إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الصراع في جنوبي السودان





موقع منطقة إبيي
المناطق الحدودية المختلف حولها

مناطق النفط جنوب السودان
أماكن معسكرات الفصائل
الموقع الجغرافي للسودان
التوزيع القبلي
التقسيم الإداري للسودان
التقسيم الإداري لجنوب السودان
تضاريس السودان
قناة جونجلي



المبحث الخامس والعشرون

المبحث الخامس والعشرون

تطور العلاقات بين جمهوريتي السودان وجنوب السودان

واجه جنوب السودان العديد من التحديات الأمنية الداخلية منذ استقلاله في يوليه 2011، لكن أحد أكثر التهديدات خطورة وتعقيداً ذلك المرتبط بصراع النخب السياسية، في بلد يبدو فيه التكوين القبلي حاكماً للعلاقات البينية في المجتمع، وأهم عناصر تحول الصراعات الصغيرة والهامشية إلى صراعات كبيرة ومعقدة، يمكن تصعيدها بسرعة فائقة وسلاسة لتتحول إلى حرب أهلية، أو صراعات مسلحة أقرب إلى الفوضى من أي شيء آخر.

إلى جانب هذا النوع من الصراع النخبوي، هناك أنواع أخرى من الصراع المسلح في جنوب السودان مرتبطة بالصراع على الأراضي والماشية اللتين هما مصدرا الثورة والنفوذ الأساسيان في جنوب السودان حيث يدخل في تفاعلات هذا النوع من الصراع الجيش الشعبي لتحرير السودان الذى يتحول في كثير من الأحيان إلى جزء من الصراع والمشكلة وليس سبباً للاستقرار والسلام، وفي هذا السياق من المهم مراجعة المسارات الأساسية للصراعات الدموية في جنوب السودان، التي تشكل تحديا لاستمرار مؤسسة الدولة ذاتها.

أولاً: مكونات الصراع في جنوب السودان

1. العنف القبلي

يعود التكوين القبلي في جنوب السودان في اصوله إلى ثلاث مجموعات رئيسة، أكبرها المجموعة النيلية التي تمثل 65% من مجموع السكان، والتي تضم القبائل ذات النفوذ السياسي الأكبر فقبائل الدينكا تمثل ما نسبته 40% من المجموعة النيلية وهي القبيلة التي ينتمي إليها الرئيس "سلفاكير" وتأتي قبيلة النوير في المرتبة الثانية بما نسبته نحو 20%، وهي القبيلة التي ينتمي إليها رياك مشار، نائب الرئيس المقال ومنافسه الشرس ثم تأتى قبيلة الشلك بنسبة 5% وهي القبيلة التي ينتمي إليها كل من "باقان أمون"، الأمين العام للحركة الشعبية، و"لام أكول أجاوين" أحد قياداتها التاريخية.

ويعد أهم مصادر العنف القبلي تاريخيا هو طبيعة الأزمة في المجتمعات المحلية التي تتصارع بشراسة على الموارد، في ضوء عدم الثقة في مؤسسات الدولة، وتحت مظلة انعدام الأمن الغذائي فضلاً عن تنازع على حقوق الأرض، والملكية، والمياه واتجاه نحو الصراع أيضا على ترسيم دوائر انتخابية لتكون بوابة للموارد، وتمويل المجتمعات المحلية، كما يلعب توافر الأسلحة الصغيرة سبباً إضافيا في تأجج الصراعات المسلحة في المجتمعات المحلية، خاصة مع تآكل سلطة الحكم العرفي من جانب القادة التقليديين لمصلحة الشباب حائزي الأسلحة.

لا توفر حالة الثروة المحدودة في ضوء انعدام للبنى التحتية فرصاً لتدخل سريع ومباشر من جانب أجهزة الدولة الأمنية بما يتيح الفرص لخسائر مهولة في وقت قصير في الأرواح والممتلكات.

2. الصراع السياسي

لعب الصراع مع شمال السودان منذ عام 2005 دوراً في تكوين التحالفات السياسية بالجنوب وذلك بطرق مباشرة بسبب القضايا التي لم تحل بين الطرفين منذ استقلال جنوب السودان عام 2011 مثل الحدود، وتسعير النفط والديون، أما أساليب الصراع غير المباشر بين الشمال والجنوب فهي مرتبطة بمقاومة بعض أطراف النخب (أولاد جارنج) في جنوب السودان اختراقات شمالية لنخب سياسية وعسكرية جنوبية.

وقد أفضت هذه التفاعلات إلى تطورات سياسية حاسمة بدأت في يوليه 2013 حين أعفى الرئيس سلفاكير نائبه، رياك مشار، وجميع أعضاء الحكومة في أكبر تغيير وزاري شهده جنوب السودان منذ استقلاله، وأحال إلى الحقيق، في قرار آخر منفصل، الأمين العام للحركة الشعبية لتحرير السودان، الحزب الحاكم في جمهورية جنوب السودان "باقان أمون"، عقب تصريحات علنية انتقد فيها أداء الحكومة، ثم تفجرت النزاعات بين القيادات الجنوبية، بصورة علنية، بعد أن أعلن رياك مشار، عقب إعفائه من منصبه، أنه ينوي الترشح لمنصب الرئيس في الانتخابات المزمع إجراؤها في 2015. وقد ساند مشار في إعلانه عدد من المسؤولين السابقين الذين أطاح بهم الرئيس سلفاكير.

في العاشر من نوفمبر 2013، تقرر عقد اجتماع للقادة الجنوبيين في الفترة من 23 إلى 25 من الشهر نفسه لتدارس وثائق طال انتظار مناقشتها وإجازتها من بينها الدستور والتشريع، وإعادة انتخاب رئيس الحزب، بناء على اللوائح التي تنص على انتخابه كل خمسة أعوام، والمتأخرة منذ أبريل 2010 غير أن ذلك لم يحدث فبدأ القادة المستبعدون حراكاً مكثفاً داخل الحزب مستهدفين تغيير قيادة الحزب والحكومة عن طريق عمل سياسي تعبوي، صاحبته حملات إعلامية مضادة لرئيس الدولة.

وقد تزامنت هذه التفاعلات مع انعقاد مجلس التحرير (الهيئة الأعلى عسكرياً وسياسياً في الحركة الشعبية)، فهاجم سلفاكير في هذا الاجتماع مشار هجوما عنيفاً هو ومجموعته التي خرجت من الاجتماع غاضبة، وخرج سلفاكير بزيه العسكري في صباح اليوم التالي ليعلن في مؤتمر صحفي أن قوات الحكومة أحبطت محاولة انقلابية يقف على رأسها رياك مشار، لكن الأخير نفى ذلك، واتهم خصمه بالسعي إلى إقصائه وآخرين وتبعت ذلك حركة اعتقالات واسعة شملت العشرات من قادة الحركة ووزراء في الحكومة.

اندلعت مواجهات قبلية في جوبا، عاصمة السودان الجنوبي، ليلة 15 ديسمبر 2013 بين قوات موالية للرئيس سلفاكير وقوات موالية لنائبه المقال رياك مشار، فوقع ألاف الضحايا بين قتيل وجريح وتدفق ألاف من النازحين وسرعان ما تدحرجت كرة النار إلى انحاء أخري من البلاد، فتوالت الأخبار عن استيلاء قوات موالية لمشار على مدينة بور، عاصمة ولاية جونقلى، وبانتيو، عاصمة ولاية الوحدة وملكال، عاصمة ولاية أعالي النيل، وهي مدن استراتيجية لأنها تقع في مناطق نفطية، لكن القوات الموالية لسلفاكير تمكنت بعد ذلك من استعادة بور وملكال.

فيتبين أن محفزات التغيير حاضرة في دولة الجنوب مع اختلاف الدوافع وأن الحراك السياسي فيها مرشح للتصاعد، وقد تسفر عن تفكك الحزب الحاكم نفسه، على خلفية الصراعات المفضية إلى الانتخابات العام القادم.

3. أبعاد إقليمية ودولية

هذه الحالة من الصراع الدموي في جنوب السودان، خصوصاً على مستوى النخب السياسية، والذي انفجر في يونيه 2013، أصبحت مثيرة للقلق على المستويين الدولي والإقليمي فالانتهاكات التي ترتكب من قتل وتهجير واغتصاب ربما تهدد الدولة الوليدة بفرض وصاية دولية.

وأيا ما كانت الأطراف المسؤولة عن استمرار الصراع، فإن التعنت السياسي بين الأطراف المتصارعة، وأيضا فشل منظمة الإيجاد في إرسال قوات إفريقية إلى جنوب السودان، كل ذلك أسفر عن انهيار اتفاقين لإطلاق النار جرى توقيعهما منذ انطلاق الصراع في ديسمبر الماضي بين رئيس حكومة جنوب السودان، سلفاكير ونائبه السابق، رياك مشار، حيث ينتمي كل منهما إلى قبيلة مغايرة للأخرى.

وقد باتت شواهد التذمر الدولي واضحة من استمرار أزمة جنوب السودان بعد أن تسبب الصراع في تهجير أكثر من مليون شخص من قراهم إلى مناطق أخرى، أو إلى دول الجوار كما قٌتل الآلاف من شعب جنوب السودان طبقا لتقديرات الأمم المتحدة وآثار ذلك مخاوف من تفشي المجاعة نظراً لعدم تمكن مزارعي جنوب السودان من زرع حقولهم.

على المستوى الإقليمي باتت الأزمة مقلقة إلى حد كبير، فعلي الصعيد الأوغندي اتخذت كمبالا قرارا سريعا بالتدخل العسكري، وإسناد الرئيس كير، كما كان أحد عوامل الدفع بالمتصارعين نحو مائدة التفاوض، وإن كان لدى أوغندا مصلحة متعددة الجوانب في بقاء جنوب السودان مستقراً بعدما أصبح شريكا تجاريا مهما. ونظراً لفرار أكثر من 70 ألف شخص عبر حدودها، أصبحت أوغندا أيضا الوجهة الأساسية لأحدث موجه من اللاجئين الوافدين من جنوب السودان والذين يشكلون عبئاً غير مرغوب فيه، ومصدراً محتملاً لانعدام الأمن، ومن ناحية أخري دفع الاقتتال إلى نزوح أكثر من مليون ونصف شخص إلى كينيا خلال الاشهر الماضية.

وفيما يتعلق بإثيوبيا، فهي لا تريد أي تري فوضى في جنوب السودان، فلديها دولة فاشله في الصومال على حدودها الشرقية، ولا تريد دولة فاشلة أخري على حدودها الغربية ومن الجدير بالذكر أن الكثير من سكان منطقة جامبيلا على الحدود الغربية لإثيوبيا ينتمون إلى عرقية النوير التي تنتمى إليها العديد من أنصار مشار، ما يثير احتمال أن يرغب بعض الإثيوبيين في تقديم الدعم أو المأوي لمتمردي جنوب السودان أو حتي الانضمام إليهم في القتال وقد أدي الصراع بالفعل إلى فرار أكثر من 60 ألف لاجئ عبر الحدود إلى إثيوبيا وهناك مخاوف من إقدام إريتريا على خطوة تسليح المتمردين التابعين لمشار.

وقد تبلور اتجاهان للسيطرة على الصراعات الدموية في جنوب السودان، أحدهما إقليمي تحت مظلة الايجاد والآخر دولي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية.

عدم التوافق الداخلي في جنوب السودان قد يعرضه إلى سيناريو الوصاية الدولية الذي ينظمه الفصل الثاني عشر من ميثاق الأمم المتحدة في نحو عشر مواد.

المخاطر المرئية من خضوع جنوب السودان لوصاية دولية هي أن تلعب القيادة العسكرية الأمريكية لإفريقيا (أفريكوم) دوراً محورياً في السيطرة على جنوب السودان. فقد عُقد لقاء بين سلفاكير وقائد أفريكوم في يوليه 2013، أُحكم التعتيم على نتائجه، ولكن تبقي المؤشرات على الأرض تقول إن جنوب السودان له أهميه خاصة من الناحية  الجيواستراتيجية لواشنطن، خاصة مع وجود الشركات الصينية في المنطقة، وما تمثله من تحد لنظيرتها الأمريكية التي تهتم بفرص الاستثمار في هذه الدولة البكر، ولكن إبرام حكومة السودان عقودا طويلة الأجل مع بكين قطع على واشنطن الطريق إلى قطاع النفط الحيوي في الجنوب، ووفر للصين 5% من احتياجاتها النفطية طبقا لآخر احصاءات متاحة، وهو ما يجعل الصراع في جنوب السودان مهددا للمصالح الصينية بامتياز حيث انخفض إنتاج النفط من 480 ألف برميل إلى 160 ألف برميلا فقط.

ثانياً: العلاقات بين جمهوريتي السودان وجنوب السودان

العلاقات السياسية ما بين شمال السودان وجنوب السودان ظلت منذ إعلان الاستقلال عام 1956م في حالة من الشد والجذب والتأرجح ما بين الاستقرار والتوتر، هذه العلاقات المتذبذبة بين الشمـال والجنوب أشـعلت حرباً بين الطـرفين امتدت لفترة خمسين عاماً إلى أن أُوقفت بموجب اتفاقية السلام (نيفاشا) وانتهت بميلاد جمهورية جنوب السودان، ولكن رغم هذا الخيار مازالت العلاقات في المربع الأول من حالة الشد والجذب والتلويح أحياناً باستخدام القوة واللجوء إلى الحرب.

تمر العلاقات السياسية في الوقت الراهن بين جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان خلال مرحلة من مراحل التحسن والاستقرار، وإن استمرار هذا التحسـن والوصول به إلى مستوى متقدم مرهون بتسوية النقاط الخلافية بين الدولتين وخاصةً منطقة أبيي التي تلعب محوراً أساسياً في توجيه علاقاتهما أما إيجاباً أو سلباً في جميع العلاقات بين الطرفين.

1. الوضع السياسي داخل جمهورية السودان

تُعد مكونات البناء السياسي هي الإطار التنظيمي الذي تندرج تحته كل أوجه السلوك السياسي، وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى عدد من المؤسسات السياسية التي تشكل هذا البناء في جمهورية السودان والتي أسهمت بوضوح في تأزم الوضع السياسي داخل البلاد، ومن هذه المؤسسات الدولة، الأحزاب السياسية، المجتمع المدني.

تعد إشكالية بناء الدولة القومية، أو ما يشار إليه باسم أزمة التكامل القومي من أكبر المعضلات التي واجهت الدول المستقلة فـي القـارة الأفريقيـة عمومـاً، لأن بناء الدولـة القومية يعد شــرطاً ضرورياً لتحقيق الدولة لأهدافها الأخرى.

مشكلة التكامل القومي السوداني تتمثل في التنوع العـرقي والثقافي الكثيف، مع فشل أسـاليب واستراتيجيات إدارة هذا التنوع الثقافي فلم تفلـح الأنظمة المتعاقبة على حكم السودان منذ الاستقلال في إيجاد حل لهذه المشكلة.

تداخلت العوامل الثقافية والاجتماعية مع المطالب التنموية لتزيد من تعقيدات الصراع في جمهورية السودان، واندلعت حركات التمرد في الجنوب والشرق والغـرب.

أ. الأحزاب السياسية

تمتاز الأحزاب السياسية في السودان بالعراقة، كما سبقت الإشارة إليه، لكن ورغم طول عمر هذه الأحزاب، فإن أغلب الأحزاب السودانية لا تزال عاجزة عن ممارسة الدور السياسي المطلوب منها، وهي لم تتطور لا من حيث رؤاها الفكرية وبرامجها السياسية، ولا من حيث هياكلها التنظيمية.

ب. المجتمع المدني السوداني

يقصد بالمجتمع المدني كل المؤسسات والهيئـات التـي تملأ الفراغ الممتد بين الدولة والمجتمع، وتشـمل التنظيمات المهنية والفئوية، ظهرت تنظيمات المجتمع المدني الحديثة في السودان مبكراً (مطلع القرن العشرين)، وقـد تمثـل ذلك فـي نقـابات العمـال وتنظيمـات المزارعين، وتنظيمات المـرأة، الشـباب، الطـلاب، فضـلاً عـن الجمعيات الثقافية.

الملاحظ أن النقابات لم تكن مستقلة عن القوى السياسيـة، وأنها لم توجه جهودها لخدمة قطاعاتها، بل إن هذه التنظيمات وقعت تحت تأثير الأحزاب السياسية حتى تحول بعضها من تنظيمات نقابية إلى أذرع للأحـزاب السياسـية وسط العمال والطـلاب والمـوظفين، ومن ثم انعكس الصراع بين هـذه الأحزاب على العمـال والطلاب بصفة خاصة، وكـان لذلك آثاره السـالبة على هـذه القطاعـات لأن النقابات بارتباطاتها السياسية هذه قـد فقـدت استقلالها وحيـادها، وتركـت مشـكلات العمال والطـلاب جانباً وانغمست في النشـاط السياسي، فأدى ذلك إلى التبـاعد بينها وبين جماهيرها وقـاد إلـى تناقض في مواقفها في كثير من الأحيان بسـبب مجاراتها للأحداث السياسية ولايزال التسييس هو أهم سمات المجتمع المدني السوداني. وبشكل عام يلاحظ على تنظيمات المجتمع المدني السودانية الآتي:

(1) التسييس: غدت هـذه التنظيمـات، كما سـبقت الإشـارة إليه، أذرعاً لتنظيمات سياسـية معينة ما أفرغها من محتواها وجعلها عرضة لتقلبات السياسة وتناقض المواقف.

(2) ضعف أو غياب التمويل: إذ تعاني اغلب هذه المنظمات مشكلة التمويل، وما لم تحل المشكلة ستظل هذه التنظيمات ضعيفة وعديمة الجدوى.

(3) غياب التنسيق: مع كثرة التنظيمات المجتمعية إضافةً لوجود تشابـه في أنشـطتها وأهـدافها، إلا أن التنسيق فيما بينها لا يزال ضعيفاً.

(4) ضعف التدريب وبرامج التنمية البشرية: لاتزال قيادة هذه التنظيمات تفتقر إلـى القـدرات اللازمـة لتيسير أمورها بالصورة المطلوبة، فهي بحاجة إلى برامج لرفع وتعزيز القدرات لدى قياداتها بما ينعكس إيجاباً على أدائها.

(5) غياب الثقة بينها وبين مؤسسة الدولة: فمن ناحيـة ترى بعـض هـذه التنظيمات أن مهمتها الأساسية هـي معارضة السلطات القائمة، ومـن ناحيـة أخـرى تنظـر الحكومة إلى بعـض هذه التنظيمات على أنها تنظيمـات معاديـة ولهـا ارتباطات خارجية خاصةً تلك التي تعمـل في مجال حقوق الإنسان، وهـو ما أضعف العلاقـة بين الطـرفين فانعكـس ذلك على أداء الحكومة والمجتمع المدني معاً.

تعاظمت المشكلات مع الوضع السياسي الراهن داخل جمهورية السودان، وتشعبت الآراء، وتفتت الكيانات وتشرذمت وحدة الدولة السودانية. فصراع ما بعد الاستقلال مازال يحرك كل هذه الأحداث، بدءاً من أزمة الديمقراطية وإشكالات الانفصال، ومروراً بالاعتراف بمدى تأثيرات الواقع الطائفي والقبلي والاثني على منحنى الصراع السياسي والاجتماعي والاقتصادي، حيث إن الطبيعة التاريخية للدولة السودانية مازالت قائمة على تْأجيج روح الطائفية والقبلية والأثنية مقابل دولة المواطنة والنسيج الاجتماعي الواحد، ومن هنا لابد من الاعتراف بإشكالات الهوية السودانية ومدى تأثيرها على طبيعة الأوضاع السياسية وحالتها في السودان وضرورة الاعتراف بوصول النسيج الاجتماعي والهوية السودانية إلى حالة غير منسجمة من التكيف مع دولة المواطنة والحقوق المتساوية على المستوى السياسي والاجتماعي والاقتصادي والابتعاد عن فرض الوصايـة على التكوينات المجتمعية المختلفة والذي أدى إلى تركيز النزعة الطائفية والقبلية والأثنية فانعكس كل ذلك على جمهورية السودان في المجالات كافة، يمكن  تلخيصها في الآتي:

(1) تتفق الأحزاب السياسية المعارضة رغم التنافر والخلافات بينهم على ضرورة إسقاط النظام بغض النظر عن إن كان هذا النظام يتبنى سياسات لصالح الوطن أم لا، ولتحقيق هدفهم هذا ليس لديهم أي مانع في استخدام الأساليب كافة وإن كانت تضر بالمصالح الوطنية ما دامت في النهاية تؤدي إلى إزاحة الحكم القائم.

(2) يرى كل حزب في جمهورية السودان أنه الأجدر والأصلح بتسيير دفة الحكم في البلاد، غير أن الحزب الحاكم يرى أن الأحزاب الأخرى المعارضة في حالة انتقادها لبعض سياساته حتى ولو كان هذا الانتقاد في محله والهدف منه مصلحة الوطن فإن ذلك ليس إلا تنفيذاً لأجندة خارجية تهدف إلى زعزعة الأمن والاستقرار في البلاد وإسقاط النظام.

(3) التناحر الحزبي حول السلطة والذي استخدمت فيه أبشع الأساليب، وبذلك فقد الشعب وحدته فانقسم إلى طوائف وشعب متناحرة وأحزاب وتكتلات متقاتلة كلٍ يعمل على هدم الآخر وسحقه وكلٍ يطمع في تولي السلطة ويسعى للوصول إليها بشتى السبل، وعلى وقع ذك ظلت الأزمة الاقتصادية المتلاحقة عبر حقب الحكومات السياسية المتقلبة والمتعاقبة.

(4) ارتباط بعض الشخصيات السياسية بالصراعات القبلية داخل البلاد سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة كلٍ من أجل الاستقواء بقبيلته حفاظاً على موقعه السياسي وللأسف يوجد من بينهم من هو داخل السلطة الحاكمة.

(5) استمرار تأزم الوضع السياسي في جمهورية السودان على مدى تعاقب الأنظمة في إدارة شؤون البلاد الأمر الذي انعكس سلباً على كافة مناحي الحياة للمواطن السوداني.

2. الوضع السياسي في جمهورية جنوب السودان

أ. البعد السياسي داخل جمهورية جنوب السودان

(1) تهمين القبائل النيلية على المشهد السياسي في جمهورية جنوب السودان بحكم تعدادهم وإنتشارهم في مساحات كبيرة من البلاد، وتأتي قبيلة الدينكا في المرتبة الأولى ثم يليها بالترتيب كل من النوير والشلك.

(2) تسيطر قبيلة الدينكا على الوضع السياسي في جمهورية جنوب السودان بوصفها أكبر قبيلة حيث يبلغ تعداد أفرادها حوالي 4,2 مليون نسمة، ومن أبنائها مؤسس الحركة الشعبية لتحرير السودان (جون قرنق)، ورئيس جمهورية جنوب السودان الحالي "سلفاكير ميارديت".

(3) يأتي بعدها في الأهمية من حيث التعداد والوزن السياسي قبيلة النوير التي ينحدر منها الدكتور والسياسي المحنك "رياك مشار" نائب الرئيس السابق لجمهورية جنوب السودان والذي يقود حالياً قتالاً ضارياً ضد حكومة سلفاكير.

(4) تأتي قبيلة الشلك في المرتبة الثالثة، ومن أبرز قياديها وزير خارجية جمهورية السودان قبل الانفصال ومؤسس الحركة الشعبية لتحرير السودان (التغيير الديمقراطي) الدكتور "لام أكول"، وكذلك الأمين العام السابق للحركة الشعبية "باقان أموم".

ب. يتواكب الوضع السياسي داخل جمهورية جنوب السودان إلى حد كبير مع الوضع داخل جمهورية السودان لدرجة يكاد أن يكون انعكاساً حقيقياً للوضع السياسي داخل جمهورية السـودان، وهو عبارة عن عدم استقرار ربما يكون بصفة الديمومة وذلك لوجود العديد من التحديات التي تواجه الدولة الوليدة تتلخص في الآتي:

(1) تواجه حكومة جنوب السودان معارضة مسلحة لا يستهان بها ولها مؤيدون داخل دولة الجنوب، حيث تقاتل هذه المعارضة من أجل الإصلاح السياسي وتحقيق العدالة الاجتماعية بين مواطني الجنوب.

(2) تنافس النخب السياسية في دولة الجنوب على المناصب السياسية باستخدام السبل كافة ومن بينها الوزن القبلي.

(3) النزاعات المسلحة التي تنشأ بين القبائل المختلفة.

(4) الوضع الاقتصادي المتأزم في دولة الجنوب أثر سلباً على الوضع السياسي وذلك رد فعل طبيعي.

(5) النقاط الخلافية مع جمهورية السودان أثرت على الوضع السياسي داخل دولة جنوب السودان لتباين رؤية النخب السياسية في دولة الجنوب في كيفية التعامل مع هذه النقاط الخلافية.

3. العلاقات السياسية بين جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان

شهدت العلاقات السياسية بين جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان، في الآونة الأخيرة، تطوراً ملحوظاً، ويرى المراقبون أن هذا التقدم الإيجابي في العلاقات السياسية بين البلدين غير قابل للتراجع، لعدة أسباب، أهمها:

أ. أن حكومة جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان قد توصلا إلى اقتناع بأنه لا خيار أمامهما سوى التعايش السلمي، وأنه ليس في وسع أي طرف أن يؤثر سلباً في الطرف الآخر دون ارتداد الأضرار عليه.

ب. الترابط الاقتصادي بين جمهورية السودان ودولة جنوب السودان، ليس في مجال النفط وحده، فهناك أكثر من 170 سلعة تحتاج إليها دولة الجنوب وتأتي إليها من جمهورية السودان.

يمكن القول أن مساراً إيجابياً حدث في علاقات الدولتين، خلال زيارة رئيس جنوب السودان للخرطوم، في 3 سبتمبر 2013، قدم خلالها مبادرات تعكس صدق دولة الجنوب في تحسين علاقاتها مع جمهورية السودان، كان أهمها إعلانه موافقة جوبا على مقترحات الاتحاد الأفريقي بشأن منطقة أبيي المتنازع عليها بين الطرفين، وأن الملف في انتظار خطوة من جانب الخرطوم لحل الأزمة.

من جانبه كان رئيس جمهورية السودان حريصاً على تأكيد استمرار انسياب نفط جنوب السودان عبر الأراضي السودانية دون عوائق، إضافةً إلى التزام الخرطوم بعلاقات حسن الجوار مع جوبا واحترام سيادتها بحساباتها دولة جارة.

هناك انفراج واضح في العلاقات الثنائية بين الدولتين ونية صادقة منهما للمضي قدماً لحل كل الإشكالات العالقة بينهما، والمرونة التي أبداها الطرفان مؤخراً بشأن الملفات العالقة، يؤكد التزام الدولتين بخيار التعايش السـلمي بينهما وفق المصالح المشتركــة، حيث أكد البلدان البدء في تنفيذ الاتفاقيات الموقعة كافة بينهما في العاصمة الإثيوبية أديس ابابا، في 27 سبتمبر 2012.

لكن هذا لا يعنى أن رغبة الطرفين وحدهما كافية لإزالة أسباب التوتر بين الدولتين، فهناك محددات أخرى وأطراف خارجية مؤثرة إلى حد كبير إيجاباً وسلباً في مسار العلاقات بين البلدين، ودون الوصول مع هذه الأطراف إلى تسوية من الجانبين كل فيما يخصه، فلن يكون هناك استقرار.

ثانياً: العلاقات الاقتصادية بين جمهوريتي السودان وجنوب السودان

الوضع الاقتصادي في كل من جمهورية السودان وجنوب السودان يشهد نوعاً من عدم الاستقرار، ويمكن وصفه بالوضع المتردي، ولكن إذا توافرت الإرادة السياسية في البلدين وعملا على تنفيذ ما اتفقا عليه معا حول القضايا الاقتصادية، يمكن الخروج من هذه الأزمة.

1. الآثار الاقتصادية للانفصال في الدولتين

أ. جمهورية السودان

(1) الانفصال أدى إلى حرمـان جمهورية السـودان نحو 80% من سلعـة النفط الاستراتيجية، وهذا سوف يؤثر على الوضع الاقتصادي في البلاد، خاصـةً أن السودان أصبح يعتمد اعتماداً كبيراً على النفط، حيث يمثل النفط ما يقارب من50% من إيرادات الحكومة السودانية.

(2) الانفصال أدى إلى إعادة تقسيم مياه النيل بين الـدولتين، ما تترتب عليـه انخفاض حصـة جمهوريـة السودان من مياه النيـل، وهذا سوف يخدم بعض الدول التي لها رؤية مستقبلية في مياه دولة جنوب السودان، خاصةً دولة إسرائيل التي لعبت دوراً كبيراً في عملية الانفصال.

ب. جمهورية جنوب السودان

(1) الانفصال جعل الدولة الوليدة تعتمد اعتماداً كبيراً علــى النفط ومبيعاته التي تشــكل 98% من ميزانية الدولة، ما جعل اقتصاد دولة جنوب السودان عرضة للهزات الناتجة عن عدم استقرار أسعار النفط العالمية.

(2) افتقار دولة جنوب السودان للبنيات التحتية، خاصةً البنيات المتعلقة بتصــدير النفط سيجعلها تعتمد على البنيات التحتية الموجودة في جمهورية السودان، سواء كانت خطوط الأنابيب، أو الموانئ البحرية والنهرية، وهذا يعني أنها سوف تكون تحت رحمة السودان، ما يجعلها في حالة تخوف دائماً عند اتخاذ أي قرار، ربما يرى السودان أن ذلك ضده، فيقوم بوقف تصدير دولـة الجنوب عبر أراضيه، ما يدخلها في أزمات اقتصادية هي في غنى عنها.

2. التعاون الاقتصادي بين الدولتين

التعاون الاقتصادي بين جمهورية السودان ودولة جنوب السودان يُعد ضرورة اقتصادية، وبل سياسية ملحة، نسبةً للروابط العضوية التي تجمع بينهما، إضافةً لوجود بعض القضايا الاقتصادية التي ما زالت عالقة بين الطرفين، والتي يحتاج حلها للتعاون والترابط من أجل تحقيق التنمية للدولتين. ومن ثَم يكون التعاون الاقتصادي من أهم مرتكزات العلاقـة بين البلدين، للفرص الاقتصادية الكبيرة التي يمكن أن تتحقق عند استدامة السلام، ويأتي النفط وتمدد خطوطه حتى البحر الأحمر، إضافة إلى المصافي والخبرة السودانية، من أهم الأسس التي يبنى عليها علاقات مستمرة ومثمرة ومفيدة بين الطرفين.

ولعل من أهم عوامل التعاون المشترك، التداخل الكبير على مستوى السكان، والامتدادات القبلية، والحدود المشتركة الطويلة بين البلدين، فمن شأن كل ذلك أن يسهم في إقامة منطقة تعاون مشترك، ربما تصبح من أغنى المناطق في كل من الدولتين، وذلك لتوافر مجموعة من العوامل الاقتصادية، في مقدمتها الثروة الحيوانية، واعتدال المناخ طول العام تقريباً، وهطول الأمطار بغزارة، مع وجود عدد من الأنهار والخيران الموسمية، إضافةً إلى الثروات المعدنية الموجودة في باطن الأرض.

3. التحديات التي تواجه التعاون الاقتصادي بين البلدين

أ. الوجود الإسرائيلي في جنوب السودان

منذ انفصال جنوب السودان تحركت الدولة الصهيونية بديناميكية عالية وسـريعة فـي العمل على أن تضع يدها مع حليف تتعاون معه في منطقة وسط أفريقيا، يربـط لها الجنوب الأفريقي مع الشمال، وتضع من خلاله مخططاتها في ميــاه النيل، وعبر علاقاتها مع جنوب السودان تكون قد أوجدت موقعها وقرارها في جزء من منابع مياه النيل. فعملت دولة إسرائيل من خلال المساعدات والدعم، لاستقطاب الدولة الوليدة، في مراحل تأسيسها التي تفتقر إلى الكثير من البنى التحتية، وتحتاج للمزيد من الدعم والعون.

الموقع الجيوسياسي لدولة جنوب السودان له أهمية بالغة لدولة إسرائيل، نسبةً لوقوعها في أعالي منابع نهر النيل، ومن ثَم فإن إقامة علاقات متميزة معها من شأنه أن يحقق لها العديد من المكاسب السياسية والاقتصاديـة والأمنية، وتهدف إسرائيل من ذلك أن تكون قوة ضاربة سياسياً واقتصادياً في المنطقة لحل مشكلة المياه بالنسبة لها.

ب. الشركات الاستثمارية الغربية

هذه الشركات لها قدرة تنافسية كبيرة على الفوز بالعطاءات المطروحة من الجهات الإدارية المختصة في حكومة جنوب السودان، خاصةً أن العالم يشهد أزمة اقتصادية يعاني منها الجميع، وربما يتحول جنوب السودان إلى منطقة نفوذ أجنبي معادٍ لجمهورية السودان، بسبب التدفقات المالية والشركات الغربية، التي جاءت بغرض الاستثمار.

ج. حصة دولة جنوب السودان من مياه النيل

تشكل المياه عنصراً أساسياً فـي الجانب الاقتصادي في المنطقة، وأصبح الوضع أكثر تعقيداً فيما يتعلق بحصة دولة جنوب السـودان بعـد الانفصال، وأصبحت المياه هاجساً بالنسبة لجمهورية السودان، ونسبةً للعلاقات المتميزة لحكومة جنوب السودان مع دول حوض النيل، فإنها ستجد الدعم الكامل من هذه الدول في حال مطالبتها بحصتها من مياه النيل، وستجد دول المنبع الفرصة سانحة لخلخلة الاتفاقيات القائمة من قبل، والتي دعت إلى إلغائها في عدة مناسبات، وسَعت بشتى الطـرق لإعادة توزيـع حصـة الميـاه بين دول المنبـع ودول المصب، حسب بنود الاتفاق الإطاري في مدينة عنتيبي الأوغندية.

كان للتدخـل الخارجي دور واضح حول موارد المياه في المنطقة، خاصةً دولـة إسرائيل، التي سعت إلى تفتيت وحدة السودان وهو أحد الأهداف الاستراتيجية الإسرائيلية للســيطرة علـى مياه النيل، لذلك سارعت إسـرائيل إلـى الاعتراف بالدولـة الجـديدة وإقامة عـلاقات تعاون معها، وعملت علـى إنشاء مشاريع المياه والسدود بواسطة رأس المال الصهيوني، تمهيداً للسيطرة على مياه النيل، والتي من المؤكد أن تحدث خلل في نصيب جمهورية السودان، ويمكن أن يؤثر ذلك على قطاع الزراعـة وعائداته، ما يحدث عجزاً في الميزان التجاري فيما يتعلق بالصادرات الزراعية.

4. العلاقات الاقتصادية بين الدولتين

شهدت العلاقات الاقتصادية بين البلدين تطوراً ملحوظاً، وصل أعلى مستوياته بعد الاتفاقيات التي أُبرمت بين جمهورية السودان ودولة جنوب السودان، خلال الزيارات المتبادلة بين الرئيس السـوداني "عمر البشير"، ورئيس جنوب السـودان "سلفاكير"، خلال عام 2013. وفي هذا السياق أكد مسؤولون كبار في دولة جنوب السودان إن العلاقات مع جمهورية السودان تتجه نحو الطريق الصحيح، وأن الآمال معقودة لتطوير التعاون بين الطرفين إلى التكامل، وأكدوا أن ما حدث في علاقات البلدين من توتر وفتور هو حالة عارضة ومؤقتة.

كما أكد مسؤولون في جمهورية السودان التزام حكومة السودان التام بكل ما تم الاتفاق به مع دولة جنوب السودان، وأنه بعد الانتهاء من ترسيم الحدود، وتحديد المنطقة منزوعة السلاح، فسيجرى العمل على فتح كافة المعابر وتنطلق العلاقات بين الدولتين لآفاق التعاون المشترك.

ثالثاً: العلاقات الأمنية بين جمهوريتي السودان جنوب السودان

العلاقات الأمنية بين شمال السودان وجنوبه لم تشهد استقراراً حقيقياً منذ استقلال السودان، وحتى بعد انفصال الجنوب وتكوين دولته، هناك بعض الخطوات التي نفذتها حكومة السودان قبل الانفصال من أجل السلام والاستقرار، متمثلة في اتفاقيات أمنية وإصلاحات سياسية وإدارية مع الفصائل المسلحة بالجنوب، إلا أن كل هذه المجهودات باءت بالفشل، ولم يكن أمام حكومة الخرطوم سوى خيار السلام لإنهاء هذا التوتر بين الشمال والجنوب، والذي اتسم بصفة الديمومة، حتى ولو كان ثمنه انفصال جنوب السودان. فاختارت حكومة جمهورية السودان هذا الطريق الذي أفضى في النهاية إلى انفصال جنوب السودان وتكوين دولته.

غير أن الانفصال لم يؤد إلى أي استقرار حقيقي بين البلدين، بسبب عدم حسم الكثير من القضايا ذات الأهمية القصوى، والتي تتعلق بموضوع السيادة في كل من البلدين. فشهدت العلاقات بينهما توتراً في النواحي كافة، وصل ذروته إلى اندلاع معارك عنيفة بين الدولتين حول حقل هجليج الغني بالنفط، عام 2011، انتهت بخروج قوات جمهورية جنوب السودان من المنطقة التي تُعد أصلاً جزءاً من جمهورية السودان.

بعد أحداث منطقة هجليج الغنية بالنفط، بدأ العد التنازلي للتوتر الأمني بين البلدين، وشهدت تطوراً ملحوظاً نحو الأحسن، لقناعة حكومة جمهورية السودان بضرورة التعايش السلمي بين الدولتين، وهو الطريق الذي اختارته ومصممة على المضي به حتى النهاية، كما أن حكومة دولة جنوب السودان تعلم أنه لولا السلام لما ظهرت في الوجود، لذلك رأت أن تحسين العلاقات مع جارتها الخرطوم وفق المصالح المشتركة بينهما هو الخيار والمرتكز الأساس والأنسب لها، على الأقل في الوقت الراهن لبناء دولتها الوليدة.

1. تداعيات قيام دولة جنوب السودان

أفرز الانفصال أوضاعاً أمنية وعسكرية عديدة على الجانبين، ولعل التأثير الأكبر وقع على جمهورية السودان بوصفها الملاذ الأمن والأقرب لمواطني الجنوب، فتعقيدات النزاع والصراع الداخلي في دولة جنوب السودان يؤدي إلى إفرازات تؤدي إلى تكاليف عسكرية وأمنية للسودان، أهمها، عمليات النزوح إلى داخل السودان، وحدوث الاحتكاكات مع قبائل التماس السودانية، وعمليات تهريب وانتشار الأسلحة، وتهريب السلع عبر الحدود، إضافةً إلى ظهور عمليات النهب المسلح داخل حدود السودان.

إن تأزم الأوضاع الأمنية الداخلية في أي من الدولتين يؤثر في مسار العلاقات الآنية والمستقبلية بين البلدين، حيث يحاول كل طرف أن يعمق ويزيد من نقاط ضعف الآخر لتقوية موقفه، خاصةً في حسم القضايا الخلافية العالقة بينهم، وذلك من شأنه أن يؤدي إلى استمرار العدائيات بين جمهورية السودان ودولة جنوب السودان.

إن العنف والصراع في دولة الجنوب يعود إلى طبيعة المجتمع القبلي وعقليته التي تساعد على احتدام الصراعات القبلية، بالإضافة إلى وجود سبب رئيس وأساس للعنف واستمراره في دولة جنوب السودان، وهو عدم قدرة حكومة الجنوب على ممارسة مهامها في ضبط الأمن في الجنوب، وانعكاساته على السودان كثيرة وأكبر من ذي قبل، خاصةً في ظل وجود جيش في جنوب السودان يعاني من مشكلات عديدة، إذ ينقصه الاحتراف وعدم الانضباط، وتحكمه القبلية وتدني الروح المعنوية.

أسهمت الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل في الانفصال وقيام دولة جنوب السودان، لتكون الحد الفاصل للمصالح الأمريكية في العمق الأفريقي وحوض النيل، ولكي تكون حداً فاصلاً بين الجنوب الأفريقي والعالم العربي، ومن ثَم، فإن اتفاق السلام لم يهدف إلى حسم الحرب الأهلية بين شمال السودان وجنوبه، بقدر ما هدف إلى فصل جنوب السودان، لتهديد الأمن القومي العربي من خلاله. وعليه فإن انفصال جنوب السودان وقيام الدولة الوليدة لا يمثل نهاية المطاف، فهناك العديد من القضايا الخلافية التي ما زالت عالقة بين الدولتين.

2. القضايا الخلافية بين الدولتين

أ. الخلاف حول الحدود

تمثل حدود السودان مع جنوب السودان، التي يبلغ طولها 6780 كم، ثغرة أمنية كبيرة، وتفتقر للدور الوظيفي للحد (وهو الفصل بين السودان وجيرانه)، فهي حدود سهلة الاجتياز والعبور، وهناك صعوبة في مراقبتها وحمايتها. وبالنظر إلى الوضع الحدودي الجديد للسودان مع دولة جنوب السودان الوليدة، يراه البعض من الإيجابيات، للآتي:

(1) التعامل مع دولة أو نظام واحد بدلاً من التعامل مع أنظمة ودول متعددة.

(2) التعامل والتركيز مع مخاطر ومهددات، قد تكون محددة ومعروفة الاتجاه، وهي دول جنوب السودان.

(3) الحدود التي فقدتها جمهورية السودان مع دول الجوار بعد الانفصال تبلغ نحو 2916 كم، في المقابل الحدود الجديدة مع دولة جنوب السودان تبلغ 2010 كم، وبذلك انخفض العبء في تأمين وحماية تلك الحدود.

إلا أن هناك قراءة أخرى ترى أن الحدود المشتركة مع دولة جنوب السودان حدود طويلة، خاصةً في ظل وجود مشكلات متأزمة وقضايا وخلافات حدودية لم تحل، وهي تعد مشكلات أكثر خطورة وتعقيداً، بالمقارنة مع المشكلات الموجودة مع الدول الحدودية الأخرى.

الحدود بين جمهورية السودان وجمهورية جنوب السودان عبارة عن حدود وهمية، تتداخل بها مجموعات قبلية وإثنية متعايشــة في المنطقة منذ قرون عديدة، حيث إن هناك تحركات للقبائل الرعوية شمالاً وجنوباً، وأن الانفصال أدى إلى تأجيج الصراع القبلي بصورة أكبر بين القبائل في مناطق التماس، التي كانت تتعايش فيما بينها وتتداخل وتتصاهر، لكن الانفصال وغلق الحدود أدى إلـى زرع البغضاء بين هذه القبائل، خاصةً حول مناطق الرعي والمياه.

يمكن القول أن الحركة الشعبية تعاملت مع القضايا الخلافية المعقدة مع جمهورية السودان بطريقة دبلوماسية، وتحلت ظاهرياً بالمرونة السياسية حتى تنتهي من الفترة الانتقالية بدون أثارة أي مشكلات، فكل ما كانت تسعى إليه هو تجاوز هذه المرحلة بسلام، وعدم الدخول في صراعات جديدة تؤثر في عملية إجراء الاستفتاء، ومن ثم ترحيل كل القضايا الخلافية مع حكومة جمهورية السودان إلى ما بعد الانفصال الرسمي، وتكوين دولة الجنوب، حيث يجري التفاوض حـول هذه النقاط الخلافية من موقع دولة مقابل دولة، وليس من موقع حركة مع دولة، الأمر الذي سيعطيها مزايا نسبية، أهمها الاحتماء بالقوانين الدولية في تسـوية القضايا الخلافية، ومن ثم فإن التفاوض بين البلدين سيجري على قواعد مختلفة لما كانت عليه قبل الانفصال. (أُنظر شكل المناطق الحدودية المختلف حولها)

ج. مشكلة أبيي

هى مشكلة حدودية كذلك، فضلاً عن أنها تمثل منطقة غنية بالنفط، ومن ثم فإنها إحدى أبرز التحديات التي تواجه الدولتين، والتي يمكن أن تؤدي، في حال انفجارها، إلى انهيار كـل ما جرى الاتفاق عليه بين الطرفين، ونشوب حرب جديدة. وتكمُن حساسية مشكلة أبيي في أنها ليس صراع بين دولتين فقط، وإنما هناك أطراف أخرى في هذا الصراع وهما قبيلة المسيرية التي تتبع لشمال السودان، وقبيلة دينكا نقوك التابعة لجنوب السودان، وإن أي تسوية لحل الخلاف حول هذه المنطقة يجب أن لا يتجاوز القبيلتين، حتى لا يكون مصيره الفشل والعودة إلى مربع التوترات والصراعات (أُنظر شكل موقع منطقة أبيى).

إن حكومة جمهورية السودان عازمة على الاحتفاظ بمنطقة أبيي، خاصةً أنها تقـع شمال حدود عام 1956، التي رسمها المستعمر عند استقلال السودان، أما جمهورية جنـوب السودان حتى لو وافقت على انضمام المنطقة للشمال بموجب حدود عام 1956، فإن قبيلة الدينكا لديها رأي مخالف لذلك، ومن ثم فإن منطقة أبيي يمكن أن تستمر نقطة توتر مستمرة بين الدولتين.

3. العلاقات الأمنية بين الدولتين

بالرغم من الاتفاقيات الموقعة بين الدولتين، إلا أن هناك تصريحات متبادلة لا تصب في مصلحة العلاقة بينهما. إذ لعبت جمهورية جنوب السودان دوراً أساسياً في تأسيس تحالف الجبهة الثورية (كاودا) ودعمها عسكرياً وسياسياً، من أجل تنفيذ مخطط الحركة الشعبية لمشروع السودان الجديد، الذي يهدف إلى وصول نظام علماني للسلطة. ويتمثل دعم جمهورية جنوب السودان لهذا التحالف في الآتي:

أ. دعم قوات الحركات المسلحة المعارضة في كل من كردفان والنيل الأزرق ودارفور.

ب. عقد اجتماعات القادة السياسيين والعسكريين للجبهة الثورية في جوبا عاصمة جنوب السودان بغرض توحيد العمل السياسي والعسكري للمجموعات السودانية المعارضة كافة.

ج. تسهيل حركة القادة وعمليات اتصالهم بالعالم الخارجي (أوغندا ــ إسرائيل ــ الغرب)، بغرض طلب الدعم السياسي والعسكري.

تضافرت عوامل عديدة جعلت الانتقال من مرحلة التوتر وعدم الاستقرار في العلاقات بين البلدين، إلى مرحلة التحسن والهدوء أمراً في غاية الصعوبة، ويحتاج إلى حنكة وحكمة في إدارة العلاقات بين الطرفين. ومن أبرز تلك العوامل الآتي:

أ. الروابط الوثيقة التي تجمع بين الدولتين في النواحي الجغرافية والطبيعية والاقتصادية، إضافةً إلى الاستراتيجية، كلها عوامل تفرض نفسها أمـام أي متخذ قرار، سواء في جمهورية السودان أو جنوب السودان، ورغم أن من المفترض أن تكون تلك الروابط قوة دفع إيجابية نحـو تحسـين وتطوير العلاقات، فإن ما حدث هو محاولة بعض الدوائر والجهات اتخاذ تلك الروابط ورقة ضغط لتعكير الأجواء بين البلدين، وليس أداة للتعاون وتبادل المصالـح المشتركة، ما حولها من مصدر إيجابي لتحسين وتطوير العلاقات إلى مصدر للتوتر ومزيد من الخلافات.

ب. استقواء الدولتين بأطراف خارجية بدلاً من التفاهم والتصالح وفق المنافع المتبادلة، حيث توجد أطراف عالمية وإقليمية لديها مصلحة حقيقية في إحداث عدم استقرار في العلاقات بين البلدين، حيث إن من شأن توتر العلاقات بين الطرفين أن يفتح المجال واسعاً أمام تلك الأطراف لتعظيم مصالحها وأهدافها الاقتصادية.

ج. من الطبيعي في ظل تلك التعقيدات أن تتأزم العلاقات ما بين الخرطوم وجوبا، وكان النفـط والأمن أكثر الأمور حساسية لكلتا الدولتين، لارتباطهما الـوثيق، فبدون ضمان وجود أمن حقيقي على الحدود وانتفاء المهددات الأمنية، فمن الصعب تدفق النفط تدفقاً طبيعياً، ومن ثم توجيه عائداته في الاتجاه الصحيح لمصلحة شعبي البلدين بدلاً من تغذية الحرب بينهما.

هناك دوافع تقارب قوية في العلاقات بين جمهوريتي السودان وجنوب السودان، كما أن هناك دوافع تباعد بينهما، وتنمية وتطوير دوافع التقارب مع معالجة دوافع التباعد، يمكن أن تؤدي إلى علاقات جيدة ومستمرة. وتتلخص هذه الدوافع في الآتي:

أ. دوافع التقارب

(1) التاريخ المشترك.

(2) الحدود الكبيرة والمأهولة بالسكان والنشاط الاقتصادي بينهما.

(3) الموقع الجيواستراتيجي لجمهورية السودان وإمكانية استفادة جمهورية جنوب السودان منه كونها دولة حبيسة.

(4) التكامل في مجال النفط حيث توجد حقول منتجه في جمهورية جنوب السودان مع وجود ميناء التصدير في جمهورية السودان.

(5) سهولة الحركة والتنقل بين الدولتين براً عبر الطرق البرية والسكك الحديدية ونهرياً عبر نهر النيل وجوا.

(6) اعتماد جمهورية جنوب السودان على استيراد معظم السلع من جمهورية السودان.

(7) وجود علاقات تاريخية بين النخب والقادة في الدولتين.

ب. عناصر التباعد

(1) المرارات التي خلفتها الحروب الأهلية.

(2) الاختلاف الايديولوجي.

(3) فكر بعض التيارات المناهضة في جمهورية جنوب السودان.

(4) الأهداف والمصالح الأجنبية في المنطقة.

(5) القضايا المعلقة بين الدولتين خاصة الخلاف حول تبعية منطقة أبيى.