إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الصراع في جنوبي السودان





موقع منطقة إبيي
المناطق الحدودية المختلف حولها

مناطق النفط جنوب السودان
أماكن معسكرات الفصائل
الموقع الجغرافي للسودان
التوزيع القبلي
التقسيم الإداري للسودان
التقسيم الإداري لجنوب السودان
تضاريس السودان
قناة جونجلي



الفصل الأول

المبحث الرابع والعشرون

تحديات قيام الدولة ومستقبل العلاقات وتأثيره على مياه النيل

يمتلك جنوب السودان حدوداً مع ست دول أفريقية، هي أوغندا، وكينيا، وإثيوبيا، وشمال السودان، إلى جانب أفريقيا الوسطى، والكونغو. وفي حين يمثل السودان الشمالي البُعد التاريخي للدولة الوليدة، وتُعد دولتا أفريقيا الوسطى والكونغو هما أقل دول الجوار ارتباطا بها (تأثيراً وتأثراً)، بسبب ضعفهما الاقتصادي ووجود العديد من المشكلات الفعلية بهما، بينما تمثل أوغندا وكينيا وإثيوبيا الحلفاء الطبيعيين لدولة جنوب السودان، خاصة مع وجود الروابط التاريخية والسياسية والاقتصادية والعرقية والدينية.

كما أشارت التقديرات إلى أنه فور إعلان الاستقلال الرسمي للدولة، ستتجه علاقات دولة جنوب السودان نحو كل من مجموعة شرق أفريقيا ومجموعة الجنوب الأفريقي، وذلك على حساب توجهها نحو السودان الشمالي ومصر والمنطقة العربية.

وتمثل الحدود الشمالية لدولة جنوب السودان الحدود الأطول لها، إذ تمتد على مسافة نحو 2010 كم، لتصبح بذلك أطول حدود في القارة الأفريقية، وقد حددت اتفاقية السلام الشامل عام 2005، هذه الحدود بالاعتماد على حدود عام 1956، بيد أنها لم تستطع أن تحسم كل الخلاقات القائمة في مجال ترسيم الحدود بين الجانبين، بل أوجدت نقاط توتر ساخنة في مناطق التماس.

أولاً: تحديات قيام الدولة

تواجه دولة جنوب السودان، كدولة وليدة، عدداً من التحديات التي يلزم التغلب عليها، وهي من المشكلات العالقة التي لم تحسم قبل قيام الدولة. ويدعي كل من الشمال والجنوب أن عدم التوصل إلى حلول مقبولة كان مرده إما رغبة الطرف الآخر في عدم الحل، أو تلكؤ كل منهما.

ويندرج معظم هذه يندرج تحت مشاكل الحدود التي لم يتم ترسيمها بصورة نهائية، أو المشاكل المتعلقة بمناطق أبيي وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وهما يمثلان محور المشكلة. أما بقية التحديات فيمكن التوصل إلى حلول لها باستمرار المفاوضات، وخاصة مشكلة الجنسية والديون وتقاسم الثروة. وأُطلق على هذه التحديات قضايا ما بعد الاستفتاء، إذ أرجئ النظر فيها إلى ما بعد الانتهاء من الاستفتاء وإعلان قيام الدولة، وأن يكون النظر فيها مستقبلاً.

1. قضايا ما بعد الاستفتاء (القضايا العالقة)

من الناحية العملية، كان واضحاً لكل أطراف العملية السياسية في السودان، وكذلك لدول الجوار الإقليمي العربية والأفريقية، على السواء، أن الانفصال أصبح أمراً واقعاً من قبل أن يجري الاستفتاء، وذلك بسبب استكمال الحركة الشعبية لسيطرتها التامة على الإقليم الجنوبي سياسياً وعسكرياً واقتصادياً. ومع إعلان الحركة توجهها نحو الانفصال، لم يعد بمقدور الحكومة السودانية في الخرطوم إثنائها عن ذلك، إلا باستخدام القوة، الأمر الذي يعني
العودة إلى الحرب، وهو خيار لا يرغبه الطرفان في الوقت الحالي، ذلك أن العودة للحرب قد تعني تفكيك الشمال والجنوب معاً إلى كيانات أصغر، أو التحول إلى الفوضى، وحالة غياب الدولة، كما هو مشاهد في النموذج الصومالي.

وبناءً على ذلك تزايد الاهتمام، إلى حد كبير، بما سُمي "قضايا ما بعد الاستفتاء"، وهي عشرة قضايا كان قانون الاستفتاء على حق تقرير المصير، الذي أقر في نهاية ديسمبر 2009، قد نص على وجوب الوصول إلى اتفاقات بشأنها في حالة اختيار الجنوبيين للانفصال. ومن أهم هذه القضايا: الوضع في منطقة أبيي، وترسيم الحدود بين الشمال والجنوب، وقضايا أوضاع النفط، والمياه، والجنسية، والديون، والأصول.. الخ.

وقد فشل الطرفان في الوصول إلى تفاهمات، أو اتفاقات بشأن هذا القضايا، قبل التاسع من يناير، وكذلك لم يستطيعا الاتفاق على الإجراء اللازم لقيام الاستفتاء الخاص بتحديد مصير منطقة أبيي، المقرر في 9 يناير 2011، أي في اليوم نفسه المحدد للاستفتاء، لتحديد هل تستمر أبيي في وضعها الحالي، كجزء من الشمال، أم تعود للانضمام إلى الجنوب. وهي قضية حساسة لأنماط الحياة المعيشية الرعوية، وأوضاع قبيلة المسيرية ذات الأصول العربية، من جهة، وقبيلة الدينكا الجنوبية، من الجهة الأخرى. وهكذا فإنه من الواضح أن قضية أبيي تتجه للتحول إلى قضية تشبه النزاع الحالي بين الهند وباكستان على منطقة كشمير، ولا ينتظر حلها قريباً.

وهكذا لم يصل الطرفان إلى تفاهم حول قضايا ما بعد الاستفتاء، وهو أمر سوف يترك بصماته على العلاقات المستقبلية بين الشمال والجنوب، وهل ستكون العلاقات تعاونية أو صراعية. وأن ترجيح الجنوبيين خيار الانفصال بنسبة مرتفعة، يعني أن ينخرط الجانبان في مفاوضات مكثقة للوصول إلى حلول أو تفاهمات حول هذه القضايا، وخاصة أبيي وترسيم الحدود، التي أنجز 80% منها، وبقيت المناطق الأخرى محل الخلاف عالقة، ذلك أن الحركة الشعبية كانت تصر على أن إجراء الاستفتاء لا يرتبط بالانتهاء من ترسيم الحدود، التي يمكن استئناف التفاوض حولها بعد الاستفتاء.

ومن المعروف أن قضايا تبعية بعض حقول النفط المختلف عليها بين الشمال والجنوب، ترتبط من الناحية العملية بترسيم الحدود. وهكذا بقيت هذه القضايا، والقضايا الأخرى المنصوص عليها في قانون الاستفتاء، وأهمها قضايا الجنسية والمياه والديون والأصول المشتركة، إلى حين النظر فيها بين دولتي الجنوب والشمال.

وعلى جانب آخر، أكد مسؤولو قبيلتي المسيرية والدينكا، في 15 يناير 2011، أن اتفاق (أيبي)، الذي تم التوصل إليه مساء 13 يناير 2011، بين قبيلتي الدينكا نقوك والمسيرية، في منطقة أيبي المتنازع عليها، يفض النزاع بينهما الذي تجدد مؤخراً، وأدي إلى سقوط 67 قتيلا من الجانبين، وأنه سيكون مفتاح السلام الدائم والشامل في المنطقة. إن بعض القضايا العالقة لا تحتمل أي انتظار، مثل أبيي وترسيم الحدود، خاصة المناطق الخمس المختلف عليها في هذه الحدود، وأنه لا يمكن النظر في علاقة دولة الجنوب الجديدة بالشمال من دون أبيي، فعليها تتوقف هذه العلاقة، والحركة الشعبية واضحة في هذا الأمر، ولن تبرم أي اتفاق مع المؤتمر الوطني على المسائل العالقة، وتؤسس لتعاون سلس وحدود مرنة، ما لم تحل قضية أبيي.

أ. مشكلتا جنوب كردفان والنيل الأزرق

تتمتع المناطق الثلاث (أبيي، وجبال النوبة، والانقسنا في جنوب النيل الأزرق) بأهمية خاصة، إذ إنها تمثل خطاً فاصلاً بين الشمال والجنوب يمتد من الغرب إلى الشرق، وهي لا تمثل فاصلاً جغرافياً، بل هي فاصل عرقي وبشري. وتموج هذه المناطق بتركيبة إثنية واجتماعية وثقافية، تختلف عما في الشمال والجنوب، على حد سواء. وعلى ذلك أصبحت مرشحة إلى حد بعيد لأن تكون منطقة تلاق وتمازج تربط الشمال بالجنوب، إلا أن قلة الموارد، وعدم توافر البنية الأساسية، وتدهور الخدمات أو انعدامها، في ظل الكثير من التراكمات السلبية الناتجة عن الأخطاء السياسية، كل ذلك أدى إلى تحول هذه المناطق بمرور الوقت إلى مناطق معزولة، أصبحت تدريجياً منطقة عازلة، وانتهت إلى منطقة مواجهة خلال الجولة الأخيرة للحرب الأهلية وحتى الآن (2011).

أهمية ولايتي جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق

تتضح الأهمية الجيوبوليتيكية لولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق في العوامل المتعلقة بالموقع، من حيث المساحة الحدودية، وكذلك مكونات الولايتين من موارد وثروات وتركيبة سكانية ودينية، وطبيعة نظم اجتماعية وسياسية وإدارية، وإمكانيات دفاعية وعسكرية، يمكن أن تؤثر في القضايا الأمنية، لكل من الشمال والجنوب.

تقع ولاية جنوب كردفان ضمن الحدود الجغرافية للشمال، وتحيط بها ست ولايات؛ ثلاث منها تقع في جنوب السودان وهي ولايات الوحدة، وأراب، وأعالي النيل؛ وثلاث أخرى تقع في الشمال هي شمال كردفان، والنيل الأبيض، وجنوب دارفور. وتقدر مساحتها بنحو 79470 كم2، ويسكنها أكثر من مليون نسمة (يقدر عدد سكانها بنحو 1.066.117 نسمة).

وتتكون تركيبتها الإثنية من خليط من العناصر العربية والأفريقية، وأهم قبائلها المسيرية، والنوبة، إضافة إلى عناصر من قبائل جنوبية قرب الحدود مع الجنوب، أبرزها الدينكا. كما تتميز الولاية بتعددية دينية واضحة تجمع الإسلام والمسيحية وأصحاب الديانات التقليدية، بنسب متقاربة وبتفوق عددي قليل للمسلمين.

أما من الناحية الاقتصادية، فإنها تعتمد على الزراعة والرعي، نظراً لوقوعها في مناخ السافانا بنوعية الجاف والرطب. وقد زادت أهمية الولاية بعد اكتشاف النفط فيها، حيث يوجد فيها عدد من الأحواض المهمة، الأمر الذي زاد من حده الصراعات، وأثر في معدلات النزاعات في المنطقة.

أما ولاية جنوب النيل الأزرق، فهي تقع في الجزء الجنوبي الشرقي من السودان، وتجاورها إثيوبيا من الجنوب الشرقي، ومن الجنوب والجنوب الشرقي ولاية أعالي النيل التي تقع في جنوب السودان، ومن الشمال والشمال الشرقي ولاية سنار، وتقدر مساحتها بنحو 54.844 ألف كم2، ويوجد بها قرابة تسعة ملايين فدان من الأراضي الزراعية؛ ولذا فهي من الولايات ذات الأهمية الاقتصادية، وتعد من أغني ولايات السودان من حيث التنوع البيئي والمناخي، وتتمتع بنشاط اقتصادي زراعي ورعوي قوي.

ومن حيث التركيبة العرقية، تتسم الولاية بتعددية قبلية كبيرة، إذ يوجد بها ما يزيد على 40 قبيلة، وأهم قبائلها القمز، وبني شنقول، والبرتي، والوطاويط، والفلاتة، والقنزا.

أما من حيث التركيبة الدينية، فتتميز الولاية بالتعددية الدينية، وأغلبية إسلامية متقاربة مع المسيحية والديانات التقليدية.

ولعل هذا الوضع وهذه الأهمية الجيوبوليتيكية لولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق في مختلف الجوانب، خاصة الاقتصادية والسياسية والدفاعية العسكرية، أدت إلى إيجاد حالة من التنافس والمواجهات صنعت صراعاً قوياً بين الشمال والجنوب.

ب. مشكلة أبيي

ترجع جذور المشكلة في منطقة أبيي، إلى الصراع بين قبائل الدينكا نقوك، والمسيرية، على الموارد الطبيعية؛ فهي نزاعات تقليدية سرعان ما تطورت إلى قتال استمر لفترة طويلة، منذ عام 1964.

وبعد العام 1980، دخلت النزاعات بين القبيلتين مرحلة جديدة من حيث الكم والكيف، وذلك عقب ظهور الحركة الشعبية لتحرير السودان. وبسبب هذا التصعيد والدعم الذي وجدته الدينكا، من قِبل الجبهة الشعبية، ترك عدد كبير من أبناء المسيرية مناصبهم العسكرية ليعودوا لوطنهم، لتدريب وقيادة أبناء قبيلتهم في مواجهة حركة التمرد بجنوب السودان.

في 19 فبراير 1981، أصدر الرئيس السابق "جعفر نميري"، القرار الجمهوري الرقم 106، الخاص بتكوين لجنة لدراسة الأوضاع وتقديم المقترحات والحلول، وتحقيق الأمن والاستقرار.

ويُلاحظ أن الدينكا تعرضوا، خلال الفترة من 1982 إلى 2004، إلى تدخل عالمي وتدويل لم تشهده المنطقة من قبل، ثم دخلت المنطقة في نزاعات متعددة، بعد توقيع اتفاقية السلام الشامل مباشرة، عام 2004.

وباستمرار التدخل الخارجي، تحول المنطق التقليدي إلى لغة الهوية والأيديولوجيا والاستقطاب، ما أدى إلى استفحال الأزمة.

وفي بروتوكول أبيي، الذي ورد في اتفاقية نيفاشا، في 26 مايو 2004، بعنوان: حسم النزاع، والذي وقعه طرفا الاتفاقية (الحكومة السودانية، والحركة الشعبية)، ثبت أن النقاط التي وردت في البروتوكول ضاعفت من أحاسيس الفرقة. ووسط هذا الاضطراب وضعت قوات دولية، بغرض احتواء النزاع والسيطرة عليه.

وعلى الرغم من إعلان الاستفتاء وقيام الدولة الجديدة في جنوب السودان، إلا أن مشكلة أبيي تحركت لتكون من المشكلات العالقة، التي سيتم بحثها لاحقاً بعد قيام الدولة وإعلانها.

2. افتقار الجنوب لعناصر بناء الدولة

وهو ما يُعرف بالبُعد البنائي للدولة، والذي يتمثل في العناصر التالية:

أ. العنصر الديموجرافي

يتمثل في الحياة القبلية والعرقيات المختلفة، ونقص الكوادر المؤهلة لبناء المؤسسات والبنية التحتية للدولة.

ب. العنصر الاقتصادي

ومع توافر الموارد، وأهمها النفط، إلا أن هذه الموارد تُدار بكوادر غير مؤهلة، في ظل دولة داخلية ليس لها منافذ بحرية (حبيسة).

ج. العنصر السياسي

سيكون الجنوب عنصر جذب للقوى الإقليمية والدولية ذات المصالح المتشابكة والمتناقضة، وربما ينضم إلى تحالفات مضادة لكسر عزلة الدولة الوليدة كدولة داخلية.

د. العنصر الأمني والعسكري

يصعب بناء جيش موحد في ظل القبلية والعرقية، فضلاً عن التكلفة العالية، الأمر الذي سيبدد قدرة الدولة الوليدة، من ناحية، ومن أخرى سيؤدي إلى عدم الاستقرار نتيجة للتصارع على السيطرة والقيادة. وبصفة عامة، فإن قضية السودان المركزية لا زالت هي عدم التنمية المتوازنة، وما يتبعها من توزيع عادل للسلطة والثروة. ومن خلال هذه القضايا برزت الصراعات والمشكلات التي أدت لحمل السلاح في مختلف بقاع السودان، لذلـك لا بد من الحوار البناء والهادف لمختلف مكونات الشعب السوداني، للوصول لصيغة تعاون بين الشمال والجنوب يرضي الجميع؛ وتعاون يهتم بقضايا التنمية المتوازنة التي تحقق الأمن والاستقرار للجانبين.

ثانياً: قيام دولة جنوب السودان وتداعياته

1. تكوين الدولة الجديدة وشكلها

إن الناظر المتأمل في موقع السودان، وما يحويه من موارد طبيعية وبشرية، يدرك دونما عناء أثر عبقرية المكان والسكان؛ فالسودان بلد مترامي الأطراف، تبلغ مساحته نحو مليون ميل مربع، ويطل على البحر الأحمر بسواحل تتجاوز 3000 كم، وهو فوق هذا يضم عدة أقاليم ذات مناخات متمايزة. ولا شك في أن هذه الجغرافيا الطبيعية قد ألقت بتمايزها على طبيعة السكان، الذين ينتمون إلى أكثر من (597) قبيلة، ويتحدثون أكثر من (400) لغة ولهجة، ويدينون بالإسلام والمعتقدات الأفريقية التقليدية والمسيحية على الترتيب.

يمثل السودان فضاء مشتركاً لعوالم ثلاثة، تجمع بين العروبة والأفريقيانية والإسلام. والسودان، على الرغم من بنيته السكانية والثقافية التي تجعله أكثر ارتباطاً بواقعة الأفريقي، فإن خصوصيته الحقيقية جعلته يعاني حالة من عدم الاستقرار؛ فلا هو دولة أفريقية خالصة ولا عربية خالصة! كما أنه ليس دولة إسلامية ولا مسيحية! من حيث الانتماء الديني والعقدي، فتعددت به الديانات.

وليس بخافٍ أن هذا التصادم في الهوية والانتماء الثقافي، دفع بالسودان في مرحلة الاستقلال الوطني إلى أزمة حقيقية، حيث ادعت النخبة الشمالية وصلاً بانتماءاتها العربية والإسلامية، في حين أكدت النخبة الجنوبية جذورها الأفريقية غير العربية. وهذا التصادم في الهوية والانتماء خلق حالة من الاستقطاب الحاد، أفضت إلى النيل من أركان مشروع بناء الدولة الوطنية الحديثة في السودان؛ فالسعي الدائم والدءوب لجعل السودان دولة عربية أو أفريقية أو إسلامية، من حيث الوجهة والانتماء، أدى إلى فشل النخبة الحاكمة في مهمة بناء هوية وطنية جامعة، يلتف حولها السودانيون كافة. ويعني ذلك أن تلك الثنائية الحادة بين الانتماء العربي الإسلامي، من جهة، والانتماء الأفريقي المسيحي من جهة ثانية، يمثل رافداً أساسياً للحرب والصراع في السودان. كما أنها تُفسر من جهة ثالثة ضعف وتأكل مؤسسات الدولة السودانية، في معظم سنوات ما بعد الاستقلال.

وقد أسفر الاستفتاء، الذي أجري في 9 يناير 2011، عن انفصال جنوب السودان تحت مسمي "دولة جنوب السودان"، التي أصبحت منذ 9 يوليه، الدولة الرقم 54 في أفريقيا، والرقم 193 في العالم. ومنذ الإعلان عن نتيجة الاستفتاء، فرضت الدولة الوليدة نفسها على الساحة السياسة الإقليمية والدولية، لما أحدثته من تحولات جذرية في الخارطة الجيوبوليتيكية للمنطقة. وعقب الإعلان عن قيام جمهورية جنوب السودان، في 9 يوليه 2011، أعلن الرئيس "سيلفاكير" أن الدولة الجديدة دولة مستقلة ذات سيادة تحترم التنوع وحقوق الإنسان والديمقراطية، وسوف تسهم في الاستقرار الإقليمي، وتسوية النزاعات بالوسائل السلمية.

كما أجاز البرلمان الدستور الانتقالي الجديد، وهو دستور علماني قائم على الديمقراطية وحقوق المواطنة، ويعالج مسألة تعدد الأعراق والثقافات واللغات، وقد اعتمده الرئيس "سيلفاكير" حال الإعلان عن قيام جمهورية جنوب السودان، في 9 يوليه 2011. وبعد التصديق وإجازة الدستور الجديد للدولة، أعلن أن اللغة الانجليزية هي اللغة الرسمية للدولة، كما أعلن عن تشكيل حكومة جمهورية جنوب السودان (اُنظر ملحق تشكيل حكومة جنوب السودان).

ويري الباحثون في الشأن السوداني، أن جنوب السودان يعاني من اختلالات هيكلية، سواء في أوضاعه الاقتصادية أو السكانية أو البنية التحتية، ذلك أن 90% من سكانه تحت خط الفقر، علاوة على معدلات عالية من البطالة، وارتفاع معدلات الأمية (80%) والجهل الثقافي، وانخفاض مستوى الرعاية الصحية مع انتشار أمراض المناطق المدارية، وتدني مستوى التغذية الأساسية، إضافة إلى افتقار عناصر بناء الدولة المتمثل في سيطرة الحياة القبلية والعرقيات المختلفة، ونقص الكوادر المؤهلة لبناء المؤسسات والبنية التحتية للدولة. كما يصعب بناء جيش موحد للدولة في ظل القبلية والعرقية، فضلاً عن التكلفة العالية التي لا تستطيع الدولة الوليدة تحملها.

2. تولي سيلفاكير رئاسة جمهورية جنوب السودان

أدى سيلفاكير القسم رئيساً لجمهورية جنوب السودان، في 9 يوليه 2011، وتعهد بتحقيق التنمية والديمقراطية والحكم الرشيد.

وقد اعترفت مصر رسمياً بقيام دولة جنوب السودان، وذلك على أثر إصدار الرئاسة السودانية في الخرطوم بياناً باعتراف جمهورية السودان رسمياً بقيام جمهورية جنوب السودان دولة مستقلة ذات سيادة. كما رُفع علم جمهورية جنوب السودان في ساحة ضريح الدكتور "جون قرنق"، بمدينة جوبا، ليحل محل العلم السوداني إيذاناً بإعلان استقلال جمهورية جنوب السودان دولة مستقلة. وقد لقيت اعترافاً دولياً واسعاً من أول لحظة لاستقلالها، وذلك بمشاركة أعداد غفيرة من أبناء الجنوب، قدرت بقرابة المليونين، ومشاركة واسعة من ممثلين عن دول العالم ومنظماته.

كما أدى "سيلفاكير ميارديت" القسم رئيساً لجمهورية جنوب السودان، ووقع على الدستور الذي أجازه برلمان الجنوب. وأكد خلال أدائه القسم بأنه سيؤدي مهامه بصدق، وأنه سيعمل على تعضيد قيم الديمقراطية والحكم الرشيد، والمحافظة على وحدة وعزة شعب الجنوب.

وأعلن رئيس المجلس التشريعي بجنوب السودان، أن المجلس المنتخب من شعب جنوب السودان، قد أجاز الاستقلال، استناداً إلى إرادة الشعب الجنوبي، الذي اختار هذا الخيار بأغلبية ساحقة بلغت 99%، في استفتاء تقرير المصير.

وقال رئيس البرلمان الجنوبي: أن جمهورية جنوب السودان ستكون دولة متعددة الأعراق والثقافات واللغات والعرقيات، وأن هذا التنوع سيتعايش سلمياً في مجتمع علماني تُحترم فيه مصالح المواطنين وحرياتهم، وأن جمهورية جنوب السودان ستلتزم بتعزيز العلاقات الأخوية والتعاون مع كل الأمم، بما فيها جمهورية السودان مشيراً إلى الروابط الكبيرة معها.

ومن جانبه، أكد رئيس الجمعية العامة للأمم المتحدة، رغبة المنظمة الدولية في مواصلة ومساعدة دولة الجنوب في مسيرتها التنموية، وأنها لن تألُ جهداً في دعم مسيرة السلام لتمضي إلى نهايتها. وقال: إن دولتي شمال السودان وجنوبه لديهما مصالح مشتركة، وأن الأمم المتحدة على استعداد لدعمهما في القضايا التي تهم السلام، وناشد المجتمع الدولي تكثيف جهوده لتحسين الأمن، ودعم الحكم الديمقراطي وبناء القدرات.

وتحدث الدكتور "رياك مشار"، نائب رئيس حكومة الجنوب، عن الدور البارز الذي لعبه الرئيس السوداني "عمر البشير" في تحقيق السلام في السودان، ووصفه بأنه رجل عظيم أشرف على توقيع اتفاقية السلام وتنفيذ بروتوكولاتها بشجاعة، وقال: إن البشير يملك شجاعة هائلة ورؤية ثاقبة، ضمنت وصول اتفاقية السلام إلى نهايتها.

3. تطورات الأحداث بعد الاستقلال

تجدد القتال في جنوب كردفان، في 4 سبتمبر 2011، حيث قُتل 17 شخصاً في اشتباك بولاية كردفان، بينما فرّ حوالي ثلاثة آلاف شخص في ولاية النيل الأزرق، بسبب اشتباكات بين الجيش الحكومي السوداني وقوات الجيش الشعبي لتحرير السودان. يأتي ذلك في وقت تعتزم فيه دولة الجنوب السوداني نقل عاصمتها من جوبا إلى مدينة راشيل، التي تبعد (وتقع في منطقة الوسط) بعدة مئات من الكيلومترات عن جوبا، التي لا تزال حتى الآن المركز الرئيسي لجنوب السودان، ومقراً للعديد من وكالات الأمم المتحدة ومجموعات المساعدات، التي تعمل في البلاد. وقال المتحدث باسم الحكومة، إن الانتقال بشكل كامل إلى راشيل قد يستغرق ما بين ثلاث إلى خمس سنوات.

وكان الرئيس السوداني "عمر البشير" قد أعلن حالة الطوارئ في ولاية النيل الأزرق، وعين حاكماً ًعسكرياً مكان الحاكم المنتخب للولاية. فيما واصلت دولة جنوب السودان نفى اتهامات وجهتها لها الخرطوم بدعم المتمردين المناوئين لها. كما ترددت أنباء عن قصف سلاح الجو السوداني مناطق يفترض أنها تابعة لحركة تحرير شعب السودان، ما أجبر الكثيرين على الفرار، وعبر ما بين 2500 و3000 شخص الحدود إلى إثيوبيا.

ولم تتحدد بعد الجهة التي سوف تتبعها ولاية النيل الأزرق بعد انفصال جنوب السودان عن الشمال، وأصبح دولة مستقلة. كما لم يتحدد أيضاً مصير منطقتين مثار توتر، وهما أبيي وجنوب كردفان، اللتان تشهدان اضطرابات على نحو منتظم.

من ناحية أخرى، لقي 17 شخصاً مصرعهم بينهم طفل، وجُرح 14 آخرون، في هجوم نفذته الحركة الشعبية على منطقتي أم دحيليب ومرنج بوحدة كالوجي الإدارية بولاية جنوب كردفان السودانية.

كما حذر المبعوث الأمريكي الخاص بالسودان، في 4 سبتمبر 2011، من تداعيات الأوضاع الخطيرة هناك، مشدداً على ضرورة العمل على تجنب الحرب بين شمال السودان وجنوبه، لتكون الفرصة متاحة للولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة للتعاون مع الحكومة السودانية، لحل المشكلات العالقة الأخرى.

وقد تصاعدت المواجهات العسكرية في ولايتي جنوب كردفان، بين الجيش السوداني وجيش الحركة الشعبية لتحرير السودان، في 4 سبتمبر 2011، وتصاعدت معها الأزمة الإنسانية لآلاف النازحين واللاجئين الفارين من القتال. وفي الوقت ذاته تصاعد السجال بين الأحزاب السياسية السودانية؛ فبينما دعا حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان الأحزاب والقوى السياسية السودانية إلى التوحد لحل مشكلات السودان، توعدت الحركة الشعبية في الشمال ومعارضون آخرون بإسقاط النظام، الأمر الذي يتطلب تضامناً بين القوي السياسية السودانية، وإدخال إصلاحات ديمقراطية تسهم في إعادة ترتيب الصف الداخلي السوداني.

كما ناشدت وزارة الخارجية المصرية، في 7 سبتمبر 2011، دولتي السودان وجنوب السودان الوقف الفوري لإطلاق النار والعودة إلى مائدة المفاوضات، لتهيئة الأجواء أمام مسيرة التسوية السلمية للقضايا العالقة بين الطرفين، واستعادة الثقة والاتفاق على تصور بشأن إدارة المرحلة القادمة.

وفي قرار من شأنه تخفيف التوتر بين دولتي السودان، أعلن مسؤول رفيع للأمم المتحدة أن السودان ودولة جنوب السودان المستقلة حديثاً، اتفقتا، في 8 سبتمبر 2011، على سحب قواتهما هذا الشهر من منطقة أبيي المتنازع عليها. ويريد كل من السودان وجنوب السودان ضم أبيي إلى أراضيه. وقد اتفقا على سحب قواتهما في مقر الاتحاد الأفريقي بأديس أبابا.

وأعلن حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان، في 11 سبتمبر 2011، عن إحراز القوات المسلحة تقدماً ملحوظاً في قتالها ضد قوات الجيش الشعبي، مشيراً إلى أن القوات المسلحة على مشارف منطقة جبال دندرو، أحد معاقل التمرد في ولاية النيل الأزرق، كاشفاً في الوقت نفسه عن اعتزامها اجتياح منطقة الكرمك قريباً، وإعلان انتهاء التمرد في الولاية نهائياً.

كما اتهم رئيس دولة جنوب السودان، الفريق "سيلفاكير ميارديت"، حكومة السودان باتخاذ إجراءات على الحدود بين البلدين، أدت إلى معاناة أجزاء من دولته من شح الغذاء. وأكد سيلفاكير تضرر الجنوب من إغلاق الحكومة السودانية للمعابر الرئيسية مع دولة الجنوب، وأن الاقتتال في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان انعكس سلباً على الأمن الغذائي في دولته.

وأعلنت الخارجية السودانية، في 16 سبتمبر 2011، أن "ثامو مبيكي"، رئيس لجنة الوساطة الأفريقية بين دولتي شمال وجنوب السودان بالخرطوم، وبدأ في مساعٍ جديدة لتحريك جمود المفاوضات بين الخرطوم وجوبا، بشأن القضايا العالقة. ولم يستبعد المراقبون أن يطلع المسؤولون السودانيون مبيكي ولجنة الوساطة على المعلومات الخاصة بدعم حكومة الجنوب للمتمردين، في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان.

كما تأجلت المفاوضات بين حكومتي الخرطوم وجوبا الخاصة بالحدود، التي كان من المقرر عقدها بالعاصمة الإثيوبية اديس ابابا، في 19 سبتمبر 2011.

كما زار "سيلفاكير ميارديت" رئيس دولة جنوب السودان، في 8 أكتوبر 2011، السودان زيارة رسمية ، تُعد الأولى له منذ انفصال دول الجنوب، ويرافقه وفد وزاري رفيع المستوى وكبير العدد، يضم الوزراء المعنيين بملفات العلاقات والقضايا العالقة بين الدولتين، في محاولة لبحث الحلول الجذرية لهذه القضايا. في الوقت نفسه الذي حذرت فيه منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة "فاو"، من أزمة غذائية وإنسانية وشيكة بولايتي النيل الأزرق وكردفان الجنوبية، على أثر تجدد القتال بهما.

كما أعلن الرئيس السوداني "عمر البشير"، في 10 أكتوبر 2011، أن السودان وجنوب السودان اتفقا على تشكيل لجان مشتركة لحل القضايا العالقة بين البلدين، وحددا سقفاً زمنياً لعمل هذه اللجان، وذلك في ختام أول زيارة لرئيس جمهورية جنوب السودان للخرطوم.

4. مرتكزات السياسة الخارجية للدولة الجديدة

السياسة الخارجية هي مجموعة الأهداف السياسية التي تحدد كيفية تواصل تلك الدولة مع الدول الأخرى، في المجتمع الدولي. وبشكل عام، تهدف الدول عبر سياساتها الخارجية إلى حماية وخدمة مصالحها الوطنية، وأمنها الداخلي، وأهدافها الفكرية والأيديولوجية، وازدهارها الاقتصادي. وقد تحقق الدولة هذه الأهداف عبر التعاون السلمي مع الدول الأخرى، أو عبر إعلان الحرب والعدوان عليها. ويتحكم في السياسة الخارجية للدولة مبدأن مهمان:

أولهما، خدمة السياسة الخارجية المصالح المشتركة بين الدول.

وثانيهما، تأثر السياسة الخارجية التي تتبعها الدولة بالأوضاع الداخلية، وتوجهات النخبة الحاكمة.

وتفرض الظروف الحالية، في فترة ما بعد الانفصال، أن تحتل السياسة الخارجية موقعاً مركزياً للسياسة العامة لدولة جنوب السودان. وتتمثل العقيدة السياسية للدولة الناشئة، في أنها دولة تسعى إلى أن تكون ذات تأثير في القارة الأفريقية، وتؤسس علاقاتها مع كل دول العالم، على أساس المصالح المشتركة.

ومن شأن قيام دولة جنوب السودان أن يؤثر في دول الجوار المباشر وغير المباشر لها. كما سوف تتأثر الدولة الجديدة بمحيطيها الإقليمي والدولي. ولفهم أهم توجهات السياسة الخارجية لدولة جنوب السودان، ينبغي الإشارة إلى أن تلك التوجهات سوف تكون مرآة تعكس هشاشة الوضع الاقتصادي الداخلي، والانغلاق الجغرافي للدولة، وطبيعة النظام السياسي، اضطراباً واستقراراً، وحجم ومستوى المصالح والمنافع المتبادلة بين الدول. إضافة إلى الضغوط التي قد تمارسها القوي الدولية الكبرى على الدولة.

ثالثاً: معالجة آثار الانفصال ومستقبل العلاقات بين الشمال والجنوب

1. التدابير المقترحة لمعالجة أثار انفصال الجنوب

سيترك انفصال جنوب السودان الكثير من التداعيات والآثار، التي لا بد من وضع المعالجات اللازمة لها؛ وكذلك مشكلة أبيي وترسيم الحدود إذا لم تجدا القبول من الطرفين، سيدفعان إلى بداية النزاع مجدداً بين الشمال والجنوب.

إن وجود قوى دولية لها مطامع في نفط الجنوب ستغذي هذا الصراع وتدعمه، بما قد يؤدي إلى حرب بين الدولتين، وقد يقود، بعد ذلك، إلى وضع قوات دولية لحفظ السلام وكأنها قوات حماية للجنوب.

ويتوقع، أيضاً، انفجار الأوضاع في منطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق، بسبب تذمر أبناء تلك المناطق من عدم استيعابهم في وظائف وعدوا بها، وهنالك أيضاً الجنود من أبناء تلك المناطق، والذين هم خارج القوات المشتركة، وسينسحبون مع بقية أبناء الجنوب، الذين كانوا معهم في مناطقهم، إلى جنوب السودان، حسب اتفاقية الترتيبات الأمنية. وسيكونون هؤلاء عرضة للتعبئة من قِبل التيار الانفصالي، وسيجدون كل الدعم؛ ولذلك سوف يصبح الصراع على امتداد حدود جغرافية واسعة، تمتد من إثيوبيا في الشرق حتى جمهورية أفريقيا الوسطى في الغرب، لكل ذلك لا بد من عمـل معالجات لتدارك تداعيات انفصال جنوب السودان، وذلك كالآتي

أ. المعالجات الأمنية والعسكرية

(1) العمل على تهيئة مسرح العمليات على امتداد الحدود بين الشمال والجنوب، وذلك بتزويد هذه المناطق بالبنية الأساسية من طرق، ومطارات، ومستشفيات، وخدمات مياه وكهرباء. وهذه البنية والخدمات يمكن أن تزيل الكثير من دعاوى التهميش، التي جعلت أبناء مناطق جبال النوبة والنيل الأزرق ينضمون للتمرد وللحركة الشعبية.

(2) حل النزاع حول منطقة أبيي من خلال المفاوضات بين الشمال والجنوب حلاً مرضياً للطرفين، سينزع فتيل الاشتعال في هذه المنطقة، التي قد يقود النزاع حولها إلى إشعال حرب جديدة بين الشمال والجنوب، مع ضرورة إعطاء الإدارة الأهلية في المنطقة دوراً أساسياً في معالجة النزاع، وإرساء قواعد للتعامل بين العرب والدينكا، حسب الأعراف والتقاليد المتوارثة بينهم، بعيداً عن الدور السياسي الذي ينطلق من أطماع ومصالح يرتبط بعضها بقوى دولية معادية للسودان.

(3) العمل على استيعاب أبناء جبال النوبة والنيل الأزرق في القوات المسلحة، مع تجاوز بعض شروط الخدمة كالمستوى التعليمي، ونقلهم للعمل في وحدات خارج مناطقهم، والعمل على تدريبهم وتأهيلهم، مع عقد دورات لمحو الأمية ونشر ثقافة السلام بينهم.

(4) العمل على استيعاب أبناء مناطق النيل الأزرق وجبال النوبة، الذين انضموا للحركة الشعبية بعد تقاعدهم بالمعاش، في وظائف في الخدمة المدنية والشرطة وضباط مجالس محلية، حسب مؤهلاتهم، تمهيداً لعدم إخضاعهم لسيطرة سلطة الحركة الشعبية في منطقتي جنوب كردفان والنيل الأزرق.

(5) يلزم تأمين حقول النفط التي تقع بالشمال، وبالقرب من حدود الجنوب، بقوات مشتركة من الطرفين، مع ضرورة التسليح والتدريب الجيد لوحدات التأمين، وأن تكون مكتملة العدة والعتاد والمرتبات.

ب. المعالجة السياسية

(1) السعي إلى احتواء القيادات الشمالية، الذين تقلص نفوذهم من الحركة الشعبية (شمال السودان)، ومن الأحزاب الأخرى، خاصة أبناء مناطق جبال النوبة والنيل الأزرق.

(2) يلزم التريث وعدم الاندفاع وراء الآراء التي تنادي بتطبيق الشريعة الإسلامية، خاصة تلك المتعلقة بالحدود، إذ سيؤدي ذلك إلى تداعي العلاقات الدولية لدولة شمال السودان مع الوحدات السياسية الأخرى، سواء في نسقها الإقليمي، مع التركيز على تقوية الجبهة الداخلية لمواجهة أي تهديدات خارجية.

(3) توسيع قاعدة المشاركة لتشكيل حكومة قومية ذات قاعدة عريضة من الأحزاب الشمالية المختلفة عقب الانفصال، لمواجهة التحديات المتوقعة بعد الانفصال، قد يكون صمام أمان للشمال، وذلك وفق الاتفاق على حد أدنى من المطالب، بين الأحزاب والتنظيمات المختلفة.

(4) تبني الحكومة برامج توعية للقواعد الشعبية في كل من منطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق، لتعزيز خيار الوحدة ليتم العمل به من جانب الهيئات التشريعية في الولايتين، ورفعها للحكومة الشمالية حسب ما جاء في الاتفاقية.

ج. المعالجة الاقتصادية

(1) أدى الانفصال إلى أن تصبح الدولة الوليدة دولة حبيسة، لا منفذ لها سوى بور سودان أو ممباسا في كينيا، مع وجود خط أنابيب نفط في السودان يصل إلى بور سودان، وارتفاع تكلفة إنشاء خط جديد يصل إلى ممباسا في كينيا؛ لهذا ستظل الدولة الوليدة معتمدة اعتماداً كلياً على خط أنابيب النفط الواصل إلى بور سودان، الأمر الذي يلزم معه أن يقدم شمال السودان تسهيلات لدولة الجنوب، ما يؤدي إلى ارتباط هذه الدولة الوليدة بالدولة الأم في الشمال، وقيام علاقات طبيعية وتعاونية لتحقيق المصالح المشتركة بين الدولتين.

(2) الإسراع في استخراج النفط في الشمال، والذي دلت الاستكشافات على وجوده بكميات كبيرة وتجارية وفي مناطق متعددة بالشمال والوسط والبحر الأحمر، وذلك حتى يعوض الشمال ما فقده من نفط بعد الانفصال، خاصة وأنه أصبح المورد الرئيسي للدخل القومي والموازنة العامة للدولة.

(3) العمل على منع تهريب السلع والبضائع للجنوب، بسد كل منافذ التهريب وتكثيف عمل شرطة الجمارك، وذلك لإجبار حكومة الجنوب على التعاون والاعتماد على الشمال، وفق اتفاقيات لاستيراد احتياجات الجنوب من الشمال، عبر ضوابط تجارة الحدود والقواعد المتبعة دولياً.

د. المعالجة الاجتماعية

(1) معاملة أبناء الجنوب الذين سيبقون بالشمال معاملة إنسانية، وأن يتمتعوا بكافة حقوق المواطنة وعدم النظر إليهم بنظرة دونية، خاصة وأن بعضهم له علاقات مصاهرة بالشمال.

(2) أن تشمل ترتيبات ما بعد الانفصال حفظ أرواح وممتلكات المواطنين بالشمال والجنوب، ووضع الخطط اللازمة لانتقال مواطني كل طرف إلى موطنه الأصلي، مع وضع ضمانات لإجراءات البيع أو الإيجار لممتلكات الذين يغادرون، من جهة إلى أخرى.

(3) إتاحة الفرصة لاستبيان آراء الشماليين والجنوبيين، الذين يفضلون البقاء لدى الطرف الآخر. وفي حالة تأكيد رغبتهم في البقاء لدى الطرف الآخر، تتاح لهم فرصة الاحتفاظ بجنسية ذلك الطرف فقط، مع الاحتفاظ بوظائفهم وإتاحة فرصة التعبير لهم عن ثقافتهم وتراثهم في كل الوسائط الإعلامية، أسوة ببقية القبائل الأخرى، فربما يكون ذلك دافعاً للوحدة من جديد في حالة فشل تجربة الانفصال.

(4) إعطاء أبناء الجنوب منحاً دراسية بمؤسسات التعليم المختلفة بالشمال، بما يزيد التقارب والارتباط بثقافة الشمال.

(5) العمل على ربط الجنوب ببرتوكولات صحية وعلاجية، والاعتماد على المؤسسات الصحية في الشمال، بما يخفف من حدة التوتر ويساعد حكومة الجنوب على التعاون، ويسهل حلول الكثير من القضايا الخلافية.

2. مستقبل العلاقات بين الشمال والجنوب

بصفة عامة، فمستقبل العلاقات بين السودان الجنوبي والشمالي سيكون مرهوناً بنتائج المفاوضات بين الدولتين، حول القضايا الجوهرية العالقة، حيث يُعد ملف منطقة أبيي (المنطقة الحدودية الغنية بالنفط والغاز الطبيعي والمعادن والمياه)، وملف ترسيم الحدود بين الشمال والجنوب، هما الأكثر خطورة فيما يتعلق باستقرار العلاقات بين دولة شمال السودان ودولة جنوب السودان الوليدة.

وعلى الرغم من العديد من التصريحات الإيجابية لجوبا، التي تؤكد دوما أن جمهورية جنوب السودان تضع العلاقات مع دولة شمال السودان ضمن أولويات علاقاتها الخارجية، فإن العديد من المراقين يبدون عدم تفاؤلهم بمستقبل علاقات دولتي الجنوب والشمال السوداني.

ولعل خير دليل على ذلك هو تصاعد التوتر، أخيراً، بين شمال السودان وجنوبه، حول منطقة أبيي، إثر نصب قوات الجنوب كميناً لقوات الشمال، انتهى بسيطرة القوات المسلحة الشمالية على منطقة أبيي وإعلانها منطقة حرب. وقد جاء هذا العدوان ليؤكد نيات الحركة الشعبية في تصعيد القتال، كمحاولة لفرض الأمر الواقع على المنطقة، مع إعلان دولة الجنوب، وأيضاً للضغط على الخرطوم، أو على الأقل زيادة الضغوط الدولية عليها، للتأثير في مسار المفاوضات.

وفي ضوء التطورات الأخيرة، يتوقع المحللون ازدياد حدة التوتر السياسي بين شمال السودان وجنوبه في فترة ما بعد الانفصال، وذلك لوجود العديد من العوامل الداخلية والخارجية التي ستعمل على إفساد العلاقات المستقبلية بين الدولتين، والتي تتمثل في:

أ. وجود العقيدة القتالية لجيش جنوب السودان، والتي ستوجه ضد الشمال بوصفه العدو التاريخي والإستراتيجي، لدولة الجنوب الوليدة.

ب. تغير نمط القيادة السياسية في الجنوب بانتقال سيلفاكير، من موقع رئيس حركة تمرد ورئيس حكومة إلى قائد للتحرير، فمن المتوقع أن يكون أقل مرونة وأقل تفهما لحل الإشكالات العالقة مع الشمال.

ج. احتمال لجوء الدولة الجديدة، (مع ظهور بؤر تمرد وعصيان على حكم الحركة الشعبية) عقب الانفصال، تدفعها دوافع قبلية واقتصادية، إلى استعداء الجبهة الداخلية ضد الشمال.

د. توقع اتساع رقعة الاحتكاكات الحدودية بين القبائل الرعوية، الأمر الذي سيؤدي إلى ارتفاع نسبة التوتر السياسي والعسكري.

هـ. تحول الجنوب بفعل الوجود الأجنبي والتدفقات الدولية، إلى قاعدة للنفوذ الأجنبي المعادي للسودان الشمالي.

ويتضح مما سبق، أن الخاسر الأكبر هو شمال السودان؛ فجميع المؤشرات تنبه إلى أنه مقبل على صعوبات جمة قد تفرز سيناريوهات تراوح بين الفوضى والحرب مع الدولة الجديدة في الجنوب؛ ما لم تُعدل الحكومتان من سياستهما لمواجهة هذا الوضع الجديد.

وعليه يرى بعض الخبراء أنه يلزم لتفادي اندلاع الحرب مجدداً بين الشمال والجنوب، أو بين داخل الجنوب نفسه، حشد جهود المجتمع الدولي للعمل على محورين:

الأول: بناء قدرات الدولة الجديدة وبناء جيش نظامي لها، وتسريع عجلة التنمية فيها، وتقديم الخدمات الضرورية لمواطنيها؛ فضلاً عن بسط الأمن، والعمل على عدم إثارة الصراعات القبلية.

الثاني: تنمية الشمال وتطويره من طريق تقديم الاستشارات الفنية، أسوة بالجنوب؛ لأن تقوية الدولة الأم وتنميتها هي الضمانة الوحيدة لبقاء الدولة الوليدة واستقرارها.

ولا تزال هناك مجموعة من القضايا المحورية العالقة، التي ينبغي التفاوض بشأنها بين حكومتي الشمال والجنوب، حتى يمكن الحديث عن علاقات طبيعية وسلمية بين الدولتين، بعد انفصال الجنوب. ومن بين تلك القضايا النفط والمياه، إذ ينبغي إعادة التفاوض حول توزيع حصص النفط على أسس جديدة؛ فالاقتصاد السوداني يعتمد اعتماداً كبيراً على العائدات النفطية (نحو 98% من ميزانية الجنوب)، وقد يري مراقبون أن النفط يمكن له أن يكون عامل وحدة وتعاون نظراً لحرص الطرفين على ضرورة ضمان استمرار تدفقه. وعلى صعيد أخر، يتعين على كل من الشمال والجنوب التفاوض بشأن حصص كل منهما المستقبلية من مياه النيل.

ومن جهة ثانية، تمثل الديون المستحقة على السودان، والتي تبلغ نحو 38 مليار دولار، إحدى أبرز النقاط العالقة، وتثير جدلاً واسعاً بين الطرفين؛ فالحركة الشعبية ترى أن حكومة الخرطوم أنفقت أموالا طائلة على التسلح، خلال فترة الحرب الأهلية الثانية (1982 – 2005)؛ بينما يسعى شمال السودان إلى أن يتحمل الجنوب مسؤولية بعض هذه الديون، وإن طلب بعد ذلك من المانحين الدوليين إعفاءه منها.

وتشكل قضية المواطنة وعودة النازحين، من جهة ثالثة، إحدى القضايا المعقدة في ملف إدارة المرحلة الانتقالية، بين الشمال والجنوب؛ فثمة سودانيون يعيشون في المناطق الحدودية، وشماليون يقطنون الجنوب، وجنوبيون يعيشون في الشمال. والسؤال هنا يتعلق بمصير هؤلاء، هل سيُعمل بنظام الجنسية المزدوجة؟ أم سوف يخيرون لتحديد هويتهم وانتمائهم الوطني؟.

إن طبيعة العلاقة بين مركزي السلطة، في كل من الخرطوم وجوبا، بما تنطوي عليه من تعقيدات وتصورات ذهنية، يغلب عليها طابع العداء والكراهية، وهذه تُعد في حد ذاتها أحد مصادر الصراع والتوتر بعد الانفصال.

وسيؤدي الانفصال إلى حرمان دولة السودان، ذات الكيان الموحد والأقوى، بسبب تقسيم وتوزيع مصادر القوة الجيوستراتيجية، على الأقل، من سعة المساحة، وكذلك تقسيم موارد السودان البشرية ومقدراته الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، والاجتماعية (عناصر البيئة الإستراتيجية والقوة الشاملة)، ما سيؤدي –بالضرورة- إلى تقليص وزنه الإقليمي والدولي.

ويخشى أن يتحول جنوب السودان إلى ساحة تنافس وصراع مرير بين القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية والصين، وقد ينساق خلف هذا الصراع ويصبح لا حول ولا قوة له، ويبحث فقط عمن يشعره بالدعم والتأييد، حتى ولو كان مزيفاً وموظفاً لأغراض السيطرة على ثروته النفطية؛ فضلاً عن أن الصراعات عقب الانفصال، سواء بين الشمال والجنوب، أو بين أبناء الجنوب أنفسهم، سوف تستهلك الوقت والجهد ولن تسمح لسكان الجنوب بتوجيه طاقتهم ناحية البناء والتشييد. كما أن القوى الكبرى لن توافق على أن يركزوا في هذا الاتجاه، لأنه سيضر بمصالحهم؛ فهم يريدون أن يظل الجنوب معتمداً عليهم حتى الرمق الأخير.

أ. مستقبل العلاقات الأمنية والعسكرية بين الشمال والجنوب

أدى الانفصال إلى قيام دولة على حدود السودان الجنوبية، تبدأ من النيل الأزرق شرقاً مروراً بجبال النوبة، خاصة أن هناك تياراً سياسياً قوياً يعمل على ضم هذه المناطق لجنوب السودان، وأن هناك صراعاً يدور في تلك المناطق بهذا الخصوص. وقد يقود هذا الصراع إلى حرب أهلية تهدد استقرار السودان وأمنه القومي، وربما تنفصل أجزاء أخرى منه، خاصةً دارفور.

ويعطي بروتوكول جبال النوبة والنيل الأزرق هذه المناطق الخيار في تقرير المصير، بحجة "المشورة الشعبية"، ويعني الانفصال ضم مناطق كانت تابعة لشمال السودان تاريخياً إلى الدولة الجديدة، ما يزيد من مناطق التوتر القائمة حالياً، كما يوجد صراع بين العرب والنوبة في منطقة جبال النوبة، وكان أحد أسباب التمرد.

ويتوقع أن تكون الدولة الجديدة دولة معادية، نسبة للعوامل التاريخية من الحرب الطويلة والمرارات الناتجة عنها، واختلاف التوجه السياسي والأيديولوجي، لكل من الشمال والجنوب.

إن إنشاء حكومة الجنوب جيشاً جديداً وحديثاً، وصرف أموال طائلة عليه على حساب التنمية، ودعمه بقوات جوية ومدرعات حديثة، كل ذلك يشير إلى أن الدولة الجديدة ترى نفسها في حالة عداء مع الشمال، وهي مستعدة للدخول معه في حرب، إذا حدث أي نزاع، وربما تدخل في أحلاف عسكرية مع دول أخرى.

وبداهة مع انفصال جنوب السودان وتكوين دولة مستقلة، ستبرز أطماع من دول الجوار الأفريقي للسيطرة على توجه الدولة الجديدة، قبل أن تقوى وتصبح مؤثرة.

كما أن أبناء جبال النوبة في الحركة الشعبية متذمرون، ويرون أن الحركة استغلتهم لتحقيق أهدافها، ولم تقدم لجبال النوبة أي مقابل لقاء ذلك الصنيع. وهنالك المليشيات التي انضمت للحركة الشعبية بعد اتفاقية السلام، وكانوا من قبل يحاربون مع الحكومة، والآن ينظر إليهم بحذر وعدم ثقة، بل باحتقار، وهم يقيمون في معسكرات منفصلة. هؤلاء سيكونون مصدر توتر، وربما قادوا حرباً أهلية في الجنوب، حرباً ذات طابع عرقي لأن تكوين هذه المليشيات ذو طابع قبلي.

وتظل مشكلة أبيي، التي إذا لم تحل حلاً مرضياً لكلا الطرفين، ستصبح صراعاً بين القبائل العربية وحكومة الجنوب، لأنهم سيعاملون كأجانب عند دخولهم تلك المناطق للرعي في فترة الصيف، وكذلك الصراع القبلي بين القبائل العربية والجنوبية بسبب نهب الأبقار، وسيكون هذا الصراع على امتداد حدود طويلة جداً، لذلك فإن ترسيم الحدود ووضع علامات حدودية واضحة، هو المخرج المناسب لذلك الصراع المتوقع.

كما أن سيطرة قبيلة الدينكا، أكبر القبائل الجنوبية، على مقاليد الأمور بالحركة الشعبية، قد يؤدي إلى نشوب حروب قبلية بينها وبقية القبائل الجنوبية الأخرى، وسيكون لذلك تأثير سلبي على الأمن والاستقرار في جميع مناطق الجنوب.

ب. مستقبل العلاقات السياسية بين الشمال والجنوب

إن انفصال جنوب السودان، بموجب حق تقرير المصير الذي كفلته اتفاقية نيفاشا للسلام الشامل، يمثل سابقة خطيرة، ويخشى أن يكون حافزاً لحركات من أقاليم أخرى للمطالبة بحق تقرير المصير، تحت مختلف الدعاوي والمسميات.

ومن المتوقع، أيضاً، أن تثير الحركة الشعبيـة الفتن في مناطق النيل الأزرق وجبال النوبة، وأن تدعم الحركات المسلحة في دارفور، الشيء الذي يؤدي إلى حالة عدم الاستقرار في الشمال.

وقد يزداد حدة الاستقطاب السياسي بين الحكومة والمعارضة، وستحمِل أحزاب المعارضة في الشمال حزب المؤتمر الوطني الحاكم مسؤولية انفصال الجنوب، واشتعال الاضطرابات في مناطق أخرى، ما يؤدي إلى المزيد من التفكيك والانشقاقات. وربما تستغل المعارضة الاضطرابات السياسية لمحاولة تغيير النظام في الخرطوم، خاصة إذا بقيت خارج الحكم من طريق انتفاضة شعبية تطيح به، أو ربما يحدث انقلاب عسكري. فقد تحدث حالة من الاضطراب السياسي والأمني، ما سيجعل السودان أكثر عرضة لتدخلات خارجية، سواء من قوى مجاورة أو من جهات دولية.

وسوف تواجه دولة الجنوب، أيضاً، أزمة بناء هيئات سياسية وعسكرية ومدنية قادرة، وقضاء مؤهل. وبمعنى آخر مؤسسات دولة حديثة يكتب لها الاستمرار، في ظل نقص الكوادر وضعف التمويل واستمرار نشاط عسكرة الحياة لفترات طويلة، ما يصعب معه إعادة تأهيل العسكريين للحياة المدنية. كذلك فإن الدولة الجنوبية الوليدة ستعاني من نزاعات عرقية بعد الانفصال، إذ إن جيش الجنوب ليس نظامياً بالمعايير المتعارف عليها؛ فهو مكون من ميليشيات مسلحة تنحدر من أصول عرقية مختلفة، قد تتنازع فيما بينها.

ومن المتوقع أن يكون التوجه السياسي للدولة أفريقياً وعلمانياً، ومع محاولة التقارب مع الدول الغربية والدخول في أحلاف سياسية معها.

وإذا لم تحقق حكومة الجنوب طموحات مواطنيها في العمل بمبادئ الحرية والديمقراطية، سيكون هذا مؤشراً لقيام أحزاب جديدة، ولكن غالباً ستأخذ الطابع القبلي والعنف، ذلك أن الأحزاب الجنوبية دائماً لها ارتباط بمليشيات مسلحة تابعة لها.

كما سيكون هناك صراع على الثروات والأنصبة على السلطة والحكم والموارد، وسيفتح ذلك الأبواب على مصراعيها لاقتتال داخلي بحثاً عن الحكم، ومن ثم ستتمكن القوى الإقليمية والدولية من ترسيخ سيطرتها ونفوذها عبر تأجيج النزاع الداخلي في الجنوب. فالانقسامات القبلية وغياب الأمن خارج المناطق الحضرية، والحكومة التي تفتقر للخبرة، قد تمارس القمع والفساد، وكلها عوامل تثير العديد من المخاوف من أن انفصال جنوب السودان قد لا ينهي المشكلات التي يواجهها شعب الجنوب، ما يؤدي إلى عدم استقرار الدولة الوليدة.

ج. مستقبل العلاقات الاقتصادية بين الشمال والجنوب

أصبح الدخل الناتج من النفط هو المحرك الرئيسي لاقتصاد السودان، ومعظم النفط يأتي من حقول الجنوب. وقد أدى الانفصال إلى فقدان الشمال لمورد اقتصادي رئيسي تقوم عليه الموازنة العامة للدولة، بل يشكل الجزء الأكبر من الدخل القومي منذ تصديره في عام 1999م. وتعتمد الميزانية الحالية بنسبة 90٪ منها على العائدات النفطية.

إن الجنوب تاريخياً لم يسهم في الاقتصاد السوداني، على الرغم من محـاولات في عهود سابقة لعمل مشروعات تنموية، مثل مصنع تعليب الفاكهة في واو، وصناعة النسيج في أنزارا ومنقلا، وصناعة السكر في منقلا وملوط، ومشروع الأرز في أويل؛ ولكن بسبب عدم الاستقرار لم تسهم هذه المشروعات التنموية بأي عائد يذكر في الاقتصاد السوداني.

كما أن الشمال كان يستفيد من ثروة الغابات الأستوائية الكبيرة بالجنوب في صناعات المنتجات الخشبية، خاصة لتميزها بالجودة وتدني الأسعار، وبعد الانفصال فقد الشمال هذه الميزة والاقتصادية.

كما ستتأثر التجارة وحركة البضائع للجنوب، لأن التوجه من حكومة الشمال سيكون التعامل مع دول شرق أفريقيا في هذا المجال.

ويتجسد الانفصال في فقدان إيرادات من عائدات النفط بنسبة تقارب الـ 70٪ من الإنتاج الكلي، الذي وصل إلى 500 ألف برميل يومياً، واحتمال فقدان ما لا يقل عن 300 ألف برميل، ما يجعل الإيرادات اليومية للدولة من النفط تتراجع إلى أقل من 20 مليون دولار في اليوم، بعد أن وصلت إلى أكثر من 35 مليوناً. ويمثل النفط أكثر من 50٪ من الإيرادات الحكومية، ويصل إلى أكثر من 95٪ من الصادرات السودانية. كل هذا سيكون له عواقبه المؤثرة على الاقتصاد السوداني، الذي سيدخل في مرحلة ركود إبان السنوات التالية لإقامة دولة الجنوب، ويتوقع أن يسجل معدلات تراجع، وإذا حقق نسب نمو فإنها ستكون ضعيفة.

ونتيجة لذلك فإن حكومة الشمال لن تتمكن من الوفاء بتعهداتها الداخلية في اتفاقيات السلام، تجاه تعمير وتأهيل وتنمية مناطق دارفور وجنوب كردفإن والنيل الأزرق وشرق السودان، وسيجر عليها ذلك بعض المشكلات والاحتقانات السياسية والنزاعات المكشوفة. وقد لا تتمكن حكومة الشمال من الوفاء بأقساط ديونها الخارجية، ما يشكل بعض الضغوط عليها، وربما يحرمها من أية قروض جديدة.

وسيمكن الانفصال الجنوب من السيطرة على معظم العائدات من الثروة البترولية، وليس نصفها كما نصت عليه اتفاقية السلام الشامل.

كما أن الشركات النفطية الكبرى سوف تستثمر في نفط الجنوب، وخاصة الأمريكية والأوروبية منها، لإخراج الصين من السوق وعدم تمكينها من الاستفادة في هذا المجال الحيوي.

كما أن زيادة الاستثمار في مجال النفط، لا شك سيُمكن حكومة الجنوب من زيادة عائداتها النقدية، ما يمكنها من الصرف على مشروعات تنموية تنعكس على مواطن الجنوب ورفاهيته، وتقديم الخدمات الأساسية التي يحتاجها المواطن.

إن وجود قوى دولية لها مطامع في بترول الجنوب ، سوف يغذي هذا الصراع ويدعمه، وستكون حرباً بين دولتين، وقد يقود، بعد ذلك، إلى وضع قوات دولية لحفظ السلام، والتي ستكون أقرب إلى قوات حماية للجنوب.

د. مستقبل العلاقات الاجتماعية بين الشمال والجنوب

من المتوقع الانحسار التام للغة العربية والثقافة الإسلامية، وتوقف المد الإسلامي جنوباً، وتعرض المسلمين لمضايقات بالجنوب، ما قد يضطرهم للهجرة للشمال.

كما يتوقع ظهور تيارات دينية متشددة تنادي بقيام دولة دينية في الشمال، ما يقود إلى صراع مع بقية التيارات المعتدلة، وقد يقود أيضاً إلى مضايقة الجنوبيين والمسيحيين في الشمال، وهذا قد يقود إلى تدخلات من دول ومنظمات أجنبية بدعوى الاضطهاد الديني وحقوق الإنسان، ما يؤدي إلى التدخل المباشر للمجتمع الدولي في الشأن السوداني الشمالي.

إن حركة الرعاة في مناطق التماس مع الجنوب ستكون مليئة بالتوتر والصراع، ذلك كله يعني خصماً على التواصل الطبيعي والتمازج، الذي كان موجوداً من قبل.

كما أن الشماليين في الجنوب سيتعرضون لمضايقات، وسينظر إليهم بعين الشك والريبة، وبالمثل حال الجنوبيين بالشمال، ما سيقود لهجرات عكسية، وسوف يتأثر النسيج الاجتماعي، خاصة وسط الأسر التي لها مصاهرات مع الطرف الأخر.

كما أن التواصل الذي كان يتم عبر الطلاب الذين يدرسون بالشمال بالمدارس والجامعات المختلفة، سوف يتوقف مع عدم كفاية المؤسسات التعليمية بالجنوب. وسيؤدي ذلك إلى فقدان الجنوب الفرصة في تأهيل وتدريب كوادر يمكن أن تسهم في العمل على تنمية الجنوب، وسيعاملون كرعايا أجانب.

ويمكن أن تحدث هجرة للمواطنين الجنوبيين في الشمال نحو الجنوب، نتيجة لسوء معاملة، أو تعرضهم للاضطهاد كأجانب، ما يفقد المواطنين وسائل كسب عيشهم من خلال فقدهم فرص عمل كانت تدر عليهم دخلاً يساعدهم في مواجهة أعباء الحياة.

كما يتوقع تفشي الكثير من الأمراض، نسبة لتردي الخدمات الصحية في الجنوب؛ فالمواطن الجنوبي كان يجد الرعاية الصحية والعلاج اللازم بالشمال، عبر المؤسسات الصحية المختلفة ودون تفرقة.

وستنشأ ثقافة جديدة ذات توجه مضاد لكل ما هو عربي أو إسلامي، عبر إذاعات ومحطات تلفزيونية وفضائية موجهة، ما يباعد من إمكانية التقارب بين الدولتين مستقبلاً، إضافة لإلغاء تدريس اللغة العربية، وتغيير المناهج الدراسية واستبدالها مناهج من شرق أفريقيا.

كما سيحرم الانفصال دولة الشمال من عمقها الأفريقي، ويقطع الصلة المباشرة بينها وبين دول حوض النيل في معظمها، وينهي التماس الثقافي والحضاري بين العالم العربي والأفريقي عبر البوابة السودانية. وبهذه المناسبة فإن الدولتين ستواجهان معضلة اقتسام حصة السودان من مياه النيل، وكيفية توظيف الحصص في ضوء احتياجات النهضة الزراعية ومشكلات الري والتنافس الدولي على موارد المياه، مع الأخذ في الاعتبار مشكلة ندرة المياه عالمياً وخلافات دول حوض النيل الأخيرة؛ لأن موارد دولة الشمال من النيل الأزرق أكبر من مواردها من النيل الأبيض، واحتياجات الجنوب في تزايد في حال وجود تنمية زراعية لا تعتمد على مياه الأمطار.

كان، وما يزال، قرار هيئة التحكيم الدولية في لاهاي بشأن مشكلة أبيي ليس مرضياً عنه من كلا المجموعتين الأساسيتين في المنطقة: دينكا نقوك والمسيرية؛ فالمجموعة الأولى تظن أن حقول النفط في هجليج قد أخذت منها بغير حق، والثانية ترى أن الحدود الشمالية التي ضمت إلى أبيي توغلت كثيراً في مناطقهم، وحرمتهم من الأراضي ذات المياه الوفيرة التي يعتمدون عليها لتوفير المياه لقطعانهم وقت الخريف، وفي الوقت نفسه فإن إضافة المنطقة الشمالية لا يخلو من مشكلة للدينكا، لأنه يعطي المسيرية، الذين يعيشون في تلك المواقع حسب تفسير حكومة الشمال، حق التصويت في الاستفتاء حول تبعية المنطقة لبحر الغزال أو إلى جنوب كردفإن، فهم يخشون من تصويت المسيرية لصالح الانضمام إلى كردفان. وأبيي على وجه الخصوص مرشحة بقوة لتصبح النقطة المحتملة لاشتعال حرب أهلية جديدة بالسودان، بسبب الخلافات الناشبة بشأنها.

هـ. مستقبل العلاقات العلمية والتقنية

لن يتأثر الشمال كثيراً في هذا الجانب؛ ولكن الجنوب هو الطرف الأكثر تأثراً وذلك للآتي:

(1) عدم وجود مراكز تدريب في الجنوب، وعدم وجود كوادر مدربة لتشغيل التقنية، مع عدم وجود مراكز أبحاث أو مراكز علمية.

(2) كل التقنيات الحديثة في كافة المجالات كانت تدخل الشمال أولاً، ثم بعد ذلك تنتقل للجنوب بطريق مباشر، أو غير مباشر، وسيفقد الجنوب هذه الميزة في نقل التقنيات المختلفة.

(3) الطلاب والباحثون وطلاب الدراسات العليا من الجنوب تصرف عليهم الدولة، ويعاملون على قدم المساواة مع بقية أقرانهم في الشمال، ما يساعد على خلق كوادر مؤهلة ومدربة. وسيجعل الانفصال الجنوب يفقد بعضاً من تلك الفرص، وقد تتاح بالثمن.

3. سيناريوهات العلاقة بين دولتي الشمال والجنوب

من حسن حظ دولة جنوب السودان الوليدة، أنها حظيت قبل ولادتها بالشرعية والقبول الإقليمي والدولي، بعد أن صوت 99% من سكانها لصالح الانفصال، في استفتاء تقرير المصير، وبموجب ما أتاحه اتفاق السلام السوداني، الذي وقّع عام 2005، بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان برعاية دولية.

وأصبحت دولة جنوب السودان مباشرة ودون تعقيدات، العضو الرقم 193 في منظمة الأمم المتحدة، والعضو الرقم 54 في الاتحاد الأفريقي، وربما العضو الرقم 23 في جامعة الدول العربية، إذا أرادت حكومتها الجديدة عضوية كاملة في الجامعة، التي أعربت ترحيبها بذلك على لسان أمينها العام السابق السيد "عمرو موسي"، أو قد تكتفي بصفة مراقب في الجامعة، كما هو الحال لإريتريا.

ولكن المؤسف حقاً أن رياح الأحداث في السودان تعصف الآن بقوة بكل آمال وطموحات السودانيين، الذين ستتقاسمهم من الآن فصاعداً دولتان، ولا يدرون كيف ستسير الأمور في مقبل الأيام بين دولتين، قدرهما أن تظلا مرتبطتين حتى بعد انفصال الجنوب واستقلاله؛ فدولة السودان الأم فقدت باستقلال دولة جنوب السودان ربع سكانها وثلث مساحتها، وستعاني أوضاعاً اقتصادية صعبة، بعد أن فقدت، مع ذهاب الجنوب ما يراوح ما بين 70% إلى 80% من الثروة النفطية، و60% من موارد الميزانية، و90% من العملات الحرة. ودولة الشمال بحاجة ماسة للاتفاق مع دولة الجنوب، التي ستظل تعتمد في تصدير نفطها على الشمال، عبر ميناء بور سودان لسنوات طويلة، وستكون كلا الدولتين في حاجه إلى الاتفاق، كذلك، على العديد من القضايا الاقتصادية الحساسة، ومنها الاتفاق على أوضاع البشر الذين سيتأثرون باستقلال الجنوب، ومن بينهم ما يقدر بـ13 مليون نسمة على جانبي الحدود.

إن المشكلة في السودان لم تكن بين شمال وجنوب، بل هي أزمة شاملة، تحتاج إلى حل أشمل وأكبر من كل الحلول الجزئية التي تمت، والتي يخلق كل حل منفرد منها مزيداً من التعقيدات. فقد انفجرت الأوضاع في أبيي وجنوب كردفان، والوضع مهدد في النيل الأزرق، ولا حل مُجد يلوح في أفق دارفور، ونذر غضب في شرق السودان وشماله. أي أن دولة شمال السودان كلها في خطر، ومثلها وأكثر دولة الجنوب، التي تُعد أمورها أشد تعقيداً، فهي تواجه إشكاليات وتحديات سياسية واقتصادية.

ويرى الباحثون في الشأن السوداني، أن علاقة دولة الجنوب الوليدة مع دولة الشمال العتيقة، ستكون في مواجهة سيناريوهات ثلاثة، كالآتي:

أ. سيناريو السلام بين الدولتين

هو السيناريو الأفضل لكليهما، وهو الخيار الأمثل للسودانيين في شطري السودان؛ لكن قد لا يكون من السهل تحقيقه، وكلا الطرفين الحاكمين في دولتي السودان لم يستطع احتواء مشكلاته الداخلية واستيعاب التنوع داخله؛ وكلاهما مازال يحتفظ بحلفائه في الطرف الآخر كأوراق للضغط عليه. فالجنوب يتهم الشمال بدعم الميليشيات المناوئة له، والشمال، كذلك، يتهم الجنوب بدعم حركات دارفور والمناوئين له في كل أنحاء السودان. ويلعب الدور الإقليمي والدولي عاملاً مهما في هذا السيناريو، ويبدو أن قوى دولية لا تريد منح نظام البشير هذه المكافأة، فضلاً عن قضية المحكمة الجنائية، التي تلاحقه وتضع تعقيدات أمام هذا الحل.

ب. سيناريو الحرب بين الدولتين

وهذا –بداهة- يعد السيناريو الأسوأ، وقد لا يكون من السهل حدوثه، لأن كلا الطرفين غير قادر على حرب حاسمة، أو طويلة، دون موارد يستمدها كلاهما من النفط، الذي يُنتج جنوباً ويُصدر شمالاً، ويجعل مصير كل طرف مرتبطاً بالآخر. وهذا الحل، أيضاً، سيجد معارضة دولية من أطراف ترى استقلال الجنوب إنجاز من أهم انجازاتها، وقد يفجر الأوضاع الداخلية لكل طرف، أو يجابه بمعارضة داخلية في وطن أنهكته الحروب.

ج. سيناريو اللا حرب واللا سلم

قد يكون هو السيناريو الأرجح والأكثر كارثية، لأنه سيستنزف طاقة البلدين ومقدراتهما عبر حروب صغيرة بالوكالة، ما يحول البلدين إلى دولتين فاشلتين. وقد يقع هذا السيناريو في ظل عجز الطرفين عن حل بعض القضايا العالقة بينهما، من جهة، وفي ظل عجز كل طرف منهما على حدة على حل مشكلاته، واستيعاب التناقضات داخله، وترتيب أوضاعه في ظل الوضع الجديد؛ فضلاً عن التعقيدات الأخرى الناجمة عن الأبعاد الخارجية.

كما أكد المتخصصون في الشأن السوداني أن انفصال الجنوب لا يُعد نهاية المطاف، بل بداية سلسلة من المشكلات تنعكس سلباً على السودان والقارة الأفريقية بأكملها، مطالبين بضرورة تغيير دستور الشمال لمراعاة حقوق الأقلية، والتقسيم العادل للسلطة والثروة، تجنباَ لانفصالات جديدة، وفتح المجال لمشاركة القوى السياسية بالشمال لحل مشكلة دارفور وغيرها من الصراعات، والتي تعد فتيل حرب قابلاَ للاشتعال في أي لحظة.

4. انفصال جنوب السودان وإعادة صياغة التوازنات الإستراتيجية في حوض النيل

أ. تأثير الانفصال

انفصال الجنوب ليس مجرد نزع ربع مساحة السودان، بما يترتب على ذلك من قضايا وإشكاليات معقدة، بل هو خلل جيوإستراتيجي، لأنه يمثل السابقة الأولي في القارة الأفريقية، التي تقوم على حدود مصطنعة موروثة من الاستعمار. وكانت منظمة الوحدة الأفريقية قد أقرت، في عام 1963، مبدأ قدسية الحدود، إدراكاً منها لما يمكن أن يحدث من فوضي إذا فُتح باب إعادة ترسيم الحدود، بالنظر إلى التداخل القبلي والنزاعات الإثنية المنتشرة بطول القارة وعرضها.

لذلك، فجنوب السودان يمثل الحالة الأولي في القارة، التي يشعر معها الكثير من القادة الأفارقة بالقلق خشية من أن تتحول إلى نموذج يُقتدى به في كثير من حالات النزاع الإثني، والتي قد تمثل حافزاً للتحول إلى المطالبة بحق تقرير المصير، بديلاَ عن السعي للاندماج والمساواة في الحقوق. غير أن الاتحاد الأفريقي ودول القارة ككل، قبلت بانفصال الجنوب، وبعضها رحب به، سواء لتحقيق مصالح ومنافع خاصة، مثل أوغندا وإثيوبيا على سبيل المثال، أو لأنه جاء بالتوافق والتراضي بين شطري السودان، ولم يكن هناك مناص من ذلك.

إلا أن الأثر الأكبر والمباشر للانفصال سوف يتجلى، بلا شك، في منطقة حوض النيل، حيث يمكننا أن نلاحظ أن ولادة دولة الجنوب، بموقعها الإستراتيجي، سوف يؤدي إلى إعادة صياغة كل التوازنات الإستراتيجية الواقعة جنوب الحدود المصرية؛ فدولة الجنوب تتماس مع القرن الأفريقي من ناحية الشرق، ومع إقليم البحيرات العظمي، الذي يضم المنابع الاستوائية للنيل، من ناحية الغرب. ومن البديهي أن إعادة الصياغة للتوازنات القائمة ستكون لصالح أهداف وإستراتيجيات الدول، التي لعبت أدواراً أساسية في فصل الجنوب، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.

كما أنه من الواضح أن هذا التطور سيمثل نوعاً من الصعود والاستقواء لدولتين أساسيتين في حوض النيل، هما إثيوبيا الساعية إلى تأكيد هيمنتها على القرن الأفريقي، ومد هذه الهيمنة وتأثيراتها إلى حوض النيل بأكمله، ثم أوغندا في إقليم البحيرات، التي تسعى في ظل "موسيفني" إلى بناء إطار تعاوني في شرق أفريقيا تحظى فيه بدور قيادي متميز، في الوقت الذي يقودنا إلى ملاحظة أخرى تتمثل في أن كلا من إثيوبيا وأوغندا تحظيان بعلاقة متميزة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وكل منهما تمثل نقطة ارتكاز في محيطها الإقليمي للإستراتيجية الأمريكية. ومن ثم، فإن الدور الأمريكي المهيمن على توجهات دولة جنوب السودان، ومعه الدور الإسرائيلي، سيقودان، في نهاية المطاف، عملية تشكيل التوازنات الجديدة في منطقة المنابع، سواء في الهضبة الإثيوبية أو هضبة البحيرات.

وغني عن القول أن من بين التداعيات والآثار، التي سوف تكون مصاحبة لهذه التوازانات الجديدة، العمل على استهداف دولة شمال السودان، وجعلها في حالة نزاع وعدم استقرار مستمرين.

هذه الترتيبات إذا وصلت إلى منتهاها، سوف تنعكس، أيضاً، على أمن البحر الأحمر، وسوف تزيد من تعقيدات أزمة المياه في حوض النيل، وذلك على محورين أساسيين: أولهما التحكم في مشروعات استقطاب الفواقد التي تقع في دولة جنوب السودان، وثانيهما السماح لإثيوبيا بالمضي قدماَ في مشروعاتها المائية على حساب الحق التاريخي وحصة مصر الحالية، والسعي إلى تكريس اتفاقية عنتيبي، التي تهدف من الناحية الإستراتيجية إلى تغيير القواعد الحاكمة لتوزيع المياه في حوض النيل، ومن ثم تعديل وإعادة صياغة الأوزان الإستراتيجية للدول المتشاطئة على النهر لصالح إثيوبيا، وما القوات الإثيوبية التي أُرسلت إلى أبيي مؤخراً إلا أولى العلامات والإرهاصات في هذا المسار، حيث تحولت إثيوبيا الآن إلى فاعل إقليمي جديد، لا يمكن تخطيه في عملية تكييف العلاقة بين شمال وجنوب السودان، وبما قد يؤدي إلى زيادة قدرة إثيوبيا على التحكم في تفاعلات أزمة المياه لصالح مواقفها الحالية.

ب. تصورات السياسات المائية لجنوب السودان

لن تخرج التصورات عن الآتي:

(1) اقتسام دولة جنوب السودان الحصة المقررة للسودان الموحد، مع شمال السودان، حيث يتوافر بها الأمطار والخزانات والبحيرات الموسمية.

(2) في حالة عدم اكتفائها من المياه، فإنها ستلجأ للمطالبة بإعادة المحاصصة وإعادة تقسيم موارد النهر، وفي هذه الحالة ستتقارب مع دول المنابع بالهضبة الاستوائية، وخاصة أوغندا وكينيا وتنزانيا.

(3) في حالة التقارب المصري ـ السوداني، كموقف موحد مع دولة جنوب السودان، فإنها قد تتعاون معهما في إنشاء مشروعات على نهر النيل، للاستفادة من الفواقد، ما يزيد من الحصص المائية للأطراف الثلاثة. وفي هذه الحالة سيكتسب الجانب المصري ـ السوداني قوة، من طريق إضافة دولة جنوب السودان في مواجهة المواقف المتشددة لدول المنابع.