إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الصراع السنغالي ـ الموريتاني






المدن والأقسام الرئيسية
الأقاليم الطبيعية
القبائل الرئيسية
جمهورية موريتانيا
جمهورية السنغال



المبحث الأول

مبحث تمهيدي

ساحة النزاع المحورية (إقليم نهر السنغال)

إن أي أزمة (اُنظر ملحق لبعض الكلمات والمصطلحات التي وردت في البحث) لا تتولد من فراغ، وإنما تحدث نتيجة عوامل متعددة، تتراكم فوق بعضها بعضاً حتى تصل إلى مرحلة الانفجار. والأزمة السنغالية الموريتانية تبدو كالقدر المشؤوم، الذي يصعب الفكاك منه. لذا، فإنها تتطلب قدرات سياسية وفكرية تتلاءم مع مصالح الشعوب في المنطقة.

لقد تعددت أسباب هذه الأزمة، واختلف المحللون والسياسيون حول الأسباب التي أدت إلى نشوبها، وراح بعضهم يحلل العوامل الجغرافية والتحولات الجوية، التي شهدتها منطقة الساحل بغرب القارة. وكان لكل فريق رؤيته الخاصة لأسباب الأزمة وجذورها، منهم من يرجعها إلى المشكلات العرقية، والصراع بين البيض والسود في المنطقة، ومنهم من يرجعها إلى أنها أزمة (اُنظر ملحق لبعض الكلمات والمصطلحات التي وردت في البحث) حدودية في المقام الأول. إن الاختلافات في الرؤية إلى المشكلة تعطي انطباعاً أن الأزمة معقدة الجوانب، متشعبة الأطراف حدثت بعد تراكمات وتناقضات كثيرة.

ولا بدّ من العودة إلى الإطار الجغرافي لمسرح الأحداث، التي دار على رحاه هذه المصادمات الدموية، ويُعنى بذلك، نهر السنغال، الذي ينبع من مرتفعات فوتا جالون في غينيا إلى مصبه بالقرب من مدينة سانت لويس. ويمتد النهر بطول 1790 كم، وتطل عليه أربع دول، هي: السنغال وموريتانيا (اُنظر خريطة جمهورية السنغال) و(خريطة جمهورية موريتانيا) و(ملحق السنغال) و(ملحق موريتانيا) ومالي وغينيا.

ولم يكن هذا النهر في يوم من الأيام حاجزاً بين ضفتيه، بل خلافاً لذلك ساعد على التواصل البشري بين الأجناس، التي قطنت على جانبيه وأهمها جنس الولوف (Wolof) (اُنظر شرح لبعض الكلمات والمصطلحات التي وردت في البحث) الذين يشكلون 36% من سكان السنغال، وشعب التوكولور (Tokolor)، الذي يقطن الجزء الأوسط للوادي على امتداد 400 كم.

وإلى شرق الوادي يوجد شعب السراكولا (Sarakhole) أو سوننكي (Soninki) وتعني الإنسان الأبيض. ويوجد أيضاً المور (Moors)، الذين يعشيون على جانبي النهر، فضلاً عن البيض، الذين يسمون البيضان (beydoanes)، والمور السود الذين يسمون الحراتين (Harattines) ، وهم أصلاً من العبيد الذين اعتقوا، وصاروا أحراراً واتبعوا ثقافة أسيادهم القدامى ولغتهم.

ومن الملاحظ أنه على الرغم من اختلاف الأعراق فإن الدين الإسلامي يجمعهم تحت رباط واحد، وإن اتبعوا طرقاً صوفية مختلفة، أبرزها القادرية عند المور، والتيجانية عند التولوكور والبول، أمّا الولوف فإنهم اتبعوا الطريقة المريدية. (اُنظر شرح لبعض الكلمات والمصطلحات التي وردت في البحث)

واكتمل التواصل والتلاحم بين سكان النهر نتيجة الهجرات المتبادلة، التي شملت إقليم النهر، وازدادت بعد الاستعمار الأوروبي، خاصة بعد وقوع المنطقة برمتها تحت السيطرة الفرنسية. وباختصار، لم يكن نهر السنغال عامل فصل أو انقسام بين شعوب عرفت التلاحم والتلاقي والتعاون المشترك، سواء بين الزراع المستقرين أو البدو المتنقلين.

ومن المعالم الرئيسية في حوض السنغال تدشين مرحلة جديدة في تاريخه تتمثل في مشروع استغلال النهر، وبداية التنفيذ العملي لبناء سدين هما سد "دياما" (Diama)، عام 1986، في السنغال، وسد ماننتالي (Manantali)، في مالي، على رافد البافينج (bafing) ، عام 1988. وكان الهدف من بناء السدين هو التحكم في مياه الري من خلال شبكة متكاملة من القنوات، وقد أنشئت في السنغال شركة استصلاح واستغلال أراضي الدلتا، ثم أنشأت موريتانيا الشركة الوطنية للتنمية الريفية، مع إدخال إصلاحات جديدة في حيازة الأرض.

وظهرت اللجنة الحكومية المشتركة لاستغلال حوض نهر السنغال في عام 1963، ثم منظمة الدول المطلة على السنغال عام 1968، التي جمعت السنغال وموريتانيا ومالي وغينيا. وفي عام 1982 أنشئت منظمة استغلال نهر السنغال وشاركت كل دول النهر في عضويتها عدا غينيا.

ساحة النزاع

يُعدّ إقليم نهر السنغال، بجانبيه السنغالي والموريتاني، في جبهة النزاع الأمامية. كما تتركز أسباب النزاع، بين السنغال وموريتانيا، حول مشروع استغلال النهر، الذي يجري تنفيذه حالياً في هذا الحيز الجغرافي.

وتتسع ساحة النزاع، بداهة، لتشمل أراضي البلدين في إجمالها باعتباره نزاعاً بين دولتين. وبالنظر إلى الأماكن التي سقط فيها ضحايا من الجانبين، أو التي ضاعت فيها أموالهم وممتلكاتهم، فإنها لا تتساوى في أهميتها، وتظل البؤرة المحورية للمواجهة تنحصر في وادي نهر السنغال بضفتيه: الشمالية الموريتانية، الجنوبية السنغالية، فعلى هذه الأرض بالذات تجمعت أهم التناقضات المولّدة للأزمة، وعليها تقف أطرافها المباشرة، وفيها اندلعت شرارتها الأولى.

أولاً: الإطار الجغرافي والطبيعي لنهر السنغال

يعد إقليم النهر جزءاً من منطقة جغرافية طبيعية أرحب، هي منطقة "حوض نهر السنغال" بأكمله من منبع النهر في مرتفعات "الفولتاجالوك" (Follta Djalok)، في غينيا، إلى مصبه في السنغال بالقرب من مدينة "سانت لويس" (Saint Louis) وتقدر مساحة هذه المنطقة بـ 340 ألف كم2. ويمتد نهر السنغال على طول 1790 كيلومتراً، ويبلغ تدفقه المائي سنوياً 24 مليار متر مكعب، وتطل عليه أربع دول هي: السنغال و موريتانيا ومالي وغينيا.

أمّا عرض نهر السنغال فيراوح بين عشرة و25 كم، والظروف الليثولوجية هي التي تتحكم في عرض النهر من مكان إلى آخر. ويحتفظ النهر بعرض ثابت تقريباً، يبلغ 15 كم عند "مقاومة" و "دندي". وبعد ذلك، يتسع النهر اتساعاً كبيراً ليصل إلى أقصى اتساع له عند "كيهيدي" ، ثم يضيق كذلك، عند بلدة "مباني"، ثم يعود إلى الاتساع من جديد حتى يصل عرضه 15 كم عند "بوفي"، ثم 25 كم عند "بودور"، ولكنه يعاود ضيقه مرة أخرى عند "داجانا"، حيث لا يتجاوز عرضه 10 كم، ثم يعود للاتساع من جديد قرب "روصو" حيث يكوّن دلتاه.

والنهر يتميز بنظام بسيط يخضع لأمطار النمط المداري الموسمي، التي تسقط في الفترة من أبريل إلى أكتوبر، وتقل هذه الأمطار تدريجياً من الجنوب إلى الشمال، بصفة عامة، ويؤدي إلى الارتفاع المائي في النهر خلال موسم الفيضان، الذي يتفق مع الفصل المطير الذي يمتد من يونيه ـ يوليه، حتى سبتمبر ـ أكتوبر. وتبدأ المياه في الارتفاع في بلدة "متم" في منتصف يونيه تقريباً. ولكن هذا الارتفاع لا يظهر بشكل محسوس إلاّ في يوليه.

والوصول إلى ذروة الفيضان يختلف من مكان إلى آخر تبعاً للموقع. فعلى سبيل المثال تبلغ الفترة الزمنية بين ذروة الفيضان عند "باكل" وذروته عند "دكانة" من 30 ـ 40 يوماً.

وبينما يبلغ ارتفاع الماء في باكل 10 أمتار في المتوسط، فإنه يبلغ نحو، مترين ونصف المتر عند دكانة. وبانتهاء فصل الأمطار يبدأ انخفاض منسوب النهر، وتعود المياه تدريجياً من السهل الفيضي إلى النهر، وحينئذ تقوم الفروع بوظيفة الروافد، ويظل النهر في الانخفاض، ويتخلف عن ذلك عدد كبير من المستنقعات والأذرع الميتة في الوادي، وصوب المنبع يكون انخفاض النهر سريعاً بينما يكون أبطأ بكثير نحو المصب. ومن الممكن أن يظل تأثير الفيضان في الجزء الأدنى حتى منتصف نوفمبر وأحياناً حتى ديسمبر. وخلال الفصل الجاف يزداد انخفاض النهر ويتحول مجراه إلى مجموعة من الأحواض، التي يفصلها عن بعضها البعض معابر، بحيث يمكن للسكان المقيمين على ضفاف النهر عبورها على الأقدام.

أمّا تصريف النهر، فغير منتظم على الإطلاق، وهو أمر متوقع بالنسبة لظروف النهر في هذا القسم من مجراه. أمّا بالنسبة إلى النظام، الذي يخضع له، فبينما يصل هذا التصريف خلال الفيضان إلى 4000 متر مكعّب في الثانية، نجده في موسم الانخفاض لا يتجاوز عشرات الأمتار المكعبة، كما أن متوسط التصريف خلال الفيضان يختلف بدوره من سنة إلى أخرى.

ثانياً: نظام نهر السنغال

يتكون نهر السنغال من قسمين متمايزين: الوادي بمعناه الضيق، ويتكون من القطاع الممتد من كاراكور إلى ريتشارد ـ تول. والدلتا: وتمتد من ريتشارد ـ تول، إلى انديافوـ سانت لويس.

1. الوادي:

وهو عبارة عن منطقة منخفضة خالية من التضاريس باستثناء شواهد قليلة من الكثبان الرملية الممتدة على حاشية السهل الفيض وكذلك بعض التلال المتخلفة عن الهضبة الايوسينية. ويغطي الوادي برمته غطاء متجانس يتكون من طبقات من الرواسب النهرية الطميية الطينية الرملية.

والانحدار ضعيف جداً إذ يبلغ في المتوسط 0.02% بين مباني ومبود، أمّا فوق التكوينات الرسوبية فيبلغ 0.01% فقط وهذا يفسر كثرة الثنيات النهرية المميزة للنهر. وتتشعب فوق الوادي كثير من الأفرع التي تقوم بدور مزدوج في مائية النهر، فهي في موسم الفيضان تمتلئ بالماء من المصب إلى المنبع، فتكوّن حينئذ فروعاً، وعندما ينخفض منسوب الماء بعد الفيضان، تُفرغ مياهها في النهر، ومن ثم تعمل كروافد.

ويمكن أن يُلاحظ في هذا القطاع العرضي للوادي عدة مناسيب، كما يلي:

مناطق مرتفعة أعلى الوادي، وهي مناطق لا يصيبها الفيضان مطلقاً، وتتكون من موارد رملية طينية، تعرف محلياً باسم الدييري. والمناطق، التي تليها إلى أسفل، هي مناطق منخفضة تغطيها المياه خلال الفيضان من طريق الثغرات، التي تفتح في الضفاف النهرية الطينية المرتفعة، وتتكون هذه المناطق من مواد صلصالية دقيقة جداً شديدة التماسك تتشقق خلال الموسم الجاف، وتعرف هذه المناطق محلياً بـ الوالو.

والضفاف الطبيعية المرتفعة، التي تشرف على جانبي النهر، تتكون بدورها من صلصال دقيق جداً شديد الاندماج، وتغطى بالمياه أحياناً في حالة الفيضانات الاستثنائية، وتعرف هذه الضفاف محليا باسم الفوند. وجزء الوادي المجاور للنهر مباشرة يعرف محلياً باسم الفالو.

2. الدلتا

دلتا نهر السنغال، دلتا شاذة مثل دلتا النيل في مصر، وهي تتميز بجريان متقطع، ففي نهاية يوليه أو بداية أغسطس يأتي الفيضان ويكون بطيئاً في مراحله الأولى، فارتفاع المياه بمقدار متر واحد في بودور يستغرق فترة تراوح من 15 يوماً إلى شهر للوصول إلى الدلتا. ويرجع هذا البطء الشديد إلى الانحدار الضعيف جداً، والذي يُعدّ تقريباً أضعف انحدار في العالم، لنهر في دلتاه.

وتنساب المياه رويداً رويداً عبر ما يوجد من ثغرات في الجسور الطبيعية المرتفعة، كما تطغى على العقبات للتوغل في المنخفضات متجهة من المصب إلى المنبع، وبعد ذلك تقوم بتفريغ مياه المنخفضات فيه عندما تخف حدة الفيضان، وحينئذ تكون متجهة من المنبع إلى المصب. كما يصل الفيضان ببطء فإنه ينخفض ببطء شديد أيضاً، حتى إن الطمي الناتج عن التصفية نادراً ما تقوى المياه على نقله. وابتداء من يناير ـ فبراير تجف المنخفضات تدريجياً نتيجة للتبخر، غير أن كثيراً منها يكون مسدوداً نتيجة لوجود عقبات في أجزائها الدنيا، ولا تستطيع أن تفرغ كل مياهها، فتصبح ذات ملوحة عالية.

ثالثاً: مجرى النهر في موريتانيا

يغير النهر اتجاهه في موريتانيا أكثر من مرة، فهو يجري من الجنوب الشرقي إلى الشمال الغربي، حتى بلدة، بوفي وعندها يغير اتجاهه، فيسير في اتجاه شرقي، غربي حتى بلدة ديامار ثم يكمل مساره بعد ذلك باتجاه شمالي، شمالي ـ شرقي، ثم جنوبي، وجنوبي ـ غربي حتى المحيط. وتكرار النهر لتغيير اتجاه مجراه على هذا النحو مرتبط بتاريخه الجيولوجي. ويتميز هذا المجرى بالعديد من الثنيات النهرية، والثنيات المعمقة كما تنتشر في واديه البحيرات المتقطعة.

رابعاً: روافد نهر السنغال

كأي نهر آخر، فإن لنهر السنغال روافد بعضها رئيسي كبير، وبعضها الآخر ثانوي صغير. ومن روافده الكبيرة:

1. وادي فور فول، الذي يتكون من فور فول الأبيض، الوادي الأبيض، وفور فول الأسود، الوادي الأخضر، ومساحتها تبلغ 11 ألف كم2 وعرضه يراوح ما بين 3.5 ـ 8 كم.

2. وادي فلورا، الذي يجري فوق التكوينات الرسوبية لمسافة تبلغ 100كم. وقد كان، فيما مضى، يصب في بحيرة مال، أمّا سهله الفيضي والذي يعرف باسم ديرول فيبلغ طوله 15كم، وعرضه (6كم) عند خط التقائه بالسهل الفيضي لنهر السنغال.

أمّا بالنسبة إلى روافده الصغيرة، فهي أشبه ما تكون بالأودية، وتجري فيها المياه لفترة قصيرة لا تتعدى في بعض الأحيان بضعة أيام، من أهمها:

  • وادي فارفا، الذي يلتقي بالنهر قرب مقامة ثم يلتقي بوادي فونكو، مكوِّناً بذلك سهل مقامة الفيضي الذي يبلغ طوله 25 كم ومتوسط عرضه 5 كم.

خامساً: المشاريع التي أقيمت على نهر السنغال

وأهم مشروع أنجز، حتى الآن، على النهر هو مشروع استغلال نهر السنغال، الذي دخل حيز التنفيذ العملي بعد إتمام عملية بناء السدَّين اللذين يشكلان قاعدته وهما سد دياما Diama الواقع بالقرب من سانت لويس بالسنغال، في عام 1986، وسد ماننتالي. Manantali ، في مالي، على رافد البافينج Bafing ، في عام 1988 ويقوم هذا المشروع على فكرة التحكم في مياه النهر بغرض استغلالها اقتصادياً في مجالات شتى : الزراعة النهرية وتوليد الطاقة الكهربائية وتيسير الملاحة واستخدام الطاقة الجديدة المولدة في مشروعات تعدينية وصناعية جديدة.

وقد تبلورت فكرة التعاون الإقليمي بين الدول المطلة على النهر منذ السنوات الأولى لاستقلالها؛ فظهرت أولاً اللجنة الحكومية المشتركة لاستغلال حوض نهر السنغال، سنة 1963، ثم منظمة الدول المطلة على نهر السنغال، سنة 1968، التي جمعت السنغال ومالي وموريتانيا وغينيا. ثم وُضع التصور الإرشادي المتكامل لمشروع استغلال نهر السنغال في عام 1974، ويقوم سدّ دياما، في إطاره، بوظيفتي الخزان والحاجز لمنع تسرب المياه المالحة إلى منطقة الدلتا. أمّا سد موننتالي، وهو حجر الزاوية في المشروع، فوظيفته التخزين الأولي للمياه، وتبلغ مساحة خزانه 500كم مربع وطاقته 11.3 مليار متر مكعب. وستقام عنده محطة لتوليد الطاقة الكهربائية بطاقة تصل إلى 800 مليون كيلو/ وات، وتوزع هذه الطاقة على الدول الثلاث كالآتي: 52% لمالي، 33% للسنغال، 15% لموريتانيا. وتبلغ المساحة الكلية، التي سيسمح السدان بزراعتها، حوالي 375 ألف هكتار، تُوّزع بين الدول الثلاث المستفيدة.

بالطبع، لم يكن من المتصور ألاّ يمارس مشروع بهذا الحجم، وبهذه الآثار البعيدة، مفعولاً على إقليم النهر، وعلى توازناته الداخلية البشرية والاقتصادية، وعلى العلاقات بين جانبيه وبين الدولتين اللتين يتبعهما هذان الجانبان. وقد أنشئت المنظمة الإقليمية، التي تربط الدول المستفيدة بالمشروع بهدف ضمان التعاون بينها وتضافر قواها؛ لإنجاحه وتلافي الخلافات المحتمل ظهورها بسببه. وفعلاً، أدخل المشروع معطيات جديدة في مجالي الزراعة والرعي، ما لبث أن ولدت أسباباً رئيسية للأزمة بين السنغال وموريتانيا، وهي أسباب عضوية، أي لصيقة بمشروع النهر، تختص بالتعارض الذي ظهر بين الزراعة الجديدة التي يدخلها المشروع والرعي التقليدي، ثم الآثار التي ولدها المشروع في المجال الزراعي نفسه؛ نتيجة لما أحدثه من تزايد لأهمية إقليم النهر وأرضه على المستويين، الحكومي والشعبي، في البلدين.

سادساً: التواصل الإقليمي

تمتع إقليم نهر السنغال بجانبيه، حتى اندلاع النزاع بين السنغال وموريتانيا، بطابع التواصل فلم يقم النهر لا فعليا ولا في نظر سكانه بدور الحاجز العازل بين ضفتيه. وكان للتواصل مظاهر عديدة، منها التواصل البشري، والتواصل الاقتصادي.

سابعاً: التواصل البشري:

تأسس التواصل البشري على كون السكان على الضفتين ينتمون إلى نفس الأجناس، بل أحياناً نفس العائلات التي انشطرت شطرين أحدهما سنغالي والآخر موريتاني. ولم يغير الاستعمار هذا الوضع، بل دعمه وعززه أكثر بسبب خضوع الجانبين أي البلدين لمستعمر واحد، ضمهما في نطاق اتحاد واحد لمستعمراته في الغرب الأفريقي، ألا وهي إفريقيا الغربية الفرنسية. وأهم الأجناس، التي يتكون منها سكان وادي النهر، هي: أجناس التوكولور والبول والمور والسراخولية والولوف.

فمن ناحية الغرب، حيث مصب نهر السنغال، يوجد أهم جنس، يعيش على الجانب السنغالي بالمنطقة المسماة "الدلتا" لكثرة تفرعات النهر وعلى الجانب الموريتاني المقابل له، هو جنس الولوف (wolof) (اُنظر ملحق شرح لبعض الكلمات والمصطلحات التي وردت في البحث) وقد تعني الكلمة (بشرة سوداء). وإذا كان هذا العرق يُعدّ الأول من حيث حجمه في السنغال (36%من سكانه) فإنه لا يمثل سوى أقلية من قاطني وادي النهر على ضفتيه.

وأكثر الشعوب انتشاراً في إقليم النهر هو شعب "التوكولور" (Toucouleur)، الذي يقطن الجزء الأوسط للوادي على امتداد 400 كم على الضفتين المكون لبلاد "الفوتا تورو" (Fouta Toro)، وهو يمثل فرعاً لمجموعة عرقية أوسع تعرف "بالبولار" (Poular) نسبة إلى لغتها أو هالبولارن Halpulaaren ، وهو فرع امتزج بشعب أسود آخر هم (السرير). وتًعدّ كلمة "توكولور"، المستعملة فقط في السنغال وموريتانيا، تحريفاً فرنسياً لكلمة (تكرور) (Tekrour)، وهي مملكة سوداء قديمة امتدت من القرن الأول حتى القرن الثالث عشر، ضمت "الفوتا تورو" وبلاد "الديمار" المجاورة[1]. وبرز التوكولور، في هذين البلدين، لارتباطهم بحركتين هامتين، هما أولاً: "ثورة التورودو" (Tooroodo) بقيادة "سليمان بال" ثم "عبد القادر كان" التي أقامت في أوجها (1776ـ 1807) دولة إسلامية ومؤسسة "الأمامية" وامتدت في عصرها الذهبي على جانبي النهر، ثم ثانياً: جهاد الحاج "عمر طال الفوتي" ضد الوثنيين والغزو الفرنسي في "الفوتا تورو" ، ثم شرقاً بأراضي مالي الحالية (1852 ـ 1864)، وقد خلفه ابنه "أحمدو" في مهمته لمدة ثلاثين عاماً.

والأصل الذي ينبع منه التوكولور قبل اختلاطهم "بالسرير" يتمثل في "البول"  (Peuls)و (phoul) أو (Fula) والجمع "فولبيه" (Foulbe) وكان العرب، مثـل المقريزي والسعدي، يعرفونهم باسم "الفولان"ومن هنا جاء كلمة Fulani   عند الكتّاب الأنجلو سكسون. والبول أصلاً بدو على خلاف التوكولور المستقرين. وقد تعني كلمة "بول": اسمر فاتح محمر. وللبول، عادة، بشرة سمراء فاتحة نوعاً، تميزهم عن الشعوب المجاورة، كما أنهم واسعوا الانتشار بحكم بداوتهم. فلهم تواجد مؤثر، عدا السنغال وموريتانيا، في كل من مالي والنيجر والكاميرون ونيجيريا. أمّا في إقليم نهر السنغال، فقد أقاموا فيه دولة قوية في "الفوتا تورو"، امتدت على ضفتي النهر في عصرها الذهبي، وحكمتها العائلة المالكة للدنياكوبيه (Denyankobe)، من أوائل القرن السادس عشر حتى 1776، عندما أسقطتها حركة التوكولور. والبول متواجدون، حالياً، على جانبي النهر، وخاصة بالجزء الأوسط للوادي في الأراضي، التي تقع خلف الأراضي المحازية للنهر، والتي يتمركز فيها أقاربهم التوكولور[2].

ويوجد ناحية شرق الوادي شعب "السراخولية" Sarakhloe أو سوننكية (Soninke) ، وتعني الكلمة "الإنسان الأبيض"، ولعل ذلك إشارة إلى مخالطة هذا الشعب الأسود ، بالبرابر. (اُنظر ملحق شرح لبعض الكلمات والمصطلحات التي وردت في البحث) ويُعدّ من أسبق شعوب جنوب الصحراء اعتناقاً للإسلام بعد البولار مباشرة. وقام بدور بارز في إطار دولة غانا (Ghana) القديمة، وهي أعظم وأول الدول السوداء المعروفة في الغرب الأفريقي، وقامت في جنوب شرق موريتانيا الحالية وغرب مالي الحالي. وعند أفول نجمها، في القرن الحادي عشر، تراجع "السراخولـية" إلى دولتين صغيرتين، هما "جادياجا "(Gadiaga) علـى الجـانب السنغالي للنهـر، والتي اسماها الفرنسيون "جالام" (Galam) وغيديماخا (Guidimakha) على الجانب الموريتاني.

ويوجد، أيضاً، على طول النهر من الغرب إلى الشرق "المور" المتناثرين بين الشعوب الأخرى على الجانب الموريتاني للنهر، مع اتجاه واضح لتزايدهم منذ أوائل القرن الحالي. ويتكاثف وجودهم كلما اتجهنا شمالاً وابتعدنا عن النهر. كما يوجدون، كذلك، على جانبه السنغالي، وإنما بنسبة أقل ربما منذ القرن العاشر، خاصة بين مدينتي "روسو" (Rosso) السنغالية و"بودور" (Podor). وتدعم حضورهم مع تدهور أحوال الدول السوداء في "الوالو" و "الفوتا تورو"، وبسط الأمراء المور سيطرتهم على الضفة اليسرى في أوائل القرن الثامن عشر، ثم بفعل حركة الهجرة في ظل خضوع البلدين للاستعمار الفرنسي. وتحول طابع وجودهم، وكذلك الحال على الجانب الموريتاني، من رعوي ومتقطع إلى مستقر ودائم. فإلى جانب البيض منهم ويسمون "البيضان " (Beydanes)، هناك مور سود يسمون "حراتين" (Harattines)، وهم أصلاً من العبيد المعتقين من أجناس سوداء مختلفة، اتبعوا لغة وثقافة أسيادهم القدامى. وحتى البيض منهم فيضمون نسبة عالية من المخلطين، علامة للاختلاط التاريخي بين هذا الشعب القادم من الشمال والشعوب السوداء في الجنوب. ويُعدّ شعب المور ثمرة تزاوج بين قبائل من البرابر وقبائل عربية "ماكيل" من بني حسن، وافدة من شبه الجزيرة العربية ابتداء من القرن الثالث عشر، نتج عنه شعب عربي أو معرب تماما يتكلم، على عكس برابر آخرين بالشمال الأفريقي، اللغة العربية بلهجة "الحسنية" (نسبة إلى قبائل بني حسن).

ولم يكن قبائل البرابر البدوية في الجنوب الموريتاني الحالي أثر قبل القرن السادس، وكانت هذه الأرض تقطنها الشعوب السوداء فقط، فيما كان يسمونها العرب " أرض مقزراتي السودان" و "القمرونية". وظهـرت كيانات كـدولة أوداغـست (Audaghost)، ويعد الضهادجا أهم عنصر بربر توغل إلى هذه المنطقة وحتى النهر، وتتفرع عنه قبائل عديدة مثل: "لمتونة" و"ماسوفا" و"لامتة" و "جاد الله" اختلطت بعضها بالسود المستقرين. وتدعم وجود المور مع حركة المـرابـطين (Almoravides) ابتداء من 1040 والتي أقامت دولة من نهر السنغال جنوباً إلى الأندلس والمغرب الحالي شمالاً وغرب الجزائر الحالية شرقاً.

أمًا كلمة "مور" (Maures)، التي أطلقها الأوروبيون منذ منتصف القرن الخامس عشر والبرتغاليون ثم الفرنسيون على القبائل من البرابر"الأزانج" (اُنظر ملحق شرح لبعض الكلمات والمصطلحات التي وردت في البحث) الموجودة على الجانب الشمالي لنهر السنغال، فهي كلمة قديمة استخدمها الرومان (Mouri) وكانت تشير إلى أحد شعوب البرابر القاطنة في شمال المغرب الحالي، حيث أقاموا مملكة موريتانيا القديمة (Mouretanie) قبل القرن الرابع. ثم سمّى الرومان كل ممتلكاتهم الممتدة من شمالي المغرب إلى شمالي الجزائر باسم "موريتانيا"، واستمر الوضع هكذا في ظل الحكم البيزنطي، ومن المرجح أن الكلمة تعني "الغرب" باللغة البونية إحدى لغات البربر اشتقاقاً من Mahurim . وشاء القدر أن يعاد استخدام هذه الكلمة من جديد بقرون طويلة بعد ذلك مع تغير أحد حروفها فقط لتصبح Mauritanie ، على يد الفرنسيين لتنطبق على أراضى تبعد مسافات كبيرة جنوباً عن تلك التي شكّلت مهدها الأول.

واستقر على الجانب الأيمن من النهر، مـن الغرب إلى الشـرق، تجمعات قبلية مـن المور هي "الـترازة"  (Traza‎h)، التي تحولت إلى إمارة في أوائل القرن الثامن عشر في مواجهة "الوالو" والبراكنة (Braknas)، التي أنشأت إمارة أيضاً في مواجهة "الفوتا تورو" "وقبائل عيداويش" (Idaou Aichs) و "مشدوف" Mechdoufs  شرقاً من ناحية "غيد ماخة". وتمكن المور من تثبيت سيطرتهم على الجانب الأيمن للنهر، بل مدّها إلى الجانب الأيسر بالقيام بالغزوات المستمرة ضد السكان وفرض دفع الإتاوات على ملوكهم وأمرائهم. ووصل بهم الأمر إلى عقد اتحاد شخصي بـين مـلك التـرازة "محمد الحـبيب" وأمـيرة "الوالو" " "نديبوت". 1833 ولم تنتهي هيمنة المور على الضفة السنغالية للنهر إلاّ على يد التدخل العسكري الفرنسي، عام 1858.

ويبلغ عدد سكان الجانب السنغالي لإقليم النهر ( 44527 كم 2)، في عام 1984، 700 ألف نسمة (79% منهم في الريف ومعدل نموهم السنوي 2.8%)، وتوزيعهم حسب الأجناس المختلفة: التوكولور 45% ـ المور 20% البول 12% الولوف 9%، (اُنظر ملحق شرح لبعض الكلمات والمصطلحات التي وردت في البحث) السرافولية 9%، الآخرون 5%. أمّا عن الجانب الموريتاني، فيمكن تقدير نسبة عدد المور إلى عدد السكان الإجمالي بما لا يقل عن 30%، والباقي 70% موزعون على الأجناس بالنسب التالية: التوكولو 45% ـ البول 26% ـ السراخولية 21% ـ الولوف 5% ـ الآخرون 2%..

وإن اختلفت هذه الأعراق فيما بينها من حيث اللغة وبعض العادات والتقاليد والوعي الذاتي بالأصل المتميز، إلا أنه يجمعها قاسم ثقافي مشترك ومهم وهو الدين، إذ إنها تدين كلها بالإسلام، وتسير على السنة المحمدية.

ولقد ورث إقليم نهر السنغال اليوم عن هذه التشكيلات قبل الرأسمالية عوامل شتى تظهر بصماتها في البنية الاجتماعية، التي تشترك فيها هذه الشعوب، وهي بنية ـ وإن تحمل الآن معالم من الحداثة بحكم ربط هذه المجتمعات بالنظام العالمي منذ القرن السابع عشر ـ لا تزال تعكس المضمون الاجتماعي القديم لهذه التشكيلات.

كما نتج عن هذه التشكيلات الاجتماعية غياب مفهوم الملكية الخاصة، وشيوع مدلول الملكية الجماعية العشائرية والقبلية، سواء عند المزارعين أو الرعاة. فالزعيم الأرستقراطي لا يملك الأرض بصفة شخصية، وإنما يحوزها باسم الجماعة واستقطاعه للفائض الجماعي يتم من خلال تأديته لوظيفة سياسية اقتصادية تتمثل في توزيع الأراضي وتنظيم علاقات التزاوج كلٍّ داخل فئته.

ثامناً: التواصل الاقتصادي

تميز إقليم نهر السنغال بجانبيه، كذلك، بالتواصل الاقتصادي الذي تعددت مظاهره. ومنها احتراف الأجناس نفسها، وفي حالات غير قليلة العائلات نفسها على الضفتين الزراعة بالأسلوب نفسه وأدوات الفلاحة نفسها وعلى أنواع التربة عينها وفي إطار القيم والمعتقدات والنظم العقارية نفسها.

والشعوب، التي تخصصت في الزراعة، هي الشعوب السوداء المستقرة للتوكولور والسراخولية والولوف، وتزاولها كنشاط رئيسي، كما تقوم إلى جانبه، من قبيل النشاط المعاون بصيد الأسماك وتربية المواشي وبعض الأعمال التجارية ولم يمارس المور والبول العمل الزراعي إلاّ مؤخراً.

كان الرعي، دائماً، من تخصص المور والبول، وهو ركن أساسي من أركان هويتهم الحضارية تماماً كالزراعة بالنسبة للشعوب المستقرة. وفي حين أن البول رعاة أبقار، بصفة خاصة، فإن المور ينقسمون حسب قبائلهم داخل موريتانيا بين رعاة جمال (خاصة في الشمال) ورعاة أبقار، (خاصة في الوسط) ورعاة ماعز وخراف (خاصة في الجنوب).

وقد امتهنت قبائل الشمال المحاربة الرعي، أيضاً، بعد خضوعها للاستعمار وانقضاء عهد الغزوات، التي كانت تمثل مصدر رزقها الأساسي في العصور السابقة. كما قام النشاط التجاري الصغير على جانبي النهر، إلى حدٍّ كبير، على أكتاف المور من قبائل الجنوب الموريتاني. ومثلما كان التداخل في المجال الزراعي بين مزارعي الضفتين من علامات التواصل بين شطري الإقليم، فإن التداخل في مجال الرعي كان أيضاً من مظاهره، إذ إن الرعاة من المور درجوا على التنقل بقطعانهم إلى الجانب السنغالي بحثاً عن المياه والعشب، وعلى غرار الحال بالنسبة للزراعة، استمرت هذه الممارسات، في ظل استقلال الدولتين، تنظمها العلاقات العرفية القائمة بين المزارعين ورعاة الانتجاع.

واكتمل التواصل بين جانبي الإقليم أخيراً بفعل الهجرة المتبادلة، التي شملت أراضى الدولتين بما في ذلك إقليم النهر. وقد بدأت في ظل الاستعمار عندما كانت تغلب عليها هجرة الموريتانيين إلى السنغال للعمل في تجارة التجزئة وبعض الحرف والأعمال اليدوية، ثم لحقت بها موجة السبعينيات التي شهدت حركة في الاتجاهين، مع ذهاب سنغاليين إلى موريتانيا بحثاً عن العمل في مختلف الأعمال الحرفية وصيد الأسماك في المحيط.



[1] أو (tokoror)، وكان العرب يعرفونها جيداً، ويعنون بها بلاد السود المسلمين. ولم يتردد أحد ملوك مملكة جاو أو سنغاي (في مالي حالياً)، وهو ` ألاسكيا محمد`، في حمل لقب خليفة بلاد التكرور

[2] يُعَدّ `البول` من أكثر الأجناس الأفريقية، التي أثارت اهتمام العلماء، وألهمت خيال الأدباء. وتعددت الفرضيات المختلفة، في شأن أصلهم البعي وهم مشيج من البيض والسو أما عن هوية المكون الأبيض، فالآراء تختلف في شأنه، بين البربر و اليهود والعرب والحاميين وقدماء المصريين والهكسوس، بل الهنود والفرس والغجر. وتلفت المكانة الخاصة، التي تحتلها مصر، في معظم `النظريات`، التي قُدِّمت في هذا الصدد، سواء كوطن أصلي لـ `البول`، أو كوطن مختار، وعبور لشعب من هذه الشعوب