إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الصراع السنغالي ـ الموريتاني






المدن والأقسام الرئيسية
الأقاليم الطبيعية
القبائل الرئيسية
جمهورية موريتانيا
جمهورية السنغال



المبحث الثالث

المبحث الثالث

تطورات تصعيد الأزمة والتدخل المسلح

لم تخل العلاقات بين السنغال وموريتانيا منذ حصولهما على الاستقلال من أسباب للاحتكاك والاختلاف. وقد اتضح ذلك بصفة خاصة، في السبعينيات، بسبب ما يولده تجاور المزارعين السنغاليين والرعاة الموريتانيين من صعوبات، غير أنه لم يعرف قط أن علاقات البلدين اكتنفتها مشكلة بمعنى الكلمة، ولعل هذا يرجع إلى حرص الحكومات المختلفة، التي توالت في كل من نواكشوط وداكار، على السيطرة على زمام الأمور، وعدم السماح للموقف أن يتدهور أو للمشاكل أن تتفاقم. وكانت هذه الحكومات تهتم بإبعاد أي حادث، قد يطرأ بينهما، عن الأضواء الإعلامية وبتناوله بسرعة وفي كتمان لاحتوائه في مهده، من خلال اتصالات ثنائية هادئة.

ومن هذه الزاوية يتأكد أن الأزمة الحالية بين موريتانيا والسنغال تعد انقطاعاً في تاريخ العلاقات بين البلدين. ولا تقتصر حدتها على المستوى الثنائي، إنما تتعداه أيضاً إلى المستوى الإقليمي باعتبارها أزمة غير بسيطة ظهرت في إقليم الغرب الأفريقي وخليقة بتغيير طابعه العام، الذي اتسم حتى ذلك الحين بالهدوء والاستقرار، مقارنة بالاقاليم الأفريقية الأخرى. وعلى صعيد العالم الثالث ومكوناته، قد تنذر هذه الأزمة، كذلك، بتوليد مصدر جديد وإضافي للاحتكاك بين العالمين، العربي والأفريقي.

وكما هو الحال دائماً بالنسبة إلى كل تطور بين مرحلة ماضية ومرحلة حاضرة، لم يتبلور الجديد مرة واحدة ومن العدم وإنما تكون رويداً رويداً من عوامل متعددة تجمعت وتراكمت لتوفر له الأرضية الصالحة لإمكانية ظهوره التاريخي. لذا، وعلى عكس الاعتقاد السائد، لم تكن هذه الأزمة مفاجأة حقيقية. وكانت البوادر قد لاحت في الأفق وتعاقبت، منذ عام 1985، منذرة بهبوب العاصفة الهوجاء بشكل متزايد ومتكاثف بدأ من النصف الثاني لعام 1988، فمن احتدام المشكلة العرقية في موريتانيا والتعاطف الذي وجده التيار القومي الزنجي المتطرف الموريتاني في السنغال، إلى إقدام الحكومة الموريتانية على نزع حيازات من الأراضي من يد سنغاليين كانوا يستغلونها منذ القدم على الجانب الموريتاني لنهر السنغال، إلى الموقف المتشدد الذي اتخذته الحكومة السنغالية إزاء انتجاع قطعان مواشي الرعاة الموريتانيين في الأرض السنغالية، فالضغوط التي صار كل جانب يمارسها على حركة التبادل التجاري وعلى الانتقالات البشرية بين البلدين والمعاملات القاسية والمجحفة التي عامل بها رعايا الجانب الآخر - تعددت علامات الخطر القادم وتدافعت على وتيرة متسارعة.

أولاُ: التطورات المتبادلة بين الجانبين

يرجع الكتاب الأبيض السنغالي الخطوات التمهيدية للمؤامرة إلى عام 1985، ويرجعها الكتاب الأبيض الموريتاني إلى عام 1986. بيد أن الرئيس ولد الطايع في حديث له حدد نقطة البدء في عام 1981.

ويتحدث الجانب الموريتاني عن مطاردة قطعان الإبل الموريتانية المنتجعة بالأراضي السنغالية، في نوفمبر عام 1988، وإقدام السلطات السنغالية "من دون سابق إنذار" على منع دخول السلع الموريتانية داخل السنغال بحجج واهية متناقضة، في يناير عام 1989.

ويشير الجانب السنغالي، كذلك، إلى نفس هاتين الواقعتين وان كان يفسرهما بطريقة مختلفة، إذ يرجع مطاردة الجمال إلى عدم احترام الرعاة الموريتانيين، بتأييد وإيعاذ حكومتهم، للاتفاقات المعقودة بين البلدين، والمنظمة لحركة رعي الانتجاع، وتوقف التبادل التجاري لمبادرة من جانب موريتانيا. ويضيف موضوعاً ثالثاً لم يذكره الكتاب الأبيض الموريتاني، وهو موضوع الأراضي التي كانت بحيازة سنغاليين على الضفة الموريتانية للنهر. ولقد ارجع الكتاب الأبيض السنغالي سياسة (مصادرتها) من جانب الحكومة الموريتانية إلى عام 1985 وقرارها النهائي بالمضي في تنفيذها إلى أكتوبر عام 1988، متجاهلة، بذلك، الاتفاق الذي توصل إليه الطرفان في هذا الشأن، في 18 يونيه عام    1988[1].

وفي الواقع، إن هذه الموضوعات الثلاثة مترابطة، وتختلف أهمية كل منها في نظر كل من البلدين. فالتبادل التجاري يعد ثانوياً، ولم يلجأ كل من الطرفين إلى تجميده إلا من قبيل الضغط. والموضوعان اللذان يحظيان بالأولوية، هما إيقاف حركة إعادة توزيع الأراضي بالنسبة إلى السنغال، وعدم عرقلة حركة رعي الانتجاع بالنسبة إلى موريتانيا. فالموقف الموريتاني من الأرض، في أكتوبر 1988، أفضى إلى الموقف السنغالي من قطعان الإبل، في نوفمبر وديسمبر عام 1988، الذي أدى إلى موقف البلدين من التعامل التجاري، في يناير 1989، وإغلاق الحدود بينهما لمدة أسبوعين .

إن استرجاع شريط الأحداث في هذه الفترة، يبين الدور الضّار، الذي قامت به قوى فاعلة دأبت في كل مناسبة على توسيع الشقة بين الشعبين، وهي تنتمي إلى معسكر الغلاة في البلدين. كما يوضح لنا عاملاً آخر كان له أثراً وخيما في مستقبل العلاقات بين البلدين. ويُقصد بذلك طبيعة الموقف الذي اتخذته كل من الحكومتين الموريتانية والسنغالية إزاء التأزم المتصاعد للعلاقات بين البلدين. وهو موقف يتسم، إجمالاً، بالتعنت والتصلب وضيق الأفق.

1. حادث دياوارا سونكو

في أواخر الفصل المطير لعام 1988، بينما كان المزارعون الأفارقة السود يستعدون على الشاطئ الشمالي لنهر السنغال لزراعة أراضيهم فوجئوا بمجموعات البيضان من نواكشوط يطاردونهم.

وفي نوفمبر من العام نفسه، حُجزت قطعان من الإبل الموريتانية في السنغال، لكنها أعيدت. فردّت موريتانيا بمنع دخول السنغاليين، فرّدت داكار بإغلاق النهر عند روسو Rosso). وفي أوائل عام 1989، حظرت السنغال صيد الأسماك والمياه المعدنية، كما رفضت استيراد المواد الغذائية من موريتانيا. وهكذا أخذ الموقف في التصعيد، حتى استطاع رئيس كوت دي فوار، فيكيلي هوفي بوانية، في أواخر يناير، عقد اجتماع بين الرئيسين؛ فهدأ الموقف.

انفجرت الأزمة بفعل حادث حدودي وقع بين أهالي البلدين، في 9 أبريل 1989، بين مزارعي قرية (دياوارا Diawara ) السنغالية، ورعاة قرية (سونكو Sonko ) الموريتانية، أدي إلى سقوط قتيلين اثنين سنغاليين وعدد من الجرحى واحتجاز ثلاثة عشر آخرين في موريتانيا لمدة 48ساعة. وعدا هذه الوقائع تختلف رواية كل طرف عن هذا الحادث سواء من حيث أسباب وقوعه والبادئ فيه، والمكان الذي حدث فيه والأطراف الضالعة فيه من الجانب الموريتاني.

وعلى الرغم من التشابه بين هذا الصدام وصدامات أخرى عديدة وقعت بين الشعبين على ضفتي النهر الذي يفصل بين البلدين، قُدّر لحادث (دياوارا ـ سونكو) أن يفجر نزاعاً بينهما، يُعدّ سابقة في تاريخ علاقاتهما منذ الاستقلال. وتتضح خطورة هذا النزاع من تعدد أبعاده ومكوناته، التي تضمنت: تحركات شعبية عدائية واسعة النطاق في البلدين، وخسائر مادية وبشرية مهمة للشعبين، وتنقلات سكانية عريضة اشتملت على طرد جاليتين، ونشوء ظاهرة اللاجئين في البلدين، ومواجهة مباشرة بين الحكومتين، وطرح مسألة حدودية جديدة في القارة الأفريقية، وشنّ حرب إعلامية، ووقوع أعمال عنف بين أهالي وقوات الدولتين، ومطالبات حول حقوق عرفية.

واختلف الأسلوب، الذي عالجت به حكومة داكار (حادث دياوارا ـ سونكو)، في مجمله، عما كانت قد درجت عليه عند وقوع أحداث مماثلة، من حرص على إبعادها عن الأضواء الإعلامية، وتناولها في كتمان من خلال اتصالات ثنائية مع الحكومة الموريتانية من اجل احتوائها في هدوء. إذ زار وفد رسمي يرأسه وزير الداخلية، ويرافقه ثلاثة وزراء آخرون، قرية (دياوارا)، في 15 ابريل1989، لتقديم تعازي الرئيس عبده ضيوف للسكان، وألقى خلالها وزير الداخلية تصريحات شديدة اللهجة مندداً بالعدوان الوحشي، ومحذراً بأن الأمور تجاوزت طاقة التحمل. وقامت وسائل الإعلام السنغالية بتغطية هذه الزيارة بشكل مكثف ومعاد.

ومنذ وقوع الحادث في 9 أبريل 1989 وحتى 15 أبريل، لم يختلف موقف الحكومة السنغالية عن أسلوبها المعتاد المألوف، إذ يلاحظ أن وسائل الإعلام الرسمية امتنعت عن الإشارة إلى الحادث حتى يوم 12 أبريل وعندما أشارت إليه تناولته بشكل معتدل تماماً بعيداً عن أي إثارة. وفي اليوم نفسه، أوفدت داكار وزير داخليتها إلى نواكشوط، وأسفرت مباحثاته مع قرينه الموريتاني عن تشكيل لجنة تحقيق مشتركة. ولا ريب في أن هذا المسلك الأول لا يتفق وفكرة تحين الفرصة لتفجير الأزمة، من دون إبطاء. ولذلك، فإن تبدل هذا الأسلوب، ابتداءً من يوم15 أبريل، لم يأت إلاّ كنتيجة مباشرة لتطورات الصراع السياسي داخل السنغال، بمعنى أن المسؤولين قد اعتبروا في لحظة معينة أنه من الضروري عليهم إبداء بعض التشدد للحيلولة دون تنامي قوة معارضيهم في الساحة الداخلية، والذين اقتنصوا فرصة وقوع حادث دياوارا للتحرك على أساس اتهام الحكومة بالضعف والتخاذل أمام موريتانيا. ولقد تجسد الخطر، الذي يمثله الحزب الديموقراطي السنغالي المنافس اللدود للحزب الحاكم، عندما لاح في الأفق إمكانية عقده لتحالف مناهض للسلطة مع الحركة السياسية لإقليم النهر. فإن أول من أخبر الرأي العام السنغالي عن حادث دياوارا كانت (سوبي)، لسان حال الحزب الديمقراطي، في 11 أبريل، وبشكل استفزازي. وواظبت، بعد ذلك، في انتهاج الإثارة المعادية لموريتانيا. وتجمع أمام المسؤولين السنغاليين الشواهد الدالة على الوقع العميق لحادث دياوارا في الشعور الشعبي بإقليم النهر. فمثلما حدث في أكتوبر 1988، اندلعت شرارة أعمال الشغب في مدينة باكيل، عاصمة المحافظة، التي تقع فيها قرية دياوارا منذ 10 أبريل ولم تهدأ على أثر تدخل قوات الأمن إلاّ في 12 أبريل، وبعد تحطيم المتاجر الموريتانية فيها، وترحيل الموريتانيين منها بناء على طلب القنصل الموريتاني. ونشبت أعمال شغب في مدينتي (ماتام) و(اروسوجي)، في 16 أبريل، سقط أثناءها قتيل واحد من كل جانب. وقد أحس الوفد عند زيارته (لدياوارا) درجة الغليان، وألح وزير الداخلية على أن يظل سكانها على ثقتهم في الرئيس عبده ضيوف. وفي 19 أبريل، بادر الحزب الديموقراطي بإصدار أول بيان سياسي في الأزمة أظهرت فيه تبينه الكامل لقضية سكان إقليم النهر، فشكر أهل (دياوارا) لإبلاغهم الحزب المعارض قبل الحكومة بالحادث، الذي يُعدّ "تجسيداً دموياً للأحداث والمشاكل المتعددة القائمة على طول نهر السنغال". وأدان البيان الحكومة لتجاهلها التام للمشاكل والمصاعب، التي يعيشها سكان هذه المنطقة، وطالب الرأي العام الوطني بأن يولي اهتمامه للقلق، الذي أصبح يطغى عليهم لإحساسهم بأنهم لا يتمتعون بالحماية، التي من حقهم أن ينتظروها من جانب حكومتهم. وبالمثل اتخذ (عبد لاى باتيلي) زعيم العصبة الديموقراطية، الحزب المتحالف مع الحزب الديمقراطي ومن أبناء اشهر عائلات (باكيل)، موقفاً متشدداً ضد موريتانيا.

وقد صادفت هذه الحملة التي قامت بها المعارضة الحزبية، هوى الحركة السياسية لإقليم النهر، التي انتهزت فرصة هذا الظرف المواتي للتحرك ولكسب أرض جديدة. فتعالى صوتها، وأخذت تصدر البيانات والنداءات؛ لتؤكد وجودها كطرف رئيسي في الأزمة لا يمكن تجاهله، ولتشجب كل ما تعتبره ضعفاً أو تردداً من جانب الحكومة أو تساهلاً وتنازلاً أمام الموريتانيين، ومطالبة بانتهاج أسلوب التشدد معهم، ورفض الحل الوسط، الذي لن يكون من شأنه سوى "تأجيل حل مشكلة بلغت اليوم حالة النضج الكامل".

ومع ذلك، بقي الباب مفتوحاً أمام التسوية السلمية، وتطويق النزاع الناشئ باتفاق وزيري داخلية البلدين، في 19 أبريل عام 1989، في ختام زيارة الوزير الموريتاني داكار، على تأمين سلامة رعاياهما وأموالهما، وبدء لجنة التحقيق المشتركة عملها في 22 أبريل. ولكن كل ذلك كان دون المطلوب، إذ اتضح أن الظرف السياسي الداخلي الخاص، الذي تبلور في البلدين من جراء (حادث دياوارا ـ سونكو)، كان يتضمن احتمالات تخريبية رهيبة؛ لانطوائه على عناصر ثلاثة خطيرة غير عادية. يتمثل في الآتي:

أ. توفير المفجر الذي تحتاج إليه حالة (الشغبية العامة)، التي تسود المجتمع الحضري السنغالي، للانفجار وتفريغ شحناتها.

ب. إتاحة الفرصة الذهبية لمعسكر الغلاة في البلدين للتحرك، واستثمار هذه الأزمة الثنائية لصالحهم. وهو عنصر كان غائباً في الثورات الشعبية السابقة في السنغال.

ج. الضعف، الذي أبدته السلطة في الدولتين، وعجزهما عن ملاحقة إيقاع الأحداث المتدفقة، والذي أدى إلى اتباعها أسلوب مسايرة التطرف وعدم التصدي له بكل حزم، كما كان يقتضيه مطلب إنقاذ العلاقات السلمية بين الشعبين.

2. موجات العنف الأربع

الموجة الأولى: امتدت الموجة الأولى من 22 وحتى 26 أبريل 1989، في السنغال، في شكل فتنة شعبية عارمة في إقليم النهر ومنطقة داكار وكافة مدن وقرى السنغال تقريباً، على نطاق أوسع مما سبق أن تعرضت لها منطقة العاصمة ومدينة تييس في عام 1988. وتسببت في أضرار مادية بالغة للممتلكات الموريتانية، إذ تم خلالها تحطيم معظم المتاجر، التي كان يمتلكها الموريتانيون في السنغال، ونهب وسلب سلعها والاستيلاء على مواشيهم. وإذا كان الكتاب الأبيض السنغالي قد أرجع إنقاذ حياة الموريتانيين إلى فضل التدخل الفوري لقوات الأمن، فالحقيقة أن تدخلها لم يكن يتسم لا بالسرعة ولا بالقوة اللازمتين. وتجمع الشهادات كلها، من مختلف المصادر، على أن هذه القوات من شرطة ودرك (جندرمة)[2]. وجيش أبدت تخاذلاً بيناً. الأمر الذي يرجح أن تكون السلطات السنغالية، وجهات الأمن، بصفة خاصة، كانت قد قررت عدم التصدي الفعلي لهذه الموجة من العنف الشعبي.

وكانت أعمال الشغب في هذه المرحلة تستهدف تحطيم متاجر الموريتانيين، والاستيلاء على أموالهم، أي أنها مرحلة التخريب والنهب.

الموجة الثانية: وبإتمام الموجة الأولى للعنف الجماعي، وبسبب تخاذل الموقف الحكومي السنغالي، والدور الذي قام به عامل التخريب المنظم على أيدي المتطرفين، كانت الأزمة السنغالية الموريتانية قد وصلت إلى نقطة اللا عودة، التي لا يتيسر بعدها إرجاع العلاقات الثنائية إلى ما كانت عليه قبل 9 أبريل 1989. فلقد حركت هذه العوامل الدائرة المفرغة للأفعال وردود الأفعال، إذ أثرت تأثيراً مباشراً في تحديد الموقف الحكومي الموريتاني، وأفضت إلى قيام موجة ثانية من العنف الجماعي في موريتانيا هذه المرة، في نواكشوط ونواذيب بصفة رئيسية، في 24 أبريل 1989. اتخذت هذه الموجة شكل أعمال نهب وسلب، قامت بها أساساً مجموعات من (الحراتين)، على غرار ما حدث في اضطرابات عام 1966 ضد أفراد الجالية السنغالية، ولم يسفر عنها إلاّ عدد من القتلى، من قبيل الخطأ، على ما يبدو. واتسم موقف قوات الأمن حيالها بالسلبية والتخاذل، بصفة عامة، حسب ما أمكن استخلاصه من شهادات السنغاليين العائدين إلى بلادهم ممن عاصروا الحدث، ومن عناصر المعارضة الديموقراطية الموريتانية. وبهذا الشكل بدت هذه الموجة الموريتانية كنوع من التكرار المضاد للموجة الأولى السنغالية. ومن المرجح أن الدوائر الأمنية في النظام الموريتاني قد وجدت فيها الوسيلة للانتقام عما لحق بالجالية الموريتانية في السنغال من خسائر جسيمة. وقُدّر أن يكون لهذا الموقف الذي اتخذته السلطات الموريتانية أثر وخيم في بقية الأحداث، إذ سرعان ما انفلت الوضع بقيام موجة ثالثة من العنف في موريتانيا.

الموجة الثالثة: تفجرت هذه الموجة، في 25 أبريل عام 1989، واختلفت عن الموجة السابقة، إذ استهدف العنف، هذه المرة، قتل السنغاليين، وليس مجرد نهب متاجرهم. ثم انطوت هذه الموجة على تحرك واسع للعناصر المنظمة الشوفينية، التي أخذت تصول وتجول في نواكشوط ونوازيب في شاحنات محملة بمجموعات من الحراتين. وأخيراً، عاصرها فيض من الشائعات الرهيبة عن فظائع ارتكبت ضد الموريتانيين في السنغال من قتل وتعذيب وتمثيل وهتك للأعراض كان لها أسوأ الأثر في الرأي العام الموريتاني.

ووجه وزير الداخلية الموريتانية في مساء 25 أبريل بياناً شديد اللهجة، يهيب بالشعب التصدي لمثيري الشغب ويبدو أن قلقا ساور المسؤولين من احتمال وقوع انقلاب في غضون أعمال العنف الواسعة النطاق، التي شهدتها العاصمة والميناء الأول للبلاد بصفة خاصة، في ذاك اليوم. وكان لا يزال أثر هذا القلق محسوساً في الخطاب، الذي ألقاه رئيس الدولة، بعد أثنى عشر يوما. وقد نبه فيه إلى خطورة الوضع، وحذّر من أي محاولة للإخلال بالنظام العام (بأي شكل من الأشكال ومهما كانت الجهة التي تصدر منها ستعتبر خيانة عظمى وتعامل على هذا الأساس). ويشير الكتاب الأبيض الموريتاني إلى إلقاء القبض على 200 شخص، ولجوء قوات الأمن إلى إطلاق النار.

في يوم الثلاثاء 25 أبريل تمت مصادرة أموال مئات من السنغاليين في موريتانيا ونقلهم، كما جرح عدد كبير، وحدثت عمليات ضخمة من الهجرة والخروج. وعندما وصلوا إلى السنغال حدثت مطاردة في 27 ، 29 أبريل وقتل أكثر من خمسين شخصاً، معظمهم من دكار، واستدعي الجيش وفرض حظر التجول في الدولتين، وبعد ذلك، وفي ظل المساعدات الخارجية، بدأت طلقات النيران تخف، وتم نقل 100.000 شخص جواً، كما عبر أكثر من هذا العدد براً.

وفي أول يونيه قدر عدد المهاجرين السنغاليين بحوالي 75 ألف شخص، والموريتانيين حوالي 170 ألف شخص عادوا إلى وطنهم الأصلي.

ويتبين من مختلف الشهادات التفاوت في موقف رجال الأمن إزاء المذابح من التصدي لها بحزم إلى التساهل وغض الطرف عنها. ويبدو من هذه الشهادات أن عمليات القتل استمرت في نواذيب حتى 26 أبريل.

ولم تتسرب الأنباء إلى السنغال عن المذابح إلا مع وصول أول فوج من السنغاليين المرحلين من موريتانيا إلى داكار في 27 أبريل؛ لتبدأ الموجة الرابعة.

الموجة الرابعة: وهي التي عمت العاصمة السنغالية وكل مدنها وقراها ابتداءً من مساء 27 أبريل حتى الثلاثين منه. وقد شهدت هذه الأيام تجدد الفتنة الشعبية، التي استوجبت من السلطات إعلان حالة الطوارئ، وحظر التجوال مساء 28 أبريل.

وتميزت هذه الحلقة الختامية للمأساة بأن العنف خلالها قصد قتل الموريتانيين، وليس نهبهم وتحطيم متاجرهم، انتقاماً للسنغاليين، الذين لقوا مصرعهم في موريتانيا، مع انتشار موجة الشائعات المروعة، كالنار في الهشيم، عن البشائع التي تعرضوا لها. كما شهدت تحركاً للمجموعات المنظمة من المتطرفين. وهناك شهادات واقعية متعددة تفيد أن القتل حدث، في كثير من الحالات، على أيدي عناصر غريبة عن الأماكن التي وقعت فيها. ولعل السياسي السنغالي الوحيد، الذي ألقى نظرة إلى هذه الأحداث مجردة من المجاملة الوطنية إلى حدٍّ ما، هو أحمد دنسوخو، زعيم حزب الاستقلال والعمل اليساري الماركسي، الذي تكلم عن (انفجار الهمجية) في السنغال للمرة الأولى وعَدّها من المعطيات السياسية، التي استجدت عليه. والتي تستوجب في رأيه التخلي عن إستراتيجية تصعيد التوتر، التي تنتهجها المعارضة في صراعها ضد السلطة. وأشار في أحاديثه إلى وجود العصابات المنظمة، وإلى القوة التدميرية الهائلة التي تفرزها قطاعات عريضة من الشعب فقدت استقرارها الاجتماعي، وصارت تعيش على هامش المجتمع.

3. تصاعد الأزمة بين الدولتين

وعند هذه المرحلة، صعد الخلاف إلى مرتبة التعارض العلني المباشر بين الحكومتين، وتحولت كل منهما إلى مدافع غيور عن مصالح رعاياها. وعندئذ، حدث شرخ عميق في العلاقة بين رئيسي الدولتين، مسبباً أزمة ثقة حادة بينهما، لم تلبث أن صارت قطيعة تامة، بعد أن كانا على اتصال دائم هاتفياً طوال الأيام الأولى للازمة. وأصبح لدى كل منهما الإحساس بأنه تعرض لخداع وتضليل من الطرف الآخر.

وفي 27 أبريل، أذاعت الحكومة السنغالية بياناً عن الاحتجاج شديد اللهجة، الذي قدمته إلى الحكومة الموريتانية لعدم اتخاذها التدابير اللازمة لإنقاذ حياة السنغاليين وممتلكاتهم في موريتانيا. وأعلن البيان أن السلطات السنغالية تحتفظ لنفسها بحق اتخاذ ما ينبغي اتخاذه في حالة ثبوت مسئولية قوات الأمن الموريتانية في الأضرار، التي لحقت بمواطنيها.

وفي مساء يوم 29 أبريل 1989، خرج الرئيس السنغالي للمرة الأولى عن الصمت، الذي كان قد التزم به منذ بداياه الأزمة، وألقى بياناً إلى الأمة أعرب فيه عن "اشمئزازه الشخصي للمعاملة اللاإنسانية والمهينة"، التي تعرض لها السنغاليون في موريتانيا، والتي فاقت في بشاعتها حدود الخيال. وأبدى الرئيس السنغالي استعداده لإحالة النزاع إلى لجنة دولية. كما وزعت الحكومة السنغالية مذكرة على الوفود الدائمة بالأمم المتحدة، في 30 أبريل 1989.

وتضمن الفصل الختامي للمرحلة الساخنة ظاهرة أخرى أسهمت بدورها في زيادة الخسائر، التي سببتها الأزمة، وأضافت عنصراً آخر إلى عناصرها. ويقصد بذلك عملية ترحيل كل دولة لمواطني الدولة الأخرى. وقد تناولت المحادثات الهاتفية بين الرئيسين، عبده ضيوف وولد الطايع، هذا الموضوع، واستجابت له الحكومة الموريتانية تحت إلحاح السلطات السنغالية. وتحدث البيان السنغالي ليوم 27 أبريل للمرة الأولى عنه علناً. ولقد بدأت عمليات محدودة من الترحيل منذ 25 أبريل بواسطة طائرات الدولتين، التي نقلت بعض الموريتانيين ثم تحول الترحيل إلى عملية عامة شملت كل مواطني الدولتين تقريبا. وقد تمت من خلال جسر جوي ضخم من طائرات النقل الحربي، التي قدمتها فرنسا وأسبانيا والمغرب والجزائر، واستمر عاملاً حتى 10 مايو1989، إضافة إلى حالات فرار فردية تمت بالجهود الذاتية عبر النهر والمحيط، وبالنسبة إلى الموريتانيين من خلال دول مجاورة كجامبيا ومالي وغينيا بيساو. وتعرض المرحلون من الدولتين خاصة بالداخل، وعند المنافذ النهرية، لأعمال عنف وسطو ومصادرة لأموالهم وأمتعتهم من جانب قوات أمن البلد الأخر.

أُنجزت عملية الترحيل بالاتفاق المباشر بين الحكومتين، من دون الرجوع إلى رغبة المعنيين بالأمر أنفسهم، باعتبار أن التهجير إجراء طوارئ مستعجل، أملته الظروف القاهرة، بهدف إنقاذ حياة من شملهم الترحيل، والتي لم تكن تسمح الظروف بالتعرف على رغباتهم فرداً فرداً. وقد لجأ أغلبهم إلى مراكز التجمع في البلدين من تلقاء أنفسهم وقد تملكهم الفزع. يضاف إلى ذلك، عملية طرد أو إجلاء قامت بها موريتانيا لأعداد من المزارعين السنغاليين كانوا يستغلون أراضي لهم في الجانب الموريتاني لنهر السنغال.

عادت موريتانيا وعَدّت أن إصرار الحكومة السنغالية على إتمام الترحيل، إنما كان يستهدف اقتلاع جذور الجالية الموريتانية من السنغال لإحلال السنغاليين محلها في المراكز، التي كانت تشغلها في التجارة وغيرها. ولا شك أن لموريتانيا أسباباً قوية تدعوها للتحسر والندم على ضياع مهجر هام كالسنغال. ولكن يصعب تصور حل آخر غير الترحيل الاضطراري، في هذه الأيام العصيبة، لإنقاذ حياة الأبرياء على الجانبين.

4. مرحلة المجابهة طويلة الأمد

ببلوغ الأزمة هذا الحد، وانحسار موجة العنف الرابعة، تكون قد أُفرغت من طورها الساخن سريع الحركة لتدخل طور المجابهة الثابتة، بطيئة الإيقاع، طويلة النفس. وظلت الأمور تتجه إلى مزيد من التعقيد بسبب ظهور عناصر جديدة باستمرار. كما ظل أسلوب إدارة النظامين للأزمة خاضعاً لنفس المؤثرات وأهمها: الضغط في اتجاه التشدد الذي يمارسه معسكر الغلاة في كل من البلدين على حكومته من ناحية، والتقوية المتبادلة للمتطرفين على أساس أن كل تطرف يغذي التطرف الآخر من ناحية أخرى. وقد ثبت عجز النظامين عن الخروج من هذه الحلقة المفرغة.

وفي4 مايو 1989، وزعت الحكومة الموريتانية مذكرة على وفود الأمم المتحدة. وفي 7 مايو 1989، ألقى رئيس موريتانيا العقيد ولد الطايع خطاباً عاماً للمرة الأولى منذ انفجار الأزمة. وتبلور في هاتين المناسبتين التفسير الرسمي، الذي اعتمده النظام الموريتاني، للنزاع، وهو يتلخص في أنه نزاع مختلق، افتعلته مؤامرة نفذها النظام السنغالي واللوبي المعادي، وحَمّل السنغال المسؤولية الكاملة لكل ما حدث، في حين أظهر الرئيس السنغالي قدراً من المرونة في موضوع توزيع المسؤوليات، في خطابه، في 29 أبريل.

وأقدمت السلطات الموريتانية على خطوة أخرى، كان من شأنها أيضاً تعقيد النزاع بين البلدين، وهي تتمثل في طرد وإبعاد أعداد من مواطنيها إلى السنغال. وقد بدأت هذه العملية، في أوائل مايو 1989، واستمرت حتى نهاية شهر أغسطس 1989، بشكل مكثف، ثم بشكل فردي انتقائي، خلال النصف الأول لعام 1990. وبررت الحكومة الموريتانية هذا الإجراء بحجج مختلفة منها أنه يمثل الرد على طرد السلطات السنغالية لسنغاليين من عرق المور من ذوى الجنسية السنغالية، ومنها أيضاً اعتبار المبعدين حاصلين على الجنسية الموريتانية زوراً وبطرق غير مشروعة، وهم مهاجرون سنغاليون أصلاً استقروا في موريتانيا، ولا يدينون بالولاء للدولة الموريتانية، مع الإقرار بأن عدد محدود من (البول) الموريتانيين فرّوا من تلقاء أنفسهم، ومن دون إكراه من جانب السلطات الموريتانية، وقد عادت غالبيتهم إلى موريتانيا 1989[3].

وقد نفت الحكومة السنغالية، أول الأمر، وبشكل قاطع، إبعادها لعدد من مواطنيها من (المور)، ثم عادت وأقرت في بيانها يوم 3 يوليه 1989، بإمكانية وجود عدد من هؤلاء المور السنغاليين ضمن من شملتهم عملية الترحيل، وأنهم خرجوا طواعية من بلادهم من دون إكراه من أحد، وأعلنت استعدادها لاستقبالهم من جديد[4].

وبهذا الشكل أصبح النزاع يتضمن شقاً متعلقاً باللاجئين، من البلدين في أراضي البلد الآخر. وفي حين يبدو أن خروج المبعدين السنغاليين إلى موريتانيا قد تم إرادياً من جانب المعنيين بالأمر، بدافع من الخوف في جو الهلع والتعجل، الذي ساد الرحيل عن طريق الجسر الجوي، فمن المرجح أن يكون خروج المبعدين الموريتانيين إلى السنغال قد تم، في أغلب الحالات، بشكل مخطط على الأقل، من جانب الدوائر الشوفينية المسيطرة على أجهزة الإدارة المحلية والأمنية في الجنوب الموريتاني.

وفي البيان نفسه، طرحت الحكومة السنغالية رأيها في موضوع الحدود. وكان من البديهي أن يؤدي تشدد موقف النظام الموريتاني إلى تشدد مقابل من جانب النظام السنغالي، الذي تخضع تصرفاته إلى حدٍّ مؤثر لاعتبارات الصراع السياسي والحزبي الداخلي. ففي 8 مايو 1989، رفض وزير الاتصال السنغالي في مؤتمر صحفي الاتهامات الموريتانية، ووصف مسلك حكام نواكشوط بالخداع. وفي 11 مايو 1989، وزعت الحكومة السنغالية مذكرة على الوفود الدائمة بالأمم المتحدة، أعلنت فيها قبولها للجنة تحقيق دولية ودمغت الأوضاع في موريتانيا، بالعنصرية المعادية للزنوج، واتهمت بدورها السلطات الموريتانية بالتواطؤ في قتل السنغاليين. وتقدم السنغال بطلب إلى منظمة الوحدة الأفريقية لتشكيل لجنة تحقيق في إطارها، للنظر في النزاع. استعدت الحرب الإعلامية بين الدولتين بعد الهجوم، الذي شنته الأجهزة الرسمية السنغالية للمرة الأولى ابتداءً من 9 مايو 1989، لتهدأ بعد ذلك من دون أن تختفي كلية. وفي 12 يوليه 1989 صرح الرئيس السنغالي للإذاعة الفرنسية أن طرد الموريتانيين من بلادهم "بسبب لونهم يعد فضيحة يجب أن يوضع حد لها". وفي 20 يوليه 1989، رفعت الحكومة السنغالية ما وصفته بمذكرة معلومات إلى مجلس الأمن بالأمم المتحدة، جاء فيها أن وساطة منظمة الوحدة الأفريقية لم تبلغ الهدف المنشود بسبب إقدام موريتانيا على طرد رعاياها من السود إلى السنغال، وأن هذا الإجراء يمثل تهديداً للسلام بين الدولتين وبالنسبة إلى إقليم الغرب الأفريقي برمته، بل للأمن والسلام الدوليين. تلي ذلك مذكرة من موريتانيا إلى مجلس الأمن، تتهم فيها السنغال بعرقلة جهود الوساطة، وبنية إشعال صدام عسكري، وبطرد مواطنين سنغاليين إلى موريتانيا، واحتجاز موريتانيين في السنغال. وفي 23 مايو 1989، قررت الحكومة الموريتانية استدعاء سفيرها بداكار، وطلبت من السفير السنغالي بنواكشوط مغادرة موريتانيا باعتباره (شخص غير مرغوب فيه) لتوزيعه مذكرة على البعثات الدبلوماسية المعتمدة فيها بوجهة نظر حكومته.

أقدمت الحكومة السنغالية على قطع العلاقات الدبلوماسية، في 23 أغسطس 1989. وفي خلال الشهر نفسه، كانت كل من الحكومتين السنغالية ثم الموريتانية قد أصدرت كتابها الأبيض في النزاع، وهو مستند دعائي بالدرجة الأولى، لا يتناسب وروح الحل الوسط، التي تتطلبها التسوية السلمية بطبيعتها.

وفي 25 أغسطس 1989، طلبت الحكومة الموريتانية نقل منظمة استغلال نهر السنغال من داكار إلى باماكو؛ لعدم تمكن الموظفين الموريتانيين في المنظمة من مباشرة أعمالهم بالمقر الحالي، ولتوقف عمل المنظمة بسبب النزاع. كما طلبت إيقاف رحلات شركة (ايير أفريك) للخطوط الجوية، التي كانت تربط نواكشوط بداكار. وفي 13 يوليه 1990، قطعت موريتانيا الاتصالات الهاتفية والتلكسية بين البلدين.

ثانياً: الأعمال العسكرية

حظي النزاع السنغالي الموريتاني باهتمام كبير، منذ يومه الأول، بمحاولات الحل السلمي من كلا الجانبين. ولكن لم يحل إعلان الدولتين المتنازعتين استعدادهما للتسوية السلمية والمفاوضات والاتصالات، التي تجريها مع الأطراف الضالعة في هذه المساعي، دون نشوء احتكاكات وعمليات ذات طابع حربي بين أهالي البلدين تشترك فيها من حين إلى آخر القوات المسلحة للدولتين.

وفي مجال أعمال العنف والأعمال العسكرية يمكن التمييز بين مكونات ثلاثة ـ وإن اختلفت من حيث طبيعتها فإنها تشترك في قاسم مشترك واحد ألا وهو تغذية حالة من التوتر العسكري على الحدود بين الدولتين البالغ طولها 613كم، وقد تتحول لهذا السبب إلى نوع من جبهة قتال أو خط النار بينهما، وهذه المكونات هي:

  • أعمال العنف، التي يشنها أهالي البلدين.
  • العمليات المسلحة للمعارضة الموريتانية.
  • التدخلات والاشتباكات، التي تقوم بها القوات المسلحة للدولتين.

1. أعمال العنف الأهلية

العنف المسلح غير الرسمي يتمثل في عمليات حرب العصابات أو السلب والنهب المنظم، الذي شهده النزاع الموريتاني ـ السنغالي. وقد استهدفت عمليات العنف المسلح غير الرسمي حرمان الدولة من بسط نفوذها وسيطرتها على المنطقة موضوع النزاع.

ويجسد النزاع السنغالي ـ الموريتاني الأشكال المختلفة للعنف المسلح غير الرسمي، حيث شهد هذا النزاع أعمال عنف متبادلة بين مواطني الدولتين منذ أواخر عام 1989، حيث تكونت عصابات أهلية للقيام بأعمال عنف وإرهاب تجاه الأفراد بالدولة الأخرى، كما قامت الدولتان بدعم أنشطة الجماعات المناوئة للنظام الحاكم في الدولة الأخرى، سواء اتخذ ذلك الدعم صورة معونات عسكرية ومادية مباشرة، حيث رأت كل من الدولتين في هذا السبيل أداة للضغط على الطرف الآخر.

بدأت أعمال العنف الأهلية منذ أواخر مايو عام 1989، انطلاقاً من رغبة الموريتانيين المطرودين من بلادهم ـ وفي حالات نادرة من بعض السنغاليين من الذين تم إجلاؤهم من الأراضي التي كانوا يستغلونها على الجانب الموريتاني من النهر - استرداد مواشيهم، وبعض ممتلكاتهم التي جُرِّدوا منها. وتولت عصابات محترفة خاصة من (البول) السنغاليين والموريتانيين المطرودين القيام بهذه المهمة، التي تتمثل في عبور النهر ليلاً، خاصة في الموسم الذي ينخفض فيه منسوب المياه، والدخول في الأراضي الموريتانية، والاستيلاء علي رؤوس المواشي أو أموال أخرى. والاشتباك، في سبيل ذلك، مع الأهالي الموريتانيين الجدد من (الحراتين)، الذين حلّوا محل المبعدين (والمحليين) في منازلهم وقراهم أو مع دوريات الحرس الوطني، ثم العودة إلى الجانب السنغالي للنهر وتسليم الأموال (المستردة) إلى أصحابها، وذلك في مقابل أجر نقدي أو عيني، يتكون من جزء من هذه المواشي أو الأموال.

زاد عدد هذه العصابات لتصل إلى حوالي ثلاثين مجموعة، في رأي مصادر معينة، وهي مزودة بأسلحة بيضاء أو نارية شخصية. وسريعاً ما تطورت بعض هذه الأعمال، المجردة من الطابع السياسي، والتي تنتمي بالأحرى إلى القرصنة، ومنطق قطاع الطرق، إلى ممارسة الإرهاب والنهب ضد الأهالي الموريتانيين، وأحياناً السنغاليين من دون تمييز. فضلاً عن القيام لحساب العصابات نفسها بالسطو على قطعان المواشي وسلب الأموال. وفي المقابل سُجّلت بعض العمليات المضادة، التي نفذها (الحراتين) الموريتانيون في الجانب السنغالي للنهر.

2. الكفاح المسلح للمعارضة الموريتانية

منذ يوليه 1989، تعقد الوضع مع ظهور عمليات ذات طابع سياسي، تُشَنّ داخل الأراضي الموريتانية، انطلاقاً من الأراضي السنغالية، ومن معسكرات اللاجئين الموريتانيين، على وجه التحديد. وقد لوحظ أن هذه العمليات تزداد تنظيماً وتسليحاً مع الوقت وتقودها أو تشترك فيها عناصر من القوات المسلحة الموريتانية، من ضباط وصف ضباط وجنود تم تسريحها وإبعادها إلى السنغال. ويعتمد تسليح هذه المجموعة على الأسلحة المستولى عليها من القوات الموريتانية، وعلى سوق السلاح المحلي في المنطقة، من بنادق حربية ورشاشات خفيفة. وقد وجدت ثلاثة تنظيمات سياسية موريتانية تقوم بمثل هذه العمليات: جبهة (الفلام) FLAM (اُنظر ملحق لبعض الكلمات والمصطلحات التي وردت في البحث) التي أنشأت (قوات تحرير)، وجبهة (الفورام) التي تنوي أن تحل محلها، وقد تصبح القوة الرئيسية للمعارضة الموريتانية المسلحة، وجبهة (الفروديم)، التي تشارك في العمل المسلح وإنما على نطاق محدود.

أنشئ تنظيم الفورام (أي الجبهة المتحدة للمقاومة المسلحة في موريتانيا FURAM) في السنغال، في يناير 1990. وإن كان ميثاق هذا التنظيم ينص على "تجرده من كل تلون عنصري أو عرقي، فالثابت أنه لا يضم سوى عناصر سوداء غير معربة، معروفة بالدوران في فلك التيار القومي الحزبي المتطرف، وأنه لا يثق في المور. ويقدم هذا التنظيم الجديد نفسه على أنه التنظيم القادر على تحمل أعباء النضال المسلح الذي خلت منه الساحة الموريتانية حتى الآن باعتباره الخيار الوحيد لمقاومة النظام الموريتاني، القائم على التمييز العنصري لمصلحة جماعة البرابر والعرب وحدها". وعلى الرغم من كون هذا التنظيم حركة سياسية إلاّ أن الطابع العسكري يغلب على برنامجه وكوادره فتضم أجهزته فضلا عن المجلس الأعلى والمكتب التنفيذي، الأركان العامة لقوات المقاومة. ويتكون المجلس الأعلى، إلى جانب أعضاء المكتب التنفيذي، من مندوبين عن المناطق العسكرية، وعلى رأسهم القائد العام لقوات المقاومة.

أما عن جبهة (الفروديم)، فلقد تكونت في 24 أغسطس 1989، ويمكن اعتبارها أحدث نتاج لتيار الحركة الوطنية والديموقراطية الموريتانية، في ذلك الوقت وتدعى (جبهة المقاومة من أجل الوحدة والاستقلال والديموقراطية في موريتانيا FRUIDEM)، وهي تضم عناصر من السود غير المعربين وبعض المور.

وتتهم الحكومة الموريتانية السنغال بالتدخل في الشؤون الداخلية الموريتانية، وبأن الحكومة السنغالية أعطت لنفسها الحق في فرض ولايتها على الموريتانيين السود. وتعتبر أن كل أعمال العنف على الحدود ـ وهو موضوع توليه اهتماما كبيرا ـ يتم بتدبير وتسليح السلطات السنغالية، بل إن القائمين بها سنغاليون. وفي الواقع يصعب رَدّ العمليات التي تقوم بها المعارضة الموريتانية إلى التدبير السنغالي. إلاً أن هذا هو رأى السلطات الموريتانية التي تنكر وجود أي مشكلة عرقية في موريتانيا وتنفي وجود معارضة سوداء موريتانية ولا ترى في هذا وذاك سوى أصابع لأياد سنغالية.

أما التحليل الموضوعي، فيرى في معسكرات اللاجئين الموريتانيين، منبتاً ومرتعاً للقائمين بهذه العمليات المسلحة. إذ يتبين، أن نشوب الأزمة الموريتانية ـ السنغالية، قد أسهم في تزايد جديد لحدة المشكلة العرقية داخل موريتانيا، وانعكس في تنشيط المعارضة وتهيئة الجو المواتي للأعمال العسكرية. فالكفاح المسلح فرض نفسه كالشكل الرئيسي للمقاومة من الناحيتين، النظرية والعملية. ولقد أخذت به كافة فصائل المعارضة، وليس فقط التيار القومي الزنجي المتطرف، كما أنه لم يعد يقتصر على عمليات إرهابية نادرة الحدوث، وإنما تطور إلى عمليات فدائية متعددة تنطوي على الاشتباك المسلح. ولولا إقدام السلطات الموريتانية على إبعاد وطرد أعداد من مواطنيها، وفرار آخرين من تلقاء أنفسهم، فزعاً وخوفاً، وتجريد هؤلاء جميعاً من أموالهم ومواشيهم وأراضيهم ومنازلهم وقراهم، ولولا تكريس سياسة إسباغ الطابع العربي الخالص على الدولة، وتعزيز سيطرة العناصر الشوفينية العربية، لما كان من المحتمل انتقال المعارضة إلى هذا الطور الجديد لنشاطها. ولولا وجود هؤلاء اللاجئين المعدمين البؤساء الساعين إلى استرداد ما انتزع منهم قسراً، لما حدثت أعمال العنف والسطو، التي تقوم بها العصابات المحترفة.

ولكن لا يعني ما تقدم نفي حقيقة أخرى تتمثل في اعتبار النظام السنغالي نفسه معنياً بوضع ومصير السود غير المعربين الموريتانيين. وهو موقف تشاركه قطاعات عريضة من الرأي العام السنغالي، تتجاوز حدود الحركة الشعوبية لإقليم النهر.

ولقد أصبح الاهتمام بوضع السود الموريتانيين يمثل المطالبة الثالثة الأساسية، التي يتشكل منها الموقف السنغالي من الأزمة وتسويتها ـ بعد الحدود والحقوق العرفية ـ وهو يخص احترام حقوق الإنسان. وهو مبدأ يشمل الدفاع عن حقوق الإنسان الأسود الموريتاني اللاجئ، الذي طرد من بلاده ومنها حقه في العودة إلى وطنه، واستعادة أمواله، أو حصوله على تعويض عنها، والدفاع عن حقوق الإنسان الأسود الموريتاني غير اللاجئ، والمقيم في موريتانيا، كغيره من الموريتانيين غير السود.

ولم تتأخر السلطات الموريتانية في الرد بالمثل واتهام النظام السنغالي بالعنصرية المعادية للعرب، وبالعرقية المعادية لعرق (الديولا) في جنوب السنغال، حيث أخذت الحركة الانفصالية التي تقودها "حركة القوى الديمقراطية للكازامانس" تنشط منذ أبريل عام 1990 وتنتقل إلى مرحلة جديدة في كفاحها المسلح. وقد رأى بعض المحللين في السنغال، في هذا التطور، أثراً لتدخل أجنبي بل موريتاني، على وجه الخصوص، لما يسببه للسنغال من توزيع لقواه بين الشمال والجنوب.

فقد صرح الرئيس عبده ضيوف للصحفيين الأجانب أنه "يرى في تنشيط عمليات الحركة الانفصالية في الكازامانس أثراً لأيادي أجنبية". وعقب هجمات الحركة الانفصالية الكازامانسية، في 12 و 13 أكتوبر 1990، صعدت السلطات السنغالية موقفها، إذ نشرت وكالة الأنباء السنغالية نبأ ورد فيه "أن معظم أسلحة الانفصاليين عراقية، وقادمة من موريتانيا، حيث يتلقون تدريباتهم العسكرية، ولهم قواعدهم في جامبيا وغينيا بيساو".

وترددت الأنباء في الأوساط الصحفية والأمنية والدبلوماسية في العاصمة السنغالية أن هذا الدور الموريتاني يجرى بواسطة القنصلية الموريتانية في بانجول، التي يتردد عليها ضباط موريتانيون، والتي على اتصال مباشر "بحركة القوى الديمقراطية الكازامانسية،" التي تحصل منها على الدعم والأسلحة. وهو اتصال سمحت به ظروف الفتور بين السنغال، من جانب، وكل من جامبيا وغينيا بيساو، من الجانب الآخر.

3. تدخل القوات المسلحة

إزاء الغارات، التي تشنها العصابات المحترفة والجماعات السياسية المسلحة، اتخذت السلطات الموريتانية تدابير أمن معززة. فقد سُلِّح أهالي القرى على الجانب الأيمن من النهر والمعرضة لهذا النوع من الهجمات، ومنها القرى التي أخليت من سكانها الأصليين، الذين تعرضوا للطرد، وأعيد إسكانها بواسطة حراتين ومور آخرين. كما عمل الحرس الوطني على منع اجتياز السنغاليين خط منتصف النهر، الذي تَعُدّه موريتانيا خطا فاصلا بين إقليمها والإقليم السنغالي، بإطلاق النار من دون سابق إنذار على الصيادين، الذين يتعدون هذا الخط، بل أحياناً من باب الانتقام. ومن قبيل هذه التحرشات، احتجاز القوات البحرية الموريتانية قوارب صيد سنغالية بالنهر أو في المحيط الأطلسي، والقبض على أطقمها بتهمة دخولها المياه الإقليمية الموريتانية.

هذا وقد احتلت القوات المسلحة للدولتين، عقب حادث دياوارا ـ سوكونو، مواقعها وجهاً لوجه. وتركزت الدفاعات السنغالية حول مدينة سانت لويس وسد دياما وشركة السكر بريشارد تول. واشتركت هذه القوات في عدد من الاشتباكات اتخذت شكل التراشق بالأسلحة الخفيفة والهاونات والمدفعية الميدانية، سببت خسائر في الأرواح على الجانبين، كما حدث في أغسطس وسبتمبر وأكتوبر وديسمبر 1989، ويناير ويوليه 1990.

وغالباً كانت القوات المسلحة تتدخل على أثر اشتباك بين أهالي البلدين، أو رداً على إطلاق جنود الحرس الوطني الموريتاني النيران على المدنيين السنغاليين. وعلى الرغم من عدم حدوث تصادم مسلح بين الجيشين، فإن احتمال وقوعه كان قائماً. ومن الثابت أن بكلا البلدين صقوراً يحبذون الحل العسكري. ففي السنغال، يتمشى هذا الخيار مع أسلوب التشدد الذي تنادي الحركة الشعبية بانتهاجه مع موريتانيا، مطالبين بعبور القوات السنغالية النهر واحتلالها ضفته الشمالية باعتبارها أرضاً سنغالية[5].

وإذا كان الرئيس عبده ضيوف ومعاونيه قد أعلنوا غير مرة أنهم لا يبغون الحرب إلاّ أنهم حرصوا على توضيح أن تفضيلهم الخيار السلمي لا ينم عن أي استعداد من جانبهم للتنازل عما يَعدّونه حقوق السنغال ومصالحه.

وبالمثل وجد منطق الحرب أنصاره في موريتانيا لدى التيار الشوفيني العربي وحلفائه، داخل الهيئة القيادية للنظام. وكان هدف هؤلاء هو شن القوات الموريتانية هجمات وقائية ضد مراكز تجمعات اللاجئين الموريتانيين، التي تأوي قواعد المعارضة، وضد القوات السنغالية لردعها، وإنزال خسائر بها. ومع تأكيده لخيار السلام، قال الرئيس ولد الطايع "إن بلاده تتخذ كافة الاحتياطات للقضاء على الغارات". وقد صرح العقيد جبريل ولد عبد الله، زعيم الصقور داخل اللجنة العسكرية للخلاص الوطني الموريتانية، للتلفزيون الفرنسي، في أول مايو 1989، "أن احتمال الحرب قائم وأن بلاده مستعدة إذا ما بدأتها السنغال". ودافع عن فكرة خوض الحرب الوقائية، عند طرح الموضوع داخل هذه الهيئة العليا للنظام الموريتاني. وقد اعترض معسكر الحمائم، الذي كان يتزعمه المقدم محمد سيدنا ولد سيديا الذي خلفه لبعض الوقت على رأس وزارة الداخلية، على فكرة الحرب الوقائية. ولقد استمع الرئيس ولد الطايع إلى الرأيين، من دون أن يفصح عن رأيه.

واهتمت كل دولة بتقوية نفسها عسكرياً، والتزود بالأسلحة اللازمة، والحصول على الدعم الخارجي، الذي لا غنى عنه. وإذا كانت نتائج أي تصادم عسكري تبدو محدودة أصلاً بسبب ضعف الطرفين عسكرياً، وقلة مواردهما المالية، مع رجحان كفة السنغال، إلاّ أن هذا الوضع كان في سبيله إلى التغيير مع تزايد الإسهام الخارجي، ووصول الأسلحة الجديدة.

اعتمد السنغال، أساساً، لتعزيز قدراته الحربية على توثيق ارتباطاته العسكرية التقليدية مع كل من فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. وكانت القوات السنغالية تجري مناورات دورية مع القوات الفرنسية، التي لها قواعد جوية وبحرية في داكار. واشترك، في مايو عام 1990، الأسطول الفرنسي للبحر الأبيض المتوسط. كما استقبلت داكار الأسطول الفرنسي للأطلسي الذي يتولي الدفاع عن الواجهة الأفريقية للمحيط، في سبتمبر عام 1990، وأعلن قائدها أنه لن يزور نواكشوط، لعدم توافر الشروط الدبلوماسية. وللمرة الأولى جرت مناورات بإنزال مشاة بحرية بين الجيش السنغالي والقوات الأمريكية، في يوليه عام 1990، علماً بأن للولايات المتحدة الأمريكية قاعدة شبه عسكرية لرصد الأقمار الصناعية (بسيكوتان)، كما أنها أنشأت قاعدة للبحرية السنغالية في "كازامانس" وترددت الأقاويل في الأوساط الدبلوماسية بالعاصمة السنغالية، في عام 1985، ثم في عام 1987، عن سعي الولايات المتحدة الأمريكية إلى إنشاء قاعدة عسكرية في السنغال. هذا ويوفر ميناء داكار التسهيلات للأسطول الأمريكي، كما استخدمت الطائرات الأمريكية مطار داكار، عام 1988، في نقل العتاد الحربي للنظام التشادي، كما سبق أن استخدمته الطائرات البريطانية كمحطة تموين في عام 1986 في حرب المافيناس (المالوين).

أما موريتانيا، فأقدمت على تعاون عسكري لم يسبق له مثيل مع العراق. فحصلت على كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر منه بعد انفجار أزمتها مع السنغال، ومنها صواريخ أرض/جو سام ـ 7 ومدافع ميدانية ثقيلة وصواريخ محمولة. كما أرسل العراق حوالي مائة خبير لتدريب الموريتانيين على استخدام هذه الأسلحة، وأرسلت موريتانيا عدداً من ضباطها إلى العراق للغرض نفسه. وأبرمت الدولتان اتفاقاً للتعاون العسكري، في فبراير عام 1990. كما درب العراق الحرس الخاص للرئيس الموريتاني.

وبهذا الشكل اكتمل تزايد وزن العناصر الشوفينية في جهاز الدولة الموريتانية، بتدعيم علاقاتها بالنظام البعثي العراقي. وكان يعني ذلك تدفق شحنات أسلحة جديدة متطورة إلى موريتانيا، دعمت كثيراً من قدراتها الحربية، وأنذرت بدخول جيل جديد من الأسلحة في المنطقة، التي لم يكن لها عهداً بها، حتى ذلك التاريخ.

وتزايدت الاحتمالات خطورة عندما علم عن وجود مشروع لإنشاء قاعدة حربية عراقية في الأراضي الموريتانية، في (أكجوجت)، على مسافة 210 كم شمال شرق نواكشوط، وهي المنطقة التي يكثر فيها البعثيون الموريتانيون. وكان الهدف منها أن تكون قاعدة تجريبية لإطلاق الصواريخ أرض/أرض. وأبدت الولايات المتحدة الأمريكية قلقها وكذلك فرنسا من إتمام هذا المشروع. وقد جاء في بيان لوزارة الخارجية الأمريكية، في 24 أبريل 1990، تعليقاً على ذلك، بأن إمكانية إنشاء القاعدة يعد أمراً يبعث على القلق، لما تعنيه من إدخال تكنولوجيا الصواريخ الموجهة إلى أفريقيا الغربية. وقد فسر الخبراء الأمريكيون المشروع بحاجة العراق إلى أراضي شاسعة لإجراء الاختبارات والتدريب على هذا النوع من الصواريخ.

وعلى الرغم من التأكيدات العراقية بأن الإمدادات بالأسلحة مجرد تنفيذ لعقود سابقة، فإن هذه التطورات كانت كفيلة بإقلاق المسؤولين السنغاليين. ولذلك، احتل موضوع القاعدة مكانة هامة في المباحثات، التي أجراها الرئيس السنغالي أثناء زيارته للولايات المتحدة الأمريكية، في مايو عام 1990.

ويفسر هذا التدخل العراقي الموقف، الذي اتخذته الحكومة السنغالية من أزمة الخليج، في أغسطس 1990. فلم تقتصر على تأييد دولة الكويت وكذا المملكة العربية السعودية وإنما بادرت ـ وهي الأولى في أفريقيا السوداء ـ بإرسال وحدة عسكرية إلى المملكة تلبية لطلب حكومتها، وفتحت باب التطوع ونفذت حملة حزبية ودعائية ضد السياسية العراقية. اتخذت الحكومة الموريتانية، في الوقت نفسه، موقفاً موالياً للنظام العراقي، وسمحت للعناصر البعثية والشوفينية العربية بالقيام بالمظاهرات، لتأييد هذه السياسة وفتحت باب التطوع إلى جانب العراق وفي إطار هذه الاستعدادات والاحتياطات ألقت السلطات السنغالية القبض على عدد ممن اعتبرتهم جواسيس، أرسلتهم موريتانيا إلى السنغال .

4. الخسائر البشرية

أ. الخسائر البشرية الموريتانية: سقطت الأغلبية الكبيرة للضحايا الموريتانيين من القتلى في الفترة من 27 إلى 30 أبريل 1989. كما جُرحت أعداد كبيرة منهم، بعضهم بجراح خطيرة. ولقد انتشرت الشائعات الرهيبة عن أنواع التعذيب والتنكيل والتمثيل، التي تعرض لها الموريتانيون في السنغال والتي لم يسلم منها الأطفال والنساء. وهي إن تضمنت - كما هو الحال بالنسبة للشائعات، التي راجت في السنغال ـ الكثير من المبالغات بل من الاختلافات، فإنها مع ذلك تشير إلى واقعة وقعت فعلا في البلدين وإن اختلفت الآراء حول حدودها. ومن المؤسف فإن هذه البشائع من السمات المعهودة التي لا تخلو منها الانفجارات العرقية.

لا يمكن تحديد عدد دقيق للذين لقوا مصرعهم في السنغال، لعدم وجود حصر لأفراد الجالية الموريتانية، ولانتشارهم في كافة القرى بعيداً عن عيون المراقبين الأجانب المحايدين. وتوجد تقديرات متضاربة أشد التضارب، وتبلغ نسبة التفاوت فيها 166 مثل، بين أقصاها وأدناها. فالتقدير السنغالي الرسمي تضمن 60 قتيلاً ارتفع إلى 100 لدى بعض المصادر الصحفية، في حين قدم المسئولون الموريتانيون للوسطاء الأفارقة، في صيف 1989، رقم 873 قتيلاً. ليرتفع في الكتاب الأبيض الموريتاني إلى ألف قتيل، فينتهي الأمر على لسان الرئيس الموريتاني في حديث له في أول يناير 1990 إلى (إمكان بلوغ عدد القتلى ألف قتيل. ويفسر الجانب الموريتاني كثرة الضحايا في السنغال وقلتهم في موريتانيا بطول فترة الاضطرابات في الأولى (22يوماً) وقصرها في الثانية (يوم واحد)، ولأنها استهدفت في السنغال منذ اللحظة الأولى القتل وليس فقط النهب، وبحجم الجالية الموريتانية وانتشارها. ولا شك أن تقدير الأرقام بالألف يوضح انتقال القتل ضمن الشغب، إلى حالة (إبادة) منظمة، القصد منها التصفية الجسدية لشعب من الشعوب. وبناء على ما تقدم ينحصر عدد القتلى ما بين 200 و600 قتيل.

ب. الخسائر البشرية السنغالية: من المحال التوصل يقيناً إلى العدد الفعلي للقتلى من السنغاليين وقد سقط أغلبهم أثناء المرحلة الثالثة للعنف الجماعي، في 25 أبريل 1989 (عدا قتيلين اثنين في حادث دياوارا، في 19 أبريل). وذلك لحدوث المذابح في موريتانيا، بعيداً عن عيون مراقبين محايدين. ونظراً إلى عدم وجود حصر للمهاجرين السنغاليين يعتد به، سواء لدى السلطات السنغالية أو الموريتانية، بما يعني ذلك من إمكان عدم معرفة الكثير منهم، فقد انتشرت الشائعات عن دفن جثث في مقابر جماعية، ورميها في المحيط والنهر. ويلاحظ التفاوت الشديد في التقديرات، فقد قدرت المصادر السنغالية الرسمية والصحفية الأجنبية القريبة منها، أن عدد القتلى من السنغاليين يراوح بين 200 و400 قتيل وقدرها آخرون إلى رقم ألفي قتيل. في حين قَلّل الجانب الموريتاني من عدد الضحايا فقدر بعض المسؤولين في اتصالاتهم بأقل من 70 ثم بثلاثة وثلاثين قتيلاً. ثم تحدث الرئيس معاوية ولد الطايع عن 35 قتيلاً.



[1] راجع الكتاب الأبيض لكلًّ من الدولتَين، والذي صدر، بعد الحادث، عن وزارة الخارجية في كلا البلدَين، ليبرر المواقف، ويشرح القصة شرحاً،  يحمِّل الطرف الآخر مسؤولية الحادث، ويبالغ في تقديرات الخسائر، تمهيداً للحصول على أكبر قدر من التعويضات، عند المساعي السلمية لحل الأزمة

[2] كلمة (درك) تعني الغفر، وكلمة (جندرمة) تعني الشرطة

[3] وقد صدر أول اتهام سنغالي رسمي، بطرد موريتانيا مواطنين سنغاليين، في تصريح مسؤول إعلامي إلى وكالة `رويتر`، في  9 مايو

[4] وهو، فعلاً، ما حدث؛ إذ تعرض الموريتانية السنغاليون للعداء من جانب الشعب السنغالي، فأحسوا بانعدام الأمان، طيلة المرحلة الملتهبة للأزمة. واضطرت السلطات السنغالية إلى حملة توعية واسعة، لضمان إعادة استيعابهم في مجتمعهم. وتقرّ المذكرة، التي وزعها السفير السنغالي إلى نواكشوط والتي سببت إبعاده منها، لكونه شخصاً غير مرغوب فيه، بوجود هؤلاء المبعَدين السنغاليين؛ إذ نددت بالوصاية التي تحاول الحكومة الموريتانية فرضها عليهم

[5] اعتبر قرار اتحاد أبناء الوادي، في 13 مايو، أن جنوح السلطات الموريتانية، يؤدي، بلا مندوحة، إلى المواجهة المسلحة مع السنغال. وكذا جريدة `سوبي`، عدد يوم 5 مايو 1989، ص 1،3، حيث توضح أن إحساس زعيم المعارضة بالنعرة الحربية المغامرة لهذا التيار، جعله، لاستمالتها إليه، يصرح بأنه لو كان هو رئيساً للجمهورية، عند وقوع حادث دياوارا، لَما تردد في إنزال المظليين على مدينة (سلي بابي) الموريتانية، للإفراج عن الرهائن، الذين احتجزوا فيها