إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / المشكلة الشيشانية





منطقة القفقاس (القوقاز)

الجمهوريات والمقاطعات
جمهوريات وأقاليم القوقاز
خريطة إمارة القوقاز
خريطة الأقاليم المحلية والمدن



المبحث الرابع

 

10. اتفاق أغسطس 1996

أسفرت حرب الشيشان الأولى (1994 ـ 1996)، عن قتل كثير من المدنيين، راوح عددهم بين 50 و80 ألفاً. وانتهت إلى اتفاق، وُقِّع في أغسطس 1996، يحدد نهاية عام 2001 موعداً لتقرير العلاقة المستقبلية، بين روسيا والشيشان. ولكنه أثار إشكالية، حكمت تصورات الطرفَين وتصرفاتهما، منذ أغسطس 1996، حتى تفجُّر الصراع، مرة ثانية، في 14 أغسطس 1999، وتمثلت في تفسير كلٍّ منهما للاتفاق، بأنه يعني نصراً له. فالشيشانيون رأوه تكريساً لاستقلالهم، الذي أعلنه رئيسهم السابق، دوداييف، في أكتوبر 1991، وأضفى عليه الشرعية القرار الصادر عن البرلمان الشيشاني، في مارس 1992. أمّا الروس، فقد رأوه تكريساً لشرعية سيطرتهم على المنطقة الجنوبية من الاتحاد السوفيتي.

11. الاجتياح الروسي الثاني للشيشان

سبق الاجتياح الروسي الثاني للشيشان، في 14 أغسطس 1999، توترات حدودية، بين داغستان وروسيا والشيشان، تلتها محاولات شيشانية للسيطرة على المناطق والقرى الداغستانية، الواقعة قرب الشريط الحدودي بين البلدين. ثم جاء الرد الروسي، لدرء الخطر عن داغستان، على أثر تفجيرات عديدة، شهدتها موسكو وداغستان؛ وهي التفجيرات التي حملت روسيا الشيشان مسؤوليتها، واتخذتها ذريعة منطقية لبدء اجتياحها الثاني. وكان لكلٍّ من طرفَي الصراع، دوافعه ومبرراته.

أ. دوافع الشيشان ومبرراتها

يُعَدّ الشيشانيون أكثر الأعراق السكانية، في منطقة شمالي القوقاز، وأشدها كفاحاً، على مر التاريخ، من أجل بسط سيادته على ذلك الإقليم. وبعد توقيع اتفاق عام 1996، حسب الشيشانيون أن كيانهم المستقل قد تحقق على أرض الواقع، وأن ما سيحدث عام 2001، هو اعتراف رسمي روسي بالشيشان، كدولة لها أرض، وحدود، وشعب، وحكومة ذات سيادة؛ فدبأوا يحلمون بإمبراطورية شمالي القوقاز الإسلامية، التي لن تتأتّى إلا بالمسارعة إلى: ضم داغستان، وإنجوشيا، وبقية الجمهوريات الإسلامية الصغيرة، المنضوية تحت الاتحاد الروسي؛ لإدراج ذلك في المفاوضات، التي ستنعقد عام 2001.

انطلاقاً من ذلك، استغل قادة الشيشان الاضطرابات، التي وقعت بين حكومة داغستان وقطاع عريض من شعبها ذي الأغلبية الإسلامية، كشعب الشيشان؛ فأرسلوا قواتهم إليها، لتحرير الشعب الداغستاني من السيطرة الروسية، ظاهراً؛ وتحقيق الحلم الشيشاني، باطناً. واختطوا، لبلوغ مقصدهم، إستراتيجية ثلاثية المراحل:

(1) التوعية: قوامها دعوة الناس للعودة إلى الأصول الإسلامية؛ ورفض الوجود الروسي في داغستان، وحتمية مقاومته. واعتمدت هذه المرحلة على أشرطة التسجيل، والإذاعة الموجهة، وبعض الطلبة أتباع الشيشان.

(2) التدريب: عماده نقل مستجيبي الدعوة، من الشباب الداغستاني، إلى معسكرات خاصة، يشرف عليها المقاتل العربي، ابن الخطاب، لتدريبهم على جهاد كل ما هو غير إسلامي.

(3) الجهاد: هو تنفيذ ما جرى التدريب عليه، من رصد مناطق الوجود الروسي في داغستان؛ إلى تأمين طرق الوصول إليها؛ إلى التنسيق مع ولاة تلك المناطق وحكامها، من أجل تخزين السلاح فيها، ووجود المجاهدين داخلها؛ وصولاً إلى تنفيذ هجمات مؤثرة في القوات الروسية.

غير أن أول عملية، كان مخططاً تنفيذها في قرية كومادا، خلال أغسطس 1999، اكتُشفت، فبادرت القوات الروسية إلى مهاجمة المجاهدين، داخل القرية، الذين استنجدوا بالشيشان. وكان مقدم الشيشانيين لمساعدة أصدقائهم، بداية لتفجر الصراع؛ إذ تدفقت القوات الروسية المدججة في السلاح والطائرات الحديثة، لتنطلق شرارة الصراع الروسي ـ الشيشاني. ولكن، هذه المرة، داخل الأراضي الداغستانية، في القرى القريبة من الشريط الحدودي، بين الشيشان وداغستان. واستمر الصراع، طوال الفترة من 14 أغسطس 1999 إلى 22 سبتمبر 1999، محصوراً داخل الأراضي الداغستانية؛ غير أن القيادة الروسية، قررت، في 23 سبتمبر 1999، اجتياح جمهورية الشيشان نفسها.

ب. دوافع روسيا ومبرراتها

(1) مسؤولية الشيشان عن التفجيرات، التي وقعت في موسكو وداغستان، اللتَين شهدتا ستة تفجيرات، أودت بحياة ما يقرب من 300 مواطن، ثلاثة منها في موسكو، في 31 أغسطس و9 و13 سبتمبر؛ والأخرى في جمهورية داغستان، في مدن بويناكسك، وسان بطرسبرج، وفولجودونسك؛ وقد اتهمت روسيا الشيشان اتهاماً صريحاً بالمسؤولية عن تلك التفجيرات.

(2) استباق موعد الانتخابات، التي تُعَدّ أحد العوامل المهمة، التي دفعت القيادة إلى اتخاذ قرار اجتياح الشيشان؛ سعياً من قادة الكرملين إلى تبديد اتهامهم بالفساد واستغلال المناصب والانقسامات؛ عبْر انتخابات مجلس الدوما (البرلمان)، التي جرت في 19 ديسمبر 1999، والتي سبقتها اتهامات عديدة من جانب المعارضة، والخارجين من النخبة السلطوية، باحتمالات التزوير وعدم النزاهة والعدالة في الدعاية؛ وذلك لمصلحة كتلة "الوحدة"، التي تُعَدّ ممثلة للكرملين، والتي شكَّلها، منذ شهرَين، سيرجي تشويجو، وزير الطوارئ الشاب في حكومة بوتين. فضلاً عن انتخابات الرئاسة، المزمع إجراؤها خلال مايو 2000، والتي زكىّ فيها يلتسين رئيس وزرائه، فلاديمير بوتين.

(3) اقتراب عام 2001، وضرورة القضاء على متمردي الجنوب، بدلاً من مفاوضة وضع الشيشان المستقبلي. فقد آثرت روسيا، بعد النهج الشيشاني في داغستان؛ وقدرتها على إلصاق تهمة التفجيرات بالمقاتلين الشيشانيين ـ حسم الأمور في مصلحتها، قبل حلول عام 2001، والتغاضي عن اتفاق عام 1996. وهو ما تضمنه تصريح وزير الداخلية الروسي، فلاديمير روشيلو، الذي قال فيه: "إنه للمرة الأولى في تاريخ روسيا، تتمكن مجموعة من المجرمين، من بسط سيطرتها على واحدة من الجمهوريات الفيدرالية. وتتمكن، بمساعدة قوى خارجية، من ممارسة أنشطة تخريبية، داخل العاصمة موسكو .. إن هدفهم السيطرة على أهم إقليم جغرافي إستراتيجي في البلاد، بغية إنشاء معسكرات لاحتواء الإرهابيين الدوليين، وممارسة تدريباتهم. وفي النهاية، سيؤدي ذلك إلى نشر عملياتهم الإرهابية في العالم كله".

(4) رغبة القيادة العسكرية الروسية في الانتقام من المقاتلين الشيشانيين، الذين كانوا قد وجهوا إليها ضربات موجعة، في الاجتياح الأول، مما أجبرها على وقف القتال، وإعلان الاتفاق معهم.

12. العمليات العسكرية الروسية

مهدت القيادة السياسية ـ العسكرية الروسية لعملياتها، بإعداد معنوي للجنود الروس. كما أعدت الرأي العام الروسي إعداداً صحيحاً، لتقبّل الاجتياح الروسي للشيشان، وذلك من خلال استخدام الآلة الدعائية الروسية، الرسمية والخاصة، في تحميل الشيشان مسؤولية التفجيرات، التي أودت بحياة ما لا يقلّ عن 300 مواطن روسي.

وحرصت القوات الروسية على قطع خطوط الاتصالات الشيشانية، السلكية واللاسلكية، وتلك المحمولة، التي كان لها دور كبير في تفعيل المقاومة الشيشانية، إبّان الاجتياح الأول؛ من طريق ضرب محطات الإرسال والتقوية والمقسمات (السنترالات). كما عززت روسيا قواتها في الشيشان، بطائرات عمودية، من نوع "القرش الأسود"؛ وهي طائرات متطورة، قادرة على تعقب المقاتلين الشيشانيين، في السهول والجبال وأماكن اختبائهم، بما فيها الكهوف الجبلية؛ وذلك تفادياً لمواجهتهم مواجهة مباشرة، كانت قد أسفرت، إبّان الاجتياح الأول، عن خسائر كبيرة في القوات الروسية، البرية والآلية.

تولى قيادة العمليات العسكرية الروسية، خلال الاجتياح الثاني، وزير الدفاع، المرشال سرجيف، الذي أشرف عليها، وكان المسؤول الأول عنها. أمّا القيادة الميدانية، فقد تولاها رئيس الأركان، الجنرال أناتولي كفشانين، يعاونه ثلاثة ضباط، كانوا تولوا إمرة مجموعات القتال في الجبهات الرئيسية في الشيشان، وهم: الجنرال فيكتور كازانتسيف، قائد القوات المركزية لمنطقة القوقاز الشمالية، الذي أرغم القوات الشيشانية على الانسحاب من داغستان، عند بدء الصراع؛ والجنرال جينادي تروشيف، قائد المجموعة العسكرية الروسية، الزاحفة نحو جروزني من داغستان، في الشرق؛ والجنرال فلاديمير شامونوف، قائد المجموعة العسكرية الروسية، الزاحفة نحو جروزني من إنجوشيا، في الغرب، والتي واجهت أصعب الطرق إلى العاصمة الشيشانية، نظراً إلى الطبيعة الجبلية للمنطقة؛ وعلى الرغم من ذلك، فقد نفذت مهامها بنجاح، وأسهمت بدور كبير في إسقاط العديد من المدن الإستراتيجية الشيشانية، وغيرها في داغستان وإنجوشيا. وكان هدف القيادة الروسية، السياسية والعسكرية، من هذا الاجتياح، القضاء على المقاتلين الشيشانيين، واحتلال العاصمة، جروزني. وكانت القيادة العسكرية تتوقع ألا تدوم العمليات أكثر من أسابيع معدودة، وأعلنت القيادة الروسية أنها ستنتهي في فبراير 2000. وبدأت العمليات العسكرية، في 23 سبتمبر 1999، باجتياح الشيشان؛ ومرت بثلاث مراحل، هي:

أ. المرحلة الأولى: السيطرة على المدن والقرى الشيشانية، الواقعة على الحدود مع روسيا وإنجوشيا وداغستان.

ب. المرحلة الثانية: تطويق العاصمة، جروزني؛ والزحف في ما يشبه الهلال، لإحكام التطويق والسيطرة على كل المدن والجسور الإستراتيجية. وفي هذه المرحلة، سقطت المدن الإستراتيجية الرئيسية، مثل: جوديرميس، وشالي، ومنطقة أوروس مارتان. واستكملت القوات الروسية حصار جروزني.

ج. المرحلة الثالثة: اقتحام العاصمة الشيشانية، خلال فبراير 2000، وتدميرها تدميراً تاماً، وقتل وإصابة عدد كبير من المقاتلين الشيشانيين، وهذا ما أجبر قيادتهم، وعدداً كبيراً منهم، على الانسحاب إلى منطقة الجبال والممرات الحاكمة. ولم تقتحم القوات الروسية جروزني، إلا بعد غارات جوية مكثفة.

وتكبدت القوات الروسية خسائر فادحة، خلال اقتحامها العاصمة الشيشانية، إذ دارت معارك من شارع إلى شارع.

13. الموقف الدولي

اختلف الموقف الدولي، خلال الاجتياح الروسي الثاني للشيشان، عنه في الاجتياح الأول:

أ. الموقف الدولي، خلال الاجتياح الأول

منذ اللحظة الأولى لتفجر العمليات العسكرية، لم تظهر معارضة دولية للتدخل العسكري الروسي في الشيشان؛ إذ عُدَّ شأناً روسياً داخلياً. واقتصر رد الفعل الدولي، في البداية، على الجوانب الأخلاقية، الكامنة وراء غزو الشيشان، في إطار ما ذُكر عن تزايد نفوذ "المافيا" فيها، وتورط نظام جوهر دوداييف في عمليات، لتهريب المخدرات، والاتجار في السلاح. وبعد سقوط جروزني، ومواصلة القوات الروسية الاستخدام المكثف للسلاح، ظهر بعض الانتقادات الغربية لعمليات انتهاك حقوق الإنسان، وتزايد أعداد الضحايا المدنيين. وفي هذا الإطار، لوح الاتحاد الأوروبي بالضغط على موسكو، اقتصادياً، بتأجيل توقيع اتفاق اقتصادي معها. كما صعَّدت ألمانيا من اتهاماتها بانتهاك حقوق الإنسان.

وعندما لوحت الولايات المتحدة الأمريكية، بوقف المساعدات الاقتصادية لموسكو، احتجاجاً على انتهاك حقوق الإنسان، أعلن وزير الدفاع الروسي، بافيل جراتشيف، نية بلاده في عدم الالتزام بنصوص معاهدة خفض الأسلحة التقليدية والقوات البرية في أوروبا، الموقعة عام 1990؛ وطالب بمراجعة المعاهدة، حتى تتمكن موسكو من نشر أكبر عدد من قواتها، في منطقة جنوبي القوقاز. وأكد الفكرة نفسها القائد الأعلى للقوات البرية الروسية، الذي أعلن أن "تشكيل جيش في القوقاز، ينافي معاهدة خفض الأسلحة التقليدية؛ ولكن ضرورات أمن الأراضي الروسية وسلامتها، لها الأولوية على مواد هذه المعاهدة".

وفيما يتعلق بدول الجوار الإسلامية، فقد أكدت إيران، أن النزاع في الشيشان أمر روسي داخلي؛ وأنها تؤيد وحدة الأراضي الروسية. أمّا تركيا، العدو التقليدي لروسيا في المنطقة، فقد حاولت تبني موقف، ضد الغزو الروسي للشيشان، فدانته رئيسة الوزراء التركية، تانسو تشيلر، في 11 يناير 1995. غير أنها اضطرت إلى التراجع، بعد أن استدعت الخارجية الروسية، السفير التركي لدى موسكو، وقدمت إليه احتجاجاً رسمياً على تدخّل الاستخبارات التركية في الشؤون الداخلية الروسية، على أثر القبض على أحد عملاء جهاز الاستخبارات التركية في الشيشان. وانتهي الأمر بإقرار الحكومة التركية بالأمر الواقع، الذي أيدته المواقف الدولية المختلفة؛ وجاءت مساعداتها الإنسانية لشعب الشيشان، عبر التنسيق مع السلطات الروسية، على الحدود بين الشيشان وإنجوشيا.

أمّا دول وسط آسيا الإسلامية، فهي، وإن كانت مؤيدة، بصفة عامة، لوحدة الأراضي الروسية، لم تكن تنظر بارتياح إلى الاستخدام المكثف للقوة المسلحة، ضد شعب الشيشان؛ ولم يصدر عنها ما يُفهم منه معارضة الغزو المسلح، ولا تأييد الحركة الانفصالية للشيشانيين.

وبنَت الدول الكبرى، ولا سيما الغربية، مواقفها، على أساس أن غزو الشيشان، هو شأن روسي داخلي؛ انطلاقاً من إدراكها للعواقب، التي يمكن أن تترتب على تفكك روسيا الاتحادية، وعلى عمليات التحول إلى دولة ليبرالية على الطراز الغربي؛ أو العواقب، التي يخلفها هذا التفكك على الأمن الأوروبي، واحتمالات وقوع عشرات الحروب، الأهلية والعِرقية، في القوقاز، وباقي أنحاء روسيا الاتحادية؛ إضافة إلى عدم وجود مصالح حيوية، تبرر إثارة روسيا واستفزازها، من جراء معارضة غزو الشيشان. وكذلك الخوف من أن تؤدي معارضة هذا الغزو، إلى بروز القوى القومية المتطرفة في روسيا، والمناوئة للغرب، على نحو يمثل تهديداً رئيسياً للأجواء، التي سادت بعد انتهاء الحرب الباردة.

لذلك، اقتصر رد الفعل الدولي على الدعوة إلى مراعاة حقوق الإنسان، والبحث عن تسوية سياسية للصراع، تبقي الشيشان جزءاً من الاتحاد الروسي، وعدم الاعتماد على الخيار العسكري.

ب. الموقف الدولي خلال الاجتياح الثاني

لم يُتَّخَذ أي موقف دولي من الاجتياح الروسي الثاني للشيشان، إلا بعد شهرَين، تقريباً، من اندلاعه؛ وتحديداً في 19 نوفمبر 1999، مع اختتام قمة منظمة الأمن والتعاون الأوروبيَّين؛ إذ وقَّع زعماء 54 دولة، من بينها الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا، ميثاقاً للأمن الأوروبي، يرسي مبدأً مهماً؛ يَعُدّ الصراعات داخل حدود الدولة الواحدة، شأناً يهُم جميع الدول الأخرى. وفي هذا الإطار، اتفق زعماء المنظمة على أن التوصل إلى حل سياسي في الشيشان، أمر ضروري؛ وعلى أهمية أن تسمح موسكو لوفد دولي، بزيارة منطقة الصراع.

غير أن روسيا، رفضت، بعد ذلك بأيام، طلب كندا ومجموعة من الدول الأخرى، مناقشة الصراع في شمالي القوقاز، داخل مجلس الأمن؛ إذ أكد مندوبها إلى الأمم المتحدة، سيرجي لافاروف، أن هذا الموضوع لا علاقة له بمجلس الأمن، الذي يجب أن يناقش المسائل، التي تهدد السلام والأمن الدوليًّين فقط.

إزاء ذلك، دان الموقف الدولي ممارسات القوات الروسية في الشيشان، والقصف العشوائي، الذي تمارسه مقاتلاتها، والذي أنزل خسائر جسيمة بالمدنيين، خاصة بعد إنذار إخلاء جروزني، قبل مساء السبت 11 ديسمبر 1999. غير أن كل الإدانات الدولية، ذيلت بياناتها بضرورة البحث عن حل سياسي للصراع في شمالي القوقاز، بما يضمن سلامة الأراضي الروسية ووحدتها، إلى جانب ضمان حقوق المواطنين الشيشانيين، وعودة اللاجئين منهم إلى ديارهم.

14. المشكلة الشيشانية، في إطار القانون الدولي

هناك اتجاهان لتفسير العلاقة بين الشيشانيين والروس:

أ. الاتجاه الأول: يقول بأن الشيشان جزء لا يتجزأ من الاتحاد الروسي؛ ورسخ ذلك بقاؤها لفترة طويلة، خاضعة لسيطرة القياصرة والشيوعيين. ومن حق السلطة المركزية في موسكو، المحافظة على وحدة روسيا الاتحادية، التي ورثت الاتحاد السوفيتي السابق وراثة كاملة؛ والشيشان من ضمن هذه التركة.

ب. الاتجاه الثاني: يقول بحق تقرير المصير لشعب الشيشان؛ ويرى أنهم يختلفون عن بقية شعوب الاتحاد الروسي، اختلافاً كلياً، في الدين، والعِرق، واللغة، والثقافة، والتاريخ، والمزاج. وهم لم يكونوا راضين عن وجودهم ضمن الاتحاد الروسي، في العهدَين، القيصري والشيوعي؛ بدليل ثوراتهم العديدة ضد روسيا.

هكذا، يتلوّن القانون الدولي، ويكيل بمكيالَين. فيجعل قضية جمهوريات البلطيق الثلاثة: أستونيا ولاتفيا وليتوانيا، قضية دولية، ويطالب بحق تقرير المصير لشعوبها، وتُمارس الضغوط على روسيا لتسحب البقية الباقية من قواتها في تلك الجمهويات. بينما يجعل قضية الشيشان مشكلة روسية داخلية، وينكر عليها حقها في تقرير مصيرها، بل تُشَجَّع موسكو على البطش بها!

ثانياً: حركة الهجرة والنزوح لشعب الشيشان

1. الهجرة والنزوح

تُعَدّ الهجرة عملية ديموجرافية معقدة، بطبيعتها وبأشكالها ونتائجها. وتُعرف بأنها انتقال السكان من أرض، تُدعى المكان الأصلي أو مكان المغادرة، إلى أرض أخرى، تُدعى مكان الوصول.

ولقد شهد العالم موجات هجرة كثيرة لشعوب عديدة ـ من ضمنها الشعب الشيشاني ـ غادرت موطنها الأصلي، لأسباب عديدة: اقتصادية، واجتماعية، وثقافية. وإذا كان البعض يرى أن خروج المهاجرين الشيشانيين من موطنهم، كان فيه شيء من الاستعجال، وهذا ما أتاح للروس فرصة أكبر للعبث ببلادهم، وإشاعة الفساد، والتغيير في معالم حضارتهم، وحقيقة جهادهم، الذي استمر أكثر من ثلاثمائة عام، وهم يقارعون الغزاة بكل ما يملكون؛ فإن البعض الآخر، يرى خروجهم إستراتيجية بعيدة المدى، لحفظ نوعهم من الانقراض، ولدعم صمود أهلهم، مادياً ومعنوياً، والتخطيط من أجل العودة، بقوة، إذا ما أُتيحت الفرصة لذلك.

لقد بدأت الهجرة الشيشانية، على شكل جماعات منظمة، بقيادة زعماء قبليين أو دينيين، مثل شيوخ الطرق الصوفية، منذ عام 1865. وكانت أفواج المهاجرين تتوجه، بداية، إلى الدول المجاورة، خاصة تركيا، التي كانت تتزعم العالم الإسلامي، ومنها تستأنف رحلتها إلى الدول الأخرى، خاصة بلاد الشام.

لقد اتخذ الشيشانيون من تركيا محطة أولى لإقامتهم، قبل أن يواصلوا المسير، والبحث عن أماكن أخرى لاستقرارهم؛ فهي الدولة الإسلامية، التي كان سلطانها يمتد على معظم البلاد الإسلامية؛ وكان المستضعفون من المسلمين، يطمعون في نصرتها وتأييدها، والوقوف إلى جانبهم، ويشعرون بالأمن والأمان في كنفها، لاعتقادهم أن في مقدورها حمايتهم والدفاع عنهم؛ فضلاً عن أنها أقرب المناطق إلى بلاد القوقاز؛ فكانوا يتجمعون فيها، على أمل الرجوع إلى بلادهم، في حال تحسن الأوضاع واستتباب الأمن؛ وليبقوا على صلة مع أهلهم وذويهم، يتلقون الأخبار، ويستقبلون غيرهم من المهاجرين. كذلك فإن طبيعة المنطقة في تركيا أقرب إلى طبيعة بلادهم، فهناك تجانس وتماثل، إلى حدٍّ بعيد، بين المنطقتَين، من حيث المناخ، والتضاريس، والحياة بشكل عام.

لقد سمحت تركيا لهذه الأفواج بدخول أراضيها، من منطلق الأخوّة الإسلامية، من جهة، ولطبيعة الصراع، الذي كان قائماً بينها وبين الروس، من جهة أخرى. وعندما طال بهم المقام بها، من عام 1864 إلى 1900، ولم تتحقق آمالهم بالعودة؛ بدؤوا ينتشرون بالتدريج في البلاد العثمانية.

ومعظم المهاجرين الشيشانيين خرجوا من منطقة واحدة في الشيشان، هي محافظة نجي يورت[5]، حيث تربط بينهم وشائج الدم والقُربى، والعقيدة؛ إذ تنتسب غالبيتهم إلى الطريقة الصوفية النقشبندية. وهذا المحافظة، هي منطقة حدودية؛ مما سهّل حركتهم وانتقالهم.

وقد استقر المهاجرون الشيشانيون بمناطق كثيرة من العالم. فهناك نحو 40 ألف شيشاني، يسكنون ولايات: سيواس، قيصرية، مرعش، قونية، في تركيا، كما يوجد نحو 200 ألف نسمة من الشيشانيين في جمهورية داغستان. أمّا في كازاخستان، فيوجد نحو 250 ألف شيشاني. إضافة إلى نحو 5 آلاف شيشاني، في سورية، يسكنون في الجولان، والقنيطرة، والحسكة، ورأس العين، ومنطقة الجزيرة؛ ونحو 1500 شيشاني، في العراق، يقيمون  ببغداد، وكركوك، والعمارة وغيرها. زد على ذلك أعداداً أخرى، موزعة في مناطق مختلفة من العالم.

ويذكر الشيخ منير شاكر أرسلان، أن انتشار الشيشانيين خارج بلادهم، لم يقتصر على بلاد الشام وتركيا؛ وإنما وصلت موجات الهجرة الشيشانية إلى دول شمالي أفريقيا: الجزائر، وتونس، والمغرب، وليبيا؛ وإلى دول أفريقية أخرى: ساحل العاج، ومصر، والسودان. كما يوجد الشيشانيون، الآن، بأعداد كبيرة في روسيا الاتحادية، وفي الداغستان، وأوسيتيا الشمالية وغيرها.

2. أسباب هجرة الشيشانيين

يُعَدّ العامل الديني، هو العامل الرئيس لهجرة الشيشانيين من بلادهم؛ إلى جانب عوامل وأسباب أخرى.

أ. العامل الديني

لقد حمل الإسلام سكان إقليم القوقاز عامة، والشعب الشيشاني خاصة، على مقاومة كل أشكال الاحتلال والهيمنة الخارجية، التي تمثلت في الحملات الروسية المستمرة على المنطقة، للسيطرة عليها وضمها إلى روسيا. وقد كان للجماعات الصوفية من أتّباع الطريقتَين، النقشبندية والقادرية، دور مميز في إذكاء روح الجهاد والمقاومة. ومن أبرز أبطال المقاومة الإسلامية الشيخان، منصور وشامل.

تميز رد الفعل الروسي، إزاء تصاعد المد الإسلامي، في كل مراحل الصراع مع الشيشانيين، بالصرامة والقسوة، سعياً إلى تذويب الشخصية الإسلامية، والقضاء عليها، في المنطقة. إلا أن ذلك لم يؤثّر في الثورات المستمرة، التي تزعمها قادة الحركة الإسلامية في الشيشان.

وكما كان الإسلام هو الدافع إلى حركات المقاومة الشيشانية لروسيا، فقد كان، كذلك، الدافع إلى هجرة الشيشانيين من بلادهم، فراراً بدينهم، وحفاظاً على عقيدتهم. كما لجأت روسيا إلى استخدام العامل النفسي، للتأثير فيهم، وإقناعهم بالهجرة؛ وذلك لتفريغ الأرض من أهلها. فقد أشاع الروس بين الشيشانيين قرب حرب، عِرقية ودينية تنتظرهم، ولا يمكن تفادي خطـر ذلك، إلا بالهجرة. وبالفعل، فقد وازنوا بين حبهم لوطنهم وحبهم لدينهم، فآثروا الدين على الوطن، وخرجوا من ديارهم إلى ديار الإسلام المجاورة، وهم يعلمون أن حب الوطن والتمسك به، هو من صلب العقيدة؛ آملين أن يعودوا إلى وطنهم، عند أول فرصة.

ب. العامل السياسي

للشيشان تاريخ طويل في مصارعة الروس، يعود إلى مئات السنين، خاصة بعد أن ازداد اهتمام أوروبا بالتجارة مع شرقي آسيا (طريق الحرير)؛ إذ أصبحت القوقاز بعامة مطمعاً للدول الأوروبية، خاصة روسيا القيصرية؛ إذ إن السيطرة عليها تعني السيطرة على طريق القوافل التجارية، التي تربط بين أوروبا وشرقي آسيا. إضافة إلى ذلك، فقد خشي القيصر من اتجاه الزحف البريطاني في آسيا، نحو هذه المنطقة.

وبالفعل، فقد تمكنت روسيا القيصرية من احتلال دول القوقاز، واحدة تلو الأخرى، وذلك بسبب الأخطاء الجسيمة، التي وقعت فيها شعوب المنطقة؛ إذ لم تتحد اتحاداً جدياً ومنظماً، على الرغم من أن معظمها يدين بالإسلام، في مواجهة روسيا القيصرية. ولعل سبب ذلك، يرجع إلى طبيعة المنطقة ووعورتها؛ وهذا ما حال دون سهولة الاتصال بين شعوب المنطقة. أضف إلى ذلك الفروق العِرقية، التي حالت دون تفاهمهم واتحادهم؛ وهذا ما سهّل على الروس قهرهم واحتلال بلادهم، بل التنكيل بهم، وتعذيبهم، والقضاء عليهم. ولربما كانت معاناة الشعب الشيشاني، هي الأمر؛ لأنه استطاع الصمود أمام قوات القيصر، لفترة أطول من صمود سواه؛ مما جعل الروس يرتكبون في حقه مجازر، تقشعر له الأبدان؛ دفعت كثيراً من الشيشانيين إلى الهجرة من بلادهم.

وقد استمر مسلسل العنف والاضطهاد، بعد سيطرة الشيوعيين على الاتحاد السوفيتي. فقد عمدوا، في عهد ستالين، إلى تفريغ منطقة الشيشان من سكانها، ونفيهم إلى سيبيريا، وصحراء قازاخستان، واستبدلوا بهم شعوباً أخرى؛ طمعاً بالتخلص منهم ومن مقاومتهم وجهادهم، من جهة؛ والسيطرة على خيرات المنطقة، من طاقة ومعادن مختلفة، والاستفادة من موقعها الإستراتيجي المهم، من جهة أخرى. وظل الشيشانيون في المنفى، من عام 1944 حتى عام 1957، حينما سُمح لهم بالعودة، في عهد خورتشوف، نتيجة الضغوط والحملات الإعلامية، التي نهض بها شيشانيو المهجر، في الأردن وغيره.

ج. العامل الاقتصادي

طالما ارتبط العامل الاقتصادي بالعامل السياسي، وتأثر به؛ إذ هو ثمرة من ثمراته. وقد استنفدت الحرب الروسية ـ الشيشانية، والتي استمرت أكثر من 300 سنة، طاقة الطرفَين، البشرية والاقتصادية. وتحول المجتمع الشيشاني من مجتمع مدني، يعتمد على الزراعة والتجارة، ويعيش حياة طبيعية عادية، إلى مجتمع عسكري مقاتل، جنّد الشباب، لمواجهة الروس، فترة طويلة من الزمن، فأثر ذلك، سلباً، في اقتصاد البلد، وأدى إلى تدمير البُنى، الاقتصادية والاجتماعية، وانخفاض عدد الأيدي العاملة، والقضاء على كل المشروعات الاقتصادية.

ونتيجة لشحّ الموارد، وخراب المزارع، وتدمير البنْية الاقتصادية، من زراعة وصناعة وتجارة، وانشغال الناس بالحرب وأهوالها؛ فقد تخلى الشيشانيون عن العمل في الأرض وغيرها، فقل الناتج، ووصل الأمر إلى وضع صعب، دفع الناس إلى التفكير في الهجرة إلى مناطق، يتهيأ لهم فيها الأمن، النفسي والغذائي والديني؛ فكان العامل الاقتصادي سبباً آخر من الأسباب الدافعة إلى الهجرة الشيشانية.


 



[1] زيلمخان: يعتبره البعض `روبن هود` الشيشاني، حيث كان يهاجم قوافل الجيش الروسي، ويستولي على الأسلحة والمؤن، وقد ظهر ما بين (1899-1913)

[2] قام لينين عام 1917 مع قادة الحزب الشيوعي في روسيا بثورة دموية، سقط خلالها عرش `رومانوف` القيصري، لتبدأ مرحلة جديدة من الحكم، وهي مرحلة الحكم الشيوعي الروسي

[3] أصبح الاتحاد السوفيتي يتكون من: جمهورية روسيا السوفيتية، وأوكرانيا، وبيلوروسيا، وأوزبكستان، وكازاخستان، وجورجيا، وأذربيجان، وليتوانيا، ومولدافيا، ولاتفيا، وقرغيزيا، وطاجيكستان، وأرمينيا، وتركمينيا، وأستونيا، والجمهورية الكاريلوفينية

[4] تتولى الهيئات العليا لسلطة اتحاد الجمهوريات السوفيتية تمثيل الاتحاد في شؤون العلاقات الدولية، ومسائل السلم والحرب، وتنظيم شؤون الدفاع، والقيادة العامة لجيوش الاتحاد، وشؤون التجارة الخارجية على أساس احتكار الدولة لها، ووضع الخطط التي يسير عليها الاقتصاد الشعبي في الاتحاد السوفيتي، وإدارة النظام النقدي، وعقد القروض وإعطائها، وإدارة البنوك والمشروعات التي لها أهمية لجميع بلاد الاتحاد السوفيتي

[5] نجي يورت: تقع هذه المحافظة في الجزء الجنوبي الشرقي من بلاد الشيشان، على مقربة من حدود الداغستان