إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الصراع في جنوبي السودان





موقع منطقة إبيي
المناطق الحدودية المختلف حولها

مناطق النفط جنوب السودان
أماكن معسكرات الفصائل
الموقع الجغرافي للسودان
التوزيع القبلي
التقسيم الإداري للسودان
التقسيم الإداري لجنوب السودان
تضاريس السودان
قناة جونجلي



المبحث العاشر

المبحث التاسع عشر

تطور الأحداث (2007 ـ 2008)

مر السودان خلال النصف الثاني من عام 2007 وعام 2008 بالكثير من الأحداث والأزمات نوجزها في الآتي:

أولاً: زيارة سيلفاكير إلى واشنطن

في الرابع من نوفمبر 2007 جاءت زيارة "سيلفاكير" إلى واشنطن وذلك بعد يوم واحد من المباحثات التي أجراها مع المبعوث الأمريكي للسودان، "أندرلاو ناتسيوس" في مدينة جوبا عاصمة الجنوب حول الخلافات مع حزب المؤتمر الوطني وقضية السلام في دارفور، حيث طرح المبعوث الأمريكي خلالها خطة أمريكية لإيجاد منطقة عازلة بين الشمال والجنوب لتفادي حدوث احتكاكات بين الطرفين. كما تأتي الزيارة بعد فترة وجيزة من الأزمة بين شريكي الحكم والتي افتعلها كير في أكتوبر 2007 حيث قام بتجميد مشاركة وزراء حكومته – تسعة عشر وزيراً ومستشاراً ووزير دولة – حتى يتم تنفيذ بعض المطالب، ومنها موافقة البشير على إجراء تعديل وزاري لوزراء الجنوب واعتبار أن ذلك من حق الجنوب فقط، فضلا عن تبعية منطقة أبيي للجنوب، وأخيرا انسحاب الجيش الحكومي من مناطق وجوده في الجنوب ولقد تم إرجاع هذا التصعيد الجنوبي لعدة اعتبارات، لعل أبرزها ما يلي:

1. الاعتبارات الخارجية، إذ يلاحظ أن كير صعّد هذه المطالب لأمور عدة، لعل أبرزها شعوره بأن الإدارة الأمريكية لا تثق به إلى حد كبير، لاعتقادها أنه شخصية مترددة على عكس قرنق، فضلا عن انتمائه الكاثوليكي وليس الإنجيلي، لذا فقد ضغطت عليه من قبل لإلغاء زيارة له إلى الفاتيكان.

2. الرغبة في إعاقة مفاوضات سرت مع غير الموقعين لاتفاق أبوجا خاصة أن أكثر من 120 شخصا – يمثلون خمس مجموعات لتمرد دارفور – كانوا بجوبا في ضيافة الحركة الشعبية وأعلنوا عدم مشاركتهم في المفاوضات

3. الخلافات الداخلية داخل الحركة الشعبية والتحديات التي تواجهها بالجنوب، ومن ثم فلابد لها من التذرع بأي شئ لتعليق الفشل عليه. فسعى كير في التصعيد لإرسال رسائل إلى الجناح المؤيد لقرنق داخل الحركة، والذي ينظر إليه أيضا على أنه غير قادر على المحافظة على المكتسبات التي حققها الجنوب في ظل قيادة قرنق للحركة، والتي أسفرت عن توقيع اتفاق نيفاشا وإعطاء الجنوب حق تقرير المصير بعد 6 سنوات (عام 2011) وتوجد هناك حالة انقسام ثلاثي تقريبا داخل الحركة الآن. فهناك القيادة التي يمثلها سيلفاكير، وهناك الأمانة العامة التي يرأسها باقان أموم، وهناك فريق لام  أكول وزير الخارجية والدكتور رياك مشار.

أثارت هذه الزيارة جدلا كبيرا بين طرفي الحكم إلى حد يمكن القول معه إنها عمقت من الخلافات التي برزت على السطح قبلها بوقت قليل، وظلت تداعياتها بعد الانتهاء منها. فكلا الفريقين نظر إليها من منظوره الخاص الذي يحمل الشك والريبة تجاه الطرف الآخر.

1. فالجانب الحكومي يري أن الزيارة تمت دون التنسيق معه أو حتى مع وزارة الخارجية والسفارة السودانية في واشنطن. ومعني ذلك أن كير هنا لم يذهب بصفته عضوا في السلطة التنفيذية المركزية "الحكومة المركزية في الخرطوم" وإنما بصفته رئيس حكومة الجنوب وزعيم الحركة الشعبية وليس بصفته النائب الأول، فانعكس هذا الوصف على المحادثات التي تناولت قضايا الجنوب فقط، ولم تتناول القضايا العامة التي تهم الشمال والجنوب لاسيما قضية العقوبات الأمريكية على السودان. ومما عمق من هذا الشعور تجديد الإدارة الأمريكية العقوبات السنوية على الخرطوم في أثناء الزيارة. وعلى الرغم من أن العقوبات تكون عامة عند التطبيق إلا أن الجنوب - وفق وجهة النظر الحكومية – سيستثنى منها؛ لذا لم تثر هذه القضية كير في أثناء مباحثاته مع الإدارة الأمريكية، بل طالب فقط المسؤولين الأمريكيين بالسماح باستثناء بعض سفن نقل الركاب والقاطرات، حتى يتسنى نقل النازحين الجنوبيين من مدن الشمال إلى الجنوب، فضلا عن نقل مواد الإعمار إلى الجنوب. وقد وعدت الإدارة الأمريكية بالنظر في إعطاء التراخيص اللازمة في هذا الشأن. ويذهب هؤلاء إلى أبعد من ذلك بالقول إن كير استغل الزيارة في شن هجوم حاد على الطرف الشمالي، متهما إياه ليس فقط بتعطيل تنفيذ اتفاق نيفاشا، وإنما بسعيه لضم مناطق الجنوب التي يظهر فيها البترول، حتى وصل الأمر إلى ضم مسقط رأسه في بلدة قوقريال. وبالطبع فإن منطقة أبيي الغنية بالبترول لم تكن بعيدة عنه، حيث أكد أن موقف الحركة الشعبية ثابت ولن يتغير بشأن تبعيتها للجنوب، ولعل الموضوع الأخطر من ذلك هو حديث كير في لقاءاته عن التحديات التي تواجه الجنوبيين في المرحلة القادمة، ولم يستبعد الانفصال بعد السنوات الست، حيث أشار إلى أن الرئيس البشير صرح له بأنه على علم برغبة الجنوبيين في الانفصال، وذلك في معرض الخلافات بينهما حول توزيع حقيبة البترول. وأكد - خلال حديثه بمركز ويلسون للأبحاث  - أن البشير قال له في أثناء الجدل حول وزارة الطاقة: نحن نعلم أنكم تنوون الانفصال، سواء أعطيناكم  وزارة الطاقة أم لم نعطكم إياها.

2. وفي المقابل، فإن الطرف الجنوبي وقف في موقف المدافع عن هذه الأمور، وذلك على لسان وزير الخارجية لام أكول "جنوبي" الذي أكد أن زيارة كير تمت بصفته نائبا أول للرئيس، وأن كل المباحثات في واشنطن تمت باسم حكومة الوحدة الوطنية، معتبرا أن الزيارة حققت نجاحا كبيرا في اتجاه قضيتي دارفور وتنفيذ اتفاق السلام.

وفيما يخص بالعقوبات الأمريكية وتجديدها في أثناء الزيارة، ذكر أكول أن الوفد احتج على تجديد العقوبات، خاصة أن آثارها تنعكس على كل السودان: شماله وجنوبه وغيره. أما فيما يخص توقيت تجديدها، فأشار إلى أنها تجدد سنويا بأمر رئاسي في الثاني من نوفمبر من كل عام، وتسقط تلقائياً إن لم تجدد في الموعد المحدد.

الآثار المترتبة على الزيارة

عقدت سلسلة من اللقاءات بين الجانبين بعد فترة من الشد والجذب والتصعيدات العدائية التي دفعت الخرطوم إلى فتح معسكرات التطوع المدني لمواجهة أي تصعيد عسكري محتمل مع الجنوبيين، وفي المقابل أعلن الجنوبيون استعدادهم لأية مواجهة.

وقد اتفق الجانبان في الثاني عشر من ديسمبر 2007 على حل كل القضايا المعلقة، لعل من أبرزها ما يلي:

1. إعادة انتشار قواتهما على جانبي الحدود، على أن تستكمل القوات الحكومية عملية الانسحاب وإعادة الانتشار خارج حدود الجنوب بحلول نهاية عام 2008، حيث كان يفترض أن تنسحب هذه القوات وفق اتفاق نيفاشا في التاسع من يوليه 2007 إلا أن حكومة الخرطوم – وفق رؤية الجنوب – أبقت على معظم هذه القوات في حقول النفط الجنوبية (تؤكد الخرطوم أن لديها قوات قوامها 3600 جندي فقط في الجنوب وفق اتفاق نيفاشا، لكن سلفا كير زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان، يقدر عدد القوات بنحو 17 ألف جندي).

2. الموافقة على إجراء الإحصاء السكاني العام عام 2008، كما وافقت حركة تحرير السودان على دفع حصتها من الأموال اللازمة للقيام بهذا الإحصاء تمهيدا للانتخابات عام 2009 وحق تقرير المصير في نهاية الفترة الانتقالية عام 2011، كما تعهدت بتوفير الأموال اللازمة لعملية ترسيم الحدود حول أبيي. لكن الخلاف لايزال قائما بين الجانبين على تعيين الحدود في منطقة أبيي الغنية بالنفط. وإن كان قد تم الاتفاق على إشراف قوات مشتركة على المناطق التي تقع بها حقول النفط التي تنتج 500 ألف برميل يوميا من الخام (رفض الرئيس البشير توصية لجنة أبيي الأممية التي كُوِّنت حسب اتفاقية السلام الشامل، والتي أوصت بتبعية منطقة أبيي لجنوب السودان).

3. الاتفاق على عودة وزراء الحركة الجدد للحكومة المركزية وأداء القسم، ومعني ذلك أن جميع المشكلات المعلقة قد حُلّت، ما عدا قضية أبيي التي اتفق الطرفان على النظر فيها خلال الفترة القادمة. وهو ما قد يدفعنا إلى القول إن الأزمة التي افتعلها كير، ثم زيارته لواشنطن بعدها، دفعتا نظام البشير إلى محاولة احتواء هذا الأمر بدلا من أن تستغله واشنطن في إحداث حالة من الشقاق بين شريكي الحكم.

ثانياً: الهجوم على أم درمان

في تطور لافت قامت حركة العدل والمساواة السودانية في 10 مايو 2008 بهجوم عسكري واسع النطاق على مدينة أم درمان، التي تمثل إحدى المدن الثلاث التي تتشكل منها العاصمة القومية المثلثة "الخرطوم"، محاولة بذلك نقل معركة دارفور إلى داخل العاصمة الخرطوم، وقد حشدت الحركة معظم عتادها العسكري وقادتها الميدانيين والعسكريين في هذا الهجوم، وتشير التصريحات التي أدلي بها وزير الدفاع السوداني الفريق "عبدالرحمن محمد حسين" أمام البرلمان بعد صد الهجوم وتدميره، أن قوات العدل والمساواة جاءت في ثلاث مجموعات رئيسية كانت إحداها تستهدف الوصول إلى مبنى الإذاعة والتليفزيون بأم درمان، والثانية والثالثة كانتا تقصدان القصر الجمهوري والقيادة العامة للجيش بالخرطوم، وأوضح أنه قد تم التصدي للمجموعة الأولى التي جاءت عن طريق شارع العرضة بأم درمان وحسمت في زمن وجيز، وأن القوات المسلحة تصدت للمجموعتين الثانية والثالثة عند جسر الإنقاذ (الذي يصل بين أم درمان ومدينة الخرطوم حيث يوجد القصر والقيادة العامة) وحسمتها أيضا في أقل من ساعة.

وقد أشارت التقارير شبه النهائية إلى أن 450 من قتلي الهجوم قد دفنوا في مقبرة جماعية لم يعلن عن مكانها، وأسر أكثر من 150 فرداً بخلاف الذين قبض عليهم بعد ذلك في أنحاء متفرقة من البلاد وهم في طريقهم إلى الحدود في اتجاهات مختلفة.

على المستوي الداخلي، فقد أدى الهجوم من بين نتائجه العديدة إلى إعادة اصطفاف وفرز من نوع جديد على الساحة السياسية السودانية، فقد توالت الإدانات الفورية والحاسمة من كل من السيد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي، والفريق سيلفاكير زعيم الحركة الشعبية، والسيد محمد عثمان الميرغني زعيم الحزب الاتحادي، وكذلك ساد شعور واسع من السخط والإدانة لما قامت به حركة العدل في أوساط الرأي العام السوداني في الداخل وأيضا الخارج، الأمر الذي يعني أن القوى السياسية الرئيسة في البلاد وقطاعات واسعة للغاية من الرأي العام ترى أن لها مصلحة في استمرار النظام الحالي، الذي هو إفراز مباشر لتطبيقات اتفاقية نيفاشا، وأن هناك اتجاها غالبا يتوافق على أهمية الإبقاء على النظام الحالي والاستمرار في التحول التدريجي نحو الديمقراطية حفظاً للسلام للعبور بالسودان إلى بر الأمان.

ثالثاً: اتفاق التراضي الوطني بين حزبي المؤتمر والأمة

في احد أهم التطورات الداخلية ذات الصلة بالأوضاع السياسية الداخلية في السودان وقع حزبا الأمة القومي بزعامة السيد الصادق المهدي، وحزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان اتفاقا بين الطرفين في 20 مايو 2008 عرف باسم اتفاق التراضي الوطني، الذي كان واضحا أنه يمثل حجر الزاوية لبدء مرحلة جديدة تعاد فيها صياغة التحالفات السياسية بين القوى السياسية الرئيسة في شمال السودان لمواجهة الأوضاع والتحديات التي نجمت عن اتفاقية نيفاشا.

وقد جاء هذا الاتفاق بين الطرفين بعد عدة أشهر من التفاوض والمباحثات بين عدة لجان شكلها الطرفان لهذا الغرض وقد بدأ لكثير من المراقبين أن الهدف الأساس من الاتفاق هو سعي حزب الأمة إلى إرساء قواعد متفق عليها للانتخابات القادمة خشية التلاعب بها أو إجرائها وفق الصيغ والقوانين التي ينفرد بها حزب المؤتمر الحاكم. وكان من الواضح أن السيد الصادق المهدي يخشي في حالة إجراء انتخابات غير نزيهة أو إعلان نتائج غير مقبولة أن ينزلق السودان إلى هاوية الفوضى، التي قد لا يمكن بعدها إعادة ربط الأجزاء والمكونات المختلفة للدولة السودانية، وما يعزز هذا الانطباع أن الاتفاق لم ينتج عنه، ولم يشر من قريب أو بعيد إلى المشاركة في السلطة أو الحصول على مواقع معينة هنا أو هناك، بل احتوى على مبادئ وأسس عامة اتفق الطرفان على أنها تمثل الأسس الهادية أو الموجهة للمرحلة المقبلة.

تضمن الاتفاق سبعة أقسام رئيسة، حوى كل منها قضايا فرعية كثيرة:

جاء القسم الأول تحت عنوان "الثوابت الوطنية " وتناول دور الدين مرجعاً موجهاً وهادياً للناس، مع تأكيد حرية العقيدة والتعايش السلمي بين الأديان.

كما أكد هذا القسم أهمية الالتزام بسيادة الوطن، ونبذ العنف وانتهاج الحوار والطرق الديمقراطية والشورى في سبيل تحقيق المقاصد السياسية، مع المشاركة العادلة في الثروة والسلطة وبناء مؤسسات الدولة النظامية والمدنية دون إقصاء.

وينتقل الاتفاق في القسم الثاني إلى "تهيئة المناخ"، ويقصد به خلق مناخ إعلامي صحي يقوم على تحقيق قومية الإعلام والتناول الموضوعي للقضايا، ووقف أي تراشق في الوسائط الإعلامية، واحترام الثوابت المتفق عليها وعدم المساس بها.

وخصص القسم الثالث من الاتفاق لمشكلة دارفور؛ حيث تضمن بنودا فرعية كثيرة، لعل أهمها هو البند الرابع عشر، الذي يدعو إلى ملتقي دارفوري جامع بحضور أطراف النزاع، وتفويض الملتقي لبحث أجندة دارفور السياسية، والتنموية، والخدمية، والإدارية، والقبلية، والأمنية، وأسس التصالح والتعايش وفق إعلان المبادئ الموقع عليه من أطراف النزاع كافة.

وتناول القسم الرابع قضية الانتخابات التي يفترض إجراؤها عام 2009 (العام الرابع وفق اتفاق نيفاشا) حيث تضمن تفصيلات كثيرة بدءا من تشكيل مفوضية "لجنة" خاصة لهذه الانتخابات وفق الدستور الانتقالي لضمان الشفافية والمراقبة، مرورا بالنظام الانتخابي وما يتضمنه من تفاصيل، خاصة توزيع الدوائر الانتخابية. وتمثيل المرأة انتخابا وترشيحا ووصولا إلى الرقابة الإقليمية والدولية عليها.

وتناولت الأجزاء الثلاثة الأخيرة من الاتفاق، قضية السلام، والإجراءات المطلوبة لمواجهة مشكلات السودان، ثم موضوع الحريات. وفيما يخص السلام تطرق الاتفاق إلى الموقف من اتفاقيات السلام السابقة مثل اتفاقية السلام من الداخل (الخرطوم وفاشودة) 1997، واتفاقية إعلان نداء الوطن (جيبوتي)1999 واتفاقية السلام الشامل (نيفاشا) 2005، واتفاقية التجمع الوطني الديمقراطي (القاهرة ) 2005، واتفاقية دارفور(أبوجا)2006، واتفاقية الشرق (أسمرا)2006، وإن كان التركيز على اتفاقية نيفاشا حيث امتازت عن غيرها –حسب الاتفاق- بأنها الأكثر شمولا وأصبحت الأساس للنظام السياسي والدستوري للبلاد اليوم، حيث حققت عددا من الإنجازات، لعل أبرزها وقف الحرب في الجنوب، وإقرار مبدأ نبذ العنف والتبشير بالسلام.

وحول الإجراءات العملية والتنفيذية لمواجهة مشكلات السودان، طالب الاتفاق القوي الوطنية التي أبدت تحفظات على اتفاقيات السلام الموقعة، بالقيام بواجبها الوطني الذي يدعو إلى دعم هذه الاتفاقيات وتقويمها واستكمال النواقص فيها عبر الحوار، وبالوسائل السلمية للوصول إلى حلول تستمد فاعليتها وشرعيتها من التراضي الوطني، ولم يغفل هذا الجزء الحديث عن أزمة أبيي حيث طالب بالإسراع في تطبيق الإجراءات الأمنية وسحب القوات إلى حدود 1956، وترسيم الحدود وتثبيتها، والاستعجال بإقامة إدارة انتقالية مؤقتة متفق عليها لمنطقة أبيي، وذلك لبسط الأمن وتوفير الخدمات الاجتماعية للسكان، والإسراع بالوصول لحل نهائي للأزمة مع ابتكار آلية للحقيقة والمصالحة لتنقية الحياة السياسية وإزالة الاحتقان.

أما الشق الخاص بالحريات، فقد تضمن إلغاء أو تعديل كافة القوانين المقيدة للحريات وغيرها لتتوافق مع الدستور والمواثيق والعهود الدولية، وهو ما يتطلب تعديل القوانين التالية للتأكد من دستوريتها وتماشيها مع مواثيق حقوق الإنسان وهي – على سبيل المثال – قانون الصحافة والمطبوعات (2004)، قانون مفوضية الخدمة المدنية القومية(2004)، قانون تنظيم الاتحادات المهنية(2004)، قانون نقابات العمال(2001)، قانون مفوضية العمل الإنساني (2006) قانون الأمن الوطني، قانون الشرطة، قانون القوات المسلحة، ومجموعة قوانين أخري.

بصدد التقييم الموضوعي يمكن رصد النقاط التالية للاتفاق:

1. إن الاتفاق ليس هو الاتفاق الأول الذي تعقده قوي سياسية معارضة مع الحزب الحاكم، ولن يكون الأخير، كما أنه ليس الاتفاق الأول بين الجانبين، لكن سبقته اتفاقات أخري، مثل اتفاق جيبوتي (1999) بين الحكومة وحزب الأمة، وأعقبه اتفاق السلام الشامل مع الحركة الشعبية (2005) ،واتفاق القاهرة مع التجمع الوطني(2005) ،وأبوجا(5 مايو2006) مع بعض فصائل دارفور، وأسمرا مع جبهة الشرق (أكتوبر2006). ومن ثم فإن الاتفاق قد تضمن قضايا سبق تناولها في هذه الاتفاقيات. لكن الجديد فيه هو حرص طرفيه على تأكيد أن الاتفاق ليس ثنائيا، وإنما هو نواة لحوار قومي شامل، وذلك من أجل تلافي سلبيات نيفاشا تحديدا، وكذلك كل الاتفاقات السابقة التي كانت تتضمن بعض الفصائل دون بعضها الآخر.

2. ذهب حزب الأمة مباشرة إلى التفاوض دون التنسيق مع شركائه في المعارضة، وهو ما قد يؤدي إلى حدوث مزيد من الانشقاق داخل المعارضة أو دفعها لإعادة تقييم الأمور من جديد.

3. باتفاق "التراضي" ينهار الضلع الثالث في مثلث المعارضة، ويبقي فقط الحزب الشيوعي والمؤتمر الشعبي اللذان لم ترضهما اتفاقية التراضي، وقد فسر حزب المؤتمر الشعبي هذا الاتفاق بكونه نكوصا من حزب الأمة عن تفاهمات أبرمت من قبل مع أحزاب التحالف الوطني فيما يخص توزيع الدوائر الانتخابية في الانتخابات القادمة، بل رأى أنه اتخذ – أي الأمة - من الآخرين سلما وتكتيكا وصولا إلى تفاهمه الثنائي مع حزب المؤتمر الوطني، وسط توقعات بعدم حصوله – أي الأمة- على شئ على غرار ما حدث في اتفاقات سابقة.

رابعاً: النزاع حول أبيي

مثلت أبيي إحدى القضايا الأساسية الشائكة في أزمة الشريكين التي تعرضت لها حكومة الوحدة الوطنية، وبالرغم من انتهاء الأزمة إلا أن قضية أبيي ظلت معلقة دون حل واضح، إلى ان قامت الحركة الشعبية بتحرك منفرد تمثل في تعيين ادوارد لينو حاكما للمنطقة من قبلها، وقد ترتب على ذلك شعور قبيلة المسيرية ذات الأصول العربية (القاطنة في المنطقة ) بوجود تهديد خطير لمصالحها، وأن الحركة الشعبية تحاول أن تفرض واقعا جديدا بالقوة، فأعلنت من جانبها تشكيل حكومة للمنطقة برئاسة محمد عمر الأنصاري، وتخلل ذلك صدامات واسعة بين الجيش الشعبي التابع للحركة الشعبية وبين مقاتلي المسيرية، راح ضحيتها عشرات القتلى ومئات المصابين وقد تمحورت الخلافات والصدامات حول حق المرور إلى المراعي الذي تتمتع به المسيرية تاريخيا، والذي أرادت الحركة الشعبية تقييده.

ونتيجة لتصاعد النزعات والخشية من أن تؤدي إلى انهيار اتفاقية السلام ،لجأ الطرفان إلى نوع من التراجع المحسوب، حيث أعلنت الحركة الشعبية من جانبها أن ادوراد لينو ليس حاكما، وإنما هو ممثل سياسي للحركة في الإقليم، وفي الوقت نفسه أعلن محمد عمر الأنصاري رئيس الحكومة التي شكلتها المسيرية استعداده لأي حل وسط، إلا أن الأزمة بقيت قائمة وملتهبة بعد تجدد الاشتباكات عدة مرات، كان أكثرها خطورة وعنفا تلك التي وقعت في منتصف مايو2008 في أعقاب الغزو الذي قامت به حركة العدل والمساواة الدارفورية لمدينة ام درمان، والتي جاءت أيضا أثناء انشغال الحركة الشعبية في عقد مؤتمرها العام الثاني في جوبا، الأمر الذي أوحي بأن شرارة الأحداث التي انطلقت من قبل بعض منسوبي الحركة الشعبية، كانت مقصودة من حيث التوقيت لاستغلال الانشغال العام بعيدا عن منطقة أبيي لاستحداث واقع جديد بالمنطقة، وقد أشارت العديد من التقارير إلى الأدوار السلبية التي قام بها "ادوارد لينو " مسؤول الحركة الشعبية في المنطقة والمسؤول السابق عن أجهزة الأمن والاستخبارات فيها وقيامه باصطحاب "روجر ونتر" إلى جولة ميدانية في المنطقة. و"ونتر" هو أحد المسؤولين الأمريكيين السابقين تجاه الملف السوداني، وهو معروف بموافقة العلنية العدائية ضد الحكومة السودانية، وقد قام ادوارد لينو بتقديم "ونتر" على أنه مستشار خاص لحكومة جنوب السودان، الأمر الذي نظر إليه حزب المؤتمر الوطني بقدر كبير من التوجس، لاسيما ان "ونتر" كان قد سبق له أن لعب أدوارا سلبية حين قدم إلى حكومة جنوب السودان الاقتراح الخاص بتجميد مشاركة وزرائها في حكومة الوحدة الوطنية التي سبق أن أشرنا إليها.

وقد كانت اشتباكات مايو 2008 حول أبيي على قدر كبير من العنف، أحدث خسائر ضخمة في الأرواح من الجانبين بلغت 21 قتيلاً في صفوف الجيش الحكومي، وعدداً غير معروف في صفوف قوات الحركة الشعبية بالإضافة إلى الدمار الكبير الذي لحق بالمدينة ونزوح أكثر من 50 ألف نسمة يمثلون غالبية السكان. ومن الناحية العسكرية تمكن اللواء21 التابع للقوات المسلحة السودانية من استعادة السيطرة على أبيي وإبقائها على وضعها الراهن إلى حين الوصول إلى اتفاق بين الطرفين على إيجاد مخارج توافقية للأزمة، وقد ازداد الأمل في الوصول إلى اتفاق بعد ان أعلن الفريق سلفا كير في بيان واضح وقوي اللهجة أن الحركة الشعبية لن تذهب إلى القتال من أجل أبيي، وأن من يدعون للقتال عليهم أن يذهبوا إلى ذلك بأنفسهم، ودعا إلى حل سلمي للأزمة.  وقد أجابه الرئيس البشير في تصريحات مقابلة، بأن أبيي لن تكون سببا في عودة الحرب بين طرفي اتفاقية نيفاشا.

وفي تطور ايجابي لافت للنظر استطاع الشريكان في 8 يونيه 2008 ان يضعا حدا للخلاف بينهما على حدود أبيي وتبعيتها من خلال اللجوء إلى التحكيم الدولي عبر الاتفاق الذي اعتمدته مؤسسة رئاسة الجمهورية المكونة من الرئيس عمر البشير ونائبه الأول سلفا كير رئيس الحركة الشعبية والنائب الثاني على عثمان طه في احتفال ضخم في قاعة الصداقة بالخرطوم. ومن جانبها رأت الحركة الشعبية أن الوصول إلى هذا الاتفاق يمثل قوة دفع جديدة لاتفاقية السلام الشامل، في حين وصفه حزب المؤتمر الوطني الحاكم بأنه " ميلاد جديد لاتفاقية السلام. وقد جاءت بنود الحل المتفق عليه على النحو التالي:

1. يلجأ الطرفان لهيئة تحكيم مهنية متخصصة يتفق عليها الطرفان للفصل في خلافهما حول ما توصل إليه تقرير خبراء مفوضية حدود أبيي.

2. يبرم الطرفان قواعد مرجعية للتحكيم (مشارطة التحكيم) تشتمل على تسمية هيئة تحكيم مهنية، آلية لاختيار المحكمين في المسائل المحالة للفصل فيها بالتحكيم، إجراءات التحكيم في كيفية اتخاذ القرارات، وتنفيذ قرار هيئة التحكيم .

3. يؤكد الطرفان التزامهما بقرار هيئة التحكيم وتنفيذه.

4. يتم إنجاز عملية التحكيم بكاملها بما في ذلك إصدار القرار النهائي في مدة لا تتجاوز ستة أشهر من تاريخ إنشاء هيئة التحكيم على أن تكون قابلة للتمديد لمدة لا تتجاوز ثلاثة أشهر.

5. إذا فشل الطرفان في التوصل لاتفاق حول هيئة التحكيم أو مشارطة التحكيم أو مرجعيات التحكيم يسمي الأمين العام للمحكمة الدائمة للتحكيم في لاهاي، خلال خمسة عشر يوماً، هيئة تتولي التحكيم وتضع القواعد والمرجعيات الإجرائية وفقا لقواعد محكمة التحكيم الدولية والأعراف الدولية المرعية.

خامساً: أزمة المحكمة الجنائية الدولية

في منتصف يوليه 2008 عقد "لويس أوكامبو" المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية مؤتمرا صحفيا أعلن فيه لائحة اتهام ضد الرئيس السوداني عمر البشير، يتهمه من خلالها بارتكاب عدة جرائم في دارفور، تتمثل في ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، فضلا عن الإبادة الجماعية لثلاث قبائل ذات أصول أفريقية في دارفور هي الزغاوة والفور والمساليت. وذكر أنه قد تقدم بلائحة الاتهام والأدلة والبيانات المرفقة بها إلى قضاة الدائرة الأولى للمحكمة للنظر في إصدار قرار اتهام رسمي ضد الرئيس البشير، ومن ثم إصدار أمر بتوقيفه والقبض عليه إن لم يستجب لطلب المثول أمام المحكمة، وأن القضاة سيصدرون قرارهم خلال ثلاثة أشهر أو أربعة.

وقد رفضت الحكومة السودانية منذ البداية الاعتراف بولاية المحكمة أو اختصاصها، استنادا إلى عدم تصديق السودان على نظام روما الأساسي، الذي نشأت هذه المحكمة بمقتضاه في الوقت الذي تمسكت فيه المحكمة باختصاصها، قائلة أن الملف قد حول إليها بقرار من مجلس الأمن.

حذرت أحزاب المعارضة الرئيسية في السودان من أن صدور أمر دولي بإلقاء القبض على الرئيس عمر حسن البشير سيزعزع استقرار أكبر دولة في أفريقيا، ويتسبب في "انهيار دستوري". وقال السيد الصادق المهدي في تصريحاته المختلفة أنه يجب مراعاة التوازن بين العدالة والاستقرار، وإن صدور أي لائحة اتهام ضد الرئيس البشير قد يؤدي إلى انهيار دستوري في البلاد، في الوقت الذي يجري فيه الإعداد لأول انتخابات برلمانية ورئاسية وولائية تحت رقابة دولية بعد عشرين عاما من حكم نظام الإنقاذ.

أما الحزب الاتحادي الديمقراطي المعارض الذي يتزعمه محمد عثمان الميرغني، فقد أكد أنه يرفض تسليم البشير إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.

وفي السياق نفسه نصح السكرتير العام للحزب الشيوعي السوداني "محمد إبراهيم نقد" بعدم التعامل مع المحكمة الجنائية وفقا لقرار قمة الاتحاد الإفريقي الرقم 11، والقاضي بعدم تسليم أي رئيس دولة ليحاكم خارج بلاده. وحتى حزب المؤتمر الشعبي بزعامة حسن الترابي الخصم اللدود لحزب المؤتمر الذي يقوده البشير، أشار في ردة فعله الأولية إلى أن نموذج جنوب إفريقيا للجنة الحقيقة والمصالحة هو السبيل للمضي قدما، وأعرب "بشير آدم رحمة"، أمين الأمانة السياسية للحزب، عن اعتقاده بأنه إذا تم حل مشكلات دارفور، فسيمكن حل كل الأمور ذات الصلة. وإن كان الدكتور حسن الترابي قد عاد بعد ذلك إلى بعض المواقف الملتبسة التي يفهم منها ضمنا أنه يؤيد محاكمة البشير، عبر تأكيده أن الإسلام لا يعرف وجود حصانة "حتى لأمراء المؤمنين".

رأت الحركة الشعبية لتحرير السودان أن إعلان أوكامبو خلق وضعا بالغ الخطورة داخل السودان، يهدد السلام والاستقرار. ودعت الحركة في بيان لها إلى وضع خريطة طريق خلال أسبوع للتعامل مع الأزمة بمشاركة القوى السياسية لحل مشكلة دارفور. وقالت الحركة أنها فوجئت بالخطوات المتسارعة في قضية دارفور، وبالمحكمة الجنائية والتي أفضت إلى الطلب بتوقيف البشير، ومن الواضح أن الحركة الشعبية تخشي من أن تنعكس تداعيات هذه الأزمة التي قد تتطور إلى مواجهة مفتوحة مع المجتمع الدولي سلبا على الاستمرار في تطبيق اتفاقية نيفاشا، التي تعطي اقليم جنوب السودان حق الاستفتاء على حق تقرير المصير في عام 2011، فالحركة حريصة على الدفع بمراحل تطبيق الاتفاقية إلى الأمام، خاصة أن هناك قضايا أساسية لم تحسم بعد، مثل ترسيم الحدود. كما أن الحركة لا تزال تحتاج إلى إبقاء حالة الاستقرار والهدوء لكي تتمكن من الاستعداد، في غضون السنوات الثلاث المتبقية على حق تقرير المصير، للانفصال إذا أرادت ذلك عبر تكوين هياكلها الإدارية ومؤسساتها وحسم القضايا العالقة مع الشمال، بما في ذلك الخلاف حول إيرادات النفط، أما التحول إلى أجواء من المواجهة فقد يخلق اضطرابات تحول دون الاستمرار في تطبيق الاتفاقية، والانزلاق من ثم إلى حالة من الفوضى التي قد لا يمكن السيطرة عليها.

وكان الكثيرون في صفوف المعارضة السياسية في السودان قد أيدوا المحكمة الجنائية الدولية، بإصدارها في وقت سابق أمرا بإلقاء القبض على "أحمد هارون" وزير الدولة بوزارة الداخلية السودانية السوداني، وعلي كوشيب، أحد قادة ميليشيات الجنجويد. لكنهم يشعرون بأن صدور أمر بإلقاء القبض على الرئيس البشير سوف يلحق الضرر بفرص إحلال السلام في دارفور، وكذلك بعملية التحول الديمقراطي الجارية في البلاد وبالانتخابات المقررة في 2009.

سادساً: تعليق الحركة الشعبية مشاركتها في الحكومة

جاء إعلان الحركة الشعبية لتحرير السودان في 11 أكتوبر 2008 تعليق مشاركتها في حكومة الوحدة الوطنية (التي تشارك فيها بنسبة 28% ،52% لحزب المؤتمر الوطني السوداني) على خلفية زيادة حدة الخلافات مع حزب "المؤتمر الوطني" الذي يقوده الرئيس عمر البشير، حول تنفيذ بنود اتفاقية السلام الشامل الموقعة بين الطرفين، وكونت الحركة لجنة أزمة لمتابعة قرارها وقالت أنها لن تعود عنه إلا بعد الوصول إلى حلول مرضية تقود إلى تنفيذ الاتفاقات.

وقد أثار هذا القرار مخاوف واسعة النطاق من أن يمتد هذا التصعيد الخطير بتداعياته المدمرة على الأمن والاستقرار في أنحاء السودان، كما أدى إلى بروز مخاوف عدة من انهيار اتفاقية السلام بين الشمال والجنوب، وعودة الحرب في حال عدم الوصول إلى حلول مناسبة للخروج من الأزمة.

وقد أعلنت الحركة الشعبية أن هناك 30 قضية خلافية ماتزال عالقة في اتفاقية السلام، وموزعة بين البروتوكولات الستة المكونة لاتفاق السلام، ويتركز أغلبها في بروتوكول الترتيبات الأمنية، وقد تمحورت أهم القضايا محل الخلاف فيما يلي:

1. الميليشيات: ظل الطرفان يتبادلان الاتهامات حول وضع 28 فصيلا مسلحا من الميليشيات الجنوبية التي كان بعضها يتلقي الدعم من القوات المسلحة السودانية، والبعض الآخر يحظي بدعم الحركة الشعبية، وذلك خلال مرحلة الحرب التي سبقت توقيع اتفاق السلام. وقد نص بروتوكول الترتيبات الأمنية على أن تخيَّر هذه الميليشيات الموجودة في جنوب السودان إما بالانضمام للجيش الشعبي لتحرير السودان الذي يمثل الجناح العسكري للحركة الشعبية، أو للقوات المسلحة السودانية، وقد انضمت معظم هذه المليشيات إلى هذا الطرف أو ذاك، غير أن البعض منها مازال عند وضعه الأول، بل إن الحركة الشعبية تتهم حزب المؤتمر بوصفه الطرف المسيطر على الحكومة بصناعة ميليشيات جنوبية ودعمها لزعزعة الاستقرار في الجنوب، وكانت الحركة الشعبية قد دخلت في نهاية عام 2007 في معارك طاحنة مع احدي المليشيات الموالية للقوات المسلحة السودانية، كما دخل الجيش السوداني طرفا في معارك مشابهة بمدينة ملكال ثاني أكبر مدينة في جنوب السودان.

2. إعادة الانتشار: تتهم الحركة الشعبية حزب المؤتمر بعدم الرغبة في سحب القوات المسلحة السودانية إلى شمال الحدود الإدارية للإقليم الجنوبي، طبقا لحدود الأول من يناير عام 1956. حسب نصوص اتفاقية السلام الشامل التي حددت جداول زمنية لإعادة انتشار القوات المسلحة جنوبا أو شمالا، وتشير الحركة إلى أن الجيش السوداني مازال يتمركز في مناطق إنتاج البترول في جنوب السودان. وبأعداد كبيرة، خاصة حول ولاية الوحدة التي تعد أغنى مناطق النفط في الجنوب حتى الآن، غير أن الحكومة تقول أن وجود الجيش في هذه المناطق يعود إلى عدم توافر الأمن هناك بالنظر إلى وجود فصائل جنوبية موالية للحركة تتمركز في ولاية الوحدة، وان كانت الحركة الشعبية ترفض هذه الحجج بالقول إن اتفاقية نيفاشا نصت على أن تكون حراسة مواقع إنتاج البترول موكلة لقوات مشتركة من الطرفين، وأن هذه القوات التي يبلغ عددها نحو 25 ألف جندي قادرة على حراسة هذه المواقع، وانه لا داعي لوجود الجيش السوداني منفردا هناك.

ومن جانبه يتهم حزب المؤتمر الحركة الشعبية بعدم سحب قواتها في جنوب كردفان إلى جنوب حدود عام 1956. وكانت التقارير قد أشارت إلى أن قوات الحركة الشعبية المرابطة في جنوب كردفان يبلغ عددها نحو خمسة آلاف.

3. عائدات البترول: نصت اتفاقية السلام على أن تنال حكومة إقليم جنوب السودان نسبة "50%" من دخل الآبار المنتجة للبترول التي تقع في النطاق الجغرافي للإقليم الجنوبي. وتتمحور شكاوي الحركة الشعبية في هذه النقطة في القول بان ما تناله حكومة الجنوب من عائدات هو أقل من نصيبها الفعلي، وأن هناك أبارا تقع في الجنوب ولايتم احتساب عائداتها عبر المغالطة والقول إن هذه الآبار تقع في الشمال من حدود 1956، بالإضافة إلى أن هناك نوعا من عدم الشفافية فيما يتعلق بعقود الإنتاج والتصدير. غير أنه من الواضح أن هذه المشكلة تتصل اتصالاً وثيقاً بعدم الانتهاء من الترسيم الفعلي للحدود بين الشمال والجنوب، ذلك الترسيم الذي سوف يوضح توضيحاً حاسماً مواقع الآبار وتبعيتها للشمال أو للجنوب، وإن كان الرئيس البشير قد تعهد تعهداً علنياً من قبل في مطلع العام 2007 بأنه إذا تبين أن هناك أية آبار تقع في جنوب السودان، ولم تكن حكومة الجنوب تنال نصيبها منها فسوف يحتسب لها ذلك بأثر رجعي، وقد جاء هذا التعهد إثر التراشق العلني بين الرئيس ونائبه سيلفاكير أثناء الاحتفالات التي عقدت آنذاك بمدينة جوبا عاصمة الجنوب، وقد كان من المتصور أن هذا التعهد سوف يضع حدا للخلافات حول هذا الملف، إلا أن الحركة الشعبية كانت تثيره باستمرار.

4. ترسيم الحدود: تعتقد الحركة الشعبية أن العمل في ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب حسب حدود عام 1956 يسير ببطء شديد. في الوقت الذي يحمل حزب المؤتمر الوطني مسؤولية البطء في التنفيذ للحركة الشعبية التي بدلت ممثليها في اللجنة، بالإضافة إلى الظروف الطبيعية المتمثلة في هطول الأمطار في هذه المناطق لفترات طويلة، فضلا عن سبب ثالث هو التأخر في توفير الميزانية اللازمة للعمل الميداني. غير أنه من المتوقع أن تواجه عملية ترسيم الحدود مشكلات كثيرة خاصة في المواقع التي تقع ضمن خريطة إنتاج البترول، والمناطق الغنية بالمعادن الأخرى مثل النحاس، وطبقا لاتفاقية السلام فإن عملية ترسيم الحدود كان من المفترض أن تتم قبل نهاية 2007، وهي خطوة مهمة يجب أن تسبق إجراء الانتخابات المقررة في منتصف الفترة الانتقالية (أي في عام 2009) واستفتاء تقرير مصير الجنوب بين الوحدة والانفصال.

5. تعديل القوانين: ترى الحركة الشعبية أن المؤتمر الوطني غير جاد في السير قدماً نحو تعديل نحو 60 قانونا تتعارض مع الدستور الانتقالي الذي جاء بموجب الاتفاق. ومن بين تلك القوانين قانون جهاز الأمن السوداني وقانون الشرطة وقانون الانتخابات والعمال.

بالإضافة للقضايا الخلافية السابقة تتهم الحركة الشعبية، حزب المؤتمر الوطني بعدم الإسراع في إعداد التعداد السكاني كما أقرته اتفاقية السلام، و"إعاقة عملية التحول الديمقراطي" وغياب المبادرات لبدء مصالحة وطنية لرأب الصدع. كما انه من الواضح انه يوجد إحساس عميق لدي قادة الحركة الشعبية، يظهر عبر تصريحات مسؤوليها، بأن مشاركتها في حكومة الوحدة الوطنية شكلية للغاية، وان حزب المؤتمر مستمر في الهيمنة على مقاليد الأمور دون وجود شراكة. وأن الحركة تتطلع لمشاركة دستورية متكافئة ومتساوية، وان السبب المباشر لنشوب الأزمة يعود إلى رفض الرئيس عمر البشير خطط الحركة لتعديل مناصب وزارية في الحكومة الائتلافية، ويبدو انه كان على رأس هذه المطالب رغبة الحركة في سحب لام اكول من منصب وزير الخارجية واستبداله بقيادي آخر من الحركة

وقد توصل الطرفان بعد شهرين تقريبا من بدء الأزمة إلى اتفاق لإنهائها في منتصف ديسمبر 2008 حيث أُجري التعديل الوزاري المطلوب في الوزراء الممثلين للحركة الشعبية، كما تم الاتفاق على مصفوفة جداول تنفذ قرارات مؤسسة الرئاسة وتوجيهاتها والتي اعتمدها الرئيس عمر البشير بقرار جمهوري في مجال القضايا الإستراتيجية الرئيسة لإحياء وتجديد روح اتفاقية السلام، وإعادة تأكيد التزام الطرفين بتعزيز التحول الديمقراطي بجانب إعادة تأكيد الالتزام بحق تقرير المصير وجعل الوحدة جاذبة وكذلك قضية تعزيز المصالحة الوطنية.

وقد اشتملت هذه المصفوفة على مجموعة من الالتزامات الخاصة بتوفير الموارد المطلوبة في مجال الإحصاء السكاني وترسيم الحدود بين الشمال والجنوب، وفي مجال الترتيبات الأمنية أخذت اللجنة السداسية الرئاسية باستكمال التشاور بشأن قانون الانتخابات والإسراع في إجازته بأكبر قدر من التوافق السياسي مع كل القوي السياسية والإسراع في مواءمة القوانين مع الدستور.

كما تراجع اللجنة التنفيذية تنفيذ القرارات التي أصدرتها وتتلقى تقارير حول مستوى التنفيذ وتوالي متابعة التنفيذ مع الجهات المنفذة وهي (الرئاسة – حكومة الوحدة الوطنية – حكومة جنوب السودان ). وفيما يتعلق بإعداد مشروعات تنمية وطنية لجنوب السودان اتفق على أن توجه الرئاسة جميع الوزارات القومية بأن تتضمن خططها السنوية مشروعات تسهم في بناء السلام وتعزيز الوحدة تنفذ بجنوب السودان. وان تقوم وزارة المالية بحشد الموارد اللازمة لتنفيذ هذه المشروعات في جنوب السودان، على أن توجه حكومة جنوب السودان وسائر الجهات المختصة الأخرى بتسهيل إنجاز تلك المشروعات.

وفي مجال الإعلام تم التأكيد على نشر الأجندة الوطنية لبناء السلام والديمقراطية والترويج لثقافة السلام والشروع في حملة مشتركة لزيادة الوعي والمعرفة باتفاقية السلام.مع إعادة تشكيل اللجنة الإعلامية المشتركة والتنسيق مع وزارتي الإعلام والاتصالات القومية ووزارة الإعلام بحكومة جنوب السودان من أجل وضع الخطط والسياسات والبرامج التي تعكس الأجندة الوطنية.

أما في مجال القضاء، فتتخذ الرئاسة، وبعد التشاور مع مفوضية الخدمة القضائية والمحكمة الدستورية والهيئة القضائية القومية وقضاء جنوب السودان، أية قرارات مناسبة وضرورية لتعزيز استقلال القضاء وضمان سيادة حكم القانون، وتيسير الخدمات القضائية في كل أنحاء السودان.

وفي ما يخص قطاع البترول، توجه الرئاسة المفوضية القومية للنفط ووزارة الطاقة والتعدين وتفعيل اللجنة الفنية المشتركة لمراجعة أنظمة مراقبة الإنتاج الحالي وعائداته، بهدف الاطمئنان على أن هذه الأنظمة تحقق الشفافية والمحاسبة المطلوبة، وأنها الأفضل وفقا لسائر الخيارات المتاحة. وتوجه الرئاسة وزارة الطاقة والتعدين بتعيين الكفاءات الفنية في مجال الصناعة النفطية وفق ما نصت عليه اتفاقية السلام وبالنسب المقررة لتمثيل الكوادر الفنية المؤهلة في مجال صناعة النفط من جنوب السودان خاصة في مجال أنظمة مراقبة الإنتاج والتسويق ومجالات أخرى ذات صلة.