إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الصراع التركي ـ اليوناني، ومشكلة قبرص





نيقوسيا والخط الأخضر

الاقتراح التركي
بحر إيجه والجزر
قبرص التقسيم الفعلي



أولى حروب القرن

 

ثالثاً: الغزو التركي لقبرص

1. الأيام الصعبة

توجّه رئيس وزراء تركيا، بولنت أجيفيت Bulent Ecevit، في 18 يوليه 1974، إلى بريطانيا، حيث اجتمع مع "هارولد ويلسون" Harold Wilson، رئيس وزرائها، و"جيمس كالاهان" James  Callaghan، وزير خارجيتها، وناقش الطرفان الوضع في قبرص، لكون دولتيهما ضامنتين لاستقلال الجزيرة.

وحاول إقناع الحكومة البريطانية بتدخل مشترك، للحيلولة دون سيطرة اليونان بشكل كامل على الجزيرة. وبحث مع المسؤولين البريطانيين ما ينبغي القيام به، لوقف حمام الدم، الذي تغرق فيه جزيرة قبرص، بعد الانقلاب العسكري، الذي خططت له، ونفذته الحكومة العسكرية في أثينا.

واستمرت المباحثات لساعات طويلة، من دون نتيجة تذكر. غير أن وزير خارجية بريطانيا، أعلن أن بلاده "تنوي البقاء خارج الأزمة القبرصية، في تطوراتها الحالية".

التقى أجيفيت، في لندن، المبعوث الأمريكي، جوزيف سيسكو Joseph Sisco، مساعد وزير الخارجية الأمريكية، الذي أرسله هنري كيسنجرHenry Alfred Kissinger، وزير الخارجية الأمريكي، نيابة عنه. ولم يصلا إلى نتيجة حاسمة.

وفي 19 يوليه، هدّد بولنت أجيفيت، وهو في لندن، بالتدخل العسكري في الجزيرة، ما لم تلبَّ ثلاثة مطالب أساسية، هي:

أ. سحب ضباط القيادة الانقلابية.

ب. ضمان حماية الجالية التركية.

ج. إعادة حكومة مكاريوس.

ولما أحجمت بريطانيا عن التدخل، تحركت تركيا، بمفردها، بموجب المادة الرابعة من معاهدة الضمان لحماية استقلال الجزيرة.

2. لماذا ذهب رئيس الوزراء التركي  إلى بريطانيا؟

توجه رئيس الوزراء التركي إلى لندن، للتشاور "حول اتخاذ التدابير الكفيلة بمراعاة أحكام المادة الرابعة من معاهدة الضمان"، التي تشكل جزءاً لا يتجزأ من الدستور، الذي قامت على أساسه جمهورية قبرص المستقلة. وتنص هذه المادة على أن "تلتزم كل من اليونان وتركيا وبريطانيا بالتشاور، وإذا لم يفض التشاور إلى العمل المشترك، يحق لكل دولة التحرك، من أجل إعادة الأمور إلى نصابها".

أمّا الأحكام، التي تشير إليها هذه المادة، فهي تلك الواردة في المادتين، الأولى والثانية، من المعاهدة، اللتين تنصان على أن:

أ. "تتعهد جمهورية قبرص بضمان استقلالها ووحدة وسلامة أراضيها، والعمل بموجب دستورها. كما تتعهد الجمهورية القبرصية بعدم الارتباط، كلياً أو جزئياً، بدولة أخرى، سياسياً أكان ذلك أم اقتصادياً".

ب. "تعترف كل من اليونان وبريطانيا وتركيا باستقلال جمهورية قبرص، وتضمن سلامة أراضيها ووحدتها، والوضع الذي تؤسسه مبادئ الدستور وتكفله. وتتعهد كل من بريطانيا وتركيا واليونان، بقدر ما يتعلق الأمر بها، بصد المحاولات التحريضية، الهادفة إلى توحيد الجزيرة مع دولة أخرى، أو تقسيمها".

إذاً، يُعدّ انقلاب 15 يوليه انتهاكاً صريحاً، ومباشراً، وعلى أكثر من مستوى، لهاتين المادتين، إذ إنه جاء بتوجيه ودور مباشر من أثينا، أي أنه انتهاك للاستقلال. ويجاهر الانقلابيون بسعيهم إلى تحقيق الوحدة بين قبرص واليونان، وفي ذلك انتهاك للسيادة القبرصية وسلامة الأراضي ووحدتها، وللتعهد القاطع، الوارد في المادة الأولى، بعدم الارتباط، كلياً أو جزئياً، بدولة أخرى. بل إن ما حدث، يمثل تراجعاً سافراً من إحدى الدول الثلاث الضامنة عن تعهد وقعته، وبات الخطر واضحاً، ليس على الدستور القبرصي فقط، وإنما على المعاهدتين الملحقتين به أيضاً.

من هنا، تيقنت الحكومة التركية، أنها إذا لم تسارع إلى عمل عسكري فعّال، في الجزيرة، فإن نظام الحكم، الذي أقامته سلطات الانقلاب، سرعان ما يصبح شرعياً وأمراً واقعاً. وفي خضم التعقيدات الدولية، سوف يتم إحكام قبضة القبارصة اليونانيين، الموالين لأثينا، على شؤون الحكم في قبرص.

3. حتمية الغزو

كان الخيار الوحيد أمام الحكومة التركية، بعد عودة "أجيفيت" من لندن، وبعد رفض أثينا الاستجابة للإنذار، الذي وجهته أنقرة، في 19 يوليه 1974، بضرورة سحب القوات اليونانية من قبرص، ووقف المجازر وقتل العزّل ـ هو تنفيذ العملية العسكرية، في 20 يوليه 1974، لإعادة الأمن والسلام إلى الجزيرة القبرصية.

ومع تحرك القوات التركية، في ما أطلق عليه "عملية السلام"، أصدرت أنقرة بياناً، يشرح دوافع هذا التدخل وأهدافه، وقد نصّ على ما يلي:

"بدأت القوات المسلحة التركية، عملية سلام في قبرص، من أجل وضع حد لعقود من القتال الطائفي، الذي تسببت به عناصر متطرفة، بادرت، في المرحلة الأخيرة، إلى قتل أفراد من طائفتها (أي الطائفة اليونانية). إن هذه العملية، ليست غزواً، لكنها عمل ضد الغزو. وليست عدواناً، لكنها عمل ضد العدوان. وسيكون انتصار القوات التركية انتصاراً للعدالة والسلام والحرية. إننا نقول للقبارصة اليونانيين، الذين عانوا فظائع الإرهاب والدكتاتورية: ضعوا أيديكم في أيدي أشقائكم الأتراك، لتسهيل هذا الانتصار، وابنوا معاً قبرص جديدة، حرة وسعيدة، لقد جئنا إلى قبرص لمساعدتكم، جئنا نحمل الحب، وليس الضغينة، جئنا لا لنتقاتل دون هوادة، بل لنضع حداً لآلامكم".

وأوضح البيان، أن قوات السلام، تلقت الأوامر بعدم إطلاق النار، إلاّ إذا تعرّضت لمقاومة مسلحة، من قبل  القبارصة اليونانيين.

في 20 يوليه 1974، بدأ الغزو التركي لجزيرة قبرص، جواً وبحرا، في نيقوسيا وكيرينيا في الشمال، وليماسول في الجنوب. وبلغ مجموع القوات التركية، التي نزلت إلى الجزيرة، ستة آلاف جندي. وإثر ذلك، أعلنت حكومة اليونان التعبئة العامة، واستدعت الاحتيـاطي، وحركت حشوداً ضخمة من قواتها على حدودها الشرقية مع تركيا، وتجمعت نذُر الحرب بين الدولتين، ووجّه وزير خارجية اليونان إنذاراً إلى سفير تركيا في أثينا، بوقف عمليات الإنزال في قبرص.

صرح رئيس وزراء تركيا، معلقاً على الإجراء التركي في قبرص: "إن الغرض الأساسي من عملية الإنزال العسـكري، في قبرص، ليس حماية الأتراك فحسب، بل حماية القبارصة اليونانيين أيضاً …". وكان أول صدام بين القوات التركية والقوات اليونانية، في معركة بحرية، عند بافوس، على الساحل الجنوبي الغربي لقبرص. وجاء ذلك بعد ست وثلاثين ساعة من إعلان تركيا إنزال قواتها، في قبرص. ولكن الصدام توقف في 22 يوليه، بعد الجهود الدبلوماسية، التي بذلها هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكية.

أصدر مجلس الأمن الدولي، في 22 يوليه 1974، القرار الرقم 353 ، دعا فيه إلى وقف إطلاق النار فوراً، وسحب كل القوات العسكرية الأجنبية، عدا التي يسمح الدستور بوجودها، وإجراء مفاوضات بين الدول الضامنة، لإعادة السلام، وتشكيل حكومة دستورية. وظهر كثير من علامات الاستفهام، لأن مجلس الأمن، لم يكن قد أصدر أي قرار، على مدى الأيام الخمسة الأولى من وقوع الانقلاب، حتى بعد مشاركة مكاريوس في جلساته، وكشفه الأهداف الحقيقية اليونانية من الانقلاب.

4. وقف إطلاق النار من الجانبين

في الثالث والعشرين من يوليه 1974، أصدرت الحكومة العسكرية اليونانية أمراً بوقف إطلاق النار. فقبلت تركيا إيقاف القتال، كهدنة قصيرة لالتقاط الأنفاس، تعاود، بعدها، تحركها العسكري في قبرص، لتوطيد وجودها في أنحاء الجزيرة.

وقبلت الحكومة اليونانية وقف القتال، بسبب التفاوت الكبير بين حجم إمكانياتها العسكرية وفاعليتها وبين القوات المسلحة التركية. فطبقاً لبيانات المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية، في لندن في ذلك العام 1974، يقدّر عدد القوات التركية بنحو ثلاثة أمثال القوات المسلحة اليونانية.

وتوضح هذه البيانات، أن مجموع القوات المسلحة التركية النظامية، هو 455 ألف جندي، يضاف إليهم نحو 800 ألف من قوات الاحتياطي. في حين أن مجموع القوات المسلحة اليونانية النظامية، هو 160 ألف جندي، يضاف إليهم نحو 200 ألف من قوات الاحتياطي. إضافة إلى أن بُعد المسافة ما بين قبرص واليونان، سيجعل دخولها الحرب ضد تركيا، غير ذي جدوى.

وفي 22 يوليه أيضاً، استقال "نيكوس سامبسون" من رئاسة قبرص، وحل محله جلافكوس كليريديس، كرئيس مؤقت. وفي أثينا، قررت الحكومة العسكرية التخلي عن الحكم، ودعا الرئيس اليوناني، الجنرال فايدون جيزيكيس، رئيس الوزراء السابق، قسطنطين كرامنليس، من منفاه الاختياري في باريس، في 24 يوليه، ليشكل حكومة مدنية. وبذلك، سقط الجنرال إيوانيدس، الرجل العسكري القوي في أثينا.

وهذان التطوران (سقوط سامبسون، في نيقوسيا، والجنرال ديمتريوس إيوانيدس، في أثينا، وعودة الحكم المدني إلى كلتا العاصمتين)، كانا الثمرتين الأوليين للأيام الثلاثة الأولى من عملية التدخل التركية. وأوقفت تركيا عملياتها العسكرية، تاركة فرصة للاتصالات السياسية، من أجل إيجاد حل سلمي للقضية، يحفظ مصالح الطائفتين.

كما أدّى التغيير في نظام الحكم، في كل من قبرص واليونان، إلى ظهور إمكانات التفاوض المباشر بين تركيا واليونان، حول مستقبل قبرص. فقد قبلٌّ كل من أنقرة وأثينا الدعوة البريطانية للتباحث حول الأزمة، وخضعتا للضغوط المتضافرة، التي قامت بها الدبلوماسية الأمريكية، والدول الأوروبية الأعضاء في السوق الأوروبية المشتركة، من خلال جهود وزير الخارجية الفرنسي.

بدأت أعمال المؤتمر الثلاثي للسلام، في 25 يوليه 1974، في قبرص، بين وزراء خارجية بريطانيا وتركيا واليونان، وفي حضور ممثل الأمم المتحدة، كمراقب، هو روبرتو جوير Roberto E. Guyer، المساعد الخاص للأمين العام للأمم المتحدة. واتضح، خلال المؤتمر، مدى عمق الاختلاف بين وجهتَي نظر اليونان وتركيا، في شأن تنظيم المستقبل السياسي القبرصي.

تقدم طوران جونش Turan Gunes، وزير خارجية تركيا، في اليوم الثالث للمؤتمر، بمشروع اتفاق شامل، يتضمن:

أ. اتخاذ إجراءات عاجلة، لضمان احترام وقف إطلاق النار في قبرص.

ب. إيجاد مناطق فاصلة بين القوات التركية واليونانية، تُشرف عليها قوات الطوارئ، التابعة للأمم المتحدة.

ج. إشراف بريطانيا وتركيا واليونان على مطار نيقوسيا.

د. احترام الحقوق والتسهيلات، التي تتمتع بها القوات البريطانية في المنطقة.

هـ. استعادة نائب رئيس جمهورية قبرص ـ وهو تركي ـ سلطاته المبيّنة في الدستور.

و. استعادة قبرص وضعها الطبيعي، كدولة ذات قوميتين.

وأخيراً، طالب المشروع التركي بإقامة إدارتين، تتمتعان بالاستقلال الذاتي، في الجزيرة، إحداهما تركية، والأخرى يونانية. غير أن الجانب اليوناني، رفض هذه المقترحات، بدعوى أنها تهدد استقلال الجزيرة، وأصرّ على أن هدف مؤتمر جنيف، هو تطبيق قرار مجلس الأمن في شأن قبرص، الذي يقضي بإقرار السلام والعودة إلى النظام الدستوري، وانسحاب الجيوش الأجنبية أولاً. وأعلن جورج مافروس Mavros George، وزير خارجية اليونان، أن تسوية المشكلة القبرصية لا يمكن أن تتم على مائدة المفاوضات، إلا باشتراك ممثلين عن الشعب القبرصي.

ولقد توصل المؤتمرون، في 31 يوليه 1974، إلى اتفاق في شأن قبرص، وصفه المراقبون بأنه يعطي تركيا قبضة عسكرية حديدية على الجزيرة، كما يكفل بقاء قبرص مقسمة إلى أجل غير مسمى، إذ لم يُلزم هذا الاتفاق أنقرة بسحب قواتها الغازية، وإنما قضى فقط بخفض هذه القوات، ووقف إطلاق النار. كما تقرر استئناف التشاور الدبلوماسي، على مستوى وزراء الخارجية الثلاثة، يوم 8 أغسطس 1974، لبحث مشكلات قبرص الدستورية.

وبناء على هذا الاتفاق، أصدر مجلس الأمن قراراً بتفويض قوات الأمم المتحدة في قبرص، سلطات إضافية، للمحافظة على وقف إطلاق النار بين القوات التركية واليونانية. وذلك بأن يتسع اختصاص القوات الدولية في الجزيرة، فلا يُقتصر على مهمتها الأصلية، منذ سنة 1964، وهي مجرد حفظ السلام بين القبارصة اليونانيين والأتراك، في المناطق التي يختلط فيها الطرفان، بل يمتد ليشمل استخدام هذه القوات في إنشاء منطقة أمن عازلة، تقام بين القوات التركية وقوات الحرس الوطني اليوناني القبرصي.

5. إعلان جنيف

اتفق الوزراء الثلاثة على إصدار ما يسمى "إعلان جنيف"، الذي تضمن النقاط العشر التالية:

أ. عدم توسيع المساحات، التي كانت، في العاشرة من مساء 30 يوليه 1974، بتوقيت جنيف، تقع تحت سيطرة الطرفين المتصارعين.

ب. كل القوى المسلحة، بما فيها القوى غير النظامية، ينبغي أن تمتنع عن القيام بأي أعمال هجومية أو عدائية.

ج. إنشاء منطقة فاصلة، محظورة على كل القوى المسلحة، باستثناء قوات حفظ السلام الدولية، وذلك على حدود المناطق، التي تحتلها القوات المسلحة التركية.

د. انسحاب كل القوى، اليونانية والقبرصية اليونانية، فوراً، من المناطق التركية، التي احتلتها.

هـ. حماية كل المناطق التركية المعزولة،من خلال إقامة منطقة فاصلة، محظورة على كل القوى المسلحة، باستثناء قوات حفظ السلام الدولية.

و. تبادل المحتجزين، العسكريين والمدنيين، أو الإفراج عنهم، في أقصر وقت ممكن، تحت إشراف اللجنة الدولية للصليب الأحمر.

ز. تمهيداً لحل عادل، ودائم، ومقبول لكل الأطراف، وترسيخاً للسلام والأمن والثقة المتبادلة، اتخاذ الإجراءات اللازمة للقيام، على مراحل، ووفق برنامج زمني محدد، بتخفيض كميات الأسلحة والذخيرة، وغيرها من عتاد الحرب الموجود في الجزيرة.

ح. بدء محادثات جديدة، في 8 أغسطس 1974، للتأكد من إقرار السلام في المنطقة، وتشكيل حكومة دستورية في قبرص.

ط. دعوة ممثلين للطائفتين، القبرصيتين، اليونانية والتركية، للمشاركة في المناقشات، الخاصة بالمسائل الدستورية، في المحادثات المقترحة.

ى. وجود إدارتين مستقلتين، في جمهورية قبرص، إحداهما تركية، والأخرى يونانية، أسفر عن مشاكل، ينبغي بحثها في المحادثات المقترحة.

6. مطالب تركيا الثلاثة

اشتملت نقاط إعلان جنيف، على عناصر إيجابية عديدة، للمفاوض التركي، إذ إنها استجابت للمطالب الرئيسية الثلاثة، التي كانت تصرّ عليها الحكومة التركية، وهي:

أ. حماية القبارصة الأتراك، الموجودين خارج المناطـق، التي تسيطر عليها القوات التركية، ولا سيما في المناطق المعزولة، المحاصرة بطوق يوناني، لأن هؤلاء كانوا، دائماً، الهدف الأول للاعتداءات اليونانية، وهم، من ثم، أقرب إلى رهائن عند الطلب، بالنسبة إلى اليونانيين والقبارصة اليونانيين، سواء للانتقام، أو للمساومة بمصيرهم.

ب. الاعتراف بحق القبارصة الأتراك في المشاركة في الدولة، أي الاعتراف بأن هذه الدولة تتكون من طائفتين، ومن إدارتين، وليس كما كان اليونانيون يصرحون ويتصرفون، على أساس أن قبرص دولة يونانية، فيها أقلية تركية.

ج. الحفاظ على أمن القوات المسلحة التركية، الموجودة في الجزيرة بموجب عملية السلام. وهذا الموضوع، كانت الحكومة التركية توليه اهتماماً كبيراً. فالقوات التركية، كانت، بين 20 يوليه 1974 وأواسط أغسطس، متمركزة في رقعة ضيقة ما بين مدينتَي كايرينيا ونيقوسيا، فكانت، من ثمّ، محاصرة، ليس من قبل القوات اليونانية والقوات القبرصية اليونانية والميليشيات، وقوات حفظ السلام الدولية فقط، بل من قبل القوات البريطانية أيضاً. هذه الرقعة، التي كان يتمركز فيها ما بين 20 و25 ألف جندي تركي، إضافة إلى آلاف القبارصة الأتراك، كانت من الضيق إلى حدّ أن القوات التركية، لم تكن قادرة حتى على إطلاق النار من دون المخاطرة بأن يصيب أفرادها بعضهم بعضاً.

7. قلق تركي، ومماطلة يونانية

حقق إعلان جنيف، بنسبة أو بأخرى، مطالب تركيا الثلاثة، لكن الأيام الثمانية اللاحقة، التي أعطيت كفرصة لإثبات حسن النيات، قبل الجولة الثانية من مفاوضات جنيف، كانت تحمل من المؤشرات ما يكفي لإثارة قلق الحكومة التركية. فمع انتهاء الأيام الثمانية، لم يكن القبارصة اليونانيون قد بدأوا حتى بالانسحاب من المناطق القبرصية التركية المعزولة، التي اقتحموها، وكانوا لا يزالون يعتقلون آلافاً من القبارصة الأتراك. أكثر من ذلك، فإنهم لم يبدوا أي استعداد للتعاون، عندما جرت محاولات لإقامة منطقة معزولة حول المنطقة، التي تسيطر عليها القوات التركية.

وكانت الحكومة التركية، قد حصلت، في مؤتمر جنيف الأول، على وعد بتأمين وسلامة القبارصة الأتراك، المحاصرين في قراهم. لكنها تأكدت أن المناطق القبرصية التركية، ما زالت تتعرض للاعتداءات في كافة أرجاء الجزيرة، وأن سكان قرى تركية بأكملها، بمن فيهم الأطفال والعجزة قد دفنوا أحياء. وكان الجنود الأتراك، المحاصرون في قلعة "فاماجوستا"، مقطوعين عن الاتصال بالعالم الخارجي، ومحرومين من أي إمدادات بالماء أو الغذاء أو الدواء.

لم يكن مستغرباً، أن يكون المفاوض التركي، في الجولة الثانية من مفاوضات جنيف، أكثر تصميماً من أي وقت مضى، على المطالبة بحل المشكلة القبرصية حلاً، يقوم على قاعدة وجود المنطقتين، وتقدم باقتراح، يقضي بإقامة فيدرالية ثنائية المناطق. وقوبل هذا الاقتراح بالرفض من الجانب القبرصي اليوناني، الذي أصر على انسحاب القوات التركية أولاً.

وبدا واضحاً للجانب التركي في المفاوضات، أن الجانب اليوناني، يحاول المماطلة، وكسب الوقت، بهدف تجميع قواه في الجزيرة، وكسب المزيد من الدعــم، على المستوى الدولي.

8. المرحلة الثانية من عملية الغزو التركي

استأنف وزراء خارجية تركيا واليونان وبريطانيا إجتماعهم، في جنيف، يوم 8 أغسطس 1974، في محاولة لتدعيم الإجراءات التنفيذية الفعلية لقرار وقف إطلاق النار بين الجانبين. واشترك الرئيس القبرصي الجديد، كليريديس، في هذه الجولة الجديدة من المباحثات، معلناً إيمانه بالمحافظة على استقلال قبرص ووحدة أراضيها، ضمن تسوية سياسية دائمة، تكفل إقامة حكم ذاتي، واسع النطاق، لطائفة القبارصة الأتراك.

أدّت هذه التطورات إلى انهيار مؤتمر جنيف الثاني، بعد أن رفض الجانبان، اليوناني والقبرصي، مقترحات تركية، تنص على منح الأقلية التركية في قبرص، و110 آلاف نسمة، ستة أقاليم مستقلة يحكمها القبارصة الأتراك ذاتياً.

كذلك أدت الاشتباكات العسكرية وتصاعدها في الجزيرة، إلى انفجار الموقف العسكري، مرة أخرى، بصورة خطيرة. وأصدرت أنقرة الأمر إلى قواتها، ببدء المرحلة الثانية من عملية الغزو، التي بــدأت  فجر 14 أغسطس، وانتهت في 16 منه، بعد إنجازها لكل مهامها، في توفير الأمن لتلك القوات من جهة، وفي زيادة الرقعة الجغرافية، التي توفر للقبارصة الأتراك الأمان.

وتمكنت القوات التركية من السيطرة على نحو 35% من مجموع مساحة الجزيرة، إذ قامت باحتلال قطاع رئيسي من شمالي قبرص، يمتد من فاماجوستا في الشرق، إلى خليج مورفو ومدينة ليفكا Lefka في الشمال الغربى، ماراً بنيقوسيا، العاصمة، والهضبة الوسطى للجزيرة، في ما يُسمى بـ "خط أتيلا  Attila Line" ، وهو الجزء الذي يحدد القطاع التركي، الذي تطالب أنقرة  بإدارة مستقلة له، في إطار دولة فيدرالية (اُنظر خريطة الاقتراح التركي). فانتقل الرئيس القبرصي كليريديس، ووزراؤه، من نيقوسيا إلى ليماسول.

رأت تركيا أنها حققت الأهداف الإقليمية، لطائفة الأتراك القبارصة. فأصدر بولنت أجيفيت، رئيس وزراء تركيا، بياناً يعلن فيه، بعد نجاح التحرك العسكري التركي في قبرص، أن بلاده قد بدأت وقف إطلاق النار بدءاً من 16 أغسطس 1974، بعد أن تم إرساء قواعد الدولة القبرصية الاتحادية الجديدة.

وثمة من يرى أن هذه العملية العسكرية، من قبل تركيا، قد أدّت، من جانب آخر، إلى خدمة الإستراتيجية التركية، لأنهـا استطاعت استخدام حوالي 35% من مساحة جزيرة قبرص لمصلحة إستراتيجيتها، وخاصة إزاء أساس الدولة القبرصية المستقبلية، كما تراها تركيا. وكان من نتيجة الإنزال العسكري التركي، هجرة 16 ألف يوناني من أماكنهم في القطاع الشمالي، كما ترك حوالي 40 ألف يوناني بيوتهم، لأنها استُخدمت كثكنات للجيش التركي.

زار الأمين العام للأمم المتحدة، كورت فالدهايم Kurt Waldheim، جزيرة قبرص، يومي 25 و 26 أغسطس 1974. وأجرى مشاورات مع الجانبين القبرصيين، اليوناني والتركي، أدّت إلى بدء محادثات ثنائية، في نيقوسيا، بين رؤوف دنكتاش وجلافكوس كليريديس. وجرت هذه المحادثات، أسبوعياً، في حضور الممثل الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة في قبرص، وتناولت المسائل الإنسانية. وكان الإفراج عن أسرى الحرب، الأتراك واليونانيين، الذي بدأ في 23 سبتمبر 1974، وانتهى في أواخر أكتوبر 1974، نتيجة لهذه الاجتماعات.

9. عودة مكاريوس

حثت حكومتا الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا تركيا، على الموافقة على عودة مكاريوس إلى الجزيرة. ولم تعترض تركيا، فعاد الرئيس مكاريوس إلى الجزيرة القبرصية، في 7 ديسمبر 1974. وبدأ ولايته الجديدة بمخالفة دستورية صريحة، لغيابه عن الجزيرة مدة 75 يوماً، إذ كان عليه، وفقاً للدستور، أن يخضع لعملية انتخاب جديدة، لكنه ضرب، مرة أخرى، بالدستور عرض الحائط، واكتفي بتسلم مقاليد الرئاسة من "كليريديس"، الذي كان يقوم بمهام رئيس الدولة بالنيابة. واعترض القبارصة الأتراك على هذه المخالفة الدستورية، ورفضوا الاعتراف بمكاريوس رئيساً منتخباً، وبحكومته حكومةً لكل قبرص.

ونتيجة ذلك، توقفت المحادثات الثنائية، التي كانت قد بدأت في أغسطس 1974، وذلك ريثما تتضح سلطات كليريديس ونطاق صلاحياته. وتم حل هذه المسألة في الأسبوع الأول من يناير 1975، واستؤنفت المحادثات في 14 منه. وتم الاتفاق على أن تبدأ المحادثات بمناقشة سلطات الحكومة المركزية ومهامها، في دولة فيدرالية. ولم تصل المباحثات إلى حل.

في 13 فبراير 1975، أعلن القبارصة الأتراك عن إنشاء "دولة قبرص التركية الفيدرالية"، كإدارة قبرصية تركية مستقلة، بهدف إقامة الجناح التركي لجمهورية قبرص الفيدرالية المنشودة. وعلى أثر ذلك، انسحب الجانب القبرصي اليوناني من المحادثات، لاعتراضه على إعلان الدولة التركية الفيدرالية.

اتفق الجانبان على القيام بجهود جديدة، للتوصل إلى حل للقضية القبرصية، من خلال محادثات بين الطائفتين، على أساس متكافئ، وتحت رعاية الأمين العام للأمم المتحدة. وقد جرت، بالفعل، سـت جولات في فيينا. بدأت الجولة الأولى في 28 أبريل 1975، وانتهت الجولة السـادسـة في 7 أبريل 1977، ولم تحقق نتائج حاسـمة. وأوقفت المحادثات نظراً إلى وفاة مكاريوس المفاجئة، في 3 أغسطس 1977.

10. نتائج الغزو التركي لقبرص

أ. نتائج الغزو، بالنسبة إلى قبرص

لم تمر ثمانٍ وأربعون ساعة على بدء الغزو التركي لقبرص، حتى قدم نيكوس سامبسون، الرئيس الذي عينته سلطات الانقلاب، استقالته، بعد ثمانية أيام فقط من توليه منصبه. وخلفه جلافكوس كليريديس رئيس المجلس الوطني (البرلمان)، ونائب الرئيس مكاريوس، وهو مؤسس وزعيم الحزب الديموقراطي الموحد، اليمين المعتدل. وكان يدافع دائماً عن سياسة مكاريوس، في ما يتعلق بمستقبل قبرص، وكيفية حل المشكلة الطائفية من طريق المفاوضات المباشرة، في إطار فكرة استقلال الجزيرة، كدولة ذات سيادة.

وكان كليريديس يحظى باحترام الأقلية التركية، بعد أن مثل الجانب اليوناني في المفاوضات، التي دارت بين زعماء الجاليتين في أواخر الستينيات. وكان أول إجراء اتخذه كليريديس، بعد تعيينه رئيساً لقبرص، هو الاجتماع مع رؤوف دنكتاش، زعيم القبارصة الأتراك، في حضور قادة قوات الأمم المتحدة في الجزيرة، لبحث وسائل تنفيذ وقف إطلاق النار. وهكذا، قضى الغزو التركي على سيطرة قادة الانقلاب العسكري، من ضباط الحرس الوطني، على مقاليد الحكم في قبرص .

ب. نتائج الغزو، بالنسبة إلى اليونان

شهدت اليونان تحولاً جذرياً في أوضاعها السياسية الداخلية، إثر الغزو التركي لقبرص، إذ استقالت الحكومة العسكرية، وأعلنت القوات المسلحة اليونانية تخليها عن الحكم في البلاد، وتسليمها زمام الأمور إلى حكومة مدنية. وقام الرئيس اليوناني، الجنرال فايدون جيزيكيس، في 24 يوليه 1974، باستدعاء قسطنطين كرامنليس، رئيس وزراء اليونان الأسبق (في الفترة ما بين عامَي 1955 ـ 1963)، من باريس، ليترأس الوزارة المدنية الجديدة .

وتمكن كرامنليس، فور عودته، من تشكيل حكومة جديدة، من أحد عشر وزيراً، منهم خمسة من نواب الحزب الوطني السابقين، الذي كان قد أسسه كرامنليس، وثلاثة من نواب حزب اتحاد الوسط، الذي يتزعمه جورج مافروس، وزير الخارجية، وثلاثة من المستقلين. وأصدرت الحكومة الجديدة عفواً عاماً عن جميع المسجونين السياسيين، وألغت المعتقل، الذي أقامته الحكومة العسكرية السابقة في جزيرة ياروس، في بحر إيجه. وأعفت ديمتريوس إيوانيدس، قائد الشرطة العسكرية من منصبه. وفي الأول من أغسطس 1974، أعيد العمل بدستور 1952. وأصدرت الحكومة الجديدة مرسوماً دستورياً، يقضي بإدخال 12 تعديلاً على ذلك الدستور. وتشمل هذه التعديلات ضمان حقوق المواطنين، واستقلال القضاء، وإخضاع الجرائم الصحفية للمحاكم العادية، وتوفير الضمانات لحرية التعبير، ونزاهة الانتخابات، وكفالة حقوق الإنسان.

وهكذا، هبت رياح الحرية السياسية على اليونان، بعد سبع سنوات من الدكتاتورية العسكرية، بسبب تطورات الأحداث في قبرص ، وتمتعت اليونان بحكم مدني، يتسم بالديموقراطية التقليدية.

أعلنت اليونان انسحابها من الجناح العسكري لحلف شمال الأطلسي، لم يحل دون دفع الغزو التركي عن جزيرة قبرص، وخذلانه لليونان، في مواجهتها تركيا.

فرضت الولايات المتحدة الأمريكية حظر السلاح على تركيا، الذي استمر حتى عام 1978.


 



[1] كانت هذه الشحنات قد هزت استقرار الجزيرة عام 1966، عندما تناقلت الأنباء نبأ استيراد الرئيس القبرصي لهذه الشحنات، من أجل تسليح قوات البوليس القبرصية التي تتلقى أوامرها من الحكومة القبرصية، وذلك عكس الحرس الوطني، الذي كان يخضع في هذه الآونة للجنرال `جريفاس`، وكان يدين بالولاء لليونان، مما أدى إلى توقف المحادثات بين الطائفتين، ومطالبة كل من تركيا واليونان بتسليم هذه الشحنات إلى قوات الأمم المتحدة، وانتهى الأمر بتوقيع اتفاق في 11 مارس 1972، يقضي بتخزين الأسلحة في القيادة العامة للبوليس في `أثالا`، مع الحرية التامة لقوات الأمم المتحدة في التفتيش عليها في أي وقت، ودون إخطـار مسبق، وطبقاً للقائمة التي سلمتها الحكومة القبرصية إلى ممثل الأمم المتحدة في الجزيرة.

[2] نيكوس سامبسون : صحفي قبرصي يوناني، كان محكوماً عليه بالإعدام من قبل البريطانيين لنشاطه الإرهابي. كان عضواً مؤسس للمنظمة القومية للكفاح القبرصي `إيوكا`. توجهت الأنظار إليه بعد موت جريفاس