إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / حرب فوكلاند





إغراق بلجرانو وشيفلد
معركة جوس جرين
الإبرار البريطاني بسان كارلوس
الهجوم على الغواصة سانتافي
القتال للجانبين 1 مايو
احتلال رأس الشاطئ
عملية ثلاجة فورتونا
عملية خليج ستورمنس
عملية خليج كمبرلاند

مناطق الحظر البريطانية والأرجنتينية
مسرح حرب فوكلاند
مسرح عمليات فوكلاند
معركة ويرلس ريدج
الاستيلاء على ستانلي
جورجيا الجنوبية "منطقة العمليات"
خط المرتفعات الثاني
جزيرة جورجيا الجنوبية
جزر فوكلاند
سقوط ستانلي
فكرة الغزو الأرجنتيني



حرب عام 1967

رابعاً: إغراق المدمرة "شيفلد"، 4 مايو، (أُنظر شكل إغراق بلجرانو وشيفلد)

حتى صباح الرابع من مايو كانت معنويات البريطانيين مرتفعة على مَتْن أسطول الواجب، فحتى ذلك الوقت تمَّ قصف المطارات في "فوكلاند" بالقاذفات ومقاتلات الأسطول عدة مرات، كما تمَّ قصف المواقع الأرجنتينية على شواطئ الجزر، وإغراق وإصابة ثلاث سفن وغواصة أرجنتينية دون أية خسائر مقابلة في السفن أو الطائرات أو الأفراد، إلاّ أنه قبل أن ينقضي نهار ذلك اليوم كان أسطول قوة الواجب يتلقى ضربة قاسية بتكبُّده أولى خسائره البحرية والجوية والبشرية في القتال.

وقد بدأ صباح الرابع من مايو هادئاً، فلم تتجاوز أعمال القتال البريطانية المخططة لذلك اليوم ـ بعض طلعات الاستطلاع الإلكتروني في أول ضوء على طول ساحل الجزر بواسطة الطائرات العمودية "لينكس، وثلاث طلعات "سي هارير" لقصف مطار "جوس جرين" بعد ظهر ذلك اليوم، أمَّا على الجانب الآخر فقد كان الأمر مختلفاً، حيث قرَّرت القيادة الأرجنتينية الزج ببعض طائراتها الحديثة من طراز "سوبر اتندار" في أولى أعمالها القتالية ضد أسطول قوة الواجب البريطانية للانتقام من ذلك الأسطول لِمَا ألحقه بالبحرية الأرجنتينية من خسائر.

    وقد بدأ الاستعداد لاستخدام هذه الطائرات مبكراً قبل أن يتطور الصراع بين البلدين حول جُزر "فوكلاند" إلى مستوى الصراع المسلح، ففور استلام الأرجنتين أولى دفعات صفقة هذه الطائرات وتمركزها في قاعدة "أسبورا" الجوية، بدأَ تدريب الطيارين على استخدامها في مهاجمة السفن باستخدام صواريخ "إكسوست AM39 Exocet" الحديثة التي تم شراؤها من فرنسا مع تلك الطائرات.

ولما كانت الأرجنتين تملك مدمرتين مماثلتين للمدمرات البريطانية الحديثة من طراز "42 42A" هما "سانتيما ترينداد" و"هيركوليز"، فقد سهَّل لها ذلك معرفة أدق تفاصيل هذه المدمرات، وخاصةً فيما يتعلق بالرادار ومنظومة الدفاع الجوي المجهزة بها. وعندما بدأ الصراع يتصاعد بين الجانبين على أثر الغزو الأرجنتيني للجزر، زادت كثافة تدريب الطيارين في قاعدة "أسبورا" على الهجوم على أهداف بحرية مشابهة، مع إعادة التزود بالوقود جواً على مسافة 300 ميل (555 كم) داخل البحر، وتنسيق ذلك التدريب مع طائرات الاستطلاع البحري من طراز "نبتون" التي كانت مهمتها رصد الأهداف البحرية المعادية وتبليغ مواقعها للتشكيل الجوي المكلف بالهجوم.

وعلى أثر تحرك مجموعة القتال الرئيسية لقوة الواجب إلى جنوب الأطلسي، أعادت قيادة طيران البحرية الأرجنتينية تمركز أربع طائرات "سوبر أتندار" من قاعدة "أسبورا" الجوية إلى قاعدة "ريو جراندي" ـ في أقصى جنوب الأرجنتين ـ ومعها خمسة صواريخ "إكسوست" خلال يومي 19، 20 أبريل، لتكون أقرب ما تكون إلى منطقة العمليات حول الجزر.

وفي الساعة الثامنة والربع (بالتوقيت المحلي) صباح 4 مايو، رصدت إحدى طائرات الاستطلاع البحري الأرجنتيني من طراز "نبتون" بعض سفن النطاق الخارجي لأسطول قوة الواجب على مسافة مائة وخمسة عشر ميلاً (185 كم) جنوب "ستانلي"، وأربعمائة وثمانية وثلاثين ميل (704 كم) من قاعدة "ريو جراندي". وفي الساعة التاسعة وخمس وأربعين دقيقة بالتوقيت المحلي أصدرت قيادة طيران البحرية الأمر بإقلاع طائرتين "سوبر اتندار" بكل منهما صاروخ "إكسوست" لمهاجمة الأهداف البحرية التي تم تحديد محلها، وبعد إعادة ملء الطائرتين بالوقود جواً في الساعة العاشرة صباحاً، واصلتا الطيران نحو هدفهما.

وفي الساعة العاشرة والنصف (بالتوقيت المحلي) تلقت الطائرتان بلاغاً من طائرة الاستطلاع البحري عن آخر موقع للسفن المستهدفة، التي كانت آنذاك على مسافة مائة وثلاثين ميلاً (209 كم) من موقعهما، وما أن ظهرت السفن البريطانية الملتقطة على شاشتي رادار الطائرتين (هدف كبير وهدفان متوسطي الحجم) حتى بدأت الطائرتان المرحلة الأخيرة من اقترابهما للهجوم على ارتفاع منخفض، وفي الساعة 1104 (بالتوقيت المحلي) وعلى مسافة 23 ميلاً (37 كم) ـ وهي مسافة الإطلاق المناسبة ـ أطلق الطياران صاروخيهما في وقت واحد في اتجاه الأهداف المكتشَفَة، وأسرعا بالعودة إلى قاعدتهما بعد أن حقَّقا المفاجأة تاركين المدمرة "شيفلد" كتلةً من النيران بعد أن أصابها أحد الصاروخين في جانبها الأيمن فوق خط المياه بنحو ثماني أقدام، وأدَّى إلى مصرع واحدٍ وعشرين فرداً وإصابة أربعة وعشرين آخرين من طاقمها، أمّا الصاروخ الآخر فقد ضَلَّ طريقه إلى هدفه.

وتفسر بعض المصادر البريطانية نجاح الهجوم على المدمرة "شيفلد" وتحقيق المفاجأة، على الرغم من أنَّ كلَّ فردٍ في أسطول قوة الواجب كان يعلم كلَّ شئ عن صاروخ "إكسوست" وأنَّ بعض السفن البريطانية كانت مسلحةً به، على النحو التالي:

1. عدم تجهيز السفن البريطانية جيداً لاعتراض صواريخ "إكسوست" التي تطير بسرعة كبيرة على ارتفاع منخفض جدا تكاد تلامس سطح الماء، فضلاً عن أن تدريب "الناتو" كان يركز أساساً على الدفاع الجوي ضد الأهداف السوفيتية المقتربة على ارتفاع عالٍ شمال الأطلسي.

2. كانت خبرة البحرية البريطانية بصواريخ "إكسوست" قاصرةٌ على طراز "إم. إم 38 MM-38" الذي كان يطلق من السفن، ويبلغ مداه ستة وعشرين ميلاً (نحو 42 كم)، بينما استخدم في الهجوم الأرجنتيني طراز “AM-39” الأكثر حداثةً والأطول مدىً.

3. من الناحية النظرية يمكن لصواريخ الدفاع الجوي من طراز "سي وولف" أن تعترض صواريخ "إكسوست"، إلاّ أن ذلك يتطلب رد فعل غاية في السرعة من الوحدات المدافعة لم يسمح بها الموقف عندما وقع الهجوم على المدمرة "شيفلد"، فلم تُكتشف الطائرات، كما لم يُكتشف الصاروخ إلاّ بالعين المجردة قبل اختراقه لجنب المدمرة ببضع ثوان كانت غيرَ كافيةٍ لأي إجراء مضاد، خاصةً وأن "شيفلد" كانت أقرب السفن البريطانية إلى اتجاه الهجوم.

وعلى الرغم من ذلك، ترى بعض المصادر البريطانية أنه في الظروف العادية كان لدى "شيفلد" أربعة احتمالات لاكتشاف التهديدات المقتربة واتخاذ الإجراءات المضادة حيالها، هي:

1. اكتشاف النبضات المنبعثة من رادارات طائرات "سوبر اتندار" بواسطة الاستطلاع الإلكتروني.

2. اكتشاف الطائرات الأرجنتينية المقتربة بواسطة رادار المدمرة نفسها.

3. اكتشاف النبضات المنبعثة من صاروخ "إكسوست" عند الإطلاق.

4. اكتشاف الصاروخ بوسائل الرؤية البصرية.

غير أن الموقف الذي كانت فيه المدمرة "شيفلد" عند الهجوم عليها فوَّت عليها احتمالين من الاحتمالات السابقة، حيث أدى استخدام نظام "سكوت SCOT" للاتصالات عَبْر الأقمار الصناعية ـ لإرسال بعض الرسائل الروتينية من المدمرة ـ إلى تغطية تردّدات بث كلٍّ من طائرات "سوبر اتندار" وصواريخ "إكسوست" أثناء اقترابهما، فلم يُكتشف أي منهما، خاصة وأن فترة طيران الصاروخ نحو الهدف لا تزيد عن دقيقتين، ومن ثمَّ لم يكن هناك فرصة لاكتشافه إلاّ بواسطة العين أو الأجهزة البصرية قبل وصوله ببضع ثوان غير كافية لأية إجراءات مضادة في درجة الاستعداد الثانية التي كانت فيها المدمرة عند إصابتها.

وإزاء فشل جهود الطاقم وسفن الإنقاذ التي وصلت إلى المنطقة في اطفاء الحريق الذي كان يلتهم المدمرة ويقترب من مستودعات صواريخ "سي دارت" قرَّر الكابتن "سام سالت Sam Salt" قائد المدمرة إخلاء الطاقم منها حتى لا يخسر مزيداً من رجاله، وفي الساعة 1433 (بتوقيت "فوكلاند") كان قد تمَّ إخلاء الطاقم بعيداً عن المدمرة التي غرقت فجر العاشر من مايو أثناء قَطْرَها على بعد 155 ميلاً (250 كم) شرق جزر "فوكلاند".

وبعد نحو ساعة من الهجوم على "شيفلد" تكبَّد طيران قوة الواجب أُولى خسائره في القتال. ففي الوقت الذي كانت تُبذل فيه محاولات إخماد النيران المشتعلة في المدمرة المصابة، أقلع تشكيل من ثلاث طائرات "سي هارير" من الحاملة "هيرمس" لتنفيذ طلعة القصف المخططة ضد مطار "جوس جرين"، وكان على الطائرتين الأوليين الاقتراب على ارتفاع منخفض لقصف منطقة انتشار الطائرات بقنابل المستودعات، بينما كان على الطائرة الثالثة قصف الممر بثلاث قنابل زنة ألف رطل، غير أن إحدى الطائرتين الأوليين أُسقطت بنيران أسلحة الدفاع الجوي الأرجنتينية أثناء اقترابها من الساحل.

وقد انعكست آثار أحداث الرابع من مايو على كل من الشعب البريطاني وقيادته السياسية في لندن وقيادة أسطول قوة الواجب في منطقة العمليات، فقد كانت "شيفلد" أول سفينة يُغرقها العدو للبحرية البريطانية منذ الحرب العالمية الثانية، خاصة وأن غرق تلك المدمرة التي وصل ثمنها 120 مليون جنيه (إسترلينيً) جاء نتيجة الهجوم عليها بواسطة صاروخ جو/ سطح لا يزيد ثمنه عن مائة ألف جنيه (إسترليني).

فبالنسبة إلى الشعب البريطاني فقد تعرض لموجة من الحزن زحفت على كل البلاد، حيث كان على هذا الشعب أن يخوض مرة أخرى تجارب آلام الضربات والضربات المضادة للحرب التي توقف عن خوضها سنوات عديدة، وعلى الصعيد الوزاري غطَّى على اجتماع مجلس الحرب بعد أحداث ذلك اليوم مسحة من الكآبة واهتز معظم أعضاؤه الذين لم يعاصروا الحرب العالمية الثانية بشدة، وكان على الأدميرال "لوين" إعادة الطمأنينة إلى نفوسهم، فأوضح لهم أن السفن معرَّضة للخسارة والاستهلاك في أوقات الحرب، وخاصة الصغيرة منها، وضرب لهم مثلاً من الحرب العالمية الثانية عندما فقد الأسطول البريطاني عدداً كبيراً من سفن الحراسة لقوافل إمداد جزيرة "مالطة" حتى يمنع سقوطها في أيدي قوات المحور.

أمّا على صعيد قوة الواجب، فقد كانت خسارة المدمرة "شيفلد" نقطة تحول في عمليات تلك القوة، حيث أصبح واضحاً لقيادتها أن استمرار القتال للحصول على السيطرة الجوية في منطقة العمليات سيؤدي إلى المخاطرة بفقد حاملتي الطائرات أو إحداهما على الأقل، وهو ثمن غير مقبول من الناحيتين السياسية والعسكرية، خاصةً وأنه لن يُمَّكن قوة الواجب من استعادة الجزر التي حُشد من أجلها ذلك الأسطول.

ومن ثمَّ كان على رير أدميرال "وودوارد" حل مشكلة مستعصية أصبحت تواجهه بعد التأكد من فعالية الهجوم على سفنه بصواريخ "إكسوست"، وقدرة الطيران الأرجنتيني ـ من قواعده في الوطن الأم ـ على اختراق الدفاعات الجوية لقوة الواجب، وهي كيف يقوم بمهمته في هذه المرحلة التي تتلخص في دفع القوات البحرية والجوية الأرجنتينية للقتال لاستنزافها وتحقيق السيطرة الجوية والبحرية في منطقة العمليات قبل الإبرار على شواطئ الجزر، وإذا كانت البحرية الأرجنتينية قد لزمت شواطئها بعد إغراق الطراد "جنرال بلجرانو" فإن الطيران الأرجنتيني قد قبل التحدي على الرغم من خسائره المتزايدة، حيث كان رصيده من طائرات القوات الجوية والبحرية يسمح له باستمرار القتال وتقبل نسبة من الخسائر أكثر مما تتحمله أسراب "الهارير" البريطانية على مَتْن الحاملات.

وبعد أن ظل يقلب الأمر على كافة وجوهه ثلاثة أيام، قرَّر الأدميرال "وودوارد" الحد من أعماله القتالية النشطة مؤقتاً، مع سحب أسطوله ناحية الشرق ليكون خارج مدى طائرات "سوبر اتندار" المسلحة بصواريخ "إكسوست"، ومن ثمَّ اتخذت مجموعة الحاملات أوضاعها الجديدة على مسافة 185 ميلاً (298 كم) شرق "ستانلي".

وكان أكثر من تأثر بقرار الانسحاب شرقاً هي أسراب "الهارير"، فقد كان على طياري هذه الأسراب الطيران فوق البحر مسافة أطول في كل مرة يتجهون فيها لقصف الأهداف الأرجنتينية في الجزر، كما وقع على عاتقهم عبءُ الدوريات الجوية التي زادت كثافتها بعد الهجوم على "شيفلد" لتعويض القصور في إمكانات الإنذار الجوي المتاحة والتي برزت أثناء الهجوم على المدمرة الأخيرة، كما أدَّى فقد أحد طياري تلك الأسراب بطائرته أثناء الهجوم على ارتفاع منخفض إلى تجنّب هذا الأسلوب مؤقتاً أثناء عمليات القصف الجوي، اكتفاءً بأسلوب القصف أثناء التسلق (Toss Bombing) الأقل تعرضاً للدفاعات المضادة للطائرات في منطقة الهدف على الرغم من عدم دقته النسبية، وخاصة بالنسبة إلى الأهداف الصغيرة.

ولم يكن التأثير النفسي للهجوم على "شيفلد" بصواريخ "إكسوست" أقل من التـأثيرات المادية لذلك الهجوم، فقد سادت حالة من التوتر بين أطقم الأسطول البريطاني شرق "فوكلاند"، وأخذ الجميع يفكرون في كيفية إحباط الهجوم الجوي بمثل هذا الصاروخ، وكان أكثر الأطقم تعرضاً للضغط النفسي هما طاقما المدمرتين "كونفتري" و"جلاسكو" المماثلتين للمدمرة "شيفلد" واللتان وقع على عاتقهما القيام بالستارة الدفاعية على النطاق الخارجي لأسطول قوة الواجب.

وفي الوقت الذي كانت تجري فيه أعمال القتال السابقة تحوَّلت قاعدة "وايد أويك" بجزيرة "أسنشن" إلى قاعدة إمداد رئيسية للعمليات جنوب الأطلسي، وفي هذه المرحلة المبكرة من الحملة كان هناك أكثر من أربعمائة طائرة تتحرك يومياً من وإلى تلك القاعدة التي تمركزت بها قاذفات "فولكان" وطائرات الإمداد بالوقود من طراز "فكتور"، فضلاً عن طائرات الاستطلاع البحري والإلكتروني من طرازي "نمرود" و"كانبرا". كما كانت طائرات النقل من طراز "هيركوليز" تقلع يومياً لإسقاط الإمدادات العاجلة لوحدات أسطول قوة الواجب، فضلاً عن الجسر الجوي الذي أقامته هذه الطائرات بين قواعد النقل الجوي في المملكة المتحدة وجزيرة "أسنشن" لسرعة نقل الاحتياجات العاجلة اللازمة لقوة الواجب.

خامساً: أعمال قتال الجانبين بين إغراق "شيفلد" ووصول مجموعة الإبرار(5-19 مايو)

شهدت الأيام التالية للهجوم على "شيفلد" انحساراً في أعمال القتال الهجومية للجانبين نتيجة لسوء الأحوال الجوية وانسحاب السفن الأرجنتينية نحو شواطئ الوطن الأم من ناحية، وتحرك أسطول قوة الواجب شرقاً بعيداً عن جزر "فوكلاند" من ناحية أخرى، ومن ثمَّ تركزت أعمال القتال خلال تلك الفترة في أعمال الدفاع الجوي والاستطلاع البحري والجوي لمنطقة الحظر الكلي مع عزل وتليين القوات الأرجنتينية في "فوكلاند".

ووقع عبء أعمال القتال المستمرة على عاتق السرب رقم 280 وطائرات العمودية من طراز "سي كنج" من الحاملة "أنفسنبل" والسرب رقم 826 المناظر له من الحاملة "هيرمس"، حيث كان على هذين السربين القيام بدوريات الاستطلاع ومكافحة الغواصات على مدى ساعات الليل والنهار طوال الأسابيع السابقة للإبرار. وخلال تلك الفترة فَقَدَ السرب رقم 826 طائرتين عموديتين نتيجة لأعطال فنية، الأولى بعد ظهر 12 مايو، والثانية ليلة 17 من الشهر نفسه، إلاّ أنه تمَّ إنقاذ طاقمي الطائرتين العموديتين.

أمّا بالنسبة إلى سربي القتال فلم تجر خلال تلك الفترة أية عمليات اعتراض للطائرات الأرجنتينية على الرغم من تكثيف دوريات المقاتلات في أعقاب الهجوم على "شيفلد"، وهو ما يعود إلى هدوء أعمال قتال الطيران الأرجنتيني خلال هذه الفترة نتيجة لسوء الأحوال الجوية من ناحية، وتوقع زيادة درجة الاستعداد للوحدات البريطانية من ناحية أخرى، إلاَّ أنَّ ذلك لم يمنع حدوث خسائر في المقاتلات البريطانية نتيجة لسوء الأحوال الجوية.

فبعد أول ضوء السادس من مايو رصدت إحدى سفن قوة الواجب على شاشة الرادار هدفاً بدا كأنه هدفٌ جويٌ، فاتجهت نحوه طائرتا "سي هارير" كانتا في دورية جوية الواحدة تِلْوَ الأخرى في ظروف رؤية ضعيفة أقل من نصف ميل (نحو 800 متر)، وسرعان ما اختفت الطائرتان من شاشة الرادار على أثر انخفاضهما ولم يعودا إلى حاملتهما بعد ذلك وقدَّرت قيادة أسطول الواجب احتمال اصطدام الطائرتين نتيجة للرؤية السيئة، وقد ترك هذا الحادث آثاره السلبية على معنويات قيادة قوة الواجب التي لم تكن قد برأت بعد من آثار أحداث الرابع من مايو، لأن فَقْدَ هاتين الطائرتين بالإضافة إلى فَقْدِ الطائرة السابقة يوم 4 مايو يعني أن قوة الواجب فَقَدت 15% من طائرات قتالها قبل أن تبدأ العمليات الرئيسية لاستعادة الجزر.

وفي اليوم التالي لهذا الحادث (7 مايو) أعلنت الحكومة البريطانية مد منطقة الحظر الكلي حتى 12 ميلاً (نحو 19 كم) من سواحل الأرجنتين، وهو ما يعني أن أي سفينة أو طائرة لأيَّة دولة تتواجد على بُعد أكثر من 12 ميلاً شرق سواحل الأرجنتين ستكون معرَّضة للهجوم عليها دون إنذار، مما أعطى أسطول قوة الواجب حرية العمل في مساحة شاسعة جنوب الأطلسي وجعل قيادة تلك القوة تدفع بغواصاتها ناحية الغرب لأقصى مدى تستطيع الوصول إليه، إلاّ أنه منذ غرق الطرَّاد "جنرال بلجرانو" لم تظهر أية وحدة بحرية أرجنتينية خارج حدود منطقة الحظر الجديدة.

وتشير بعض المصادر البريطانية إلى أن الأدميرال "أنايا" عضو المجلس العسكري الحاكم كان مستعداً لقبول تحدي الأسطول البريطاني وأراد دفع مجموعة الحاملة 25 مايو خارج نطاق الخطر، إلاّ أن زملاءه في المجلس الحاكم اعترضوا على ذلك لتجنب التأثيرات السياسية والعسكرية السيئة التي يمكن أن تحدث إذا ما لحقت تلك الحاملة "بالجنرال بلجرانو".

وحتى الثامن من مايو اقتصرت أعمال قتال قوة الواجب على الأعمال الدفاعية السابقة، إلاّ أنَّه في ذلك اليوم قرَّر الأدميرال "ساندي وودوارد" العودة إلى أعمال القتال الهجومية الحذرة، مع بقاء التجميع الرئيسي لقوة الواجب بعيداً شمال شرق جزر "فوكلاند"، فتَّم التخطيط لاقتراب بعض سفن القتال من شواطئ "فوكلاند" خلال الليل لقصف المواقع الأرجنتينية، بينما تقوم أسراب الهارير بالهجوم على المطارات ومحطات الرادار في الجزر كلما سمح الطقس بذلك، مع تجنب القصف الجوي على ارتفاع منخفض تفادياً لمزيد من الخسائر.

كما قرَّر قائد أسطول قوة الواجب القيام بخطوة أكثر طموحاً باستخدام أسلوب جديد في مواجهة طائرات القتال الأرجنتينية يعتمد على نصب كمائن لتلك الطائرات باستخدام مزيج من وحدات الصواريخ القادرة على الاشتباك على الارتفاعات المتوسطة والمنخفضة، وهو أسلوب سبق أن استخدمه الدفاع الجوي المصري بنجاح ضد الطيران الإسرائيلي في أواخر حرب الاستنزاف صيف عام 1970.

ولما كان أطول صواريخ الدفاع الجوي مدى على متن السفن هي صواريخ "سي دارت" المسلحة بها المدمرات طراز 42، بينما صواريخ "سي وولف" المسلحة بها المدمرات طراز 22 أقل مدىً وأكثر كفاءة على الارتفاعات المنخفضة، فقد تقرر تشكيل الكمين من مدمرتين إحداهما من طراز 42 للاشتباك مع الأهداف المقتربة على ارتفاعات متوسطة بصواريخها من طراز "سي دارت" والأخرى من طراز 22 للاشتباك مع الأهداف التي تنجح في الاختراق على ارتفاع منخفض، واختيرت المدمرتان "كوفنري" و"بروود سورد" لهذا الكمين، ومن ثم كان عليهما الظهور على مسافة عشرة أميال (16 كم) من الشاطئ أمام "ستانلي" كطُعم لطائرات القتال الأرجنتينية مع أول ضوء يوم 9 مايو، في الوقت الذي تُقْلِع فيه طائرات "سي هارير" لقصف مطار ستانلي ودفع الطيران الأرجنتيني لمحاولة القيام بضربة مضادة كما حدث في أول مايو.

وفي الوقت المحدَّد كانت المدمرتان في محلهما، إلاّ أنَّ السحاب المنخفض الذي كان يغطي منطقة "ستانلي" صباح ذلك اليوم لم يمكن طائرتي "الهارير" اللتين خُصِّصتا للهجوم من تنفيذ مهمتها، فكلفتا بالقيام بعمل الدورية الجوية قريبا من المنطقة في الوقت الذي اُكتشفت فيه سفينة الصيد الأرجنتينية "ناروال Narwhal داخل منطقة العمليات فوجهت إليهما طائرتي الهارير اللتين أطلقتا أمامها نيران مدافعها لإجبارها على التوقف، وعندما تجاهلتهما هاجمتاها بالقنابل، إلاّ أن الأخيرة لم تنفجر لاختلاف ارتفاع القصف عن الارتفاع الذي ضبطت عليه طبات القنابل المخصَّصة أصلاً لمطار "ستانلي" (5000 قدم).

ومن ثمَّ أمر قائد أسطول قوة الواجب بأسر سفينة الصيد غير المسلحة، فأقلعت طائرة عمودية "سي كينج" من الحاملة "انفنسبل" وعليها جماعة من القوات البحرية الخاصة لأسر السفينة، إلاّ أنه قبل أن تصل تلك القوة إلى منطقة سفينة الصيد وصل إلى المنطقة طائرتا "سي هارير" أخريان وطلبتا من مركز السيطرة على المدمرة "كونفنتري" الأذن بالهجوم على السفينة، ولما كان ذلك المركز على غير علم بالأوامر الجديدة الخاصة بعملية الأسر فقد أعطى الأذن للطائرتين بالهجوم، فانقضتا عليها بمدافعها التي أشعلت فيها النيران وأوقعت بها خسائر شديدة، وعلى أثر وصول جماعة القوات البحرية الخاصة استسلم لها طاقم السفينة، الذي ظهر بين أفراده أحد ضباط البحرية الأرجنتينية، كما أظهرت المعدات التي وجُدت بالسفينة أنها كانت تستخدم للتجسس على أسطول قوة الواجب، فتمَّ أسرُ الطاقم وتركت السفينة لتغرق.

وفي اليوم نفسه، رصد رادار المدمرة "كونفنتري" خمسة أهداف على مسافة 40 ميلاً (64 كم) مُيزت على أنها طائرة نقل أرجنتينية من طراز "هيركوليز" يصاحبها أربع طائرات مقاتلة، فأطلقت عليها المدمرة ثلاث صواريخ "سي دارت" على أقصى مدىً أدت إلى سقوط طائرتي قتال تبين أنهما من طراز "سكاي هوك" تابعيْن للمجموعة رقم 4 وبَعْد ثلاث ساعات التقط رادار المدمرة كوفنتري هدفاً آخرَ على مسافة قريبة فأسقطته بصاروخ آخر من طراز "سي دارت" تبين بعد ذلك أنه طائرة عمودية أرجنتينية من طراز "بوما" كانت في طريقها لمساعدة السفينة "ناروال".

وفي اليوم التالي (10 مايو) دفع الأدميرال "وودوارد" بعض سفنه لإثارة الأرجنتينيين والقيام ببعض أعمال قتال الاستطلاع، واختيرت الفرقاطة "الكريتي" لجس نبض الحاميات الأرجنتينية بطول السواحل الجنوبية لجزيرتي "فوكلاند الشرقية والغربية"، فضلاً عن مضيق "فوكلاند".

وبعد أن قامت تلك الفرقاطة باستطلاع الموانئ الطبيعية على طول السواحل الجنوبية للجزيرتين بواسطة طائرتها العمودية من طراز "لنكس" بعد ظهر ذلك اليوم، دخلت مضيق "فوكلاند" قبل منتصف الليل ودفعت طائرتها العمودية مرة أخرى لاستطلاع خليج "فوكس" على الرغم من سوء الأحوال الجوية، وأثناء تحركها في المضيق التقط رادار "الكريتي" هدفاً بحرياً متحركاً أمامها على بُعد ستة أميال (نحو 10 كم) فزادت من سرعتها للاقتراب من الهدف والتعرف عليه، ثم أطلقت قذيفة مضيئة لمساعدتها على الرؤية، أعقبها عدة قذائف متفجرة في الهواء على أمل إيقاف السفينة دون إحداث خسائر جسيمة بها، إلاّ أن السفينة المطَارَدة زادت من سرعتها محاولة الهرب، فأطلقت عليها الفرقاطة عدة قذائف شديدة الانفجار أدَّت إلى انفجارها واختفائها من شاشة رادار الفرقاطة بضع دقائق، وعُرف فيما بعد أن ذلك الهدف كان سفينة النقل "ايلا دي لوسي استادوس" التابعة للبحرية الأرجنتينية وكانت محمَّلة بأكثر من ثلاثين ألف لترٍ من وقود الطائرات والمركبات. وبعد ذلك الهجوم التقت "الكريتي" بزميلتها "أرو" عند الطرف الشمالي لمضيق "فوكلاند" وانطلقت المدمرتان معاً نحو مجموعة الحاملات شمال شرق الجزر.

وفي الوقت الذي كانت تجري فيه أعمال القتال الجوية والبحرية السابقة، كانت طائرات "كانبرا" و"نمرود" تقلع من جزيرة "أسنشن" للقيام بأعمال الاستطلاع البحري العميق لتأمين أسطول قوة الواجب، وسفن دعمه المبحرة جنوب الأطلسي.

وزاد الهدوء نسبياً في منطقة العمليات خلال الستة وثلاثين ساعة التالية نتيجة لسوء الأحوال الجوية، إلاّ أن الجانبين عادا إلى استئناف أعمال قتالهما الهجومية في الثاني عشر من مايو، فعلى الجانب البريطاني دُفعت المدمرتان "جلاسكو" و"برليانت" لقصف الأهداف الأرجنتينية القريبة من الساحل صباح ذلك اليوم واحتلال موقع الكمين أمام "ستانلي"، في الوقت الذي قرَّرت فيه القيادة الأرجنتينية هي الأخرى استغلال التحسن المؤقت في حالة الطقس لتوجيه ضربة جوية لبعض سفن أسطول قوة الواجب القريبة من "ستانلي" رداً على أعمال القصف البريطانية، فدفعت إلى المنطقة بعد ظهر اليوم ثلاثة تشكيلات كل من أربع طائرات "سكاي هوك" من المجموعة الخامسة بفاصل عشرين دقيقة بين التشكيل والآخر.

وجاء وصول التشكيل الأول في الوقت الذي كان يتم فيه غيار طائرات "سي هارير" في دورية الحماية الجوية، فاقترب ذلك التشكيل من المدمرتين "جلاسكو" و "برليانت" على ارتفاع منخفض عَبْر جزر "فوكلاند" إلاّ أنه تم اكتشافه بواسطة رادار المدمرة "برليانت"، وخصَّصت مهمة الاشتباك معه في البداية إلى صواريخ "سي دارت" إلاّ أن الأخيرة لم تستطع التعامل معها نتيجة الارتفاع المنخفض جدا والسرعة العالية التي اقتربت عليها الطائرات، وعلى أثر ذلك الفشل خصَّص الهدف لصواريخ "سي وولف" على المدمرة "برليانت"، التي نجحت في تدمير أول طائرتين من ذلك التشكيل على مسافة نحو ميل من المدمرة، بينما أصيبت الثالثة بشظايا حطام الطائرتين المنفجرتين وهوت مباشرة في الماء، أمّا الرابعة فقد قصفت "برليانت" إلاّ أن قنابلها أخطأت المدمرة.

وكان حظ التشكيل الثاني أفضل من سابقه فقد نجح في الاقتراب المنخفض من اتجاه قرص الشمس وهاجم المدمرتين قبل أن تطلقا عليه صواريخهما، فقد كان الاقترابُ منخفضاً بالنسبة إلى صواريخ "سي دارت"، بينما لم يستجب نظام "سي وولف" لأمر الإطلاق، وفي الوقت الذي بدأت فيه الرشاشات على ظَهْر المدمرتين تطلق نيرانها أسقطت الطائرات المهاجمة قنابلها فاصطدم ثلاثٌ منها بالماء وارتدت عبر "برليانت" دون أن تصطدم بها، في الوقت الذي اصطدمت قنبلة رابعة بالمدمرة "جلاسكو" ونفذت من الناحية الأخرى فوق مستوى سطح الماء دون أن تنفجر، وعلى الرغم من عدم غرق "جلاسكو" نتيجة لهذا الهجوم إلاّ أنه أدى إلى توقف جميع مصادر القوى بالمدمرة مما وضعها خارج الخدمة وعجَّل بعودتها إلى بريطانيا بعد ذلك.

وعندما اقترب التشكيل "سكاي هوك" الثالث من المنطقة وجد طائرات "سي هارير" تقوم بعمل الدورية فوق الأسطول فقفل عائِداً دون أن يُكمل مهمته، وقبل أن ينتهي ذلك اليوم أضيف إلى رصيد الخسائر البريطانية طائرة عمودية سي كنج فقدها السرب 826 نتيجة لعطل فني في محركها.

وبعد غَرَق المدمرة "شيفلد" وتعطل زميلتها "جلاسكو" لم يعد هناك أي مدمرات في مجموعة القتال الرئيسية مجهزة بصواريخ "سي دارت" صالحة للعمليات سوى المدمرة "كوفنتري" ومن ثمَّ قرَّر الأدميرال "وودوارد" سحب مجموعات كمائن الدفاع الجوي والقصف البحري مؤقتا من أمام شواطئ "فوكلاند" نهار، وهو ما مثَّل بعض النجاح للطيران الأرجنتيني في مهمته على الرغم من الثمن الباهظ الذي دفعه من أجل هذا الإنجاز المحدود.


 



[1] بلاك بك واحد Black Buk One هو الاسم الرمزي لعملية قصف مطار ستانلي بقاذفات فولكان التي اقترحتها قيادة القوات الجوية على مجلس الحرب، فقد أوضحت تلك القيادة للمجلس أنه يمكن استخدام قاذفات فولكان - التي تقرِّر إخراجها من الخدمة في ذلك العام- لقصف مطار ستانلي لحرمان القيادة الأرجنتينية من استخدامه بواسطة مقاتلاتها النفاثة. وقد وافق المجلس على استخدام هذه الطائرات ضد مطار ستانلي عند وصول قوة الواجب إلى محلاتها في منطقة الحظر الكلي لزيادة الضغط على الأرجنتين بعد فشل جهود الوساطة الأمريكية، ولإقناع القيادة الأرجنتينية بجدية التحرك العسكري البريطاني لاستعادة الجزر.

[2] اضطرت القيادة الأرجنتينية إلى سحب الحاملة 25 مايو من منقطة العمليات على أثر عطل فني أصاب محركاتها ومنعها المشاركة في القتال طوال الحرب.