إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الصراع في جنوبي السودان





موقع منطقة إبيي
المناطق الحدودية المختلف حولها

مناطق النفط جنوب السودان
أماكن معسكرات الفصائل
الموقع الجغرافي للسودان
التوزيع القبلي
التقسيم الإداري للسودان
التقسيم الإداري لجنوب السودان
تضاريس السودان
قناة جونجلي



المبحث العاشر

المبحث العشرون

أسباب الحرب الأهلية والتمرد الثاني والخلافات ما بعد اتفاقية السلام (1983- 2008)

عام 1983 أصدر الرئيس النميري قراراً بتطبيق الشريعة الإسلامية في السودان، ثم صدرت تعليمات بنقل بعض الوحدات الجنوبية من أماكن تمركزها بالجنوب لإحلال قوات شمالية محلها, فأعلنت الكتيبتان ("104" و "105") تمردهما وكانتا تشكلان القوة الرئيسة في الجنوب, ونجح أفرادهما في الفرار إلى إثيوبيا، حيث انضموا إلى قوات "أنيانيا 2" وشكلوا معا "الحركة الشعبية لتحرير السودان" في (16/5/1983) برئاسة العقيد "جون قرنق" بعد حسم الخلافات والمواجهات العسكرية التي جرت بين قواته وقوات "أنيانيا 2" وعدت الحركة منذ ذلك الوقت القوة الرئيسة المعارضة للحكومة في الجنوب، ما جعلها المفاوض الرئيس في مشكلة الجنوب.

عقب انتفاضة (أبريل 1985) والإطاحة بالرئيس النميري استمرت الاتصالات مع الحركة الشعبية حيث وقعت "اتفاقية كوكادام" بتاريخ (24/3/1986) بأثيوبيا مشروعاً لبرنامج العمل الوطني، الذي يناقش جميع مشكلات السودان بما فيها مشكلة جنوب السودان كما وقع السيد "محمد عثمان الميرغنى" زعيم الحزب الاتحادي والعقيد "جون قرنق" مبادرة السلام الوطنية في (16/11/1988) في الإطار نفسه, إلا أن الخلافات السياسية السودانية أدت إلى عدم تفعيل الاتفاقيات, واستمرت الأوضاع على ما هي عليه حتى قيام ثورة الإنقاذ في (30/6/1989).

بقيام ثورة الإنقاذ بقيادة الرئيس عمر البشير رأت الحكومة السودانية، أنه لا يمكن حل مشكلة الجنوب إلا عن طريق الحل العسكري، ولم يستطع أي من الطرفين حسم الصراع بالقوة العسكرية، وقد تأثرت تلك الفترة بكثير من الأحداث والمبادرات و البروتوكولات و سعي بعض الأطراف الإقليمية والدولية للوصول إلى حل للصراع إلى أن وقعت على اتفاق السلام الشامل بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان في (9/1/2005).

أولاً: أسباب التمرد الثاني (1983 ـ 2005م)

أوقفت اتفاقية أديس أبابا التي وقعت بين حكومة السودان وحركة قوات الأنانيا في العاصمة الإثيوبية في (مارس 1972م) القتال الذي دار لمدة سبعة عشر عاماً، ودخلت البلاد مرحلة جديدة شهدت فيها تطور في كافة المجالات، وظهرت في الفترة التي أعقبت الاتفاقية أكبر إنجازات حكومة مايو في المجال الاقتصادي، مثل مشروع سكر كنانة وبداية استكشاف البترول بواسطة شركة شيفرون الأمريكية، وطريق بورسودان الخرطوم، وجامعة جوبا، وكان توقيع الاتفاقية هو أكبر إنجاز سياسي في تلك الحقبة، كما شهدت القوات المسلحة فترة استقرار، وتم التركيز فيها على التدريب والتسليح .لم تنعم السودان بهذا الاستقرار، حيث نشبت الحرب مرة أخرى في الجنوب للأسباب التالية:

1. تدخلات الحكومة المركزية وقرار تقسيم الجنوب لثلاث ولايات.

أ. كان للاتحاد الاشتراكي نظمه ولوائحه التي قد تتعارض مع الواقع العملي للجنوب، حيث كان هو الجهة الوحيدة التي ترشح رئيس الجمهورية، وكان رئيس الجمهورية هو الذي يرشح رئيس المجلس التنفيذي العالي في الجنوب، وكانت تلك هي مهمة مجلس الشعب الإقليمي، وكانت هذه التناقضات تعمق الحساسية بين المركز وحكومة الجنوب.

ب. أعطى الدستور القوة والسلطة لرئيس الجمهورية في حل مجلس الشعب القومي، بينما لم يعطه قانون الحكم الذاتي الإقليمي للجنوب الحق في حل مجلس الشعب الإقليمي، فعدل الدستور لإثبات ذلك الحق، فكان أول انتهاك لاتفاقية أديس أبابا.

ج. الصراع بين قيادات الجنوب خاصة "جوزيف لاقو وأبيل الير" أعطى الرئيس نميري المسوغ للتدخل في شؤون حكومة الجنوب . ولم يسلم المجلس التنفيذي العالي من الصراعات العرقية، حيث كانت القبائل الصغرى تنظر بعين الشك والريبة إلى هيمنة الدينكا على هذا المجلس، خاصة عندما شكت قبائل الفرتيت في غرب بحر الغزال من التمييز العرقي والإقليمي في مشروعات التنمية من قبل المجلس التنفيذي العالي، ورأت أنها لا تطيق العيش تحت سيطرة الدينكا، ما حدا بالرئيس نميري وقتها إلى إصدار قرار بإنشاء مديرية جديدة في إقليم بحر الغزال، سميت مديرية غرب بحر الغزال.

د. كانت بعض القيادات الجنوبية ترى أن الصراعات العرقية هي الحياة ذاتها، وأنها محور حياة الجنوبيين، ولا يمكن العيش بدونها، لأن كل رجل في الجنوب مآله إلى قبيلته، وليس في ذلك عيب يستوجب النقد، بينما كانت قيادات جنوبية أخرى ترى أن الصراعات العرقية والإقليمية، قد لا تكون هي السبب الأساس لتدخلات السلطة المركزية. ويردون السبب في ذلك إلى غياب الضوابط والقواعد الواضحة في اتفاق أديس أبابا، حتى إن الوضع أصبح في مرحلة تالية نتيجةً طبيعية لتدخلات السلطة المركزية، الأمر الذي يطرح سؤالاً هل الاتفاق موجود ؟.

هـ. قرار تقسيم الإقليم الجنوبي إلى ثلاثة ولايات كان السبب الرئيس والمباشر، لاندلاع التمرد الثاني، لأنه أنهى سيطرة قبيلة الدينكا على مقاليد الأمور في الجنوب، حيث طردوا من مدينة جوبا عاصمة الجنوب وتركوا عقاراتهم وممتلكاتهم وغادروها، الشيء الذي أثار حفيظتهم، وبدأوا يخططون للعودة إلى الغابة، وكان هذا القرار نتيجة للضغوط التي مارسها (جوزيف لاقو قائد التمرد الأول)، بعدما ضاق ذرعاً بممارسات قيادات الحكومة من أبناء الدينكا في مديرية الاستوائية، ولم يكن هنالك أي سند قانوني لهذا القرار، لأن قانون الحكم الإقليمي ينصّ على عدم تعديله إلا بموافقة ثلاثة أرباع أعضاء مجلس الشعب الإقليمي وإجراء استفتاء للحصول على موافقة ثلثي مواطني الإقليم الجنوبي.

2. قناة جونقلي

أ. يهدف مشروع قناة جونقلي لزيادة إيراد مياه النيل للتوسع الزراعي في السودان، وفي جمهورية مصر العربية وذلك بتقليل الفاقد من مياه النيل في مستنقعات بحريّ الجبل والزراف ويعد أحد مشروعات تقليل الفاقد بمناطق المستنقعات، والذي يقدر بـ (42) مليار من الأمتار المكعبة سنوياً لا تجد طريقها لمجرى النيل، ولا يسهل استغلالها حيث هي . ويبلغ متوسط إيراد النهر عند منقلا ببحر الجبل (29) مليار متر مكعب سنوياً لا يصل منها إلى ملكال سوى (14) مليار متر مكعب، ويضيع النصف الآخر في مناطق السدود والمستنقعات بالتبخر والانتشار.

ب. كان من الفوائد المنتظرة لهذا المشروع الطفرة الزراعية الكبيرة المؤمل عليها في كل من السودان ومصر، وربما يغطي إنتاج هذه المشاريع حاجات دول المنطقة من المحاصيل الزراعية والخضر والفاكهة والإنتاج الحيواني، بالإضافة للفوائد الأخرى التي ستنعكس على مواطني جنوب السودان على ضفاف القناة والمنطقة التي حولها، وتتمثل في الآتي :

(1)    إقامة مشاريع زراعية على النمط الحديث.

(2)    استيعاب عدد مقدر من العمال في المشاريع المرتبطة بالقناة.

(3) الخدمات المتوقع تقديمها في شكل مدارس، ومستشفيات، وطرق.

(4) تسهيل حركة النقل النهري، وتقصير وقت الرحلات عبر مجرى القناة.

ج. أما الأضرار، التي ستترتب على قيام مشروع قناة جونقلي، والتي كانت سبباً في قيام المظاهرات في كل من جامعة جوبا ومدينة ملكال (عام 1974م)، وأدت لاضطرابات وتذمر، وأصبحت واحدة من أسباب التمرد، فتتمثل هذه الأضرار في الآتي:

(1) جفاف مناطق واسعة كانت تنتشر فيها المياه وكانت مراعي لأعداد كبيرة من الأبقار وسيترتب على ذلك نزوح عدد كبير من المواطنين من هذه المناطق لمناطق أخرى ربما تجرهم لنزاع وقتال مع مواطني المنطقة التي سينزحون إليها وبنفس القدر فإن مناطق أخرى ستغمرها المياه وستؤدي إلى نفس النتائج.

(‌2) يعد صيد الأسماك من أهم مصادر الغذاء للمواطنين في المنطقة، ويتوافر بكميات كبيرة في المستنقعات، وبالتالي فقدان الثروة السمكية الهائلة.

(‌3) كان من المتوقع وصول عدد من المصريين للعمل في القناة والمشروعات المصاحبة لها، ويرى الجنوبيون أن هذا قدوم استعمار جديد، مثلما جاءت قناة بنما بالأمريكان إلى بنما.

(‌4) مجتمع النوير مجتمع رعوي، والقليل منهم يعمل بالزراعة لذا فإن خطة الحكومة لعمل مشاريع زراعية على ضفاف القناة وبالري الحديث، لن يجد القبول من قبائل النوير في المنطقة، كما أن قطعان الأبقار بتلك الأعداد الضخمة التي يمتلكها النوير يصعب أن ينجح معها زراعة في مساحات واسعة، لتضارب الرعي مع الزراعة، ولصعوبة السيطرة على الأبقار ومنعها من إتلاف الزراعة.

(‌5) اتهمت بعض القيادات الجنوبية بتحريض الشباب على المظاهرات لمواجهة الحكومة الإقليمية رافضين فكرة شق قناة جونقلي، حيث ضبط العضو شيش يوزع منشورات تشير إلى ذلك، لأنها تحمل في طياتها رفض استجلاب العمال المصريين، وإقامتهم إقامة دائمة، بمنطقة القناة.

3. إعلان تطبيق الشريعة الإسلامية

أعلن الرئيس نميري تطبيق الشريعة الإسلامية في (سبتمبر 1983م) أي بعد خمسة أشهر من بداية التمرد الثاني، وهذا يؤكد أن تطبيق الشريعة الإسلامية لم يكن سبباً مباشراً للتمرد الثاني، لأنها أتت بعد اندلاع التمرد، ولكنها كانت سبباً في انخراط أعداد كبيرة من الجنوبيين في التمرد، كما وجد التمرد الدعم والسند من الدول الغربية التي عارضت تطبيق الشريعة الإسلامية بشدة، وأوقفت تعاونها مع السودان، ومن بين هذه الدول الولايات المتحدة الأمريكية التي قررت سحب شركة شيفرون العاملة في التنقيب عن البترول في السودان بحجة سوء الأحوال الأمنية في الجنوب، وقد أدى تطبيق الشريعة الإسلامية إلى تقوية التمرد بسبب معارضة أغلبية الجنوبيين لها للأسباب الآتية:

أ. أعلن تطبيق الشريعة الإسلامية في كل أنحاء السودان، علماً بأن الجنوب أغلبية سكانه من المسيحيين والوثنيين.

ب. طالت محاكم العدالة الناجزة عدداً كبيراً من الجنوبيين في الشمال، خاصة العاصمة القومية وذلك بسبب بيعهم وتعاطيهم للخمور.

ج. تحرك مجلس الكنائس العالمي وناشد الدول الغربية لدعم الحركة متهماً الحكومة بشن حرب دينية على الجنوبيين.

د. أدت إجراءات تطبيق الشريعة على كل السودان إلى تخوف دول الجوار الأفريقي خاصة كينيا وتنزانيا والكنغو من ازدياد المد الإسلامي، وكانت أوغندا في ذلك الوقت تشهد ازدهار الإسلام، بفضل دعم الرئيس عيدي أمين المسلم لنشر الإسلام.

هـ. ساندت بعض الدول العربية الحركة الشعبية ومن بينها ليبيا، حيث كان قائدها العقيد معمر القذافي على خلاف شخصي مع الرئيس جعفر محمد نميري.

و. نتيجة للمعارضة التي قوبل بها تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان من قبل العديد من الدول وانضمام عدد من الشماليين ذوي الميول اليسارية للمعارضة، رحبت بهم الحركة، ووجدتها فرصة لتثبت وتبرهن أنها حركة قومية من أجل كل السودان وليس الجنوب وحده، كما كان يردد قائدها في خطبه.

4. اكتشاف البترول في الجنوب

أ. تعاقد السودان مع شركة شيفرون الأمريكية للتنقيب عن البترول في السودان، وبدأت عملها في جنوب السودان، وظهرت تباشير وجود البترول بالقرب من بانتيو في أعالي النيل، ثم توالى اكتشاف البترول في مناطق أخرى، وتسربت الأخبار بأن الحكومة تعتزم تصدير البترول عن طريق الشمال الشيء الذي كان له صدى سالباً من قبل المثقفين الجنوبيين والطلاب، وخرجت المظاهرات المطالبة بتصدير البترول عن طريق كينيا. كما تم الترويج لرأى عام بأن الشمال يسعى لنهب ثروات الجنوب، وسار هذا الانطباع لدى قطاعات واسعة من المواطنين خاصة الطبقة المثقفة والعسكريين.

ب. سعت السلطة المركزية بعد المظاهرات إلى تصدير البترول الجنوبي عن طريق البحر الأحمر، وقامت بنقل الحامية الجنوبية في بانتيو بقيادة سلفاكير ميارديت وأحلت محلها قوة من الشمال وصل تعدادها ستمائة جندي وضابط، وقد أعطى ذلك الوضع انطباعاً جديداً لدى القيادات العسكرية الجنوبية أن حماية المنشآت الاقتصادية أصبحت للشماليين، فقط سعياً وراء نهب الثروة الجنوبية.

ج. زار الرئيس جعفر محمد نميري حقول النفط في بانتيو، يصاحبه حاكم كردفان ومحافظ جنوب كردفان ولم يشمل الوفد أي من القيادات الجنوبية، أو كبار موظفي أعالي النيل، أو العاملين في حقول النفط من الجنوبيين، ما أعطى انطباعاً غير مرض للقيادات الجنوبية، وألقت الزيارة بظلال من الشك تجاه الشماليين، وعملت على إحياء الموروثات التاريخية عن ماذا يريدون من نفط الجنوب ؟ وأصبح النفط في الجنوب يمثل صورة من صور العداء بين الشمال والجنوب، وصورة من صور الصراع على الموارد والثروة في السودان وهكذا كان اكتشاف البترول أحد العوامل التي هيأت الأجواء للتمرد الثاني .

5. عدم تنفيذ خطة إنصهار القوات

أ. من ضمن الترتيبات الأمنية التي اتفق عليها ضمن اتفاقية أديس أبابا خطة انصهار قوات الأنانيا بعد استيعابها في القوات المسلحة السودانية، وذلك بنقل وحدات من الجنوب للشمال، وكذلك نقل وحدات من الشمال للجنوب. ولأسباب موضوعية تتعلق بالنظام الاجتماعي في الجنوب حيث تعدد الزوجات يترتب عليه كثرة الأبناء والبنات، وكبر العائلة الواحدة، ما يجعل أمر عيش أسرة بهذا الحجم في الشمال يسبب صعوبة ومعاناة، لعدم كفاية الراتب الذي يتقاضاه الفرد، لهذا السبب ماطل قادة الأنانيا في عملية دمج القوات.

ب. كانت الخطة تقتضي تحريك ثلاث كتائب مشاة من الجنوب إلى كل من الفاشر وشندي وكسلا، على أن تحل محلها كتائب من نفس هذه القيادات أو الحاميات، ونفذت الكتائب التابعة لكل من اللواء السابع الفاشر، واللواء الرابع، حيث كان يفترض أن تتحرك الكتيبة (117) مشاة لتحل محل الكتيبة (107) مشاة، أما الكتيبة الثالثة التي كان عليها التحرك من بور إلى شندي فهي الكتيبة (105) مشاة، وكان قائدها في ذلك الوقت الرائد كاربينو كوانين، الذي رفض التحرك وأعلن تمرده في بور في مايو (1983م).

ج. انعكس الصراع بين الدينكا والإستوائيين على السلطة والهيمنة في الجنوب، والذي تمثل في جوزيف لاقو وأبيل ألير، على أفراد الجيش في الجنوب . وفي ظل هذه الظروف صدر قرار تقسيم الجنوب إلى ثلاثة مديريات في يونيو (1984م)، بحيث تحكم لا مركزياً، وذلك بناء على رغبة الإستوائيين التي نقلها جوزيف لاقو للرئيس نميري، وهذا الإجراء لم يكن له سند قانوني، وخوفاً من أن يؤدي هذا الاحتقان إلى تمرد وسط أبناء الدينكا في الجيش، قررت القيادة العامة للقوات المسلحة تنفيذ خطة انصهار القوات التي كانت مجمدة.

د. حركت القيادة الجنوبية قوة من جوبا لإخماد تمرد الكتيبة (105)، وأصيب قائدها الرائد كاربينو، وأسعف، وانسحبت قواته إلى إثيوبيا، ولحق بها العقيد جون قرنق في البر الإثيوبي، وأعلن تشكيل الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادته، وبذلك دخل السودان في دورة أخرى من الحرب في الجنوب بانهيار اتفاقية أديس أبابا.

هـ. أصدرت الحركة بيانها الأساس ودستورها الذي تكون من أحد عشر فصلاً، تناول خلفية مشكلة جنوب السودان وأهداف الحركة ووسائلها المقترحة لتحقيق تلك الأهداف، حيث عرفت الحركة المشكلة بأنها مشكلة كل المناطق المتخلفة في القطر، وحددت أعداء الحركة بأنهم الصفوة البرجوازية في الشمال والجنوب، وهذا التعبير بهذه المفردات يوضح أيدلوجية الحركة، ولم تخفِ ذلك حيث أعلنت في بيانها بأنها تريد تحويل السودان إلى قطر اشتراكي.

و. لم يتردد الرئيس الإثيوبي في ذلك الحين "مانجستو هايلي ماريام" في تقديم الدعم بكل أنواعه من سلاح، وتدريب حتى قويت شوكة الحركة، وبدأت نشاطها بالهجوم على النقاط الحدودية بين السودان وإثيوبيا، وكان هذا الدعم من أثيوبيا رد فعل على دعم السودان للثورة الإريترية.

ثانياً: الخلافات ما بعد اتفاقية السلام

اتفاقية السلام الشامل عرفت باتفاقية نيفاشا وسيتم تناولها في المبحث الثالث أنهت هذه الاتفاقية حرباً عرفت بأنها الأطول في القارة الإفريقية حيث استمرت لمدة نصف قرن من الزمان وتم التوقيع على الاتفاق النهائي منها في (يناير 2005) ولكن بعد رحيل زعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان الدكتور جون قرنق في حادث سقوط طائرة بالجنوب، في طريق عودته من أوغندا بعد (21 ) يوماً من أدائه القسم نائباً أول لرئيس الجمهورية، وتسبب ذلك في انفلات أمني في كل من الخرطوم وجوبا أدى لخسائر في الأرواح والأموال، وتم احتواؤه والسيطرة عليه بحكمة الطرفين، وعينت نائب رئيسها سلفا كير ميارديت قائداً للحركة ونائباً أول لرئيس الجمهورية، إلا أن الفراغ الذي أحدثه رحيل زعيم الحركة وضح في كثير من مواقف الحركة وتوجهاتها، وقد ظهرت نقاط خلاف أساسية، قد تؤدى بالإطاحة بكل إنجازات اتفاقية السلام وأهمهـا:

1. قيام الحركة الشعبية بتجميد مشاركتها في حكومة الوحدة الوطنية

أ. حيث قررت الحركة الشعبية لتحرير السودان تجميد مشاركة وزرائها في الحكومة المركزية في الخرطوم في (الحادي عشر من أكتوبر 2007) متهمة الحكومة السودانية بعرقلة اتفاقية السلام من خلال عدم تنفيذ بروتوكول أبيي، و عدم إكمال انتشار القوات المسلحة السودانية، مع عدم الشفافية في إدارة البترول، و تأخير ترسيم الحدود بين الجنوب والشمال، والتعدي على سلطات سيلفا كير النائب الأول للرئيس السوداني.

ب. أعلن شريكا الحكم في (21 ديسمبر 2007) الوصول إلى حل للقضايا العالقة باستثناء إبيي التي سيجري التشاور حولها، و أصدر رئيس الجمهورية مراسيم بتعيين ستة عشر وزيرا من الحركة الشعبية و قامت الحركة برفع قرار التجميد.

ج. أصدر الرئيس البشير في (14سبتمبر 2008) قرارا جمهوريا بإقالة "بافان أموم" أمين عام الجبهة الشعبية، من منصب وزير رئاسة مجلس الوزراء على أثر وصف بافان الدولة السودانية بأنها دولة فاشلة وفاسدة، وذلك خلال ندوة أقيمت بالخرطوم، وذهب الأخير في زيارة إلى واشنطن ببرنامج غير معلن، و بعيد عن ترتيبات السفارة السودانية بالولايات المتحدة.

2. أزمة أبيي

يتباين الموقف التفاوضي في هذه القضية بين الطرفين حيث ترى الحركة الشعبية أنها تتبع الجنوب بينما ترى الحكومة السودانية أنها تتبع الشمال، وتنبع خطورة الأزمة من أنها تمثل لغماً يهدد اتفاق السلام لتمسك كل طرف بموقفه ووجود ( 5%) من البترول السوداني بها حسب تقدير الخبراء.

تفاقمت الأزمة بإعلان اللجنة الدولية المعينة لتحديد حدود منطقة أبيي طبقا لاتفاقية السلام أنها لم تستطع تحديد حدود أبيي وفقا لما كانت عليه في عام (1905) عندما نقلت تبعيتها من إقليم بحر الغزال الجنوبي إلى إقليم كردفان التابع للشمال وأنها (أي اللجنة) تقرر تبعية أبيي للجنوب، وقد أعترض حزب المؤتمر الوطني على القرار ورفضه الرئيس البشير قائلا أن اللجنة تجاوزت حدود الصلاحيات المحددة لها في اتفاق نيفاشا، وهى تحديد حدود أبيي فقط وليس بتحديد تبعيتها .تمسك الجانب الأخر الحركة الشعبية بالقرار و أيدتها فيه الأمم المتحدة وكذلك الولايات المتحدة.

خلال (عام 2007) تبادل الطرفان الاتهامات، وظهر تعنت الحركة الشعبية ووصل إلى تهديد (بافان اموم ) أمين عام الجبهة الشعبية باللجوء إلى الولايات المتحدة من أجل التدخل في منطقة أبيي و استلام الإدارة فيها لحين حل النزاع القائم مع الحكومة السودانية.

أرسلت الولايات المتحدة في (24 أكتوبر 2007) مبعوثها الرئاسي إلى السودان (اندرو ناتسيوس) الذي تقدم بمقترح يحتوى على خمس نقاط لتسوية القضية وافق عليه الطرفان.

اندلعت مواجهات عنيفة بين الجيش الشعبي وقبيلة المسيرية في بدايات (عام 2008) أعقبها إصدار قرار من سلفاكير بتعيين (ادوارد لينو من قبيلة دينكانقوك) مسؤولا أداريا عن منطقة أبيي وهو ما أثار حفيظة حزب المؤتمر، وفي (13 فبراير 2008) عادت المواجهات مرة أخرى بين المسيرية والحركة الشعبية على أثر إعلان قوات الحركة الشعبية بأبيي أن مواطني المسيرية عليهم إخلاء المدينة خلال (24 ساعة).

استمرت المواجهات متصاعدة على فترات متباعدة وصلت إلى اتهام (ادوارد لينو) اللواء (31 مشاة) التابع للجيش السوداني بشن هجوم على أبيي في (23 مايو 2008) تخلل ذلك محاولات حل الخلافات وأصدار مجلس الأمن القرار الرقم (1812/2008) و ممارسة ضغوط من الولايات المتحدة. اعتمدت المؤسسة الرئاسية في (8 يونيه 2008) وثيقة أتفاق أبيي بشكلها النهائي وإعلان كل من المؤتمر الوطني والحركة الشعبية رضاهما التام عن الاتفاق الذي تضمن معالجة الأوضاع الإنسانية بالمنطقة، وبسط الأمن بها مع توفير الإمكانات لإدارة مشتركة واللجوء إلى التحكيم بواسطة هيئة مهنية متخصصة.

شهدت منطقة أبيي في ( 4 يوليه 2008) انسحاب القوات التابعة للحكومة السودانية وقوات الجيش الشعبية، وذلك طبقا للاتفاق الذي أبرم بين الطرفين. وفي (8 أغسطس 2008) أصدر الرئيس السوداني أمرا بتعيين "آروب موباك توج" من الحركة الشعبية رئيسا لإدارة منطقة أبيي.

3. أزمة التعداد السكاني

يعد التعداد السكاني الخامس في السودان مرحلة مهمة من مراحل تطور البلاد بعد تحقيق السلام ومحاولة النهوض بمواردها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، و ترجع أهمية التعداد السكاني إلى الأتي:

1. دخول المناطق الجنوبية إلى حيز الحصر الفعلي وليس النظري.

2. التمثيل في مؤسسات الحكم يقوم على أساس نسبة السكان طبقا لبرتوكول اقتسام السلطة باتفاقية السلام.

3. تحديد عدد الدوائر الجغرافية بناء على الكثافة السكانية في الإقليم ما ينتج عنه أن التعداد سيكون له عامل حاسم في نتائج الإنتخابات القادمة.

4. يمثل عاملا حاسما في نظام التمثيل النسبي في الإنتخابات؛ لأنه المحدد لنسبة النساء مقارنة بالرجال، وكذلك نسبة الخريجين والفئات المهنية الأخرى وعلى ضوئه يتم تحديد حصص التمثيل في المقاعد الإنتخابية. نتيجة لهذه الأسباب حاول الإقليم الجنوبي تأجيل التعداد وخلق العقبات والشروط التعجيزية وخرج بقرار تأجيل التعداد في (11 أبريل 2008) وتراجع الجنوبيون عن قرار التأجيل، بعد أن فندت الحكومة المركزية حيثيات القرار الجنوبي وأطلق التعداد في (22 أبريل 2008) .

4. قضية عائدات النفط

تعد قضية عائدات النفط السودانية و نصيب الجنوب منها من الخلافات الجوهرية التي تهدد العلاقة بين الشريكين، حيث تؤكد الحركة الشعبية أن هناك عدم شفافية من المؤتمر الوطني في إدارة ملف النفط و عائداته.

أما الحكومة السودانية فترى أن اتهام الحركة غير منطقي؛ حيث إن السياسات النفطية العليا عهد بها إلى اللجنة الوطنية للبترول، التي أنشئت بعضوية متساوية بين الطرفين ويتناوب رئاستها رئيس الجمهورية و نائبه الأول الذي يرأس حكومة جنوب السودان.

أعلن يوسف رمضان مدير إدارة البترول بجمهورية السودان في (24 يونيه 2008) بأن نصيب حكومة الجنوب من الإيرادات النفطية عن الفترة (2005-2006-2007) والربع الأول من (عام 2008) قد بلغ (3.836.47 مليار دولار) واستلمته وفقا للمستندات المؤيدة، وما تبقى منه مبلغ (191.48 مليون دولار) متأخرات مستحقة للجنوب.

5. أزمة نشر القوات

أزمة نشر القوات بين شريكي الحكم ليست جديدة، وكل طرف يتهم الآخر بعرقلة تنفيذ الاتفاق والتأخر في نشر القوات وعدم استكمال القوات المشتركة.

أعلنت الأمم المتحدة في (أغسطس 2008) أن نسبة أفراد القوات المسلحة السودانية الذين أعيد انتشارهم بعد تحققها من ذلك (97%) من أجمالي القوات البالغ عددهم (46403) وهم مرابطون في شمال خط الحدود الحالي أما جنود الحركة الشعبية قد أعادوا الانتشار بنسبة (10%) من قوام القوات البالغ عددهم (59168).

ذكر التقرير الصادر عن الأمين العام رقم (485/2008) أن انخفاض نسبة انتشار الجيش الشعبي أدى إلى التوتر في المناطق التي بقى فيها، وهي منطقة سفاهة الواقعة بين شمال بحر الغزال وجنوب دارفور، والبحيرة البيضاء بين جنوب كردفان ومنطقة القفة، ومنطقة سمري الواقعة بين ولايتي النيل الأزرق وأعالي النيل وتدعى الحركة الشعبية أن هذه المناطق خاضعة للجنوب.

6. قانون الانتخابات

شهد هذا القانون منذ الشروع فيه خلافات واسعة ين المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم ) من جهة وثلاثة عشر من القوى السياسية السودانية من بينها الحركة الشعبية لتحرير السودان من جهة أخرى، وتتلخص هذه الخلافات حول النظام الانتخابي ونسب التمثيل، وكيفية مشاركة المرأة في القوائم الانتخابية و تكوين مفوضية الانتخابات.

أقر البرلمان السوداني في (7 يوليه 2008) مشروع قانون الانتخابات الذي يمهد الطريق لأول انتخابات تعددية في السودان بعد انقطاع دام أكثر من عشرين عاماً، وقد أجاز البرلمان القانون بعد مداولات وخلافات من نهاية (عام 2007) وصلت إلى تهديد بعض القوى السياسية بمقاطعة الانتخابات، وكذلك هددت الحركة الشعبية بالمطالبة بالحكم الذاتي وحق تقرير المصير لإقليم دارفور إلى أن وصلوا إلى اتفاق في البرلمان بأغلبية (530 صوتا) ضد (41 نائبا)وامتناع نائبين عن التصويت.

بهذه الأحداث ونتائجها النهائية نجد أن نتائج الانتخابات التي أقيمت عام 2009م، واستفتاء الجنوب عام (2011) سيشكلان منعطفا جديدا في تاريخ السودان أما سودان موحد مستقر، أو دولتان شمالية وجنوبية قد تكون بداية لتفتت السودان إلى دويلات.