إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / المشكلة الشيشانية





منطقة القفقاس (القوقاز)

الجمهوريات والمقاطعات
جمهوريات وأقاليم القوقاز
خريطة إمارة القوقاز
خريطة الأقاليم المحلية والمدن



المبحث الثاني

المبحث الثاني

دخول الإسلام بلاد القوقاز، والاستعمار الروسي حتى القرن الثامن عشر

أولاً: دخول الإسلام بلاد القوقاز وانتشاره فيها

الفتوحات الإسلامية في القوقاز

يتفق معظم المؤرخين أن أول دخول طلائع الفتح الإسلامي لمنطقة القوقاز كان عام 639، لكن انتشار الإسلام كان بطيئاً لعدة أسباب أهمها:

·   الطبيعة الوعرة لجبال القوقاز:  فتلك المرتفعات، التي قد يصل ارتفاعها إلى أكثر من خمسة آلاف متر، لم تكن من التضاريس المألوفة للعرب، الذين أتقنوا القتال في السهول والصحارى المنبسطة.

·   أن المنطقة تتنازعها عدة ديانات ومذاهب، مثل المسيحية، واليهودية، والزرادشتية، والمانوية الفارسية.

·   وجود دولة الخزر في آذربيجان وداغستان، وكانت خاضعة لمشيئة اليهود، الذين قاوموا الفتوحات الإسلامية مقاومة عنيفة.

·   دعم الإمبراطورية البيزنطية للكرج في جورجيا، والأرمن في أرمينيا، للوقوف في وجه المد الإسلامي.

ويقسم المؤرخون دخول الإسلام إلى بلاد القوقاز إلى ثلاث مراحل:

1. الفتوحات الإسلامية

أدرك المسلمون أهمية إيصال رسالتهم للقوقازيين، ولذلك لم تنقطع محاولاتهم لاختراق معاقلهم، وكان أول اختراق عربي إسلامي لمنطقة القوقاز عام 639 في منطقة آذربيجان، ثم استطاعوا بسط نفوذهم على ممر "دربند"، أو "باب الأبواب"، كما سماه المسلمون، عام 643، وسيطروا على آذربيجان وأرمينية وجورجيا (بلاد الكرج)، وسمحوا لحكام هذه المناطق بالاحتفاظ بديانتهم المسيحية. ويقول أرثر كوستلر: إن المسلمين حاولوا التوغل في جبال القوقاز، لكنهم اضطروا للتراجع. وفي الفترة الممتدة بين (643 ـ 652) عادوا، من جديد، ليخترقوا ممر "دربند"، ونجحوا في التوغل في بلاد الخزر، وحاولوا الاستيلاء على "بلادنجار"، أكبر مدن الخزر، حتى يقيموا لهم موقعاً على الجانب الأوروبي من القوقاز، لتتخذ منه قواتهم قاعدة لزحف جديد، لكنهم لم يفلحوا في ذلك رغم تكرار محاولاتهم. ودارت آخر معركة بين المسلمين والخزر سنة 652، استخدم فيها الطرفان المرجام، وهي آلة لإطلاق الحجارة، والمنجنيق لرمي القذائف، وقد استشهد في هذه المعركة أربعة آلاف مسلم من بينهم قائدهم المشهور (عبدالرحمن بن ربيعة). ويُورِد كوستلر، أن المسلمين لم يقوموا، طيلة السنوات الثلاثين، أو الأربعين التالية، بأية محاولة لشن غارات على معاقل الخزر، وانشغلوا بشن هجماتهم الرئيسية نحو بيزنطة. وفي مرات عديدة في الأعوام: 669، 673، 678، 718، حاصروا القسطنطينية، براً وبحراً، واستطاعوا أن يلتفوا حول العاصمة، عبر جبال القوقاز، وحول البحر الأسود. وكان من المحتمل أن يتقرر مصير الدولة البيزنطية، ومن المؤكد أن الصراع العربي الخزري على القوقاز، قد بلغ ذروته بين الفترة (730 ـ 745).

وفي مرحلة من مراحل تلك الحروب، التي استمرت خمسة عشر عاماً، اجتاح الخزر جورجيا وأرمينيا، وهزموا المسلمين في معركة "أرديبل" في أواخر سنة 730، وتقدموا حتى وصلوا الموصل وديار بكر، لكن هذا الهجوم الخزري أخفق في التقدم نحو دمشق، عاصمة الخلافة، ورد الخزر على أعقابهم بعد هزيمة نكراء. وفي العام التالي، نجح القائد المسلم المظفر، مسلمة بن عبدالملك، الذي سبق له أن قاد حصار القسطنطينية في انتزاع "بلادنجار" من الخزر، وواصل تقدمه حتى "سمندار"، وهي من المدن الكبيرة في الشمال. وفي عهد مروان بن محمد الأموي (734 ـ 743)، تمكن المسلمون من هزيمة الخزر نهائياً في آذربيجان، والأجزاء الجنوبية الشرقية من داغستان. وبالرغم من أن القائد مسلمة بن عبدالملك تمكن من فتح معظم الأجزاء الباقية من داغستان، في الأعوام 734 ـ 743، وخضع له حكام تلك المناطق من سكانها الوطنيين، فإنه كان خضوعاً اسمياً، إذ عندما ضعف الحكم الإسلامي ارتد هؤلاء الحكام إلى دياناتهم السابقة، أما بلاد جورجيا، والأرمن، والمناطق الجنوبية من القوقاز، فقد استمر الحكم الإسلامي فيها مدة طويلة، لكن في نهاية العصر العباسي، بدأت عناصر الحكم الإسلامي تضعف في منطقة القوقاز الجنوبي، والأجزاء الشرقية الساحلية من داغستان، وانقسمت تلك البلاد إلى عدة دويلات محلية، مما سهل على السلاجقة، في آسيا الصغرى، احتلال هذه المناطق، بعد أن نجحوا في احتلال إيران، وخوارزم، ومعظم آسيا الوسطى. وانتعش الإسلام مرة أخرى في تلك المناطق، تحت حكم السلاجقة، وامتد إلى جبال داغستان، ووسطها، وشمالها. أما الأجزاء المتاخمة لبلاد داغستان، وهي بلاد الشيشان الوثنيين، والإنجوش، المسيحيين فبقيت ديانتها.

2. أثر المغول والتتار في انتشار الإسلام في القوقاز

لقد أدى ظهور المغول والتتار على مسرح الأحداث في العالم الإسلامي، وقيامهم بتدمير بغداد، ومدن بلاد الشام، إلى إضعاف الإسلام في مناطق القوقاز، وارتداد كثير من شعوب القوقاز إلى الدين المسيحي، وذلك لأن طلائع المغول كانوا بوذيين أو نصارى. ولكن التحول الكبير لصالح الإسلام بدأ عندما تولى بركة خان، ابن جوجي ابن أخي جنكيز خان، حكم القبيلة الذهبية، وذلك سنة 1256[1]، وكان بركة خان قد دخل في الإسلام منذ طفولته، واستمر حكم بركة خان إلى سنة 1276، وتحول، في أثنائها، معظم أفراد القبيلة الذهبية إلى الإسلام. وامتد سلطان تلك القبيلة من تركستان إلى روسيا وسيبيريا، وحكموا موسكو نفسها. وقد أقاموا مدينة "قازان" الشهيرة، شمالي نهر "الفولغا"، لتكون عاصمتهم، وهكذا اعتنق المغول الإسلام وتحمسوا له، وحكموا باسمه أمداً طويلاً. أما العصر الذهبي للإسلام في منطقة القوقاز، فقد كان في عهد تيمورلنك (1336 ـ 1405)، الذي احتل آذربيجان وداغستان، وأصبح الإسلام راسخاً فيهما منذ عام 1385. واهتم تيمورلنك شخصياً بالقضاء على كل ما يتنافى مع الإسلام في آذربيجان وداغستان، وأصبح الإسلام هو الدين الوحيد لشعب "اللاك" في وسط داغستان، وهؤلاء أصبحوا، بدورهم، حماة الإسلام في الداغستان، ضد المسيحيين والوثنيين هناك. واتخذ "اللاك" مدينة "غزي ـ قمق" عاصمة لهم، ومركزاً إسلامياً رئيسياً في داغستان، ومن هذا المركز انطلق الدعاة الأوائل، لنشر الإسلام ووصلوا إلى الشيشان، وقبائل "القمق" التركية في داغستان، والتي كانت مثل الشيشان لا تزال وثنية. ويُذكر أن تيمورلنك وجه ضربة عنيفة لأكبر قوة مسيحية في وسط وشمال القوقاز، وهي مملكة شعب "الآلان"، وهم أجداد شعب الأوستين، الذين يعيشون اليوم في أوسيتيا الشمالية والجنوبية. وفي عهد تيمورلنك دخلت معظم شعوب داغستان في الإسلام، وفي نهاية القرن الخامس عشر، ظهرت قوتان إسلاميتان في القوقاز الشمالي، وهما الدولة العثمانية، وخانية القرم. وكان لهاتين القوتين الفضل في تحول الأبخاز من المسيحية للإسلام، وكذلك شراكسة الغرب "الوديغيون"، وشراكسة الشرق "القبارطيون" والأباظة، أما في القوقاز الجنوبي الشرقي، فإن الدولة الصفوية في إيران قامت بغز و "دربند" وخانية "شيروان" عام 1538، وبالتالي فإن المذهب الشيعي أصبح هو السائد في آذربيجان. وفي منتصف القرن السادس عشر انتشر المذهب الشافعي في داغستان، بينما انتشر المذهب الحنفي في شمال غرب القوقاز.

3. دور العثمانيين في نشر الإسلام في القوقاز

بدأ التوجه الروسي إلى منطقة القوقاز عام 1556، وكان هذا التحرك بداية حرب بين الإسلام والمسيحية. وبدأ تحركهم المنظم ببناء مستعمرات، وقلاع حصينة، على امتداد نهر "التَرَك"، وتركوا حمايتها لشعوب القوزاق المسيحية. وبادرت روسيا بإرسال المنصِّرين إلى شمالي القوقاز، وظهرت أولى الكنائس في مقاطعة "بيسيلني" بقبارطاي، وفي أوسيتيا المجاورة، فاضطر العثمانيون، وخانات شبه جزيرة القرم، للتصدي لهذا التوسع الروسي، في شمال القوقاز.

وقام خان القرم بحملة عسكرية على قبارطاي عام 1558، وأحرقها عقاباً لها على تحولها إلى المسيحية، وتحالفها مع الروس، أعداء المسلمين.

وفي عام 1594 أرسل الروس حملة عسكرية إلى شمالي داغستان، فتصدت لها قوة مشتركة من الأتراك، والتتار، والداغستانيين. وهُزم الروس بعد معركة شرسة.

ولكن الروس عادوا مرة ثانية عام 1604 بقوة عسكرية أخرى، وهزموا خان القرم، وخلال القرنين السابع عشر، والثامن عشر، كثف خانات القرم، والعثمانيون، جهودهم لنشر الدين الإسلامي في الأجزاء الشمالية الغربية، والوسطى، في شمال القوقاز.

وفي عام 1717، نشط العثمانيون، وخان القرم، "دولت جيراي"، ومن بعده خاز جيراي، في الدعوة للإسلام بين الشراكسة. وقد ساهم "علي فرح باشا" الوالي العثماني مساهمة كبيرة في نشر الإسلام، حيث جلب العلماء من الآستانة، وبنى المساجد، وجعل من "أنابا" عاصمة لولايته على ثغر البحر الأسود، ومركزاً رئيسياً للدين الحنيف. ومن "أنابا" انتشر الإسلام في عموم شمالي القوقاز، بما في ذلك الشيشان. وهكذا أصبح عامة الشراكسة مسلمين.

ثانياً: الاستعمار الروسي في القوقاز والصراع الروسي الشيشاني (1556 ـ 1878)

بعد أن توحدت روسيا وتخلصت من المغول، بدأ القياصرة تنفيذ مشاريعهم الاستعمارية التوسعية، وانتزعوا سيبيريا من المسلمين، ووضعوا مخططاً للتوسع في البلاد الإسلامية في أواسط آسيا، وهي الأقرب منالاً.

تعود أطماع روسيا في القوقاز إلى عام 1556. وعلى الرغم من أن جبال القوقاز لاتوجد بها ثروة تجذب الروس للاستيلاء عليها، فإن الأطماع التوسعية، والرغبة في الوصول إلى المياه الدافئة، ومنافسة بريطانيا في الاستيلاء على الهند، كانت من الدوافع الحقيقية لاندفاع روسيا جنوباً.

وبدأ التحرك الروسي المنظم نحو القوقاز، من خلال بناء المستعمرات، والقلاع على امتداد نهر "تَرًك"، وكلفت القوزاق المسيحيين بحماية هذه القلاع، وقامت روسيا أيضاً بإرسال البعثات التنصيرية لتنصير المسلمين. ولكن جهود المنصرين باءت بالفشل، واعترف بطريرك "استراخان" في عام 1774، "أن الديانة المسيحية في مناطق القوقاز لم تزل في البداية، بسبب إهمال الروحانيين الموكول إليهم أمر نشرها، وعدم قيامهم بواجبهم". وكان الروس قد قاموا بتأسيس مدرسة لتدريب أطفال القوقاز في "مزدوك"، إلا أن سياسة التنصير مُنيت بالفشل الذريع، لذلك قررت روسيا استخدام الأساليب العسكرية السافرة.

وعندما بدأت الهجمة الروسية على القوقاز، لم تكن كيانات سياسية موحدة، بل كانت كل قبيلة تنظم أمورها بمفردها، وفي حال تعرض هذه القبائل لخطر خارجي داهم، كانت تتحالف مع غيرها لصده. وبذلت الدولة العثمانية جهوداً كثيرة للتصدي للاستعمار الروسي. وشنت روسيا القيصرية 120 حرباً ضد العثمانيين الأتراك، استغرقت 150 عاماً. وشنت 60 حرباً ضد الصفويين الفرس، استغرقت 94 عاماً. وهكذا أضعفت روسيا كلاً من العثمانيين والإيرانيين، واستغلت الصراع الإيراني العثماني، ثم استفردت بكلٍّ منهما، على حدة، لتثبيت أقدامها في القوقاز. وبعد حروب طويلة بين الروس وبين كلٍّ من العثمانيين، والفرس، استطاعت روسيا القيصرية إرغام إيران على عقد معاهدة "تركمانكي" عام 1828، والتي اعترفت إيران، بموجبها، للقيصر الروسي بالسيادة على القوقاز. وأرغمت روسيا العثمانيين على التوقيع على سلسلة من المعاهدات مثل معاهدة "قينارجه" عام 1774 التي سلخت روسيا، بموجبها، منطقة القرم من الدولة العثمانية، وأُعطيت منطقة القبردي لروسيا من دون أن يكون لشعب القباردي أي علم بذلك. ثم اندلعت حرب جديدة بين العثمانيين وروسيا القيصرية وانتهت باضطرار تركيا إلى توقيع معاهدة أدرنة عام 1829، وفيها اعترف الأتراك بسيطرة الروس على شمال القوقاز.

واستمر الصراع بين القياصرة الروس، والشيشان، أكثر من 300 سنة، خضعت المنطقة، في نهايتها، لحكم القياصرة، وذلك في عام 1864. وعندما اندلعت الثورة البلشفية، في روسيا، في نوفمبر 1917، وسيطر الشيوعيون الروس على السلطة، خضعت لهم منطقة القوقاز برمّتها، حتى عام 1991.

ويمكن تقسيم مراحل الصراع الروسي ـ الشيشاني حتى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، إلى فترات، يحددها ما شهدته المنطقة من حروب ومعارك:

1. الفترة الأولى (1556 ـ 1604)

كانت علاقات الدولة العثمانية، خلال مرحلة القوة والازدهار، وحتى أواخر مرحلة التوقف والجمود، علاقات وطيدة بممالك وسط آسيا والقوقاز، حيث لعبت دوراً بارزاً في الصراع على أملاك القبيلة الذهبية (ألتون أُوردو)، حتى فازت بالقرم، وجزء كبير من القوقاز، وأوقفت الزحف الروسي في هذه المنطقة، مدة قرنَين من الزمان. وشكلت الدولة العثمانية، في تلك المناطق، ممالك تابعة لها، كانت عوناً لها على صراعاتها، شمالاً، مع القوى الصليبية الروسية، وغرباً، مع القوى الصليبية الهابسيورجية. ونظراً إلى اتصال أراضي تلك المناطق بالأراضي العثمانية، وتكوينها ثغوراً للدولة العثمانية، في الشمال والشرق، فقد سعت الحكومة العثمانية إلى توطيد علاقاتها بممالك آسيا الوسطى الإسلامية، وجهدت في مد خطوط المواصلات المباشرة معها، عبر مشروع الدون ـ فولجا.

وإذا كانت الدولة العثمانية قد أخفقت في تحقيق ذلك المشروع، إلا أنها استطاعت التنسيق مع ممالك وسط آسيا، لإضعاف الدولة الصفوية الشيعية. وكذلك، لم يحل بُعد المسافة بين تلك الممالك، في الشرق، والدولة العثمانية، في الغرب، دون حرص الطرفَين على أمن طرق الحجيج، الممتدة من تلك الأصقاع الإسلامية البعيدة، عبْر الأراضي العثمانية، إلى أرض الحرمَين الشريفَين.

سقوط القرم

بعد صراع طويل، بين خان القرم، حليف الدولة العثمانية، وروسيا القيصرية، على أملاك مملكة ألتون أُوردو، تمكن الروس من استغلال الظروف المضطربة، التي تعرضت لها القيادة العثمانية ـ القرمية المشتركة، في القرم، وراحوا يبسطون سيطرتهم على مركز تلك المملكة، استرخان (عام 963هـ/1556)؛ وبذلك، انحسر النفوذ العثماني في القرم. وإذا كان خانات القرم، قد اضطلعوا بدورهم في الصراع العثماني ـ الروسي، سواء في القرم، أو في البلقان؛ فقد تمكن الروس من إيجاد حلفاء لهم، من عائلة جيراي، التي كانت تحكم القرم، تحت الحماية العثمانية.

وكان لحلفاء الروس هؤلاء، أثر عظيم في فشل مشروع الدولة العسكرية، في الدون ـ فولجا. ومهما يكن من أمر، فقد كانت القرم خط الدفاع الأول عن الممالك العثمانية، والقوقاز، وممالك آسيا الوسطى الإسلامية؛ إذ كان خاناتها، ولا سيما دولة جيراي، في القرن 16، وسليم مراي الثالث، في النصف الثاني من القرن 17. ينفذون سياسة الدولة العثمانية في تلك المناطق؛ كما كانوا حلقة الوصل بين القيادة العثمانية، وممالك آسيا الوسطى، والقوقاز، في وقت واحد.

هكذا حاول الروس، خلال الفترة الأولى، التغلغل في شمالي القوقاز، حيث وصلوا إلى نهر تَرَك، وبنوا قلعة "بتريسكي جوردوك"، التي كانت موطئ قدم لهم للتغلغل، أكثر، في القوقاز. إلا أن حصونهم، دمرت، عام 1604، بمساعدة من العثمانيين؛ فتراجعوا إلى "أسترخان.

2. الفترة الثانية (1604 ـ 1783)

مرت الدولة العثمانية، خلال الربع الأخير من القرن 17، بأزمات، داخلية وخارجية، عديدة؛ إذ أخفقت جيوشها في حصار فيينا الأخير، عام 1683، وسقطت مناطق شاسعة في المجر، في يد النمسا. وأراد القيصر الروسي، بترو (1682 ـ 1725)، الاستفادة من هذه الحالة المضطربة في الدولة العثمانية، وبدأ يشن هجماته، صوب الجنوب، على آزاق وسواحل القرم، بعد أن استولى على كل المناطق الشمالية. ولم تضع نصوص معاهدة كارلوفيجه عام 1699 ـ التي قررت عدم محاصرة الروس قلعة آزاق؛ وعدم إنشائهم الحصون، على طول الحدود مع القرم؛ وإلغاء الجزية، التي كان يدفعها الروس إلى القرم ـ حداً لهذه التعديات، بل استمر الروس في إقامة تحصيناتهم، في تلك النواحي.

وفي 18 يوليه 1722، أبحر الإمبراطور الروسي، بطرس الأكبر، على رأس قوات من 22 ألفاً، من مدينة "استرخان"؛ وتحرك، براً، 9 آلاف فارس، و50 ألف قوقازي وتتري. وفي أعقاب احتلال "دربند"، عاد بطرس الأكبر إلى استرخان، وقاد القوات الجنرال ماتيوشكين. وفي ديسمبر 1722، احتلت هذه القوات ريشت؛ وفي يوليه 1723، دخلت باكو.

وأثارت عمليات القيصر الروسي، وقواته، في بحر قزوين (الخزر)، استياءً شديداً في الآستانة؛ حيث بذل السفير البريطاني قصارى جهده، لتأجيج ذلك الاستياء. وهدد العثمانيون بشن الحرب على روسيا؛ وأعلنوا أن شعوب القوقاز المسلمة، هي تابعة للإمبراطورية العثمانية؛ وأن بلاد فارس تطلب المساعدة من الباب العالي.

ولم تُخِف القيصر التهديدات العثمانية؛ لكنه أراد تسوية النزاع بالوسائل السلمية. وعلق آمالاً كبيرة على نيبلويف، سفيره لدى الآستانة، لتحسين العلاقات بالباب العالي. وقد أبلغ نيبلويف السلطان العثماني تصريح الإمبراطور الروسي: "نحن نوفر الحماية للشعوب، التي لا علاقة لها بالباب العالي مطلقاً، وتبعد عنه كثيراً، وتوجد على بحر قزوين، الذي لا يجوز أن نسمح لأي دولة أخرى بالوصول إليه". كان ذلك تحذيراً شديداً، اعتمد عليه نيبلويف في المفاوضات؛ وساعده السفير الفرنسي.

وفي 12 يونيه 1724، وقَّع الطرفان، في الآستانة، معاهدة اعترف الباب العالي، بموجبها، بضم الأراضي المتاخمة لبحر الخزر، إلى روسيا، التي اضطرت، بدورها، إلى الاعتراف للعثمانيين بالأراضي القوقازية، التي انتزعوها من بلاد فارس، وألحقوها بممتلكاتهم؛ وتخلى السلطان العثماني عن أطماعه في بلاد فارس. وبذلك، حصلت الحدود الجنوبية ـ الشرقية لروسيا، على أمان أكثر؛ زد على ذلك، أنه أمكن زحزحتها إلى الجنوب؛ وتعززت مواقع روسيا في القوقاز. وهيأ ذلك فرصاً جيدة لشعوب المنطقة، فيما يخص تأمين مستقبلها.

وبدأ الروس يستفيدون من السياسة العثمانية إزاء خانات القرم، فاستطاعوا خلق انشقاق في صفوف أسرة جيراي، وتشجيع المناوئين للعثمانيين من هذه الأسرة، وجعلهم منافسين لخان القرم. وبدأ الروس يشنون هجماتهم على القرم نفسها، عام 1770، إلا أنهم لم يتمكنوا من تحقيق أي نصر، حتى عام 1771، حين احتلوا (أورقابو)، التي تُعَدّ بوابة رئيسية لبلاد القرم. وعندئذٍ، التجأ خانها، سليم جيراي، وعدد كبير من مسلميها إلى إسلامبول. فانتهز الروس الفرصة، وعيّنوا أحد حلفائهم على القرم. وفي ظل هذه القيادة الجديدة، استطاعوا الاستيلاء على العديد من المواقع المهمة، والحصينة فيها، مثل (كفة)، ويكي قلعة، والكرج وغيرهما.

وإذا كانت قد وُقِّعت هدنة بين الطرفَين، عام 1772؛ إلا أن الروس نقضوها؛ وشنوا هجوماً شرساً على القرم، وقوبان، وكورجستان، في الوقت الذي كانت جيوشهم تشن حملاتها، على طول نهر طونة، شمالي البلقان.

وأخيراً، أُجبرت الدولة العثمانية، التي راحت تحارب على جبهات، يبلغ طولها آلاف الكيلومترات، في آسيا وأوروبا، في وقت واحد ـ على توقيع معاهدة كوجك فينارجه (1774)، التي منحت تتار القرم، والقوبان، والبوجاق، استقلالاً سياسياً؛ وظلوا مرتبطين بالدولة العثمانية ارتباطاً عقائدياً فقط. وتخلت الدولة العثمانية لروسيا، عن قلاع عدة، مثل آزاق، ويكي قلعة؛ إضافة إلى الأراضي المنحصرة بين نهرَي أوزي، وآق صو. وكسبت روسيا بذلك منفذاً على البحر الأسود، وأصبح لها اتصال مائي بالبحر المتوسط.

وأجبرت الضغوط الروسية ـ الفرنسية المشتركة، الدولة العثمانية، على التنازل عن أراضٍ شاسعة، أغلب سكانها من المسلمين السُّنة. وازدادت عليها الضغوط؛ بغية إضعاف جبهتها الداخلية، للتنازل عن بسرابيا، والأفلاق، والبغدان، وكورجستان (بلاد الكُرج) في القوقاز، تلك المناطق ذات الأكثرية النصرانية، والتي كانت دائمة العصيان.

وعلى الرغم من أن القرم، أصبحت ميداناً للتدخلات الروسية؛ وتعرض نفوذ الآستانة، في البحر الأسود والبحر المتوسط، لخطر عظيم؛ فإن الشعب المسلم، في القرم، لم يخضع للنفوذ الروسي المتزايد، بل عمد إلى حركة مقاومة، قادها علماؤه وأعيانه، الذين توجّه منهم ممثلون إلى إسلامبول، طالبين حماية الدولة العثمانية للقرم، وتعيين السلطان العثماني لخانها. وعندئذٍ، بادر الروس إلى تعيين شاهين جيراي، الذي راح لتوه، يصبغ القرم بالصبغة الروسية. ولم يلبث الجيش الروسي أن دخلها، عام 1778، لتأييده، بعد ما خرج عليه أهالي البلاد.

ومن ناحية أخرى، راح سفير فرنسا يثبط عزم السلطان العثماني عن مواجهة الروس في القرم، لتثبيت أقدام روسيا فيها. وبدأ الروس، منذ ذلك الحين، يطلقون أيديهم في البلاد، حيث شُكِّلَت جبهة لمواجهة الدولة العثمانية. وفي عام 1781، لجأ أهالي القرم إلى حركة عصيان عظيمة، امتدت في طول البلاد وعرضها؛ ما جعل شاهين جيراي على طلب المساعدة من حاكم أوكرانيا، التابع لروسيا، والذي ارتكب مذبحة رهيبة لمسلمي القرم، راح ضحيتها نحو 30 ألف مسلم. ومنذ عام 1783، أصبحت القرم واحدة من الولايات الروسية. وإذا كانت الدولة العثمانية، قد أعلنت الحرب على روسيا لإنقاذ القرم، إلا أن هذه الحرب (1787 ـ 1794)، أسفرت عن توطيد أقدام الروس فيها؛ ومهدت لبسط نفوذهم على القوقاز.

وبسقوط القرم، أصبح الطريق إلى القوقاز ممهداً أمام روسيا، الطامعة، منذ أواخر القرن 16، في الاقتراب من سواحل بحر الخزر (بحر قزوين)، والتي اشتد طمعها بعد توقيع معاهدة كارلوفيجه مع الدولة العثمانية. وبالفعل، وجّه القيصر الروسي عام 1720، حملة على القوقاز. ومنذ ذلك الحين ، أي عام 1720، بدأ الروس يوطدون علاقاتهم بالتجمعات المسيحية في المنطقة، كالأرمن، والكُرج؛ فحالفوهم في مواجهة الدولة العثمانية، وإيران، في آن معاً.

وفي الوقت، الذي كان يتعرض فيه شاه إيران لهجوم حاكم الأفغان، ويطلب من الحكومة العثمانية المساعدة على مواجهة الاعتداءات الأفغانية؛ كان الروس قد بدأوا يتحركون للسيطرة على السواحل الغربية لبحر قزوين(الخزر)، والقوقاز الجنوبية. وهكذا، رجحت الإدارة العثمانية تقديم المساعدات العسكرية لخان شيروان، داود خان، الذي كان يتعرض للهجوم الروسي.

وعلى الرغم من عدم تقديم القيادة العثمانية الدعم اللازم لإيران الشيعية، بحجة إيثارهم به خان شيروان السُّني، إلا إن هذا الدعم المزعوم، لم يصل إليه في الوقت الملائم؛ إذ سقط الساحل الغربي لبحر الخزر، وميناؤه في "دربند"، في يد الروس، عام 1722.

لم تتوقف الهجمات الروسية، حتى احتلت "باكو"، عام 1724. وعندئذٍ، بدأ أهالي هذه المناطق يستغيثون بالدولة العثمانية. ومال شاه إيران، طهماسب، الذي لم يتلق أي مساعدات عثمانية، إلى الروس، فاعترف باحتلالهم مدينتَي دربند وباكو، وتعهد للقيصر، عام 1724، بالتنازل عن جيلان، ومازندان، واستراباد، بشرط مساعدته على البقاء على عرش إيران. وهكذا، استفاد الروس من الصراع السني ـ الشيعي، بين إيران والدولة العثمانية، للتوسع في القوقاز.

ومن ناحية أخرى، راحت الدولة العثمانية توجّه جيوشها نحو الجنوب، صوب كورجستان. بيد أن الدبلوماسية الفرنسية، بادرت إلى الوساطة بين الروس والعثمانيين؛ فعقدت بينهما مباحثات سرية، أسفرت، عن اتفاقهما، على تقسيم غربي إيران؛ على أن تترك داغستان، وباكو والمناطق المحيطة بها، والمسكونة بالمسلمين، للروس؛ وتترك المناطق ذات الأكثرية الشيعية، للدولة العثمانية؛ الأمر الذي عرض الصدر الأعظم لانتقادات عظيمة، في الديوان الهمايوني.

وكانت الدولة العثمانية قد تنازلت عن قابارتاي، شمالي القوقاز، بموجب معاهدة كوج فينارجه، عام 1774؛ إلا أن مسلمي قابارتاي، الذين رأوا استعدادات الروس للتوجه جنوباً، صوب كورجستان، بدأوا المقاومة، تحت قيادة الشيخ منصور الداغستاني، وراحوا يطلبون المساعدة من الدولة العثمانية. فبادرت، في أكتوبر 1787، إلى إرسال والي طرابزون، مصطفى باشا، على رأس قوة عسكرية إلى "أنابا".

وهكذا، غابت منطقة القوقاز، خلال الفترة الثانية (1604 ـ 1783)، عن المسرح السياسي العالمي، لاتجاه روسيا نحو أوروبا. ولم تحدث أي اصطدامات مهمة، في هذه الفترة، سوى حملة بطرس الأكبر، عام 1722، الذي احتل مدينة "دربند"، على بحر قزوين. وفي ذلك العام، وقعت معركة بين الشيشانيين والروس، قرب بلدة "اندري"[2]؛ تكبد فيها الجيش الروسي خسارة كبيرة، سُميت بالكارثة.

3. الفترة الثالثة (1783 ـ 1824)

تمكن الروس من القضاء على القوة العسكرية بقيادة مصطفى باشا، والي طرابزون؛ فطلبت القبائل في قابارتاي المساعدة، مرة ثانية، من الحكومة العثمانية؛ فسارعت إلى توجيه بطال حسين باشا إلى المنطقة، ومعه عشرة آلاف مجاهد. غير أن القائد العثماني، توانى في تنفيذ مهمته؛ ما أغرى الروس بمحاصرة "أنابا"، عام 1790/1204، إلا أنهم فشلوا في فتحها. عندئذٍ، بادرت الدولة العثمانية إلى إرسال قوة عسكرية من جنود القابوقولي، ونحو 40 مدفعاً، و30 ألف جندي، لمساعدة مسلمي قابارتاي.

وسرعان ما خرج بطال حسين باشا على الدولة، والتجأ إلى الروس؛ فطالب رؤساء القبائل بقائد جديد لجيوش الدولة في المنطقة، فعينت والي طرابزون، واردروم صاري (عبدالله باشا)، الذي لم يتسلم عمله الجديد، نظراً إلى انشغاله في الأناضول. ومرة أخرى، كان اضطراب الأوضاع الداخلية في الدولة العثمانية، وحركات العصيان في أنحائها، سبباً في ضياع جزء آخر من أرض الإسلام؛ إذ حاصر الروس "أنابا"، ثانية، لتسقط، عام 1791، في أيديهم.

وشهد عهد الإمبراطورة كاترين (1762 ـ 1796)، أضخم التوسعات على حساب أرض الإسلام. وعلى الرغم من ذلك، فقد كان عهداً متسامحاً، نسبياً، مع المسلمين؛ إذ سمحت كاترين، عام 1767، للتتار المسلمين بالعودة إلى "قازان"، بعد أن شُردوا منها، ودمرت عام 1552، في عهد القيصر ايفان الرابع، المعروف باسم "ايفان الرهيب"، وعهود خلفائه. كما منحتهم، عام 1773، الحرية الدينية، وأذنت لهم في بناء مساجدهم ومدارسهم، للمرة الأولى، في تاريخ روسيا القيصرية. وإزاء تلك السياسة المتسامحة، انبرى التجار المسلمون، في القرن الثامن عشر الميلادي، لنشر الإسلام؛ ونشط المتصوفون، من أتباع الطريقة النقشبندية، في الدعوة إلى دين الله، في بلاد الشيشان، وبلاد الشركس، والأباظة (الأبخاز). ولم يكن عهد كاترين، جميعه، عهد تسامح مطلق؛ إذ عمدت إلى مصادرة كثير من أراضي تتار القرم الخصبة، ووهبتها لعشاقها المفضلين: بوتمكين، ويولجاكوف، وزوبوف، واليوناني كاتشيوني.

وقد حفلت الفترة الثالثة بالاعتداءات الروسية المركزة، على شمالي القوقاز، خلال فترة حكم الإمبراطورة كاترينا الثانية[3]. وخلفائها. إلا أن الشعوب القوقازية ردت بسرعة وعنف، بزعامة الشيخ منصور، والذي عمل على توحيد معظم شعوب شمالي القوقاز، للمرة الأولى، في حرب مقدسة ضد الروس، امتدت من عام 1785 إلى عام 1891.

4. الفترة الرابعة (1824 ـ 1899)

بدأت هذه المرحلة بثورة الشيشان، بزعامة "بيبولات"[4]، عام 1824؛ ثم حركة "المريدين"[5].

وقد أثرت عوامل كثيرة، داخلية وخارجية، في التوسع الروسي، في آسيا الوسطى والقوقاز، خلال هذه المرحلة.

أ. العوامل الداخلية

(1) ركز القيصر نيقولا الأول (1825 ـ 1855)، جهوده في السيطرة على منطقة القوقاز، في النصف الأول من القرن التاسع عشر؛ فبنى خطاً من الحصون لمحاصرة قبائلها، والقضاء على مقاومتها. ولكن الزعيم القوقازي، "غازي ملا"، نجح في إعلان الجهاد الإسلامي في مواجهة الروس؛ وهذا ما أدى إلى التفاف القبائل حوله، أكثر من عشرين عاماً. وتمكن، عام 1831، من الاستيلاء على المدن الروسية المهمة، في قيزيل يار، وهاجم دربند، والشيشان. إلا أن الروس كثفوا الحملات العسكرية عليه؛ ما اضطره إلى التراجع إلى جبال داغستان، حيث قتله الروس. فتسلم راية الجهاد والمقاومة، من بعده، قائده، الشيخ شامل، الذي نجح، عام 1837، في توسيع دائرة العمليات العسكرية في مواجهة القوات الروسية، حتى شمال داغستان؛ وساعده على الصمود نجاحه، ومقدرته العسكرية الفائقة على تحريك قواته سريعاً؛ حتى إن قادة الروس، أطلقوا على هذه القوات اسم "القوات المتحركة". ولكن، بانتهاء حرب القرم، عام 1856 كُثِّفت الحملات العسكرية على الشيخ شامل، حتى اضطر إلى الاستسلام، في 25 أغسطس 1859؛ ونجح الأمير الروسي، بارياتنسكي (Bariatinski)، في الاستيلاء على جونيب (Gunib)، العاصمة. وأسفر القضاء على ثورة الشيخ شامل، في القوقاز، عن تأمين الوضع العسكري في المنطقة، فبدأ التقدم الروسي في خانات آسيا الوسطى، التي كانت مناطق مجهولة، بالنسبة إلى الدول الأوروبية، والعالم الغربي.

(2) أدت حاجة روسيا إلى حدود طبيعية، يسهُل الدفاع عنها، إلى التوسع في منطقة الخانات، ومنها الشيشان؛ نظراً إلى موقعها الإستراتيجي والعسكري المهم، وثرواتها الطبيعية، خاصة القطن. وقد واكبت فترة التوسع ازدهار الصناعة في أوروبا، فكان لزاماً على روسيا، أن تلحق بالتطور الجديد.

(3) أدى إغلاق اليابان الطريق أمام التوسع الروسي، في شرق سيبيريا، إلى اتجاه الروس نحو تركيز قواتهم العسكرية في آسيا الوسطى، والقوقاز، وضمنها الشيشان.

(4) دأب حكام الخانات الإسلامية على مهاجمة القوافل الروسية، فانتهز القادة الروس ذلك لتوجيه ضربة إليهم؛ خاصة أن القلاع الروسية كانت متناثرة بين القاعدة الروسية المهمة، في أورانبرج، وبين بحر قزوين، والمناطق الجنوبية. فعمل القادة الروس على إقامة سلسلة من الحصون والقلاع المتصلة. ولم يكتفوا بتقوية القاعدة الأساسية، في أورانبرج، في الشمال؛ وإنما أنشأوا قاعدتَين عسكريتَين أخريَين، أدتا دوراً مهماً في غزو الخانات، والقوقاز، وهما: قاعدة كرسنوفودسك، في بحر قزوين غرباً، وقاعدة فرنوي شرقاً. أضف إلى هذا استفادة الروس من الفرقة بين حكام الخانات، وعدم توحيد صفوفهم.

(5) كشفت هزيمة روسيا في حرب القرم، عن ضعف القوات الروسية، خاصة أن القوات، الفرنسية والبريطانية، تمكنتا من إذلال الحكم العسكري المطلق وقهره؛ كما أن الثورات المروعة، نمّت على الفساد والعجز؛ ناهيك عن حاجة البلاد إلى إعادة البناء، في كافة المجالات، إلى جانب ضرورة العمل على رفع الروح المعنوية للقادة والشعب، وإثبات عظمة روسيا وقوّتها، بعد هزيمتها المُذلة. فكان التوسع العسكري في أراضي الخانات، والقوقاز لتحقيق أمجاد عسكرية، وتعويض الفلاحين الروس عن معاناتهم إجراءات الحكومة القيصرية وسوء أحوالهم الاقتصادية.

(6) رغبة الروس في نشر مذهبهم الأرثوذكسي، ومحاربة الخانات الإسلامية، ومحاولة زعزعة العقيدة الإسلامية، وتأمين حدودهم الجنوبية. فقد أدرك قياصرة الروس خطر الإسلام عليهم، بعد ما بذلوه للقضاء على حركة الشيخ شامل في القوقاز، والشيشان؛ فإعلان الجهاد، وحده، كفيل بحشد الأتباع والقبائل. ولا جدال في أن قياصرة روسيا، رأوا أنفسهم الورثة الحقيقيين للإمبراطورية البيزنطية، وأنهم حماة المذهب الأرثوذكسي، وأن عليهم العمل على نشره؛ وهو ما حدث، فعلاً، بعد تحقيق التوسع في منطقة آسيا الوسطى.

ب. العوامل الدولية

حفزت روسيا إلى التوسع في الخانات الإسلامية، والقوقاز، والشيشان ـ ظروف دولية عدة، ولا سيما هزيمتها في حرب القرم، بينها وبين الدولة العثمانية، الناجمة عن اختلافهما في تصاعد النفوذ الأوروبي في الأماكن المقدسة، حيث تفاقم الموقف، بتأييد فرنسا، وبريطانيا، والنمسا، وبروسيا، للدولة العثمانية على روسيا، التي استخدمت الدعاية الدينية، لتثير على العثمانيين مشاعر الروم الأرثوذكس، بعبارات صليبية. واندلعت الحرب بين الطرفَين، وانتهت بهزيمة روسيا في حرب القرم، وتوقيعها معاهدة باريس، في 30 مايو 1856؛ وهي المعاهدة التي أقرت السلام بين الدول المتحاربة؛ وأكدت منع مرور السفن الحربية في المضايق؛ وحياد البحر الأسود، مع تقديم كافة التسهيلات في موانئه؛ وقبول الدولة العثمانية تعيين قناصل للدول الأوروبية.

وفي 14 أبريل 1856، عقدت النمسا، وفرنسا، وبريطانيا معاهدة الضمان، التي تعهدت فيها الدول الثلاث بالعمل على استقلال الدولة العثمانية، وعدم خرق مواد معاهدة باريس.

قضت حرب القرم على هيبة روسيا، دولياً، لفترة طويلة، وقضت على مشروعاتها التوسيعية غرباً؛ فاضطرت إلى التخلي، مؤقتاً، عن فكرة تقسيم الدولة العثمانية، ونشطت للتوسع في آسيا. وفقد مكانتها في القارة الأوروبية، وكلمتها الفاصلة في السياسة الدولية، بدليل إتمام الوحدتَين، الألمانية والإيطالية، من دون أن يكون لها تأثير فعلي مباشر.

بيد أن انشغال دول أوروبا بنفسها، ذاته جعل الظروف الدولية مهيأة لتوسع روسيا في وسط آسيا، فقد صمم ألكسندر الثاني على تحقيق أهدافه العسكرية، وأحلامه، وطموحاته. ولم يكتف بذلك، بل استغل الظروف الدولية، للتخلص من شروط معاهدة باريس؛ فعمل على إنهائها، عام 1870، منتهزاً نشوب الحرب البروسية ـ الفرنسية. واضطرت الدول الأوروبية إلى قبول ذلك، خوفاً من اندلاع حرب في أوروبا.

وسلكت روسيا غير سبيل، في توسعها في خانات آسيا الوسطى، والقرم، والشيشان. وأدرك القادة الروس، أنه لكي يتمكنوا من تحقيق أهدافهم، التوسعية والاستعمارية، فلا بدّ لهم من توجيه ضربة، عسكرية قوية، ضد المناطق الإسلامية، خاصة أن الخانات كانت جيدة التنظيم إلى حدٍّ كبير.

وبفضل القوة العسكرية والأسلحة الحديثة، تمكن الروس من إلحاق الهزائم بالخانات الإسلامية، والقوقاز، والشيشان. كذلك لم يحاول سكان الخانات التعاون، فيما بينهم، على مواجهة الخطر الزاحف إليهم؛ فالمقاومة الإسلامية لم تكن منظمة، بل يمكن القول: إنها كانت ضعيفة في بعض المناطق؛ فضلاً عن أن روسيا لجأت إلى استخدام القسوة، من قتل وإرهاب. كذلك، أسهمت الظروف الدولية في إتاحة الفرصة؛ أمام الروس للتقدم والتوسع، خاصة بعد هزيمتهم في حرب القرم، وتحديد مناطق نفوذهم في البلقان؛ فأصبحوا أمام خيار واحد: التوسع في الأراضي الآسيوية.

وقامت شعوب القوقاز بثورات عظيمة ضد الروس، ولعل أهم هذه الثورات تلك التي قادها المريدون، وكانت أول ثورة من ثورات المريدين ثورة الشيخ منصور الشيشاني، التي بدأت عام 1785.



[1] القبيلة الذهبية جاءت من اللفظة التركية "أوردو" Ordu، ومعناها المخيم، أما وصفها بالذهبية فيرجع إلى الخيمة ذات القبة التي كانت موشاة بالذهب. وقد عرفت الإمبراطورية المغولية في أوج قوتها باسم ألتون أوردوaltun Ordu أي الجيش الذهبي

[2] اندري  Enderee: بلدة شيشانية تقع على نهر أكتاش  Aktash بين محافظتي "خسف يورث" و"جروزني" وهي أقرب إلى "خسف يورث

[3] كاترينا الثانية (1762-1796): تولت حكم روسيا بعد وفاة الإمبراطورة القيصرية "اليزابيث"، عام 1761، وبعد بطرس الثالث الذي قُتل في السنة نفسها. ومنذ عام 1762، اجتذبت شؤون القفقاس انتباهها. وقد حاربت العثمانيين وانتصرت عليهم واقتطعت جزءاً من أراضيهم، كما تمكنت من احتلال باقي القفقاس

[4] بيبولات: وهو تيمي بيبولات Baibulat Taimi ، قائد شيشاني، تزعم الثورة الشيشانية ضد الحاكم الروسي يرملوف عام 1824

[5] المريدون: حركة صوفية جهادية تتبع الطريقة النقشبندية، حملت راية الجهاد ضد الروس، وبدأت هذه الحركة عام 1830 بزعامة الشيخ غازي محمد. التي بدأت عام 1830، بزعامة الشيخ غازي محمد؛ ومن بعده الشيخ حمزات؛ ثم الشيخ شامل، الذي امتد جهاده من عام 1834 وحتى عام 1859. واستمرت المقاومة، بعد ذلك، حتى عام 1864؛ إلا أن الروس تمكنوا من احتلال شمالي القوقاز برمّته