. ولم تدرك أيّ قيادة أمريكية، أن الإرهاب يمكن أن يؤدي إلى كشفها إستراتيجياً، وتنفيذ عمليات، ترتقي إلى مستوى نتائج الحرب غير التقليدية.

لقد تركت أزمة 11سبتمبر 2001 انعكاسات واسعة النطاق، كان طليعتها، أن الإستراتيجية الأمريكية اختصت بتركيزها التهديدات الإرهابية، التي باتت تستحوذ على الأولويات المطلقة في اهتمامات السياسة الخارجية، وسياسة الدفاع عن الولايات المتحدة الأمريكية؛ إضافة إلى تكثيف جهود الإصلاح، في مجالَي الأمن الداخلي والتطوير العسكري، والتي كانت إدارة الرئيس الأمريكي، بوش، قد شرعت في تنفيذها، قبل الأزمة.

وفي السياق نفسه، فقد أثرت الأزمة، بقوة، في صورة الإسلام والمسلمين، في الإعلام الغربي، حيث تعرضت لمزيد من التشويه. ويبدو من سياق الأحداث، أن القرارات، التي اتخذتها الولايات المتحدة الأمريكية، على وجه السرعة، في مواجهة هذه الأزمة، كانت مُعَدَّة من قبل، وتنتظر الظروف الملائمة، المسوِّغة لتنفيذها. وتؤكد تلك القرارات الإصرار على الهيمنة الأمريكية على مناطق معينة من العالم، ذات أهمية إستراتيجية، ليس لطموح الدولة العظمى إلى فرض هيمنتها الكونية فقط؛ وإنما لإعادة ترتيب الأوضاع كذلك في العالمَين: العربي والإسلامي، بما يخدم الأهداف الأمريكية في النظام العالمي الجديد.

لم تنتظر الولايات المتحدة الأمريكية أي تحقيق، بل سارعت، منذ الوهلة الأولى، إلى اتهام تنظيم "القاعدة"، والنظُم الأصولية التي تعتمد الإرهاب، في العالم الإسلامي. وآذن إعلان الرئيس بوش مبدأ: " من ليس معنا، فهو مع الإرهاب" بخطر شديد، بل كان تغيراً حاداً في فلسفة إدارة الأزمات، من خلال إجبار العالم على خيار واحد من اثنَين، لا ثالث لهما. استفز هذا المبدأ دولاً كبرى في النظام العالمي الجديد، مثل: روسيا والصين وفرنسا وألمانيا؛ حتى إنه نفّرها، وحملها على مواجهة واشنطن. أمّا الدول متوسطة القوة أو محدودتها، فقد وضع هذا المبدأ الكثير منها في مأزق، إذ أصبحت مهددة بفرض عقوبات عليها، أو توجيه ضربات عسكرية، للقضاء على بنيتها الأساسية.

روّعت الولايات المتحدة الجميع، بالتلويح لهم بتهمة مؤازرة الإرهاب، تلك التهمة، التي يسهل إطلاقها، ويصعب نفيها. وكانت أفغانستان هي المستهدفة، في المرحلة الأولى. وما لبثت واشنطن أن أعلنت لائحة دول الشر المستهدفة، وشملت أفغانستان والعراق وإيران وكوريا الشمالية. كما أعلنت لائحة الدول المناوئة، وهي أقلّ شراً من سابقاتها، وتضم سورية وليبيا والسودان. وهكذا استهدفت واشنطن دولاً في الشرقَين: الأقصى والأوسط، تؤثر في أمن الهند وباكستان. وقد استخدم الرئيس بوش عبارتَي دول الشر، والدول المناوئة، وهما المعنيان نفساهما، اللذان كان قد استخدمهما سلفه، الرئيس الأمريكي، ترومان، إبّان الحرب العالمية الثانية، في وصف دول المحور، والدول التي تؤيدها.

في السياق عينه، أعلنت الولايات المتحدة الأمريكية الدول، التي ينمو الإرهاب على أرضها، وخصت كلاًّ من الصومال واليمن بأنهما تؤويانه. وتلقفت الصهيونية العالمية الفرصة، لتزوِّر على الانتفاضة الفلسطينية أهدافها، وهي التي بدأت في 28 سبتمبر 2000 ، إثر اقتحام قوات الأمن الإسرائيلية المسجد الأقصى، لحماية زائره، أريل شارون؛ وذلك لكي تحث على إدراج المنظمات الفلسطينية في لائحة الإرهاب.

وقد أعلن الرئيس الأمريكي، بوش، ثلاثة أهداف رئيسية للسياسة الأمريكية: "سوف ندافع عن السلام "، من خلال محاربة الإرهابيين والطغاة؛ وسوف "نحافظ على السلام"، من خلال نسج علاقات طيبة بين القوى العظمى؛ وسوف نضطلع "بتوسيع نطاق السلام"، من خلال تشجيع المجتمعات الحرة المفتوحة، في قارات العالم. وقد ترجم الرئيس بوش الآليات المستخدمة في تحقيق هذه الأهداف، في خطبته، في الأول من يونيه 2002، وقد تضمنت:

1. التحول من الردع إلى الحرب الاستباقية، من خلال (بناء استخباراتي- التنسيق مع الحلفاء- الاستمرار في نقْل القوات الأمريكية، لتأكيد قدرتها على اضطلاع بعمليات قصيرة زمنياً، وسريعة وحاسمة- بدء عهد جديد من النمو الاقتصادي- دعم الأمن القومي الأمريكي).

2. استبدال تغيير النظام باحتوائه (لدول الشر، والدول المناوئة، من خلال ضربات استباقية).

3. الاستئثار بالقيادة العالمية (لتأكيد هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية).

4. التنكر للشرعية الدولية، في إدارة السياسة العسكرية؛ على أساس أن القرار الأمريكي، هو "واجب النفاذ"، مهما عارضته آراء أو ضغوط (وهو ما حدث في قرار غزو أفغانستان، في 7 أكتوبر 2001، والعراق، في 20 مارس 2003).

وعندما أعلن الرئيس بوش هذه الأهداف الإستراتيجية وآليات تحقيقها، فإنه كان يؤكد النظرية العلمية في العلاقات الدولية، والتي تشير إلى "أن القوة المفرطة، تغري باستخدامها في إيذاء الآخرين؛ أو الحصول على حقوق غير شرعية، لمن يمتلك هذه القوة".

ثانياً: الأهمية الإستراتيجية لشبه القارة الهندية

لم تكن الحرب في أفغانستان، هي السبب الوحيد لاهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بوجودها في منطقة شبه القارة الهندية، والتدخل بفاعلية في النزاع الهندي- الباكستاني، واحتواء توجُّه الدولتَين، عام 2002، إلى صراع مسلح، كان من الممكن أن يستخدم فيه السلاح النووي ، فيؤدي إلى كارثة بشرية جديدة، على نمط ما حدث في اليابان، إبّان الحرب العالمية الثانية. إنما تعدت الأهداف الأمريكية ذلك إلى توسعة المجال الحيوي الأمريكي، ليشمل منطقة جنوب شرقي آسيا برمّتها، بصفتها إحدى أهم المناطق في رسم السياسة الإستراتيجية الأمريكية، في القرن الحادي والعشرين. والمتابع للتاريخ، يجد أن التوجه الأمريكي نحو هذه المنطقة، لم ينقطع، منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية وحتى الآن. فقد دارت حروب طويلة، كان أحد أطرافها الولايات المتحدة الأمريكية، في شبه الجزيرة الكورية، في أوائل خمسينات القرن العشرين. ثم كانت حرب فيتنام، في الستينيات وأوائل السبعينيات. ناهيك بقواعد أمريكية في العديد من دول شرقي آسيا وجنوبيها الشرقي، والملحقة بالمظلة النووية الأمريكية؛ وإبرام اتفاقيات أمنية مع العديد من دول ذلك الجنوب.

ومما تستهدفه الإستراتيجية الأمريكية، في هذا المجال:

1. تأكيد الهيمنة الأمريكية على منطقة جنوب شرقي آسيا.

تفكك الاتحاد السوفيتي السابق، الذي كان منافساً للولايات المتحدة الأمريكية في التغلغل في المناطق الإستراتيجية من العالم ت لم يَحُلْ دون مراعاة الإستراتيجية الأمريكية، في القرن الحادي والعشرين، العوامل الآتية:

أ. الحيلولة دون بلوغ روسيا الاتحادية منزلة قوة عالمية، تنافس الولايات المتحدة الأمريكية، من خلال محاصرتها من الجنوب؛ وعرقلة أيّ محاولة لاستعادة تحالفها مع دول آسيا الوسطى، الواعدة باحتياطي بترولي زاخر.

ب. المرابَطة بالقرب من القوى العالمية الجديدة، التي تخطط لدعم قدراتها، من خلال برامج طموح: اقتصادية وعسكرية، وهذه القوى الواعدة، في قارة آسيا، هي الصين والهند. والسبب الرئيسي لهذه المرابَطة، هو سرعة احتواء الموقف، والتدخل الفاعل في مواجهة أيّ نيات عدوانية لتلك الدول، تمس مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، مستقبلاً.

ج. تواصُل القواعد الأمريكية في شرقي آسيا ونظيراتها في أوروبا، من خلال سلسلة من القواعد، في الشرقَين: الأقصى والأوسط.

د. تحقيق العولمة الاقتصادية، من خلال السيطرة على البترول وطرق نقله، سواء في الشرق الأوسط، أو في بحر قزوين؛ والتحكم، مستقبلاً، في إمدادات الطاقة ، لكونه وسيلة إلى الهيمنة الاقتصادية.

ولبلوغ هذه الأهداف، خططت الولايات المتحدة الأمريكية لاستمرار وجودها، سواء بقواتها الذاتية أو من خلال حلف شمال الأطلسي، في أفغانستان؛ إضافة إلى قواعدها في دول وسط آسيا الإسلامية، المنفصلة عن الاتحاد السوفيتي السابق، أو من خلال عقد اتفاقات مع تلك الدول، أو عبْر استمالتها.

كذلك استمالت الولايات المتحدة الأمريكية كلاًّ من الهند وباكستان ، لتدعماها دعماً كاملاً، في حربها في أفغانستان. واستمرت في عقد الاتفاقيات، التي تضمن لها الوجود الآمن في المنطقة، لتصبح منطقة شبه القارة الهندية، وامتدادها في آسيا الوسطى شمالاً، وفي جنوب شرقي آسيا شرقاً، هي منطقة نفوذ أمريكي شامل.

2. تواصُل الأهداف الأمريكية ما بين الشرقَين: الأوسط والأقصى

لتحقيق هذه الأهداف، فقد طبقت الولايات المتحدة الأمريكية نظرية "نيكولاس جون اسبيكمان" في علم الجيوبوليتكس، التي تعتمد على وضع خطة وسياسة تأمين الدولة، في ضوء العوامل الجغرافية. فبعد زوال الخطر السوفيتي عن أوروبا، وفقدان أوراسيا لكونها هي قلب العالم؛ وإثر تفاقم الأخطار الجديدة من الإرهاب، الذي ينمو في منطقة، تختزن ثلثي احتياطي العالم من البترول، هي الشرق الأوسط، أمسى هذا الشرق قلب العالم، والواعد بتحقيق مطالب الدول الصناعية الكبرى، بدءاً من عام2010 ، وخاصة بعد نضوب البترول في بحر الشمال. وتقول النظرية بأن "من يسيطر على قلب العالم، يسيطر على دول الأطراف، ومن يسيطر على دول الأطراف، فإنه يقترب من السيطرة على قلب العالم". ومعلوم أن دول الأطراف، بالنسبة للشرق الأوسط، تشمل الدائرة التي تمر بشبه القارة الهندية، ودول آسيا الوسطى، وشمال البحر المتوسط، ووسط أفريقيا.

استُلهِمَت تلك النظرية إستراتيجية ، شنت الولايات المتحدة الأمريكية بمقتضاها حروبها على الإرهاب، في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001. فقد بعث عتاة المحافظين الجدد الأمريكيين، واليمين المحافظ بمذكرة إلى الرئيس بوش، في العشرين من الشهر عينه، شملت أولويات حروب بداية القرن الحادي والعشرين على الإرهاب، كالآتي:

أ. شن الحرب على أفغانستان (وهي من دول الأطراف في الشرق الأوسط)؛ للقبض على أسامة بن لادن أو قتله، وتدمير قاعدته، وإسقاط نظام طالبان.

ب. شن الحرب على العراق ( وهي دولة شرق أوسطية بترولية)؛ لإسقاط صدام حسين.

ج. التوجه نحو حزب الله، في لبنان، والضغط على إيران وسورية؛ للتوقف فوراً عن دعمه (والدول الثلاث دول شرق أوسطيه).

د. تفكيك المنظمات الإرهابية، في فلسطين (وهي تتعلق بالصراع العربي- الإسرائيلي).

وفي السياق نفسه، وجهت الولايات المتحدة الأمريكية إنذارات إلى كلّ من اليمن والصومال والسودان وجيبوتي (وهى دول عربية شرق أوسطية)، والفيليبين واندونيسيا وتايلاند وغيرها (وهي دول جنوب شرقي آسيا، في نطاق دول الأطراف للشرق الأوسط).

وقد أسست الولايات المتحدة الأمريكية إستراتيجيتها، في هذا المجال، على أن العقيدة الإسلامية، المنتشرة في الشرقَين: الأوسط والأقصى، هي أرض خصبة لنماء الإرهاب. ومصداق ذلك أن أفغانستان، كانت بؤرة لتجمع تنظيم القاعدة، وتنظيم طالبان السلفي، وامتداده إلى باكستان وكشمير ودول جنوب شرقي آسيا والدول العربية. واستطراداً فإن الإجراءات المضادة، يجب أن تشمل المنطقة برمّتها، وليس منطقة دون الأخرى.

كذلك عَدَّت الولايات المتحدة الأمريكية، أن استقرار منطقتَي جنوب شرقي آسيا، والشرق الأوسط، هو تَوَفُّر على المصالح الأمريكية، في المقام الأول. وسيطرتها عليهما، من أجل تقليص حدة نزاعاتهما، والقضاء على الإرهاب فيهما، تؤدي إلى تحقيق إستراتيجيتها في بسْط الأمن، بأقلّ النفقات، إذ سيؤدي هذا الاستقرار إلى تخفيض القوات الأمريكية، فتخفيف ضغط الميزانية الأمريكية.

وكان أهم ما طرحته واشنطن في هذا المجال، هو إعلان الرئيس بوش إستراتيجية انتشار القوات الأمريكية وإعادة توزيعها عبْر العالم، بما يماشي المتغيرات الحالية. وقد أعلن أسبقية مطلقة لوجود القوات الأمريكية في منطقتَي الشرق الأوسط، وجنوب شرقي آسيا ووسطها. وهو المطبق، حالياً، على أرض الواقع؛ إذ وقّع العديد من دول الشرق الأوسط، ومنها دول عربية، اتفاقيات أمنية مع الولايات المتحدة الأمريكية، على أرضها قوات أمريكية، أو تقدم تسهيلات لهذه القوات؛ إضافة إلى اتفاقيات أمنية مماثلة، ووجود قواعد أمريكية كذلك في منطقة جنوب شرقي آسيا ووسطها.

3. السيطرة على النزاع في شبه القارة الهندية

تستهدف سيطرة واشنطن على هذا النزاع تحقيق أهداف الإستراتيجية الأمريكية، في القرن الحادي والعشرين؛ والسيطرة على مناطق العالم الساخنة ، التي تحظى بأهمية إستراتيجية، تؤثر في مصالح الولايات المتحدة الأمريكية. وتنبثق الاهتمامات الأمريكية بكلّ من الهند وباكستان من الآتي:

أ. الهند

(1) يحمل وضع الهند الإستراتيجي الولايات المتحدة الأمريكية على الاهتمام بها؛ فهي ثانية أكبر قوة بشرية في العالم؛ وثالثة دولة آسيوية، من حيث المساحة؛ وصاحبة برامج طموح في التطوير؛ وإحدى أهم الدول، التي تطبق الديموقراطية الغربية في منطقتها. ومن ثَم، فإنها مؤهلة لتحقيق العولمة الأمريكية، ورغبة واشنطن في توسيع رقعة التطبيق الديموقراطي في العالم الثالث؛ على أساس أن تجربة نيودلهي تجربة رائدة.

(2) كانت الهند، منذ منتصف الستينيات من القرن العشرين، وحتى قيام النظام العالمي الجديد، مع بداية التسعينيات، حليفة للإتحاد السوفيتي السابق. وقد أدى هذا التحالف إلى العديد من المؤثرات في الإستراتيجية الأمريكية في المنطقة، وأهمها الانتصار، الذي حققته الهند على باكستان، عام 1971، والذي عُدَّ هزيمة للسلاح الأمريكي، الذي كان في يد الباكستانيين. كذلك فإن هذا الانتصار، أدى إلى تغير الخريطة السياسية في منطقة جنوب شرقي آسيا، من دون رغبة الولايات المتحدة الأمريكية، وقتئذٍ. واستطراداً، فإن من مصلحة واشنطن عدم عودة العلاقة، مرة أخرى، بين الهند وروسيا (وريث الاتحاد السوفيتي).

(3) تُعَدّ الهند هي المناوئ الأكبر للصين، في قارة آسيا. ويمكن استغلال هذه الميزة في أيّ صراع أمريكي- صيني، مستقبلاً.

(4) تضطلع الهند، في مجال تعايشها مع المتغيرات العالمية، منذ تسعينيات القرن الماضي، بإجراءات إصلاحات متتالية؛ لكي تندمج في العولمة، وخاصة في مجال الاقتصاد. ومن ثَم، فإن تَألُّفها مسبقاً، سوف يؤدي إلى السيطرة على برامجها؛ فلا تفاجأ واشنطن بظهور قوة عالمية جديدة مناوئة، تؤثر في مصالحها.

(5) سخَّرت الهند برامجها النووية لصناعة أسلحة نووية، وليس لاستخدامات سلمية؛ ولذلك، فإن اقتراب الولايات المتحدة الأمريكية من المجال النووي الهندي، من خلال هذه البرامج، سوف يؤدي إلى سيطرة أمريكية غير مباشرة عليها.

(6) تحاول الهند بناء قاعدة تصنيع عسكري، بالتعاون مع روسيا. جهر بها، عام 2001، إعلان "صفقة القرن". وتصنع بموجبها 140 طائرة حديثة، من طراز سوخوي، إلى جانب أسلحة أخرى، في الهند. كذلك وُقِّع اتفاق مشاركة إستراتيجية، إبّان زيارة الرئيس الروسي، بوتين، إلى الهند، في 3 ديسمبر2004، والتي أفرزت توقيع عشر اتفاقيات بين الطرفَين؛ وهو ما لا تريد الولايات المتحدة الأمريكية استمراره. وفي الوقت عينه، سعت الهند إلى بناء تحالف روسي- هندي- إسرائيلي، من أجل تطوير الأسلحة الروسية لدى الهند، والتي تمثل نحو 70% من أسلحتها.

وفي هذا المجال، فإن الهند ، اتخذت إسرائيل، منذ تسعينيات القرن المنصرم، مَعْبَراً رئيسياً للوصول إلى التقارب مع الولايات المتحدة الأمريكية. وقد شجعت واشنطن ذلك، بدليل موافقتها على صفقة طائرات "الفالكون" الإسرائيلية للهند، وحؤولها دون صفقة مماثلة للصين. وهي ترى أن حاجة الهند إلى التكنولوجيا المتقدمة، يجب أن تُطْلَب أساساً من الغرب؛ فلا تلجأ إلى روسيا، للحصول عليها. وربما كان ذلك التقارب على حساب الدول العربية، على الرغم من رفض نيودلهي ذلك.

(7) تثق الولايات المتحدة الأمريكية بحليفتها الهند، في حربها على الإرهاب. فهي توقن بأن مسلمي الهند، لا ينخرطون في منظمات إرهابية، كما هو الحال في العديد من دول المنطقة. كما ترى أن التوجه نحو مشكلة كشمير، التي تفرز منظمات، تَعُدّها الولايات المتحدة الأمريكية منظمات إرهابية- هو أمر، يمس أمن الهند؛ ويمكن أن تتدخل فيه، بالضغط على باكستان.

(8) تحتاط الولايات المتحدة الأمريكية لطمع الهند، إحدى القوى الصاعدة في النظام العالمي الجديد، في الهيمنة على منطقة جنوب شرقي آسيا. ولذلك، فهي تحاول السيطرة عليها، من الآن؛ فتستميلها أو تحتويها، وتُنْشِئ حولها القواعد العسكرية؛ لتكون دائماً تحت سيطرتها، طبقاً للإستراتيجية المخططة، في القرن الحادي والعشرين.

ب. باكستان

(1) تُعَدّ باكستان حليفاً قديماً للولايات المتحدة الأمريكية. إلا أن علاقاتهما، لم تسر طبقاً لما تريده واشنطن؛ وإنما راوحت، منذ سبعينيات القرن العشرين، بين سخونة وبرودة، وحسب ما تسفر عنه الأحداث والمتغيرات.

(2) تنتقد الولايات المتحدة الأمريكية على باكستان إعراضها عن التطبيق الديموقراطي، وتعدد الانقلابات بها، وسيطرة العسكريين على الحكم؛ ما حال دون تنفيذ برامج إصلاح شاملة.

(3) تأخذ واشنطن على إسلام آباد ميلها إلى السلفية الإسلامية؛ ودعمها لحركة طالبان، في أفغانستان؛ وظهور متشددين، سواء من خلال المدارس الدينية أو التطبيقات الفعلية للعقيدة الإسلامية في باكستان.

(4) لا توافق الولايات المتحدة الأمريكية على دعم باكستان للجماعات الأصولية، في كشمير أو تغاضيها عن تسلل جماعات سلفية أو إرهابية، عبْر الحدود الباكستانية؛ لتنفيذ أعمال إرهابية في القطاع الهندي من تلك المنطقة.

(5) لا تطمئن واشنطن إلى تعميق التعاون الباكستاني ـ الصيني، الذي أمعن في صناعة الأسلحة فوق التقليدية، التي تخلُّ بالتوازنات في المنطقة، وتؤدى إلى استمرار الصراعات.

(6) عارضت التفجيرات النووية الباكستانية، عام 1998، إرادة الولايات المتحدة الأمريكية، التي توافق قرار الأمم المتحدة، حظر انتشار الأسلحة النووية. ولذلك، فقد فرضت واشنطن عقوبات صارمة، أثرت في إسلام آباد. ولم يجبرها على رفْعها إلا مطالب الدعم اللوجيستي الباكستاني للقوات الأمريكية، في حربها في أفغانستان.

توحي كلّ هذه العوامل، أن الولايات المتحدة الأمريكية، لم تستهدف إلا حمْل باكستان على أن تصبح حليفاً إستراتيجياً متميزاً؛ من خلال تحقيق العديد من المطالب، التي تتوخى، في النهاية ،استقرار الأوضاع في شبه القارة الهندية، وإجراء إصلاحات عميقة في باكستان نفسها.

والخلاصة أن استهداف الولايات المتحدة الأمريكية السيطرة على النزاع في شبه القارة الهندية، تُسَاوِقُه رغبتها في استمالة كلّ من الهند وباكستان، لتصبحا دولتَين رئيسيتَين في النظام العالمي الجديد، يتحقق من خلالهما التوازن في المنطقة، وتشكلان ركيزة لتحقيق المصالح الأمريكية فيها، تكفلان للقوات الأمريكية استمرار وجودها في القواعد القريبة منهما، إلى جانب التعاون الإستراتيجي معهما.

ثالثاً: تطور الرؤى الأمريكية، في الصراع الهندي- الباكستاني

منذ توقف الحرب في أفغانستان، وتكليف حلف الناتو مهام حفظ الأمن في هذه الدولة، المتاخمة لمنطقة الصراع الهندي- الباكستاني، فإن الولايات المتحدة الأمريكية، أجرت العديد من المتغيرات في ضبط إيقاع ذلك الصراع، والحيلولة دون تفاقمه تفاقماً يؤثر في المصالح الأمريكية في المنطقة؛ حتى إنه يمكن القول، إن قرارها هو تعليق الصراع، وليس حله. وهو أسلوب، تتبعه واشنطن في الأزمات المستفحلة في مناطق إستراتيجية، حيث تبقي على حالة الصراع، وتتحكم فيها؛ فتجبر الطرفَين على اللجوء إليها، عندما تستشري الأزمة؛ أو تصبح في مَوْقع، يخولها الضغط على أحدهما، لمصلحة الآخر، عندما تتعارض مصالحها مع هذا الطرف،أو لكي تجبره على الانصياع لقراراتها.

وتوجُّه الولايات المتحدة الأمريكية نحو تجميد الصراع أوحله، يتبلور في تصريح وزير خارجيتها السابق، "كولين باول"، في أعقاب غزو العراق، "بأن الولايات المتحدة الأمريكية، تضطلع بترتيب الأوضاع في كلّ منطقة، وفقاً لمصالحها. وستولي عناية أكبر مشكلة الإرهاب، والقضايا ذات الصلة بها، في منطقة جنوبي آسيا". فالولايات المتحدة الأمريكية، تحرص على أن يكون لها دور إستراتيجي مهم في توجيه الأحداث، في تلك المنطقة الملتهبة؛ نظراً إلى علاقاتها بطرفَي الصراع. وهي حريصة كذلك، ألاّ تضطلع بالوساطة بين الهند وباكستان؛ ليقتصر نشاطها على تقديم المبادرات، وحث الطرفَين على اتخاذ مواقف معتدلة ، تحُوْل دون تفاقم المواقف.

وكان أهم ما اضطلعت به الولايات المتحدة الأمريكية، في هذا المجال، هو ضبط حدة الصراع، الذي نشب في أعقاب حادث "جامو وكشمير"، في يونيه 2002، والذي راح ضحيته عشرات الجنود الهنود، ما بين قتيل وجريح.

في السياق عينه، فإن تحويل الولايات المتحدة الأمريكية دفة الحرب إلى العراق، وما أعقب ذلك من تورُّط، سواء في المستويَين: السياسي أو العسكري ـ أديا إلى تقليص دورها في الصراع الهندي- الباكستاني. وهو صراع، لا تزال وتيرته واحدة، منذ بدأ في منتصف القرن العشرين وحتى الآن ، ولم تُتَّخَذ أيّ خطوات جذرية لحله. وقد أدى ذلك إلى أن تصبح قضية كشمير قضية تاريخية مستعصية، لا يمكن حلها بالوسائل التقليدية؛ وإنما تتطلب إرادة سياسية من أطراف النزاع، لا تتأتَّى، في الوقت الراهن. أمّا التطور في رؤى الولايات المتحدة الأمريكية نحو طرفَي الصراع، فكان كالآتي:

1. الهند

عملت الولايات المتحدة الأمريكية على تطوير علاقاتها بالهند، وخاصة بعد تسلُّم حزب المؤتمر الهندي الحكم ، إثر انتخابات عام 2004، وتأكيده عمق جذور الديموقراطية في أرجاء الهند؛ وإعلانه، في اللحظات الأولى، تمسُّكه بتحقيق السلام مع باكستان؛ إضافة إلى تأكيده التعاون مع إسرائيل، في المجالات المختلفة. ويمكن القول، إن واشنطن، تبدي مزيداً من التوجه في سياستها تجاه الانفتاح على الهند، وربما على حساب باكستان؛ إذ إن اهتمامها بتقوية علاقاتها بنيودلهي، يساوق سياستها تجاه الصين أولاً، ثم تحديد دور رئيسي للهند في استقرار الوضع في منطقة جنوب شرقي آسيا، في نطاق النظام العالمي الجديد.

2. باكستان

تستهدف الولايات المتحدة الأمريكية لمحاولة معالجة الموقف الباكستاني، وخاصة التشدد الديني، وتشجيع الحكومة الباكستانية على اتخاذ مزيد من الإجراءات، للقضاء على هذا التشدد. وهو ما ينعكس على التأثير في عدة جبهات: أُوْلاها، أولها دعم الحركات المناوئة، وخاصة طالبان، في أفغانستان، حيث تمتد الجذور العرقية لقبائل "البشتون" بينها وبين باكستان؛ ثانيتها، إحكام السيطرة على حدودها، لمنع تسلل المسلحين إلى الإقليم الهندي من كشمير ، حيث ينفذون عمليات إرهابية؛ ثالثتها، تقليص التقارب ما بين باكستان والصين، وعرقلة اندفاعه في اتجاه تطوير الأسلحة الباكستانية فوق التقليدية.

في الوقت عينه، فإن الولايات المتحدة الأمريكية، تحرص على إبقاء باكستان حليفاً إستراتيجياً لها في المنطقة. وهي تثمن عون الرئيس الباكستاني على العمليات العسكرية الأمريكية، إبّان الحرب في أفغانستان. وهو الشيء عينه، الذي كان يُمَنِّي الرئيس الباكستاني بأن تبادر واشنطن إلى تقديم دعم ، يعادل تلك المساعدة. ويالإحباطه! أثناء زيارته واشنطن، في شهر فبراير 2002، حين فوجئ بتحول غير متوقع في الموقف الأمريكي، الذي اختزل الوعود بالدعم، لتصبح إسقاط مليار دولار فقط من الديون، بعد أن كان قد وعد بتقديم دعم، يناهز 3 مليارات دولار. وعلّل الرئيس الأمريكي ذلك بتراجع الجنرال مشرف عن إجراءاته المشددة للقضاء على الإسلاميين المتشددين في بلاده؛ فضلاً عن إيوائه فلول القاعدة وطالبان في كشمير؛ لاستخدامهم في محاربة القوات الهندية.

3. زيارة الرئيس بوش الهند وباكستان

زار الرئيس الأمريكي، جورج بوش، كلاًّ من دولتَي الهند وباكستان، خلال فبراير 2006. وأسفرت عن الزيارتَين نتائج عديدة، تشير إلى موقف الولايات المتحدة الأمريكية منهما؛ وهي:

أ. التعاون الإستراتيجي مع الهند

(1) تمخضت الزيارة بتوقيع اتفاقية التعاون النووي، بين الولايات المتحدة الأمريكية والهند. وهي تنص على أن تقدم أُوْلاهما التكنولوجيا النووية المدنية إلى الثانية، إذا ما وافقت هذه على فصل المنشآت النووية العسكرية عن المدنية. وقد وافقت الهند على ذلك، ووضعت برامجها النووية المدنية تحت الإشراف الدولي. وقد صدق مجلس الشيوخ الأمريكي هذا الاتفاق، في منتصف نوفمبر2006.

(2) أعلن الرئيس بوش الهند "شريكاً على كلّ الجبهات؛ ليصبح العالم أكثر أماناً".

(3) أشاد الرئيس الأمريكي بالديموقراطية الهندية ودورها في نشر الديموقراطية في المنطقة، وخاصة أفغانستان.

(4) تناولت المباحثات دعم التعاون، في المجال الاقتصادي؛ وناهز الميزان التجاري المتبادل بينهما 27مليار دولار.

(5) حثت الولايات المتحدة الأمريكية الهند على الاعتراف بإسرائيل دولة نووية، في معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية.

ب. التعاون الاستراتجي مع باكستان

(1) فشلت باكستان في الحصول على اتفاق نووي، مع الولايات المتحدة الأمريكية، على غرار الاتفاق الأمريكي- الهندي (ما قد يزيد من ارتماء باكستان في أحضان الصين).

(2) تناولت المباحثات "تعزيز المشاركة الأمريكية- الباكستانية"، من دون تحديد سقف متفق عليه.

(3) لا تمانع الولايات المتحدة الأمريكية في تمديد خط الغاز، بين الهند وإيران، عبْر باكستان، وإنما تؤجله.

(4) انصبت المحادثات على التعاون على محاربة الإرهاب، وبذل باكستان جهوداً أكبر، لهزيمة تنظيم القاعدة.

(5) لم تستجب الولايات المتحدة الأمريكية لمطالبة باكستان بعقد اتفاق، في خصوص كشمير. وذكر الرئيس بوش أنه "إذا أردنا التوصل إلى اتفاق، في شأن كشمير، فإننا في حاجة إلى التزام، في مستوى القادة. ودور الولايات المتحدة الأمريكية، هنا، يكمن في الاستمرار في تشجيع الجانبَين على التقارب".

ج. أمّا في الجانب الأمريكي ، فقد أكد الرئيس بوش، "أنه استطاع أن يخفف من حدة العلاقات المتوترة؛ بين الهند وباكستان؛ بعد أن كانت الدولتان على شَفَا حرب مدمرة، عام 2002".