إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الصراع في جنوبي السودان





موقع منطقة إبيي
المناطق الحدودية المختلف حولها

مناطق النفط جنوب السودان
أماكن معسكرات الفصائل
الموقع الجغرافي للسودان
التوزيع القبلي
التقسيم الإداري للسودان
التقسيم الإداري لجنوب السودان
تضاريس السودان
قناة جونجلي



المبحث الأول

المبحث الثالث

جذور وأسباب الصراع جنوب السودان الفترة من 1898 ـ 1984

كانت دولة السودان في الماضي عبارة عن ممالك متفرقة مثل نوباتيا والمقرة وعلوة في العهد النوبي، ثم ممالك الفونج والعبدلاب وسلطنة الفور بعد دخول العرب والإسلام للسودان ثم، العهد التركي المصري الذي وحد السودان بعد احتلاله وإسقاط الحكم الوطني في مملكة سنار وسلطنة الفور، وباندلاع الثورة المهدية تحرّر السودان من الحكم التركي المصري، وأُضيفت إليه مساحات جديدة في الشرق والجنوب وفي عام 1898م، أصبح السودان مستعمراً من قبل الإنجليز ورسمت حدوده الحالية في ذلك العهد.

أولاً: الاتصال بين الشمال والجنوب

بداية الاتصال بين الشمال والجنوب كانت في العهد التركي المصري في فترة الحكمدار"أحمد باشا أبو ودان"، حين فتح البحار التركي سليم القبطان طرق الملاحة عبر النيل الأبيض، ووصل حتى مناطق بحر الغزال وغندكرو التي تقع شمال مدينة جوبا وبالقرب منها.

بدأ التبشير المسيحي في السودان في العهد التركي، وساعد على ذلك تسامح  محمد علي باشا، وتصاعدت حركة التبشير وكانت البداية بإنشاء المدرسة الكاثوليكية في الخرطوم، ثم تبعها في العام 1846م إنشاء المقر الرسولي لأفريقيا الوسطى، ثم مركز غندكرو في العام 1853م، ومركز كاكا في العام 1862م، وجاء اختيار جوردون باشا مديراً للاستوائية تتويجاً لنشاط الإرساليات، لأن جوردون مشهود له بتمسكه الشديد بالمسيحية وخدمتها، كما أنه أرسل بعد توليه مهامه خطاباً لاتحاد الإرساليات الإنجليزية يدعوهم للعمل في المديرية الاستوائية، وقد صادف ذلك رغبة الإرساليات في الوصول إلى كل من إثيوبيا وأوغندا لإحياء حركة التبشير.

بعد اندلاع الثورة المهدية انتقلت أصداؤها للجنوب بواسطة التجار والجنود، ووجدت التأييد من بعض الأفراد من القبائل الجنوبية ورفعت أعلامها الخضراء، ولبست زي جيوش الأنصار وقلدتهم في صيحات الحرب، وسافر عدد من السلاطين إلى قدير والأبيض وبايعوا المهدي ومن ثم عينهم أمراء على مناطقهم، وبذلك بدأ انتشار الإسلام في الجنوب. وحدت الأيدلوجية المهدية من التقدم النسبي لانتشار المسيحية، لكنها لم تنتشر بصورة واسعة للأسباب الآتية:

1. كان توجه اهتمام المهدية الغالب منصباً نحو الحبشة والعالم العربي والإسلامي في الشمال.

2. إرسال كرم الله الكركساوي أميراً على أمراء الجنوب أصابهم بخيبة الأمل، لا سيما أن سمعة الكركساوي مرتبطة بتجارة الرق.

3. كان هم المهدي إصلاح حال المسلمين، ولم يكن همه نشر الإسلام في المناطق التي لم يصلها الإسلام.

بدأ التجار الشماليون بالتحرك نحو الجنوب للعمل في جلب ريش النعام والعسل وسن الفيل، وظهر في تلك الفترة التجار الأوروبيون، واستغلوا التجار الشماليين بخبث ودهاء في تجارة الرقيق، ما أدى إلى ظهور بوادر الفتنة بين الشمال والجنوب، حيث أصبحت تجارة الرقيق سبباً لكراهية مواطني الجنوب للشماليين، لأنهم الأداة التي تنفذ تلك التجارة بينما سببها الأساس هم التجار الأوروبيون.

كثرة الغابات وصعوبة طرق المواصلات بين الجنوب والشمال كان سبباً في عدم التمازج والانصهار بين قبائل الجنوب والشمال، خلافاً لما في الشمال حيث نجد التمازج والتعايش بين القبائل العربية والقبائل الزنجية، خاصة منطقة جبال النوبة حيث نجد قبائل المسيرية والحوازمة يعيشون في وئام مع قبائل جبال النوبة، على الرغم من التوتر الذي أصاب العلاقة بين هذه القبائل بسبب انتقال الحرب لهذه المناطق. وهنالك تداخل بين قبائل الجنوب والشمال نجده في منطقة أبيي وميوم والميرم والرنك وودكونا، لتحرك قبائل المسيرية لهذه المناطق خلال فترة الصيف. ولا يوجد تصاهر بين القبائل إلا في حالات نادرة، كما أن بعض التوترات تحدث بين القبائل أثناء تلك الحركة، ولكن الإدارات الأهلية من الطرفين تنجح في احتوائها.

مارست الإرساليات من خلال الدور التبشيري والتعليمي ـ إذ كانت كل المدارس تتبع للكنائس ـ سياسة تشويه صورة الإسلام والمسلمين، ما أدى إلى ازدياد الشعور بالكراهية تجاه كل عربي ومسلم، وتعمد رجال الكنيسة ربط تجارة الرقيق بالعرب والمسلمين، وكانوا يهدفون بذلك إبعاد أهل الجنوب من الدخول في الإسلام، ومن ناحية أخرى سعوا سعياً جاداً ـ وبدعم كبير من المنظمات التبشيرية ـ باستخدام وسائل الإغراء خاصة مع أطفال المدارس لكسبهم لجانب الكنيسة، وتنمية شعور الكراهية والحقد تجاه العرب والمسلمين، وقد نجحوا في ذلك نجاحاً كبيراً.

في فترة الحكم الثنائي (1898 ـ 1956م) وجدت الإدارة البريطانية الجو مهيأ في الجنوب ـ بفضل ممارسات المنظمات التبشيرية ـ للعمل على وضع سياسة تفصل بين الجنوب والشمال، وسنوا عدداً من القوانين أهمها قانون المناطق المقفلة عام (1922م)، وكان الهدف من تلك القوانين إبعاد الشماليين من الجنوب، ووضع حد لانتشار الإسلام في الجنوب، وقسمت السودان إلى شمالي مسلم عربي، وجنوبي، مسيحي ووثني زنجي، واتبعت سياسة فرق تسد، لتكون بذرة للفتنة بين الشمال والجنوب مستقبلاً.

غيرت الإدارة البريطانية اتجاهها في تنفيذ سياسة الفصل بين الشمال والجنوب، وقامت بإلغاء القوانين التي وضعتها بشأن الجنوب، وحاولت تصحيح ذلك بإدارة السودان بحسبانه وطناً واحداً، وعقد مؤتمر المائدة المستديرة في جوبا عام (1947م) وكان من أهم  نتائجه رفض مبدأ انفصال الجنوب أو الوحدة مع أوغندا والاعتراف بمبدأ الوحدة بين الشمال والجنوب في سودان موحد.

عام (1951) شكلت لجنة دستورية سودانية لاقتراح الخطوات اللازمة لتحول السودان إلى الحكم الذاتي, فطالب الجنوب بتطبيق الحكم الفيدرالي, لكن الشمال رفض الطلب، ورأت اللجنة الدستورية إقامة سودان موحد, واستمرت المفاوضات إلى أن قامت ثورة يوليه 1952 في مصر وتوصلت مع بريطانيا عام 1953 إلى اتفاقية السودان لتقرير المصير وألف السيد/ إسماعيل الأزهري أول حكومة وطنية في تاريخ السودان في يناير من عام 1954.

كان لإجراءات لجنة السودنة التي قامت بتعيين الموظفين والإداريين الوطنيين مكان الإنجليز والمصريين، الدور الأكبر والمؤثر في تأجيج الشعور بالظلم، وازدياد الكراهية للشماليين، وذلك لأن عدد الذين عينوا في وظائف من أبناء الجنوب لإدارة الجنوب لا يتعدى أصابع اليد الواحدة. وإذا أضفنا لذلك الشعور الذي كان سائداً من قبل بسبب ممارسات الإدارة البريطانية، والتعبئة التي قامت بها الإرساليات والمنظمات التبشيرية، نجد أن الجو كان مهيأ للتمرد العسكري في الجنوب قبل رحيل الاستعمار الإنجليزي بعام واحد وذلك في أغسطس 1955م.

ثانياً: دور الحكومات الوطنية من بعد الاستقلال

تعتبر مشكلة جنوب السودان من أخطر المشكلات التي واجهت السودان، إلا أن الحكومات الوطنية المتعاقبة لم تسع إلى حلها بجدية، في الوقت الذي كان فيه الجنوبيون يخشون القوة الشمالية، وفي حالة توجس من العلاقة بالشمال، ولعبت الأحزاب السياسية دوراً كبيراً في تأجيج الصراع بين الشمال والجنوب بسبب ممارساتها ذات النظرة الضيقة القائمة على الطائفية والولاء القبلي، وصرفها التنافس والتناحر بينها عن التفكير والنهوض بالبلاد والعمل على بناء أمة متحدة الأهداف والمقاصد تعمل على اللحاق بالأمم التي سبقتها، كما نقلت خلافاتها للجنوب وأدخلته في الصراع الحزبي بدلاً من دمجه في الحياة السياسية باستيعاب أبنائه لتكوين أحزاب قومية تضم كل أبناء الوطن، لذلك لم يكن للحكومات التي تلت الاستعمار دور يصب تجاه انصهار الجنوب سياسياً واقتصادياً واجتماعياً لتكون هنالك وحدة حقيقية.

أغفلت الحكومة الوطنية الأولى (1956 ـ 1957م) التي تلت رحيل المستعمر المشكلة، وتظاهرت بعدم المبالاة لما كان يدور في الجنوب من تطورات سالبة، وتدهور في الحالة الأمنية بسبب اندلاع التمرد وتوسعه في كل أرجاء الجنوب، وكان في مقدور هذه الحكومة تدارك ذلك بالإيفاء بالوعد الذي قطعته للقادة السياسيين الجنوبيين، أثناء المشاورات التي جرت مع الإدارة الإنجليزية قبل رحيلها، حيث جرى الاتفاق على تنفيذ مقررات مؤتمر جوبا (1947م) وأهمها منح الجنوب نظاماً فيدرالياً بعد استقلال السودان مباشرة، بينما أهملت أصوات الذين كانوا ينادون بحق تقرير المصير، وهؤلاء هم الذين كانوا قادة التمرد، حيث بدأو نشاطهم في التعبئة لتحقيق هذا الهدف وسط أفراد فرقة الاستوائية التي تتألف من أبناء الجنوب، أما الذين كانوا ينادون بالوحدة مع الشمال فلم يكن لهم تأثير على الساحة السياسية الجنوبية عقب رحيل المستعمر.

اعتمدت الحكومة العسكرية التي استولت على السلطة بقيادة الفريق إبراهيم عبود في 17 نوفمبر (1958م) مع مشكلة الجنوب أسلوب القمع، وحاولت فرض الحل العسكري بقوة السلاح، ما أدى إلى نتيجة عكسية، حيث كوّن جماعة من المثقفين والبرلمانيين السابقين الذين هربوا خارج السودان "رابطة السودان المسيحية" و"الاتحاد السوداني الوطني الأفريقي" المسمى (سانو) وحاولوا تدويل قضية الجنوب من خلال عرضها على الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الأفريقية.

نشأت حركة الأنيانيا العسكرية منظمة عسكرية عام 1963 بواسطة مجموعة من الجنود الجنوبيين بعد فشل (سانو) في تسوية مشكلة الجنوب بالطرق السلمية وبدأت باستخدام حرب العصابات معتمدة على المساعدات المقدمة لها من دول الجوار للجنوب السوداني إلى أن قامت ثورة أكتوبر 1964.

بعد تنحي العسكريين عن الحكم في أكتوبر 1964م تكونت حكومة جبهة الهيئات، وحينها كان شعور الجنوبيين بأنهم سبب من أسباب اندلاع ثورة أكتوبر، ولهم دور في تنحي الفريق إبراهيم عبود وحكومته، ومن جانب آخر كان هنالك تعاطف عام من الشماليين خاصة السياسيين، ونتج عن ذلك أن اتخذت حكومة جبهة الهيئات القرارات الآتية:

1. قيام مؤتمر وفاق بين الشمال والجنوب (عرف فيما بعد بمؤتمر المائدة المستديرة).

2. إصدار عفو عام عن كلّ القادة السياسيين، ومقاتلي الأنانيا، وجميع اللاجئين الذين هربوا منذ عام 1955م.

3. إصدار أمر لكل من الجيش والبوليس بعدم تعقب المتمردين، وألا يبادروا بالهجوم إلا إذا بدؤوهم بالهجوم.

4. جنَوَبَة الوظائف في أجهزة الإدارة والبوليس والسجون في جميع مراكز الجنوب.

5. إجراء تحقيقات دقيقة مع الإداريين ورجال الأمن فيما يتصل باتهامات وجهت لهم بتجاوزهم سلطاتهم القانونية.

عقد مؤتمر المائدة المستديرة بالخرطوم في (16 مارس 1965م) بحضور (48) مندوباً للأحزاب (28) منهم من الأحزاب الشمالية، وعشرون منهم للأحزاب الجنوبية، كما حضره مراقبون من دول الجوار مصر، وأوغندا، وكينيا، والجزائر، وتنزانيا، ونيجيريا، وكان الغرض من المؤتمر الوصول لحل سياسي واتفق المؤتمرون على الآتي:

1. قيام حكم إقليمي بالجنوب على أساس مجلس تشريعي وآخر تنفيذي.

2. تعيين حاكم يكون رئيساً للمجلس التنفيذي الإقليمي.

3. تعيين نائب لرئيس الجمهورية من الجنوب.

وقع خلاف أثناء المؤتمر بين أعضاء حزب سانو من الجنوب، حيث تقدم  جناح "أقري جادين" باقتراح الانفصال، بينما تقدم جناح (وليم دينق )باقتراح قيام اتحاد فيدرالي بين الشمال والجنوب، وعلى إثر ذلك تكونت لجنة الإثني عشر (من 12 عضو) للتوفيق بين الطرفين خلال شهرين، غير أنها فشلت في الوصول لحل.

قام العقيد "جعفر محمد نميري" بالاستيلاء على السلطة إثر انقلاب عسكري في (25 مايو 1969م) و تبنى مقررات مؤتمر المائدة المستديرة لحل مشكلة الجنوب، وأصدر قانون الحكم الذاتي الإقليمي في (9 يونيه 1969م) أي بعد أسبوعين من استلام الحكم، وأعقب ذلك بعدد من القرارات أهمها تعيين وزير لشؤون الجنوب من أبناء الجنوب ”أبيل ألير" ومد فترة العفو العام، ثم تواصلت جهود حكومة مايو، وتوجت بعقد محادثات مع حركة الأنانيا بقيادة "جوزيف لاقو" في أديس أبابا بإثيوبيا، وبوساطة من مجلس الكنائس العالمي، وأبرمت اتفاقية أديس أبابا في (مارس 1972م) كان أبرز ما جاء فيها حصول الجنوب على الحكم الذاتي، وإقامة هيئة تشريعية خاصة به، وأن يكون الجنوب إقليما واحدا.

عام (1981 و 1982) أصدر الرئيس النميرى أمراَ بإلغاء الحكم الذاتي وحل المجلس التشريعي للجنوب ثم أصدر قرار اَخر بتقسيم الإقليم الجنوبي إلى ثلاثة أقاليم، وفي تلك الأثناء ظهرت حركة (أنيانيا 2) حركة مسلحة، تمردت على الجيش السودانى في مناطق أعالي النيل.

ثالثاً: أسباب التمرد الأول (1955 ـ 1972م)

1. تجارة الرقيق

شهد السودان تجارة الرقيق التي بدأت فيه بوصفها تجارة محلية، وشكلت ركناً مهماً من أركان المجتمعات القائمة بشمال السودان أو جنوبه، فقد عرفت القبائل الشمالية والجنوبية الرق والاسترقاق فيما بينها منذ أمد بعيد، فاسترقت القبائل القوية الجماعات الضعيفة، فأصبح الرقيق جزءاً من مغانم القبيلة خاصة عند النوير والشلك، إذاً فقد عرف الرق بين القبائل السودانية بحسبانه مصدراً للقوة فقط، يستخدم ضد القبائل الأخرى، ونجد ذلك واضحاً في الآتي:

أ. اعتمدت سلطنة سنار على الرقيق في دعم قوتها، وكذلك عمدت الجماعات المناهضة لها لتقوية صفوف مقاتليها بالرقيق. واهتم كذلك الحكم التركي بالرق، حيث كان غزو محمد علي باشا للسودان بسبب تأمين المقاتلين للجيوش التركية، فأصبح السودان مصدراً للرجال والمال في آن واحد لدى الجيوش التركية.

ب. اقتنعت الكنيسة بفشلها في التنصير في مطلع القرن الثامن عشر، وأغلقت عدداً من المراكز التي أُنشئت لهذا الغرض، ولم يقتنع التجار الأوروبيون بهذا الفشل فقد حضروا للتجارة في العاج، وسعوا لتحقيق أهدافهم التجارية، وواجهوا في سبيل ذلك مقاومة القبائل المحلية الضعيفة، فاستعانوا بالمغامرين الشايقية والدناقلة لمواجهة عنف القبائل المحلية في الجنوب، واشتدت حركة المقاومة المحلية من القبائل الجنوبية.

ج. تطورت تجارة الرقيق في ظل الحكم التركي، وأصبحت قرصنة جماعية لتلبية وإشباع حاجات الدول الغربية الاستعمارية، وتحولت إلى تجارة رابحة من جانب التجار الأوروبيين، الذين عمدوا إلى عدم الظهور مباشرة في كل ما يتصل بهذه التجارة. أما عن السياسة البريطانية المنتهجة في جنوب السودان في الفترة من (1898 ـ 1956م) والتي سبقتها، فقد بذرت هذه السياسة الشعور بالكراهية وعدم الثقة من جانب الجنوبيين للدم العربي، ومردّ ذلك حملات الشركات الأوروبية التجارية التي لجأت لتجارة الرقيق في المنطقة، واستغلت العرب واجهة لهذا النوع من التجارة لما فيها من أسباب القهر والتعذيب الذي خلق شعوراً بالحقد والكراهية تجاه كل عربي الانتماء.

2. نشاط الجمعيات التبشيرية

أ. بدأ نشاط المنظمات في الجنوب مع طلائع المستكشفين لمنابع النيل حيث قدموا معهم، وازداد نشاطهم بعد استعانة الحكومة التركية بالإداريين الأوروبيين أمثال صمويل بيكر وغردون باشا، وقد عرف الأخير بتدينه الشديد ودعمه ورعايته للمنظمات التبشيرية التي بلغت في عهده عدداً كبيراً، وكان لها نشاط واسع في الجنوب بفضل تلك الرعاية والدعم الذي وجدته.

ب. أثناء فترة الحكم الإنجليزي المصري سمح المسؤولون للجمعيات التبشيرية المسيحية بمزاولة نشاطها في جنوب السودان بغية إحداث نوع من التحسن العام بين السكان، وكسب ولائهم للحكومة بالإضافة إلى تنصيرهم وإلحاقهم بإحدى الفرق المسيحية. وقد غرست هذه الجمعيات التبشيرية أولى بذور التفرقة والانشقاق بين أبناء الوطن الواحد وذلك، بنهجها سياسة تربوية في الجنوب تتجه وجهة غير قومية، وتختلف اختلافاً جوهرياً عما كانت عليه التربية في الشمال مع تعميق شقة التفرقة بين الجنوب والشمال، باختلاق الاتهامات للشمال في حق الجنوب عن طريق تشويه حقيقة تجارة الرقيق ونسبها لعرب الشمال.

ج. لاقت سياسة هذه الجمعيات المتمثلة في التوجيه التربوي للجنوب قبولاً ومباركة واستحساناً من الحكومة، كما جاء في رسالة بعث بها ( ونجت باشا حاكم السودان العام) إلى (جورست خليفة كرومر) بالقاهرة عام (1908م)، وقد جاء في هذه الرسالة (أن حاكم السودان قد لاحظ بعين ـ الاعتبار الارتياح أثناء زيارته للمديريات الجنوبية في تلك السنة ـ تجاوب السكان مع الحكومة)، هكذا صارت هذه الجمعيات تحت حماية الحكومة وعونها لانتهاج سياسة خاصة بالجنوب، وأن الحكومة أرادت أن يبدأ غيرها بتلك السياسة سياسة الفرقة والانفصال.

3. سياسة الحكومة البريطانية في الجنوب

كانت السياسة البريطانية ترمي إلى خلق مجموعات عنصرية، أو وحدات قبلية كل منها يمتاز بطابع الذاتية التي تبنى على أساس العادات المحلية بما فيها من تقاليد وعرف، كما كانت تهدف لوضع حاجز منيع بين الشمال والجنوب بقصد عدم انتشار الثقافة العربية وكانت العناصر الرئيسة التي ينظر إليها بوصفها وسائل لنشر الثقافة العربية هي، التعليم، والدين الإسلامي، والتجارة، والهجرة، والجندية، والأعمال الحكومية أصدرت الإدارة البريطانية قانون المناطق المقفولة عام (1922م) تحسّباً لوقف تسرب الثورة العرابية للسودان، وكان الهدف المباشر من هذا القانون هو فصل الجنوب عن الشمال، وقد اتخذت بعض التدابير لوضع هذا القانون موضع التنفيذ تتمثل في الآتي :

أ. الرجوع إلى العادات والأحكام العرفية.

ب. الرجوع إلى الحياة العائلية داخل إطار القبيلة.

ج. الرجوع إلى اللهجات المحلية باعتبارها وسيلة للتخاطب.

د. التشجيع بكل السبل لجعل اللغة الإنجليزية لغة تفاهم بين الجنوبيين.

هـ. محاربة اللغة العربية والأسماء العربية.

و. محاربة العادات الشمالية.

ز. محاربة الزي واللبس الشمالي.

ح. إقصاء التجار الشماليين من الجنوب.

ط. نقل المآمير والتجار الأغاريق والسوريين للعمل بالجنوب.

ي. اعتبار يوم الأحد عطلة أسبوعية بدلاً عن الجمعة.

4. أخطاء الحكومات الوطنية

وقعت أول حكومة وطنية استلمت الحكم من الإنجليز ـ في الفترة الانتقالية التي سبقت خروج الإنجليز ـ في بعض الأخطاء التي أدت إلى تذمر الجنوبيين، وتدهور الثقة بينهم وبين الشماليين، نذكر منها عدم استيعاب العدد المناسب من الجنوبيين في الوظائف، وقد كان يمكن تجاوز شرط المؤهل الأكاديمي من قبل لجنة السودنة التي كلفت بحصر الوظائف التي كان يشغلها الأجانب والإنجليز وتعيين سودانيين في هذه الشواغر،  فكان نصيب الجنوبيين من (800) وظيفة أربع وظائف فقط، حيث لم تنظر هذه اللجنة نظرة إستراتيجية لهذه المسألة، إذ التزمت بشرط المؤهل الأكاديمي الذي يتناسب مع تلك الوظائف.

تعامل السودانيون الذين عينوا في وظائف إدارية في جنوب السودان مع المواطنين الجنوبيين بنفس غطرسة الإنجليز وتعاليهم، ما أعطى إحساساً بعدم تذوق طعم الاستقلال، حيث اعتقدوا أن التغيير الوحيد هو تغيير المستعمر الأوربي بمستعمر عربي، وقد ساعد في ذلك الدور السالب الجمعيات التبشيرية.

الوفد المكون من الأحزاب السودانية الذي سافر إلى مصر للتفاوض بشأن اتفاقية الحكم الذاتي للسودان قبل خروج الإنجليز لم يمثل فيه الجنوبيون، وهنا شعر الجنوبيون أن الشماليين قد فرضوا وصاية عليهم، أو أنها بادرة لما كان يردده بعض المغرضين من الإنجليز ورجال الكنائس، بأن قرارات مؤتمر جوبا كانت وثيقة بيع الجنوب للشمال.

عدم منح الجنوب الحكم الفدرالي وفقاً لما جاء في مقررات مؤتمر جوبا خاصة النكوص بالوعد الذي قطعه رئيس الحزب الوطني  الاتحادي، عندما أعلن بأن الحزب إذا تمكن من تشكيل الحكومة، فإنه سيمكن الجنوبيين من إدارة أنفسهم.

جاءت حكومة الفريق إبراهيم عبود واستلمت مقاليد الحكم في (17نوفمبر 1958م) و حاولت حسم مشكلة التمرد عسكرياً وقمعت الجنوبيين وعاملتهم بقسوة، ما أدى إلى نزوح أعداد كبيرة منهم إلى الدول المجاورة، وكان من بينهم السياسيون أعضاء البرلمان من قادة (حزب سانو أمثال أقري جادين)، الذين كانوا يطالبون بانفصال الجنوب وأدى خروجهم من السودان واللجوء لأوغندا وكينيا، ومباشرة العمل السياسي لدعم التمرد فصاروا جناحاً سياسياً له، وقد قوى ذلك من شوكته وساعد السياسيون في استجلاب الدعم من دول الجوار والغرب وإسرائيل.

كما مال النظام إلى اختيار بديل القوة لحل مشكلة الجنوب، وذلك من طريق الدمج القهري من خلال برنامج للأسلمه والتعريب في الجنوب، ما أدى إلى تطور المقاومة الجنوبية، ففي عام 1962 تكونت حركة سياسية في المنفى والتي عرفت باسم "سانو"، وجيش حرب عصابات "الأنيانيا"ن وهي الجناح العسكري لسانو وبدأ العمل في الجنوب عام 1963، ما جعل الحكومة تضاعف من عملياتها العسكرية في الجنوب.

وقد أدى تعقد المشكلة إلى سقوط النظام نفسه بعد تزايد المعارضة للنظام في الشمال وحدوث مواجهة بين الطلاب  والقوات الحكومية في أكتوبر 1964م، وأندلعت انتفاضة شعبية موحدة أطاحت بالنظام العسكري.

وفور تسلم الحكومة المدنية السلطة عقب ثورة أكتوبر 1964، بدأت في إلغاء السياسات القمعية للنظام العسكري، وأصدرت عفواً عاماً، ودعت الزعماء الجنوبيين المنفيين للمشاركة في وقف إطلاق النار والبدء في المفاوضات.

لجأت الحكومة التي تألفت بعد انتخابات يوليه 1965 برئاسة محمد أحمد محجوب إلى السياسة المتشددة تجاه الجنوب وشن الهجمات ضد أنيانيا.

في فبراير 1968 حُل البرلمان وأجريت انتخابات جديدة في أبريل 1968، وظلت مشكلة الجنوب بلا حل ونتج عن ذلك عودة الحكم العسكري بعد انقلاب مايو 1969 الذي قاده جعفر نميري.

واجهت السودان خلال فترة حكم الرئيس النميري مجموعة من القضايا الداخلية والتي برزت آثارها السلبية بحث أدت في النهاية إلى الإطاحة بهذا النظام (أبريل 1984) وأهم تلك القضايا:

أ. أزمة النظام السياسي

عانى نظام الحكم في السودان حكم "النميري"، من أزمة مشاركة، بمعنى عدم إتاحة الفرصة للقوى السياسية المختلفة على الساحة السودانية. فمنذ تولي النميري السلطة عام 1969 بدأ في التحالف مع الشيوعيين ثم القوميين العرب، وبعد فترة وجيزة تخلص منهما، واعتمد بصفة أساسية في حكمه على الجيش والاتحاد الاشتراكي السوداني. وحرمت قوى المعارضة السودانية من المشاركة السياسية سواء كانت طوائف إسلامية، أو أحزاب شيوعية أو قوى وطنية ديموقراطية أخرى. وزادت الأزمة عندما برز الدور المؤثر للطلاب والنقابات والاتحادات المهنية.

وقد حاول النميري عمل توازنات بين القوى السياسية، ففي بداية حكمه تحالف مع الشيوعيين والقوميين وفي نهاية حكمه تحالف مع الإخوان المسلمين، وعارضته قوى المعارضة منها إسلامية كالحزب الجمهوري الإسلامي، والصادق المهدي زعيم طائفة الأنصار، كما عارضه المتمردون في الجنوب مع تمرد معظم القوى السياسية وعدم موافقة الجيش أيضاً على هذه السياسة.

ب. مشكلة الجنوب

رغم معرفة النظام السوداني أن مشكلة الجنوب هي في الأساس أزمة ثقة ما بين الشمال والجنوب ـ ترتكز على مواريث اجتماعية ونفسية ولغوية ودينية واقتصادية أيضاً، بل إن لهذه المشكلة أبعاداً إقليمية ودولية حيث أثرت على علاقة السودان بليبيا وأثيوبيا في هذه الفترة ـ إلا أن السياسة التي اتبعها النميري لمواجهة مشكلة الجنوب ارتكزت على المواجهة العسكرية، والتمييز العنصري، وإعادة تقسيم مناطق الجنوب، والتوجه الإسلامي، علاوة على توتر العلاقات مع ليبيا وأثيوبيا ما زاد من تفاقم المشكلة.

ج. المشكلة الاقتصادية

عانى السودان في الفترة الأخيرة من نظام حكم النميري من أزمة اقتصادية حادة تمثلت في ارتفاع نسبة التضخم وزيادة حجم الديون الخارجية، وأزمة سوء توزيع الدخل وانهيار الخدمات، ما أدى إلى سوء الأوضاع الاجتماعية وتدهورها، وأدى كل ذلك إلى تذمر شديد في الشارع السوداني "شمالا وجنوباً". ومما لاشك فيه أن تدهور الأوضاع الاقتصادية مع الآثار السالبة للجفاف الذي عم غرب وشرق السودان، مع تدفق اللاجئين من الدول الأفريقية المحيطة من نيجيريا، وأثيوبيا، وأوغندا، وإريتريا، قد كان من العوامل الأساسية لتفاقم مشكلات السودان الداخلية والتي أطاحت بنظام حكم نميري.