إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الصراع في جنوبي السودان





موقع منطقة إبيي
المناطق الحدودية المختلف حولها

مناطق النفط جنوب السودان
أماكن معسكرات الفصائل
الموقع الجغرافي للسودان
التوزيع القبلي
التقسيم الإداري للسودان
التقسيم الإداري لجنوب السودان
تضاريس السودان
قناة جونجلي



المبحث السابع والعشرون

المبحث السابع والعشرون

المشكلات المائية والرؤية المستقبلية للأمن المائي السوداني

أولاً: انعكاس المشكلات المائية على الامن الوطني السوداني

السياسات المائية هي الأطر والموجهات العامة التي تعطي الاتجاه العام للتنفيذ، من خلال الخطط الاستراتيجية، وهي في مجمل سماتها العامة التي سبق تناولها تصب في اتجاه تحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة، وتنمية الموارد المائية والمحافظة عليها، لتحقيق الرفاهية للشعوب. ففي هيكلها العام وما تحتويه تكاد تتطابق وتتماثل في جميع الدول، إلا أن تأثيراتها تأتي من خلال التطبيق لكيفية تحقيق هذه التنمية المستدامة، والتي تكون الاتفاقيات الدولية التاريخية والمستحدثة في إطار عدم تهديد الأمن الوطني المائي للآخرين، هو جوهر أمرها، لذا تأثيراتها تأتي من خلال استخدامات المياه الحالية والمستقبلية.

هدفت السياسات المائية السودانية بصورة عامة، إلى تحقيق الأمن الغذائي والتنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة، من خلال ترشيد استخدام المياه بين الأنشطة الإنتاجية والقطاعات المختلفة، وزيادة مصادرها، وحمايتها من التلوث، بما يضمن الحصول على أعلى قيمة مضافة لعنصر المياه، والسعي لاستخدام حصة السودان من مياه النيل، مع العمل على التنسيق والتعاون مع دول حوض نهر النيل لضمان الاستفادة المشتركة، واستخدام المياه وفقاً للمعايير الدولية.

تؤكد السياسات السودانية على الحقوق التاريخية المكتسبة من المياه المشتركة، وعلى احترام القوانين والمعاهدات والأعراف الدولية، مع التامين على استخدام المياه الجوفية بما يراعي قدرتها على التجديد، والاهتمام بالزراعة المطرية وحصاد المياه من أجل تحقيق الأمن المائي السوداني.

يتأثر الأمن الوطني السوداني كغيره بالعوامل الداخلية والخارجية، التي في مجملها تقود إلى تهديد المصالح الحيوية العليا للدولة، وربما تتدنى الموارد المائية المتاحة مستقبلاً نتيجةً للسياسات المائية لدول حوض نهر النيل، ما يؤثر عليه في مجال تحقيق الأمن الغذائي الذي يعد أهم مرتكزات الأمن الوطني. وهناك الكثير من التأثيرات التي يمكن إظهارها فهي عديدة ومتداخلة، وما يطرح هنا ما هو إلا تسليط الضوء عليها من خلال المهددات الأمنية المائية وأبعادها السياسية، الاقتصادية، الاجتماعية والعسكرية، وتأثيراتها على الأمن الوطني السوداني.

ثانياً: مهددات الامن المائي السوداني

1. المهددات البشرية

الماء عنصر أساس للوجود البشري، وحيثما تتوفر المياه والطاقة تتوسع المدن وتزداد الكثافة السكانية، وفي مقابل هذا تزداد الحاجة إلى المزيد من المياه. والملاحظ أن التوزيع السكاني في السودان يقوم على توفر المياه، إذ تكتظ المناطق النيلية والمناطق ذات معدلات الأمطار العالية، والمناطق التي تتوفر فيها الخدمات المائية بالسكان دون غيرها.

يبلغ معدل النمو السنوي للسكان في السودان 3%، ما يدل على تسارع الزيادة السكانية المستقبلية، ولما كانت الحاجة للغذاء تزداد مع زيادة السكان وبمعدل أكبر وأسرع من الزيادة في السكان، فإن الحاجة ماسة إلى مزيد من الإنتاج لتحقيق الاكتفاء الذاتي، ومن ثم الحاجة إلى المياه الكافية، وكذلك مستوى الوعي السكاني بأهمية المياه وترشـيد استهلاكها والمحافظة على مواردها، كلما كان متدنياً أدى إلى استهلاك كميات كبيرة من المياه من خلال الإهـدار والإسراف، ومن جهة أخرى كلما كانت الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للدولة متطورة، كلما زادت الحاجة إلى المياه. وهكـذا نجد أن معدل النمو السكاني يمكن أن يكون مهدداً للأمن الوطني إن لم تتوافر المصادر المائية لتقابل مستويات احتياجاتهم المتجددة.

2. المهددات الطبيعية

التوزيع غير المتساوي للمصادر المائية وموقع الدولة في الخارطة المناخية، رغم أنه أمر طبيعي، إلا أنه يحدد مدى توفر المياه من عدمها، والسودان يقع جزء كبير منه في المناخ شبه الصحرواي والسافانا الفقيرة، ومن ثَم فإن معدلات هطول الأمطار متدنية إذا قورنت بمناطق أخرى في الهضبة الاستوائية أو الإثيوبية، ومع عدم وجود مشاريع حصاد المياه للاستفادة من المياه الساقطة في معظم مناحي السودان يجعل معظم المناطق دون المعدل المائي المطلوب، ما يدفعها إلى الهجرة أو استغلال المياه الجوفية بإفراط، ما يهدد مستقبل هذه المياه ومن ثَم الأمن المائي.

التقلبات المناخية غير المتوقعة والتي ينعكس تأثيرها على معدلات هطول الأمطار وتوزيعها وقصر موسم تساقط المطر، يقود إلى الجفاف والتصحر، ما يعني تعرية التربة وفقدان خصوبتها، ومن ثَم قلة إنتاجها الذي يؤدي إلى الفجوات الغذائية والمجاعات، التي تؤدي بدورها إلى هلاك الثروات البشرية والحيوانية والطبيعية، وهو ما حدث سابقاً وأدى إلى الاعتماد على العون والإغاثة الخارجية، ودخول المنظمات الأجنبية ذات الأجندة الخاصة، التي تعد أكبر مهددات الأمن الوطني.

3. المهددات الاقتصادية

جوهرها تدني الإنتاج في القطاعات الأساسية، والتي تعد الزراعة أهمها بوصفها أكبر مستهلك للمياه من خلال أنواع المحاصيل الغذائية التي تجري زراعتها ومدى استهلاكها للمياه، وكذلك من خلال الري الفيضي الذي يعد أكبر مهدر للمياه، والسودان مازال يستخدمه في الزراعة، وللتقليل من استهلاك المياه في هذا المجال، فإن إدخال نظام الري بالتنقيط، مع إعادة النظر في التركيبة المحصولية الأقل استهلاكاً للمياه، أصبح ضرورة ملحة.

إنتاج الطاقة وما يعول عليه في تحقيق التنمية المستدامة، التي تحتاج إلى التمويل الكبير لإقامة المشاريع اللازمة لها، وفي السودان تعد الطاقة أكبر معوقات الإنتاج، لعدم توفرها بالكميات الكافية، ما أدى إلى توقف الكثير من المشاريع الصناعية، وأسهم في قلة الإنتاج، وفتح الباب للاستيراد والتأثير على ميزان المدفوعات الخارجية.

أخطر المهددات الاقتصادية على الأمن المائي السوداني، ما يسعى المجتمع الدولي لتطبيقه وإشاعة ثقافته من خلال المنظمات وبيوت الخبرة الأجنبية، وهو موضوع تسعيرة المياه الدولية ومعاملته كقيمة اقتصادية يجب دفع فاتورتها، كما هو الحال في الثروة النفطية، ويجد هذا الطرح قبولاً كبيراً بين دول حوض نهر النيل، خاصة تنزانيا وإثيوبيا التي يأتي 85% من إيراد النهر من أراضيها.

4. المهددات الفنية

تتمثل هذه المهددات في عدم وجود الكادر البشري المؤهل الذي يعي بأهمية المياه وضرورة المحافظة على مصادرها وتنميها، وكيفية الاستفادة من المعلومات المتوفرة للتخطيط لإدارة الموارد الحالية والمستقبلية، وتطوير أنظمة الري لتقليل الكميات المستخدمـة، ومدى التطـور والاهتمام بالبحـث العلمي، وتوفيـر التمويل الكافي وإعطائه الأولوية لتحقيق الأمن المائي، مع توفر الأجهزة والمعدات الحديثة للقياس والإنذار وتحديد مستويات التلوث.

5. المهددات التشريعية والمؤسسية

تظهر من خلال القصور في القوانين واللوائح والقواعد المحلية والإقليمية والدولية لاستخدامات المياه، ففي الجانب المحلي توجد الكثير من التشريعات المائية التي وضعت قبل استقلال السودان، إلا أن مستويات تطبيقها لا ترتقي إلى المستوى المطلوب، فتؤدي إلى الاستخدام غير المرشد للمياه. أما على مستوى الحوض، فإن الاتفاقيات الموقعة أصبحت محل خلاف وجدل، وتسعى دول المنبع إلى تعديلها، من منطلق أنها لا تمثل إرادتها، وأية محاولة لتعديلها ستؤثر على حصة السودان من المياه وتهدد أمنه المائي.

المؤسسات التي تعني بإدارة المياه، وضعف التنسيق والربط بين سياساتها، وتداخل مسؤولياتها وتضارب مصالحها، ومدى التشاركية للقطاعات الأخرى المنتفعة بالمياه على مستوياتها المختلفة، لها انعكاسات سالبة على إدارة مصادر المياه بصورة متكاملة.

6. الدعم الأمريكي لإسرائيل في مياه النيل

أصدر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن، عام 1988، بحثـاً عــن السياسـة الخارجيـة الأمـريكية إزاء المـوارد المائيـة فـي الشــرق الأوسط، بهدف انتهاج استراتيجية للمستقبل لتعزيز المصالح الأمريكية في المنطقة، ركزت الدراسة كثيراً على أزمة مياه حوض نهر النيل وكيفية معالجتها، ودعم ذلك ما أورده الدكتور "فريد ستخر" أستاذ البيئة في جامعة فرجينيا، أنه ليس هناك سلاح أفضل أو أنجح من سلاح المياه لاستخدامه في مواجهة مصر والسودان، وذكر بأن مياه النيل مثلما هي مصدر حياة لكل من مصر والسودان، فإنها أيضا مصدر فناء للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، وبما أن الولايات المتحدة الأمريكية لها دور مباشر أو غير مباشر في التأثير على منظمات الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بشأن تبني أو رفض المشاريع المائية المقدمة من دول الحوض، وحسب التوجهات السياسية القائمة، فهناك حاجة ماسة إلى ممارسة الضغوط على الدول المارقة من دول الحوض.

7. التغلغل الإسرائيلي في جمهورية جنوب السودان

سعت إسرائيل بكل ما تملك من آليات سياسية واقتصادية وأمنية، للوصول إلى مياه النيل، فسخرت كل علاقاتها مع الدول العظمى والمؤسسات الاقتصادية الدولية والإقليمية لدعم دول حـوض النيل الشـرقي والاستوائي، في إنشـاء مشاريع اقتصادية في مجال إنشاء السدود والمشاريع الزراعية، ومن ثَم كسب ثقة تلك الدول واستخدامها مستقبلاً في تنفيذ أجندتها.

عملت إسرائيل على توطيد علاقاتها بجنوب السودان منذ فترة طويلة، حتى قبل قيام جمهورية جنوب السودان إبان فترة التمرد، حيث عملت على دعمه بالسلاح والتدريب والدعم اللوجستي، وكان الغرض الأساسي من ذلك انتصار حركة التمرد على دولة السودان، وتهديد جمهوريتي السودان ومصر، وخاصةً الأخيرة بوصفها واحدة من أكبر دول المواجهة، ولضمان كسب دولة إلى جانبها لها موارد مائية ضخمة في تحقيق تطلعاتها المستقبلية التي تتمثل في تحويل المياه إلى سلعة تباع وتشترى، وهو ما تحاول إسرائيل الوصول إليه بكل السبل.

للتوغل الإسرائيلي في جمهورية جنوب السودان تداعيات خطيرة على الأمن المائي السوداني، يمكن إجمالها في الآتي:

أ. تحريض جمهورية جنوب السودان للمطالبة بحصة مائية من اتفاقية مياه النيل الموقعة بين جمهورية السودان وجمهورية مصر العربية، عام 1959، ومساعدتها في المنابر الإقليمية والدولية، خاصةً المالية منها في تمويل المشاريع الزراعية، بما تملكه إسرائيل من تأثير على تلك المنظمات العالمية، مدعومة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي يؤدي إلى التأثير السلبي على حصة السودان المائية.

ب. مساعدة جمهورية جنوب السودان بالخبرات والكوادر الفنية في إقامة مشاريع بنية تحتية، من سدود وخزانات، وفتح قنوات مائية على مياه النيل الأبيض، ما يؤثر سلباً على الأمن المائي السودان.

ج. العمل مع جمهورية جنوب السودان لدعم مواقف دول حوض النيل الأخرى، التي بدأت تظهر نواياها المعترضة على الاتفاقيات السابقة لمياه النيل بين مصر والسودان، وعدم الاعتراف بها، معللة ذلك بأن جميع تلك الاتفاقيات أُبرمت في عهد الاستعمار، وأن الوقت قد حان لإعادة النظر فيها.

د. تأثير دولة إسرائيل على جمهورية جنوب السودان وباقي دول حوض النيل، ودعمها اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، سوف يؤدي إلى تحول التوازنات الإقليمية وتغيير موازين القوى في تلك المنطقة، ويؤدي ذلك إلى تهديد الأمن القومي السوداني، إضافةً للأمن المائي السوداني.

هـ. استغلال إسرائيل لذلك التغلغل في منطقة حوض النيل على إضعاف العلاقات بين تلك الدول وجمهورية السودان، واستغلال كل ما من شأنه توسيع وتعميق الخلافات، ما يهدد الأمن المائي السوداني.

ثالثاً: أبعاد الامن المائي السوداني

1. الأبعاد السياسية

أصبحت مشكلة المياه أكثر تعقيداً، لأن توزيعها الجغرافي يجري بعوامل طبيعية وليس بشرية، مع عدم اتفاقها مع الحدود السياسية للدول، بالإضافة إلى أن استخدام المياه دون قيود أو التزام بالاتفاقيات في المنابع، له تأثيرات على إمدادات المياه لدول المصب، مما يتطلب وجود اتفاقيات ملزمة وعادلة تتفق حولها الدول في توزيع الحصص، وإلا ستصبح ورقة ضغط مستمر، وهو ما يحدث الآن بدول حوض نهر النيل لعدم اعتراف دول المنبع بالاتفاقيات الموقعة، والمطالبة بتعديلها بحسبان أن النهر ينبع من أراضيها، وليس لها حق التصرف في مياهه إلا بموافقة دولتي المجرى والمصب، وتستخدم ذلك في الضغط على مصر والسودان الأكثر اعتماداً على مياه النيل لتحقيق مكاسب، دون الدخول في عمل عسكري، ما يخلق مزيداً من التوترات السياسـية التي تعرقل فرص التعاون والتكامل بين دول الحوض، وتفتح الباب أمام التدخلات الأجنبية، وهي الثغرة التي تستغلها إسرائيل لمحاصرة مصر وإشغالها عن قضيتها الأساسية، ومحاصرة السودان ومشروعه الحضاري وإيقاف تمدد الإسلام جنوباً.

أصبحت المياه في العالم الآن من المصادر الرئيسة للقوة، وصارت السيطرة عليها هدفاً إستراتيجياً يؤثر على ميزان القوى الاستراتيجية بين الدول المتشاركة، لذا أصبح تأمين مصادرها أمراً حيوياً وخطيراً، خاصةً في المستقبل، وهو ما تسعى إسرائيل إلى تحقيقه من خلال علاقتها بكل من إثيوبيا، وجنوب السودان، وكينيا، وتنزانيا، رامية إلى الحد من الحقوق المكتسبة لمصر والسودان بصورة مباشرة بالمشاريع المائية، أو بصورة غير مباشرة من خلال إثارة التوترات بين دول الحوض، ما يحول دون تكاملها السياسي والاقتصادي للاستفادة المثلى من مياه النيل.

2. الأبعاد الاقتصادية

يأتي البعد الاقتصادي للمياه من كونها مصدراً للغذاء والنشاط الاقتصادي على مختلف ضروبه، والثابت أن اقتصاد دول الحوض جميعها يعتمد بنسبة تربو على 80 % على الزراعة، ورغم عدم اعتماد معظم دول الحوض على مياه النيل في الزراعة حالياً، إلا أنها تسعى الآن إلى زيادة أراضيها الزراعية، ما يزيد الحاجة تدريجياً إلى استخدام مياه نهر النيل. كذلك من الأبعاد الاقتصادية توفير أهم المقومات الرئيسة والدعامة الأساسية لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتمكن من استغلال الموارد والثروات الطبيعية بإنتاج الطاقة الكهرومائية الأقل تكلفة من الطاقة الحرارية، إلا أن التمويل يقف حجر عثرة في سبيل إنشاء المشروعات التي تغطي حاجة دول حوض نهر النيل من الطاقة وتصدير فائضها إلى الدول الأخرى.

3. الأبعاد العسكرية

يعتمد هذا البعد على وضعية الأمن المائي لأي دولة على القوة العسكرية الشاملة للدولة، وهو كل ما يتوافر لدى الدولة من قدرات عسكرية، مع توظيف هذه القدرات لردع أي دول تحاول التعدي على مواردها المائية، كما يكون لها القدرة وقت الضرورة على حماية وتأمين مواردها المائية ضد أي أطماع خارجية أو اعتداء على تلك الموارد. فحين تضعف دفاعات الدولة ضد الأطماع الخارجية على مواردها المائية، يصبح مستعصياً عليها أن تستوعب الحاجات الاقتصادية، بسبب فقدانها الحد الأدنى من ثرواتها وبذلك يتهدد الأمن المائي لها.

4. الأبعاد الاجتماعية

كميات المياه المتوافرة للاستخدام الإنساني يجب أن تكون كافية وصالحة للشرب، والملاحظ أن جل دول حوض نهر النيل يعاني سكانها من عدم توفر المياه، خاصةً المناطق الريفية التي تعتمد في الأغلب على المياه الجوفية أو الحفائر والسدود لتجميع مياه الأمطار، والتي لا تجد العناية الصحية، ما يجعلها أكبر مهدد للصحة الإنسانية، حيث نجد نسبة اعتلال الصحة عالية جداً وسط مجتمعات دول حوض النيل، ما يؤدي إلى انخفاض قدراتها الإنتاجية فتظهر الفجوة بين الإنتاج والاستهلاك التي تقود إلى عدم تحقيق الأمن الغذائي ومن ثم الأمن الوطني.

يتعرض الأمن الوطني للخطر نتيجةً لعدم إقامة عدالة اجتماعية، من خلال الحرص على تقريب الفوارق بين الطبقات وتطـوير الخدمات، ويرتبط هـذا البعد كذلك بتعزيز الوحدة الوطنية بوصفها مطلباً رئيساً لسلامة الكتلة الحيوية للدولة، ودعم الإرادة الوطنية، وإجماع الشعب على مصالح وأهداف الأمن القومي، والتفافه حول قياداته الوطنية، ويؤدي الظلم الاجتماعي لطبقات معينة أو تزايد نسبة المواطنين تحت خط الفقر، إلى تهديد داخلي حقيقي للأمن الوطني تصعب أحياناً السيطرة عليه، خاصةً في ظل تفاقـم مشكلات البطالة والإسكان والصحة والتعليم والرعايا الاجتماعية.

5. الأبعاد البيئية

تؤدي مشاريع استثمار مياه الأنهار في منابعها دون الالتزام بالاتفاقيات المنظمة لذلك، إلى تناقص الموارد المائية الواردة إلى دول المصب، ‏كما يمكن أن تتدهور نوعية هذه المياه نتيجةً لمصادر التلوث المختلفة التي تتعرض لها في مصادرها بالدول الأخرى المشاركة في حوض النهر نفسه‏،‏ كما تشير التقديرات المتاحة حالياً إلى السحب غير المتوازن من الخزانات الجوفية، والذي يزيد عن معدل التغذية السنوية، أدى إلى استنزاف بعضها، وإلى انخفاض مناسيب البعض الآخر، وتدهور نوعية المياه وزيادة ملوحتها بفعل دخول مياه البحر، أو مياه الأحواض المالحة القريبة منها ‏.

استدامة البيئة في إدارة الموارد المائية المشتركة أمر ضروري، وتكمن أهميتها في الحد من التلوث والحفاظ على البيئة من خلال استخدام المعدات المتطورة، كالاستشعار عن بعد ونظم المعلومات الجغرافية لتحديد الأثر البيئي على الأنظمة الإيكولوجية للحوض والتنوع البيولوجي.

رغم أن التخلص من النفايات الصلبة والمخلفات السائلة بحوض نهر النيل ليس بصورة كبيرة كما في الأنهار الدولية الأخرى، إلا أن الموجود منها يؤدي إلى تدهور نوع المياه وتلوث البيئة، كذلك استخدام الطرق المحظورة لصيد الأسماك، مثل استخدام المواد المتفجرة والتسمم، والاستعمال المكثف للكيماويات الزراعية، بما يؤدي إلى تلوث المياه، ومن ثم انتشار الأمراض المائية التي يعاني منها السودان في الكثير من المناطق النيلية.

الجفاف والتصحر الذي ينتج من قلة المياه، والزحف الصحراوي الذي يؤدي إلى تغطية التربة، ودفن المجاري المائية، وزيادة معدلات التبخر، حيث يعاني السودان من هذا كثيراً رغم اهتمام الدولة بإقامة الأحزمة لإيقاف الزحف الصحراوي، كذلك انتشار الحشائش النيلية التي تعيق انسياب النهر والملاحة والمشاريع المائية، وتزيد من معدلات التبخر وفقدان المياه، إضافةً إلى هذه الآثار البيئية، فإن المشاريع التنموية مثل السدود ومشروعات الري ربما تقود إلى تشبع التربة وزيادة الملوحة، وتقليص مصائد الأسماك والمساحات المزروعة، وتهجير السكان، ومن ثَم تغير الخارطة السكانية.

رابعاً: تأثير المشكلات المائية على الامن الوطني السوداني

تؤكد الأرقام والحقائق عن كميات المياه المتوافرة بالسودان من مصادرها المختلفة، أنها تكاد أن تكون كافية لتغطية الاحتياجات الحالية من المياه للقطاعات المختلفة، ورغم أن مؤشر نصيب الفرد يجعل السودان من الدول الآمنة مائياً، إلا أن الواقع المعاش وما يتوقع من زيادة في السكان مستقبلاً، يشير إلى زيادة الطلب بصورة كبيره تفوق المتوفر من المياه، وبذلك يتوقع حدوث انكشاف مائي مستقبلاً إذا لم تطبق دول حوض نهر النيل سياساتها المائية بصورة رشيدة، ترتكز على تنفيذ مشاريع ضبط وزيادة إيرادات المياه.

بعد انتهاء الحرب الباردة وسيادة سلطة القطب الواحد، تغيرت الكثير من المواقف الدولية خاصةً في مضمار أولويات العلاقات بين الدول الأفريقية والدول الأوروبية والأمريكية والإسرائيلية، بالإضافة إلى دخول المنظمات الدولية طرفاً في مجال رسم السياسات المائية، وهو ما يحدث بدول حوض نهر النيل، كمثال أوغندا والكونغو وبورندي، حيث تقوم الأمم المتحدة برسم سياساتها المائية المدعمة بالمتطلبات الفنية والاقتصادية، ومن جهة أخرى تقوم إسرائيل بالتنسيق مع الولايات المتحدة الأمريكية بتمويل المشاريع المائية بكل من كينيا، وتنزانيا، وإثيوبيا، ورواندا، وإريتريا، وهو أمر يؤدي إلى الارتهان والتبعية، وفقدان الإرادة السيادية، ومن ثم يمكن أن تملي عليها سياساتها تجاه الدول الأخرى، وتوحيد رؤياتها لتصب في حصار ما تبقى خارج هذه الهيمنة (مصر والسودان)، كذلك يؤدي هذا الارتهان إلى تغير مراكز التوازن وأوزان الدول، وثقلها في الميزان الدولي بما يتجاوز قدرتها وموروثاتها التاريخية مقارنة بالدول الأخرى، ويصبح لها تأثيرات على المستوى الدولي على كثيراً من الملفات والقضايا الآنية.

انخفاض المستوى المعيشي لمعظـم دول الحوض، إن لم يكن جميعها، يعني أن هذه الـدول ما زالت تحبو في طريق التنمية وأنها لم تصل إلى كفايتها الكلية الحالية من المياه، لذلك نجد الوفرة المائية بها، إلا أن معدلات النمو السكاني المرتفعة وسط دول الحوض من المؤكد سيتبعها ارتفاع في الاحتياجات المائية لهذه الدول لتغطية الاحتياجات السكانية من جانب، وتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية من جانب آخر، ومن ثَم الحاجة إلى كميات إضافية تكون خصماً من حقوق الآخرين، والسودان إحدى هذه الدول سيتأثر بما يجري التخطيط له من سياسات في دول المنبع، فإذا لم يكن هناك سبق في التفكير والتخطيط، سيؤدي إلى الضغط على المصادر المتوافرة واستنزافها، ومن ثم تعاني الأجيال الحالية والقادمة من نقص المياه.

دخول إسرائيل غير المباشر مضمار الصراع المائي بين دول حوض نهر النيل، من خلال تمويل المشاريع وتوفير الخبرات، يعطي المسألة المائية بحوض نهر النيل بعداً خطيراً يؤثر حالياً ومستقبلاً على الأمن الوطني السوداني تأثيراً مباشراً أو غير مباشر، من خلال الأمن المائي بتوجيه اتجاهات ورؤى الدول للتعنت والرفض لمبدأ الحقوق المكتسبة، والترويج لتسعيرة المياه كما هو حال النفط، ومن جانب آخر توفير التمويل لإقامة المشروعات التي تؤثر على إيرادات النهر، ما يؤثر على مسيرة التنمية المخطط لها.

بعد قيام جمهورية جنوب السودان، التي تربطها علاقات جيدة مع دول المنبع، إضافةً لعلاقاتها المتميزة مع دولة إسرائيل، من المتوقع أن تنضم لاتفاقية عنتيبي، وبذلك سيزداد الأمر تعقيداً ويستحكم حصار السودان حصاراً لا يستطيع الفكاك منه إلا بتقديم التنازلات، التي ستكون خصماً على حساب المصالح والأهداف الوطنية.

تؤثر السياسات المائية لدول حوض نهر النيل، في حال انتهاجها للتنمية المستدامة، وإقامة المشاريع التنموية الكبرى التي تتطلب مزيداً من المياه، ما يقلل كميات المياه المنسابة لدولتي المجرى والمصب، وبما أن السودان يعتمد على الزراعة، فإن نقص المياه سيؤدي إلى انخفاض الإنتاجية من المحاصيل الغذائية والنقدية، خاصةً التي تحتاج إلى كميات كبيرة من المياه، أو تقليل مستوى جودتها، ومن ثَم الفشل في تحقيق الاكتفاء الذاتي، وعدم تحقيق الأمن الغذائي السوداني، وتفاقم مستويات الفجوة الغذائية التي ستدفعه إلى الاستيراد لسد الفجوة، أو اللجوء إلى العون والإغاثة الخارجية لمعالجة الأزمة الغذائية، التي ستدفع بالكثير من المواطنين إلى النزوح من مناطقهم إلى حيث يتوافر الغذاء.

وبنزوحهم يخرجون من القوة المنتجة إلى قوة مستهلكة، تزيد الضغط على المتوافر من الغذاء، وتخلق مشكلات إدارية واقتصادية في المناطق التي نزحوا إليها. وقد يستفحل الأمر فيقود إلى تدخل منظمات العمل الإنساني والمجتمع الدولي، ويصبح ورقة ضغط على النظام الحاكم لتغيير سياساته الاقتصادية والسياسية، والإرتهان للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وما تحتويه برامجهما من أجندة تتضارب مع المصالح الوطنية السودانية.

تستهلك الصناعات الخفيفة والثقيلة كميات كبيرة من المياه، خاصةً التعدين والتنقيب والصناعات الغذائية، وأن التنمية الحقيقة تعتمد في الأساس على قيام الصناعات الثقيلة، جنباً إلى جنب مع المشاريع والتنمية الزراعية، وأن نقص المياه سيؤثر على قيام هذه الصناعات، بل سيؤدي إلى تركيزها في مناطق توافره، وتصبح هذه المناطق جاذبة للعمالة، ومن ثم تتوسع الهجرة السكانية الداخلية إلى مناطق الإنتاج وهجر المناطق الريفية، ويظهر اكتظاظ المدن، كما أن تركيز الصناعات في مناطق بعينها يشكل تهديداً أمنياً ونقطة ضعف، فلو تعرض السودان لأى هجمات عدائية فإن هذه المناطق يمكن تدميرها في بداية الهجمات، ومن ثم شل قدرة الدولة الاقتصادية، وخفض الروح المعنوية للشعب.

القواعد والمبادئ القانونية الدولية فضفاضة، خاصةً فيما يتعلق بمبدأ العدالة والاستخدام المنصف لمياه النهر الدولي، مع عدم إحداث الضرر للآخرين مقرونة بعدم توفر الإلزامية فيها، بالإضافة إلى الاتفاقيات الموقع أعظمها بواسطة الدول المستعمرة السابقة بشكل ثنائي، أو بين دول حوض نهر النيل، والتي يكتنفها الجدل وعدم الرضا، خاصةً فيما يتعلق بمبدأ الإخطار المسبق، مع عدم وجود تنظيم قانوني ومؤسسي متكامل لحقوق دول حوض نهر النيل يراعي الحيلولة دون وقوع المنازعات، والاستخدام الأمثل للمياه لتحقيق التنمية الاقتصادية والاجتماعية المستدامة بدول الحوض، أتاح الفرصة لدول المنبع لرفض الاتفاقيات التي لا تتواكب مع اتجاهاتها، ورغبتها في السيطرة على ما يليها من منابع النهر، ودفعها إلى المطالبة بتعديل هذه الاتفاقيات التاريخية. ومن ثَم فإن أي تعديل، أو إلغاء، أو التوصل إلى عقد اتفاقية جديدة بحوض نهر النيل ستؤثر على الحقوق المكتسبة، ويؤدي إلى نقصان كميات المياه التي ستخصص لجمهورية السودان مستقبلاً، ومن ثم التأثير على الأمن المائي لجمهورية السودان، وما يتبعه من تأثيرات على مناحي الحياة الأخرى.

الاستقرار النسبي بدول حوض نهر النيل، خاصة دول المنبع، وتخلصها من الصراعات الداخلية وعقدها للاتفاقيات المنظمة لاستخدامات المياه فيما بينها، خاصةً دول الهضبة الاستوائية، وأن التنسيق والتعاون مع إثيوبيا يكسبها موقفاً تفاوضياً قوياً يكون له تأثير ظاهراً على القرارات التي يمكن أن تصدر من دول الحوض كافةً من خلال الأغلبية التي يتمتعون بها، كما يمكن تمرير القرارات والأجندة التي تكون مضرة بالأمن المائي السوداني والمصري، كما أن جميع دول حوض نهر النيل لها مشروعات تنموية تسعى إلى تحقيقها، وأن تنفيذها دون التنسيق والتعاون بين دول الحوض، ومراعاة عدم الإضرار بالمصالح يؤدي إلى إحداث آثار اقتصادية بالغة، وعدم استقرار سياسي في المنطقة، تنعكس أثاره على دول الحوض مجتمعة.

هناك ما يزيد على 1600 مليار م3 تصل مياه النيل كل عام، ولا يصل لدولتي المصب مصر والسودان منها سوى 84 مليار م3، أي ما يعادل 5%، في حين أن الـ95% الباقية لم تستخدم في باقي دول الحوض، وهي فاقد مهدر. فالمشكلة ليست في قلة أو ندرة المياه، وإنما المشكلة تكمن في إدارتها بطريقة تكاملية، وتحسين استغلالها من دون الإضرار بمصالح باقي الدول، في إطار التعاون بين دول الحوض، من خلال إيجاد الأنشطة، والمشاريع والآليات التي تحقق النفـع لجميع دول حوض النيل، وإلا فإن شبح الأزمة المائية سيعم تأثيره على كل الدول، خاصةً دولتا مصر والسودان.

تستغل المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة والبنك الدولي، الأوضاع الاقتصادية والسياسية لدول أعالي حوض نهر النيل، للقيام بتمويل مشروعات مائية في بعض الدول بدون موافقة الدول الأخرى التي تشترك معها في الأنهار الدولية، بحجة أن هذه المشروعات تسهم في تحسين استغلال مياه النهر، وهو ما يفتح الباب على مصراعيه مرة أخرى لخلط الماء بالسياسة، وممارسة ضغوط سياسية على بعض الدول، ما سيزيد من احتمالات الصراع على المياه مستقبلاً. ورغم أن عملية تدويل قضايا ومشكلات المياه لها آثار متفاوتة على دول الأنهار الدولية، إلا أنها تلقي بأثار اقتصادية جمة على السودان، بالتأثير على كميات المياه المتوافرة.

توافر المياه النظيفة هو مفتاح الدخول إلى التنمية المستدامة، والقضاء على الفقر والمرض، والتمتع بالصحة الجيدة، ومن ثم خفض معدلات الوفيات. لذلك فالمياه هي أساس حياة البشر، إلا أنها في ذات الوقت يمكن أن تكون مصدراً لتوسيع حلقة الفقر وعدم المساواة، بسبب تلوث المياه، وعدم كفايتها وصعوبة الحصول عليها لبعض فئات المجتمع، ومن ثَم التعرض للأمراض الناجمة من المياه الملوثة، ومن ثم يعظم تأثيرها على أهم مكونات الدولة وهو العنصر البشري الذي من أجله تكون الدولة، وبه تكون أسباب تنميتها وتطورها.

يرتبط أمن السودان واستقراره كذلك ارتباطا وثيقاً بأمن دول حوض نهر النيل واستقرارها، فموقعه المتميز ومجاورته للعديد من دول الحوض، يجعل من أي صراع أو توترات سياسية تنعكس أثارها السياسية والاقتصادية والاجتماعية على مناحي الحياة بالسودان، خاصة الجوانب الأمنية منها في مختلف ضروبها.

من المنتظر أن تلعب المهددات التي يتعرض لها الأمن المائي لجمهورية السودان، في ظل الأبعاد المترابطة به، خاصةً فيما يتعلق بالأبعاد السياسية الاقتصادية، العسكرية، الاجتماعية والبيئية، وتأثيرات ذلك على الأمن الوطني السوداني، دوراً رئيساً في رسم ملامح الرؤية الاستراتيجية المستقبلية للأمن المائي السوداني، حتى يكون بدرجة عالية من المرونة للتعامل مع كل المواقف المحتملة، دون التفريط في الحقوق المكتسبة.

خامساً: أثر رؤى دول حوض النيل على مستقبل الأمن المائي السوداني

1. مصر

انفصال جنوب السودان وقيام جمهورية جنوب السودان أدى إلى انفصال مورد كبير للمياه، المتمثل في الأمطار الغزيرة بجنوب السودان، التي كان لها الأثر الكبير في تحديد نسبة السودان في اتفاقية مياه النيل، بمقدار 18.5 مليار م3، وهذا الوضع الجديد، إضافةً لمطالبة جمهورية جنوب السودان بحصتها من اتفاقية مياه النيل، سوف يخلق واقعاً جديداً في السودان، يتمثل في انخفاض موارده المائية مستقبلاً، وهذا سوف يؤدي إلى تهديد الأمن المائي السوداني الذي يعتمد عليه في معظم المشاريع التنموية داخل السودان، ومن المتوقع أن يكون أثر الرؤية المصرية تجاه مياه النيل على الأمن المائي في جمهورية السودان كالآتي :

أ. التمسك بكل الاتفاقيات الخاصة بمياه النيل وعدم التنازل عنها.

ب. عدم الموافقة على خصم حصة لجمهورية جنوب السودان من حصتها من اتفاقية مياه النيل.

ج. إقامة علاقات اقتصادية ودبلوماسية قوية مع جمهورية جنوب السودان بغرض إحياء المشاريع السابقة، خاصةً مشروعي جونقلي (1) وجونقلي (2). ما ينعكس إيجاباً على الأمن المائي السوداني.

د. عدم موافقتها على زيادة حصة جمهورية السودان من اتفاقية مياه النيل بعد خروج الموارد المائية الضخمة بانفصال جنوب السودان وقيام جمهورية جنوب السودان.

2. جمهورية جنوب السودان

جمهورية جنوب السودان دولة حديثة التكوين، فقيرة من ناحية البنية التحتية المائية والاقتصادية، فطوال فترة الحرب كان قيام بنية تحتية في جنوب السودان (سابقاً) من الأعمال الصعبة أو المستحيلـة تحت وطأة انعدام الأمن، على الرغم من الإمكانيات الهائلة الموجودة، سواء كانت إمكانيات زراعية أو مائية أو معدنية في باطن الأرض، ونجد أن السودان وبعد توقيع اتفاقية السلام الشامل، عام 2005، استطاع الاستفادة من هذه الفترة القصيرة قبل الاستفتاء على انفصال جنوب السودان، في تطوير صناعة النفط، التي يقع معظمها في جمهورية جنوب السودان حالياً، والذي يمكن أن يوفر لها مورداً مادياً جيداً يجعلها تستفيد منه في بناء البني التحتية لبناء الدولة الحديثة.

جمهورية جنوب السودان حالياً لديها الكثير من التحديات التي تواجهها في بناء الدولة الحديثة، سواء أو اجتماعياً سياسياً، وتعد الآن مكتفية من الموارد المائية، سواء الأنهار أو مياه الأمطار، إلا أنه من المتوقع أن تثير الكثير من المشكلات في ملف المياه، لذلك يمكن القول إنه وبقيام جمهورية جنوب السودان ستظهر عدة تعقيدات منها:

أ. نسبةً للعلاقات المتميزة السابقة للحركة الشعبية في جنوب السودان بدول المنبع، فإن الدولة الوليدة في جنوب السودان ستجد الدعم الكامل من تلك الدول الموقعة في مطالبتها بحصة من اتفاقية مياه النيل، الموقعة بين جمهورية مصر وجمهورية السودان، وستجد دول المنبع في ذلك فرصة سانحة لخلخلة الاتفاقيات القائمة، التي سبق أن دعت في عدة مناسبات لإلغائها، وإعادة توزيع مياه النيل مرة أخرى، وبطريقة عادلة تراعي فيها حقوق كل دولة واحتياجاتها، خاصة وأن الاتفاقيات السابقة كانت في عهد الاستعمار.

ب. كل مشاريع زيادة إيراد مياه نهر النيل السابقة تمثلت في جونقلي (1) وجونقلي (2) وبحر الغزال وبحر مشار، أصبحت الآن داخل أراضي جمهورية جنوب السودان، مثل بحر السوباط، وبحر الجبل، وبحر الغزال. ونسبة لعدم وضوح رؤية حكومة جمهورية جنوب السودان، وعدم الاستقرار الأمني والاضطرابات الموجودة الآن والمتوقع استمرارها مستقبلاً بين الفرقاء السياسيين في جمهورية جنوب السودان، فلن تجد هذه المشاريع طريقها للتنفيذ في المدى القريب، وقناة جونقلي خير مثال على ذلك، ففي فترة الحرب، بعد عام 1983، بين حكومة السودان والمتمردين في الجنوب، توقف العمل فيها حتى الآن، وحتى حين إكمال تنفيذها مستقبلاً، فسيكون هناك جدل واسع بشأن توزيع عائداتها.

ج. المصدر الوحيد السابق لتغذية مياه نهر النيل، والذي كان يوجد داخل حدود جمهورية السودان قبل الانفصال، هو بحر الغزال، الذي كان يغذي نهر النيل بما يعادل 0.5 مليار م3، وأصبح داخل حدود الدولة الجديدة (جمهورية جنوب السودان)، وبذلك تكون جميع مصادر تغذية مياه نهر النيل خارج أراضي جمهورية السودان، وذلك يسهل من تنفيذ استراتيجية إسرائيل في التأثير على مصادر مياه نهر النيل في إثيوبيا، ومنطقة الحوض الاستوائي، ومن ثَم خنق التدفق المائي إلى دولتي المجرى والمصب.

د. بقيام جمهورية جنوب السودان تكون دول حوض النيل ازدادت عضواً جديداً غير راضٍ عن اتفاقيات مياه النيل الحالية، ما يصعب أمر المفاوضات مستقبلاً بشأن مياه النيل، ويفتح الباب أمام كل الاحتمالات، وسيكون معه التوتر قائماً بين جمهوريتي السودان وجنوب السودان.

هـ. أعلنت جمهورية جنوب السودان أنها سوف تنضم إلى اتفاقية عنتيبي التي يعارضها السودان، ومن المعروف أن جمهورية جنوب السودان تسقط عليها أكبر معدل لكمية الأمطار التي تسقط على جميع دول الحوض، كما أن مواردها المائية عديدة ومتنوعة، وبها سواقط البرك والمستنقعات، التي تصل إلى عشرات المليارات، لذلك فهي ليست في حاجة لموارد مائية إضافية كي تحفزها للانضمام لاتفاقية عنتيبي، وربما يكون ذلك الانضمام في سياق المكايدات السياسية، وذلك يجعل وجود علامات غير مبشرة للأمن المائي السوداني من جراء هذا الانضمام.

و. جمهورية جنوب السودان حالياً في طريقها لبناء دولتها، وعلى الرغم من أنها ليست في حاجة لموارد مائية إضافية، إلا أن حاجتها تكمن في الطاقة مستقبلاً، في ظل حاجتها لمشاريع صناعية، فيتوقـع أن تعمـل على إنشـاء سـدود لتوليد الطاقة الكهرومائية على غرار سد النهضة، وهذا بالتأكيد سوف يؤثر على انسياب مياه النيل في المستقبل، خاصة وأن هناك بعض المعلومات عن وجود دعم إسرائيلي لدولة جنوب السودان لإنشاء سدود على مجرى النيل.

ز. أعلنت جمهورية جنوب السودان أنها ستطالب بحصتها من اتفاقية مياه النيل الموقعة بين جمهوريتي مصر والسودان، بحكم وجودها سابقاً ضمن دولة السودان الواحد، وبعد قيامها يحق لها أن يكون لها نصيب في تلك الاتفاقية، ما يؤثر ذلك على الأمن المائي السوداني ويخلق واقع غير مبشر لجمهورية السودان، في ظل حاجته المتزايدة للمياه.

3. إثيوبيا

الرؤية الإثيوبية تجاه اتفاقيات مياه النيل وما تنوي القيام به من مشروعات تتمثل في بناء السدود على مجرى النيل الأزرق، سوف يكون له آثار سلبية في المستقبل على الأمن المائي في جمهورية السودان، ويتوقع أن يتمثل ذلك في الآتي:

أ. الضغط على جمهوريتي السودان ومصر، لشراء مياه النيل بعـد حجزها في بحيرة السد.

ب. الضغط على السودان للاستفادة من الأراضي الزراعية المجاورة لإثيوبيا، والموجودة داخل الحدود السودانية بطريقة مقننة، خلافاً لما يحدث الآن من زراعة غير شرعية.

ج. مقايضة مياه النيل بسلع أخرى، كالنفط أو المنتجات الزراعية أو الصناعية مع السودان ومصر.

د. بيع المياه لإسرائيل.

هـ. التحكم في كمية وصول المياه القادمة من إثيوبية إلى السودان ومصر.

و. إقامة المزيد من السدود والخزانات، بغرض الاستثمار في الطاقة الكهربائية وبيعها لدول الجوار.

ز. الاتجاه إلى تحويل المياه سلعة تباع وتشترى.

4. دول حوض النيل الاستوائي

دول حوض النيل الاستوائي تسهم بما يعادل 15% من مياه نهر النيل، إلا أن تلك النسبة تعتبر استراتيجياً نسبة مستديمة، عكس مياه النيل الأزرق التي تبلغ أقصى كميتها في فصل الخريف، ويمكن تقسيم دول الحوض الاستوائي إلى مجموعتين حسب رؤياتهم في اتفاقيات مياه النيل كالآتي:

أ. كينيا وتنزانيا وأوغندا

أكثر الدول حدةً ومطالبةً لإعادة توزيع مياه النيل وفقاً للاتفاقيات السابقة، إضافـة لذلك تعد تلك الدول أكثر دول الحوض الاستوائي مشاركة في نسبة المياه المغذية لنهر النيل.

ب. ورواندا والكونغو الديمقراطية

أقل حدة ومطالبة بإعادة توزيع مياه النيل، والسبب يرجع إلى أنها تسهم بـ 1% فقط من المياه الواصلة إلى مصر، فضلاً عن عدم رغبة هذه الدول في إحداث مشكلات مع مصر والسودان، حرصاً على حصول دعمهما في المحافل الدولية والمجالات الدبلوماسية والاقتصادية، للاستفادة من ثقلهما الإقليمي، بالإضافة لنقص الخبرات في المجال الهيدروليكي في هذه الدول، ما ترتب على ذلك عدم قدرتها على خوض مفاوضات ناجحة في مواجهة مصر والسودان اللتان تتمتعان بمعرفة فنية عالية وخبرة متميزة في مجال إدارة مياه النيل.

يتوقع أن تكون الرؤية المستقبلية لتلك الدول تجاه مياه النيل كالآتي:

(1) الضغط على دولتي السودان ومصر من أجل الموافقة والتوقيع على الاتفاقية الإطارية لدول حوض النيل، وإيجاد شرعية لإعادة توزيع حصص مياه النيل.

(2) العمل على الاستفادة القصوى من مياه النيل، وخاصةً القادمة من بحيرة فكتوريا، في إقامة مشاريع زراعية ومشاريع الطاقة دون الرجوع لدولتي المصب السودان ومصر، خاصة في ظل الدعم الإسرائيلي والأمريكي.

(3) إقامة مشاريع مستقبلية مشتركة في مجالات الزراعة والري والطاقة بين تلك الدول، لتقنين وضع الاتفاقية الإطارية بين دول حوض النيل ووضعها قيد التنفيذ.

(4) الضغط على دول رواندا وبورندي والكونغو الديمقراطية لتفعيل أدوارهم الإقليمية في مجال المياه، خاصةً فيما يتعلق بمياه حوض النيل، والاتفاقية الإطارية لدول حوض النيل (اتفاقية عنتيبي)، وإضافة مزيد من الضغط على السودان ومصر.

سادساً: رؤية مستقبلية للأمن المائي السوداني

من هذا المنطلق يكون من المهم وضع استراتيجية مستقبلية، عسى أن تسهم في تحقيق الأمن المائي للسودان في ظل تزايد الاحتياجات المائية، مع ثبات الموارد المتاحة، وربما انتقاصها ما يشكل تهديداً لمناحي الحياة كافة.

1. الأهداف الرئيسية للرؤية المستقبلية

أ. تأمين مصادر المياه المتاحة.

ب. العمل على زيادة موارد المياه الموجودة.

ج. تحقيق التوازن المائي بعيد المدى ما بين الموارد المتاحة والطلب عليها.

د. تنسيق إدارة وتطوير استخدامات المياه.

هـ. تحسين الخدمات المائية.

و. تعظيم المنافع الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في قطاع المياه.

2. الرؤية المستقبلية

أ. على المستوى الداخلي

(1) إجراء الدراسات اللازمة لزيادة الموارد المائية.

(2) إجراء الدراسات لإنشاء السدود لحصاد مياه الأمطار، خاصةً في دارفور وكردفان وشرق السودان.

(3) وضع خطة لترشيد استهلاك المياه في كافة القطاعات.

(4) تطوير شبكات الري.

(5) عمل الدراسات المطلوبة لإعادة النظر في سياسة التركيـب المحصولي، باستخدام تكنولوجية الهندسة الوراثية.

(6) تطوير طرق الري.

(7) وضع خطة لتطوير الهيكل المؤسسي والتنظيمي وتنفيذها.

(8) مراجعة التشريعات والقوانين وإجراء التطوير المطلوب.

(9) البدء في تنفيذ المشاريع لزيادة الموارد المائية.

(10) تنفيذ السدود لحصاد مياه الأمطار.

(11) تـوعية المـواطنين وكافـة القطاعـات عبر وسـائل الإعـلام المختلفة بضرورة ترشيد استهلاك المياه.

(12) تطـوير عمليات الـري وتعميمها بهـدف تقليل الفاقد وتقنين كميات المياه المستخدمة.

(13) العمل بنظام الري الحديث بكافة أشكاله.

(14) زراعة المحاصيل التي تستهلك مياه قليلة وفي نفس الوقت يكون لها قيمة استراتيجية.

(15) الاستفادة من حصاد مياه الأمطار في مشاريع التنمية.

(16) وضـع الضوابـط الصارمة لترشيد استهلاك المياه وتنفيذها في كافة القطاعات.

ب. على مستوى دول حوض النيل

(1) وضـع استراتيجية مـائية موحـدة ما بين السـودان ومصـر لمجابهة تكتل بقية دول حـوض النيل، الـذي أصبح التأثير الخارجي، وخاصةً الإسرائيلي، واضح في توجهاتها المائية.

(2) عمـل دراسـات بمشاركة جمهورية مصر لإجراء مشاريع تنموية في كل من جمهورية الكنغـو الديمقراطية وجنـوب السودان، مقابل كسب موافقتهم في إقامـة المشـاريع المائيـة لزيادة موارد نهر النيل كمشروع قناة جونقلي.

(3) استمرار الحوار مـع كل من مصر وإثيوبيا من أجل إيجاد صيغـة مقـبولـة تحـافظ علـى الحقـوق التاريخيـة لكـل مـن جمهوريتي السودان ومصر، وفي الوقت نفسه تضمن حقوق إثيوبيا في إقامة المشاريع التنموية.

(4) تحييـد مـوقف جمـهورية جـــنوب السـودان، للحيلولـة دون انضمامها إلى اتفاقية عنتيبي.

(5) تنفيذ اتفاقيات التعاون المشترك مع دولة جنوب السودان.

(6) السعي لتحقيق الاستقرار السياسي والأمني بدول الحـوض حتى يمكن تنفيذ مشروعات زيادة الإيراد المائي لنهر النيل.

(7) استمرار الدعم السياسي لمبادرة حوض نهر النيل لتنفذ مشروعات الرؤية المشتركة على مستوى دول الحـوض ومشروعات الأحواض الفرعية الأخرى.

(8) وضع آليـة لتقنين الحقـوق التاريخيـة والمكتسـبة بمشاركـة مصر مقابل تقديم حوافز لدول حوض النيل.

(9) البدء في تنفيذ مشاريع زيادة الموارد المائية لنهر النيل، بالتزامن مع إقامة المشـاريع التنموية في كل مـن جمهورية الكنغو وجمهورية جنوب السودان.

(10) توطيد العلاقات مـع جمهورية جـنوب السـودان، لربط كافة مصالحها مع السودان، لتقليص الدور الإسرائيلي.

(11) خلق تكتل اقتصادي يضم كل من السودان، مصر، إثيوبيا وجنوب السـودان قد يساعد فـي إضـعاف مواقف بقية دول الحوض حول الاتفاقيات السابقة.

(12) الوصول إلى صـيغة مـرضية بين دول حـوض النيل للبدء في تنفيذ المشروعات المشتركة بينهم، وكذلك مشروعات الأحواض الفرعية.

(13) تعهد دول حوض النيل والتزامها باحترام الحقوق التاريخية والمكتسـبة وأن يكون ذلك تحت مظلة الاتحاد الأفريقي.

(14) الانتهاء من المشاريع المائية لزيادة الموارد المائية واستقلال عائداتها في مزيد من المشاريع التنموية المشتركة، لتوطيد العلاقات وربط المصالح المتبادلة لدول حوض النيل مع بعضها البعض، لفتح الباب لمزيد من التعاون والتنسيق دون عقبات أو تعنت من أي دولة طالما الفائدة تطال الجميع.

(15) توحيد السياسيات المائية بين كل من السودان ومصر وإثيوبيا وجنوب السودان.

ج. على مستوى الوطن العربي

(1) التعاون على المستويات كافة الفنية والسياسية في وضع استراتيجية مائية عربية موحدة، تأخذ في الاعتبار المشكلات المائية التي يعاني منها الوطن العربي، وتضع تصوراً للعلاقة بين العالم العربي ومحيطه الإقليمي والدولي.

(2) في إطار التعاون المتبادل تشجيع الدول العربية التي لها المقدرة المالية وحثها على تمويل المشروعات التي تهدف إلى زيادة مـوارد المياه مقابـل توفـير فـرص استثمار لهـذه الـدول في المجال الزراعـي الذي تعانـي منه غالبية الدول العربية وخاصةً دول الخليج.

(3) وضع استراتيجية مائية عربية موحدة تحكم العلاقات المائية للوطن العربي بمحيطه الإقليمي والدولي.

(4) تقـديم الدراسـات للمشاريـع المزمـع إقامتها للـدول العربية المعنية، للمساهمة في التمويل متضمنة الفوائد التي تعود على هذه الدول مقابل التمويل.

(5) إقامـة مشـاريع زيادة مـوارد مياه حوض نهر النيل بالتعاون مع الدول العربية.

(6) ربط مصالـح دول حوض النيل بمصالح الدول العربية من خلال المشاريع المشتركة لتقليص الدور الإسرائيلي.

د. على المستوى العالمي

(1) إقامة تعاون في مجال البحوث العلمية مع دول العالم لتحسين قيمة الوحدة المائية.

(2) التعاون الدولي خاصةً مع الدول الصديقة لتمويل بعض المشـروعات القومية والإقليمية لزيادة الموارد المائية.

(3) في المدى المتوسط، طرح مبادرة مشتركة ما بين السودان ومصر بدعم عربي لتقنين الحقـوق التاريخية والمكتسبة من مياه نهر النيل.

(4) في المدى البعيد، تقنين الحقوق التاريخية والمكتسبة مـن مياه النيل، وفق الاتفاقيات السابقة في المحافل الدولية كافة.

عند تطبيق هذه الرؤية قد تواجه بعض الصعوبات الاقتصادية، والبيئية، والاجتماعية والفنية، والتشريعية، والبشرية، والسياسية، التي قد تعيق تنفيذها بالصورة المطلوبة، لذلك يجب إيجاد معالجة لهذه الصعوبات بقدر الإمكان لتقليل تأثيرها لأقصى حد ممكن، حتى يمكن أن تعود بالفائدة المرجوة منها.