إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / حرب فوكلاند





إغراق بلجرانو وشيفلد
معركة جوس جرين
الإبرار البريطاني بسان كارلوس
الهجوم على الغواصة سانتافي
القتال للجانبين 1 مايو
احتلال رأس الشاطئ
عملية ثلاجة فورتونا
عملية خليج ستورمنس
عملية خليج كمبرلاند

مناطق الحظر البريطانية والأرجنتينية
مسرح حرب فوكلاند
مسرح عمليات فوكلاند
معركة ويرلس ريدج
الاستيلاء على ستانلي
جورجيا الجنوبية "منطقة العمليات"
خط المرتفعات الثاني
جزيرة جورجيا الجنوبية
جزر فوكلاند
سقوط ستانلي
فكرة الغزو الأرجنتيني



حرب عام 1967

المبحث السادس

معركة سان كارلوس، جوس جرين

أولاً: معركة "سان كارلوس"

1.تأمين الإبرار على شواطئ "سان كارلوس"، ليلة 21 مايو(أُنظر شكل الإبرار البريطاني بسان كارلوس)

قبل ثمانية أيام من الإبرار البريطاني على شواطئ "سان كارلوس" دفعت القيادة الأرجنتينية في "فوكلاند" بقوة صغيرة من الفوج الخامس والعشرين لاتخاذ موقع لها في "رأس فاننج Fanning Head "، ودعمتها بمدفعين مضادين للدبابات عيار 106 مم ومدفعي مورتار عيار 81 مم، للسيطرة على "مياه سان كارلوس".وما لبثت أنَّ وصلت إلى المنطقة قوةٌ أكبرُ من الفوج الثاني عشر لدعم القوة السابقة، واتخذ الجميع من مستعمرة "بورت سان كارلوس" ـ الواقعة على مسافة ستة أميال (9.7 كم) قاعدة لهم، وبدأت تلك القوة تتناوب احتلال موقع "رأس فاننج" بثلث قوتها (نحو 20 فرداً)، مع بقاء باقي القوة في المستعمرة.

ولمَّا كان الموقع الأرجنتيني السابق يُهدّد سفنَ المجموعة البرمائية عند اقترابها من "مياه سان كارلوس"، فقد كان على القوات البريطانية الاستيلاء على ذلك الموقع وتأمينه قبل اقتراب السفن من تلك المياه. وعلى ذلك أعدَّت قيادة اللواء الثالث خطة للاستيلاء مبكراً على ذلك الموقع قبل أن تصل السفن إلى المنطقة المهدَّدة، وخُصِّص لتنفيذ هذه العملية المدمرة "انتريم" وطائرتان عموديتان مجهزتان ببواعث حرارية وأجهزة الرؤية الليلية، إحداهما من طراز "وسكس 3" المجهَّزة بالرادار، والأخرى من طراز "وسكس 5"، بالإضافة إلى نحو فصيلة (35 فرداً) من القوات الخاصة ـ مجهزين بأجهزة الرؤية الليلية ومكبِّر صوت ـ يصاحبهم مُترجِم يُجيد الأسبانية.

ونظراً إلى وجود الموقع الأرجنتيني على سفح مرتفعات "رأس فاننج" المطلة على "مياه سان كارلوس"، فقد تحددت منطقة إبرار فصيلة القوات الخاصَّة على الجانب الآخر المتَّصل بالبر، بعيداً عن سمع وبصر القوة الأرجنتينية في ذلك الموقع.

وبدأ تنفيذ تلك العملية ليلاً، قبل وصول سفن المجموعة البرمائية إلى "مياه سان كارلوس" بعدة ساعات، فما أن وصلت المدمرة "انتريم" إلى مسافة أربعين ميلاً (64 كم) من تلك المياه، حتى أقلعت الطائرة العمودية "وسكس 3" حاملة جماعة الإرشاد، وأبرَّتها في المنطقة المحدَّدة، وعادت إلى قاعدتها على مَتْن المدمرة "انتريم" تاركة جماعة الإرشاد في المنطقة لاستطلاعها وإرشاد القوة الرئيسية عند وصولها.

وبعد نحو ثلاث ساعات ـ في الوقت الذي كانت فيه المجموعة البرمائية تقترب من "رأس فاننج"ـ أقلعت الطائرتان العموديتان "وسكس 3" و"وسكس 5" حاملتين باقي فصيلة القوات الخاصة، وأبرَّتها في المنطقة المحددة تحت ستر نيران المدمرة "انتريم"، وفور إنزالها بدأت المجموعة الضاربة للفصيلة البريطانية تتخذ مواقعها على الأرض المرتفعة التي تسيطر على الموقع الأرجنتيني غربها، بينما وضع المترجم مكبَّر الصوت على مسافة مائة متر على جانبها الأيمن.

وما أن أتمَّت الفصيلة اتخاذ مواقعها خلال الظلام حتى اكتشفت ـ بأجهزة الرؤية الليلية ـ تحركَ القوة الأرجنتينية إلى موقع تبادلي آخر على مسافة نحو مائتي متر من موقعها الأصلي الذي انصبَّت عليه نيران المدمرة "انتريم"، فوجَّه المترجم نحوها مكبر الصوت وخاطبها من خلاله معلناً أنه يمثل القوة البريطانية التي يرغب قائدها في تجنب إراقة الدماء، وأكدَّ لهم أن تلك القوة تُحيط بهم، إلا أن الأخيرة لم تتلق رداً على نداء مترجمها، في الوقت الذي لمحت فيه القوة الأرجنتينية تتجه نحوها، ففتحت القوة البريطانية نيرانها على الأرجنتينيين المقتربين، إلاَّ أن الأخيرين لم يردوا على النيران المنهمرة عليهم، فأمر قائد القوة البريطانية جنوده بوقف إطلاق النار.

وما أن بزغ أول ضوء 21 مايو حتى حاول الأرجنتينيون احتلال الأرض المرتفعة وهم يطلقون النَّار على القوة البريطانية التي ردَّت بالمثل، ونجحت في اصطياد العديد منهم، ونادى عليهم المترجم مرة أخرى يطالبهم بالتسليم، فما لبثوا أن لوَّحوا بثلاثة أعلام بيضاء معلنين استسلامهم، وبانتهاء هذه العملية كان الأرجنتينيون قد تكبدوا عشرة قتلى وثلاثة جرحى، فضلاً عن ستة من الأسرى.

وفي الوقت الذي كانت تجري فيه العملية السابقة، كانت هناك قوات بريطانية أخرى لا تزال تنفِّذ خطة الخداع ـ التي سبقت الإشارة إليها ـ لتشتيت جهود الأرجنتينيين وتضليلهم عن مكان وتوقيت الإبرار البحري الرئيسي أطول فترة ممكنة، فبينما كانت المدمرة "جلامورجان" في الشرق تقوم بقصف المواقع الأرجنتينية شمال "ستانلي"، كانت مجموعة أخرى من القوات الخاصة تقوم بإغارة خداعية في منطقة "دارون" و"جوس جرين" تساندهم المدمرة "أردنت" بنيرانها.

2.الإبرار في "سان كارلوس"، 21 مايو  

أدَّت أعمال القتال السابقة إلى تأمين عملية الإبرار، ففي الوقت الذي كانت تجري فيه أعمال الخداع البريطانية وتأمين "رأس فاننج"، كان هناك ستة عشر زورقَ إبرارٍ تتحرك بهدوء أسفل الرأس الأخير حاملة أولى موجات الإبرار من كتيبة المظليين الثانية والكتيبة الأربعين كوماندوز، وفي الساعة 340 صباح 21 مايو (بتوقيت فوكلاند) بدأت أولى قوات هذه الموجة تضع أقدامها على شواطئ "سان كارلوس" متأخرة عن موعدها سبعين دقيقة، إلا أنه كان لا زال لديها ثلاث ساعات ونصف من الظلام لدعم وتأمين مواقعها على الشاطئ، وكانت الفرقاطة "بلايموث" هي الوحيدة التي رافقت زوارق الإبرار السابقة لتقديم المعاونة بالنيران لها إذا أدَّت الحاجة لذلك، إلا أن الإبرار تمَّ في هدوء دون حاجة لنيرانها.

وفور الإبرار على شاطئ "سان كارلوس" لم تقابل كتيبة المظليين الثانية أي مقاومة على الشاطئ، فتحركت بسرعة نحو هدفها، وبدأت في تسلق المرتفعات الجنوبية نحو جبل "وسكس" لمواجهة التهديد الأرجنتيني المحتمل من "جوس جرين"، وبعد سبع دقائق من إبرار الكتيبة الثانية، تمَّ إبرار الكتيبة الأربعين كوماندوز، التي تقدمت شرقاً واتخذت مواقعها الدفاعية على جبال "فرد" شرق "سان كارلوس".وبدأ أفراد كتيبتي الموجة الأولى في حفر مواقعهم على الميول العكسية المواجهة لطرق اقتراب القوات الأرجنتينية إلى منطقة "سان كارلوس"، كما أقاموا نقاط ملاحظة على قمم هذه المرتفعات.

وفور إنزال قوات الموجة الأولى عادت زوارق الإبرار إلى السفن المحملة بالقوات ـ التي كانت ترسو في "مضيق فوكلاند" غرب "رأس فاننج" ـ لنقل وإبرار الموجة الثانية التي كانت تتكون من الكتيبة الخامسة والأربعين كوماندوز، وكتيبة المظليين الثالثة ـ اللتين تأخرتا عن موعد إبرارهما ـ الأولى على شاطئ خليج "أجاكس" (غرب سان كارلوس)، والثانية على شاطئ "بورت سان كارلوس"، وكان إبرار القوات السابقة في هذين الموقعين يسمح بتوسيع منطقة رأس الشاطئ حول الشواطئ الشمالية والجنوبية "لمياه سان كارلوس".

وبعد أن بزغ ضوء النهار بدأت المرحلة الثانية للإبرار البريطاني، حيث بدأت طائرات عمودية السرب 846 من طراز "سي كنج" في رفع المدافع عيار 105 مليمترات وصواريخ "رابير" محلاتها المحددَّة في رأس الشاطئ، وهو ما مثَّل بداية أعمال النقل الجوي المكثفة بالطائرات العمودية التي جرت بعد ذلك، والتي تطلبتها قلة الطرق في جزيرة "فوكلاند الشرقية"، وقبل أن ينتهي ذلك اليوم كانت طائرات عمودية "سي كنج" قد نقلت 407 أطنان من المدافع والاحتياجات، بالإضافة إلى 425 فرداً من السفن الراسية أمام "رأس فاننج" إلى منطقة رأس الشاطئ، بينما قامت الطائرات العمودية الصغيرة من طراز "جازيل" و"سكوت" التابعة للواء الثالث بأعمال الاستطلاع وتوجيه نيران المدفعية، فضلاً عن تأمين طائرات النقل العمودية.

وتكبَّد البريطانيون أول خسائرهم خلال ذلك اليوم بعد أن بدأت أعمال النقل بالطائرات العمودية، فقد تحطَّمت طائرتان عموديتان من طراز "جازيل" وأصيبت أخرى نتيجة لقصور تبادل المعلومات بين الوحدات البرية في رأس الشاطئ وأسراب الطائرات العمودية، التي تعاونها، فبينما كانت إحدى الطائرات العمودية "جازيل" تطير على ارتفاع منخفض شرق مستعمرة "بورت سان كارلوس" ـ في منطقة كان قائدها يظن أنه قد تمَّ تطهيرها بواسطة كتيبة المظليين الثالثة ـ أصابتها نيران القوة الأرجنتينية المنسحبة من تلك المستعمرة وتحطَّمت في المياه المواجهة للمستعمرة.

ولم تمض خمس عشرة دقيقة على تحطم تلك الطائرة العمودية، حتى لحقت بها طائرة عمودية أخرى من الطراز نفسه بنيران الأرجنتينيين، فبينما كانت الطائرة العمودية الأخيرة تقوم بالاستطلاع في منطقة عملها جنوب منطقة الإبرار سمع قائدها طلباً لاستطلاع منطقة "بورت سان كارلوس" ظن أنه موجه إليه، فاتَّجه إلى المنطقة المشار إليها لتقديم المعاونة المطلوبة، إلا أنه سرعان ما أصيبت الطائرة العمودية وتحطمت على أحد التلال المواجهة للمستعمرة.وقبل أن تصل هذه المعلومات إلى قيادة اللواء الثالث كانت هناك طائرة عمودية أخرى تطير في المنطقة نفسها، فأصيبت بعشر طلقات، إلاّ أن قائدها نجح في العودة بها إلى قاعدتها.

وقد أدَّى فقد طائرتين عموديتين من طراز "جازيل" وإصابة أخرى في أول استخدام بريطاني للطائرات العمودية الخفيفة في الحرب إلى اتخاذ قرار متعجل باستبعاد استخدام هذه الطائرات العمودية في مهام توجيه نيران المدفعية والاستطلاع طوال الحرب، واقتصرت مهامها على أعمال المواصلات وإخلاء الجرحى ونقل الأحمال الخفيفة في المناطق المؤمَّنة، ومن ناحية أخرى كثَّفت كتيبة المظليين الثالثة جهودها لتطهير المنطقة المهدَّدة من الأرجنتينيين، إلا أن هؤلاء انسحبوا في اتجاه الشمال الشرقي نحو مستعمرة "دوجلاس"، حيث نقلتهم الطائرات العمودية إلى "ستانلي".

وفور تلقي الكومودور "كلاب" أنباء تأمين رأس الشاطئ الرئيسي، تحركت مجموعة السفن البرمائية (اثنتا عشرة سفينة محملة بالأفراد والأسلحة والإمدادات) من مكان رسوها أمام "رأس فاننج" إلى "مياه سان كارلوس"، ورسى كل من تلك السفن في المكان المحدَّد لها، فبينما رست السفن الكبيرة في المياه العميقة، تقدَّمت سفن الإبرار الصغيرة والعبَّارة "ايروبك فيري" إلى مراسيها في نهاية الطرف الجنوبي "لمياه سان كارلوس".

وقد اختيرت تلك المراسي بعناية لتوفير أفضل حماية طبيعية من الهجوم الجوي، إلا أنه ـ بعد رسو السفن البرمائية ـ لم يعد في "مياه سان كارلوس" مكان آخر لرسو سفن الحماية، ومن ثمَّ كان على الأخيرة البقاء في "مضيق فوكلاند" على مسافة تسمح لها باستخدام أسلحة الدفاع الجوي بكفاءة، مع تخصيص واحدة منها للرسو في مدخل "مياه سان كارلوس" لغلقها في وجه الطائرات الأرجنتينية المقتربة من الغرب.

وخلال بقية اليوم جرت عملية الإنزال والتفريغ بأقصى معدلاتها، واستُخدم في ذلك كافة زوارق الإبرار والطائرات العمودية القادرة على نقل الأفراد والاحتياجات إلى الشاطئ، ممَّا سمح بتكوين نواة لقاعدة إدارية في "خليج أجاكس"، قام بالجهد الرئيسي لبنائها فوج الكوماندوز الإداري، كما سمح باستكمال أعمال الدعم والتأمين على طول خط المرتفعات المحيطة برأس الشاطئ من دون مقاومة من الجانب الأرجنتيني، الأمر الذي يمكن إرجاعه في مجمله إلى نجاح خطة الخداع البريطانية في تحويل أنظار القيادة الأرجنتينية في الجزر عن منطقة "سان كارلوس" حتى اللحظة الأخيرة.

وعلى التوازي مع أعمال الإبرار وبناء رأس الشاطئ بواسطة مجموعة السفن البرمائية واللواء الثالث، دفع الأدميرال "وودوارد" بمجموعة القتال الرئيسية إلى مسافة 130 ميلاً من منطقة الإبرار وأقل من مائة ميل، من "ستانلي" لتوفير الحماية والمعاونة الجوية للقوات البريطانية في منطقة رأس الشاطئ، ومع أول ضوء يوم 21 مايو، بدأت طائرات "سي هارير" أعمال الدورية الجوية على طرق الاقتراب المنتظرة للطائرات الأرجنتينية، بينما أقلعت أولى تشكيلات المقاتلات القاذفة من طراز "هارير GR3" لقصف منطقة انتشار الطائرات العمودية الأرجنتينية غرب "ستانلي".

فقد اكتشفت إحدى جماعات القوات الخاصة ـ القائمة بالاستطلاع خلف الخطوط الأرجنتينية في منطقة "ستانلي" ـ أن الطائرات العمودية الأرجنتينية الموجودة في تلك المنطقة غالباً ما تتواجد ليلاً في منطقة انتشار على مسافة عشرة أميال غرب "ستانلي" أسفل جبل "كنت" لوقايتها من القصف البحري وإغارات الكوماندوز البريطانية، ومن ثم خُصصت طائرتا "هارير GR3" لتدمير الطائرات العمودية الأرجنتينية في منطقة الانتشار السابقة، مع أول ضوء يوم 21 مايو، وأسفر الهجوم، على تلك الطائرات العمودية، عن تدمير طائرة عمودية من طراز "شينوك" واثنتين أخريين من طراز "بوما"، بينما تمكنت من الإفلات طائرة عمودية من طراز "هيو" كانت تستعد للإقلاع عندما بدأ الهجوم، أمّا الطائرتان البريطانيتان فقد أصيبت إحداهما بثلاث طلقات من الدفاع الجوي بالمنطقة، إلا أنها تمكنت من العودة إلى الحاملة "هيرمس".

ولم يكن حظ تشكيل "الهارير" الثاني ـ الذي أقلع بعد ساعة من التشكيل الأول لتقديم المعاونة الجوية في منطقة الإبرار ـ مثل سابقه، فقد اضطر قائد التشكيل للعودة لعطل فني، فكُلف قائد الطائرة الثانية باستطلاع منطقة "بورت هاورد" على الشاطئ الغربي "لمضيق فوكلاند"، إلا أن طائرته أصيبت بصاروخ "بلو بايب" أثناء قيامه بالاستطلاع على ارتفاع منخفض، واضطر الطيار للقفز بالمظلة ووقع في الأسر.

وفي الوقت الذي كانت تجري فيه أعمال القتال الجوية السابقة، أقلعت من جزيرة "أسنشن" طائرة "نمرود" من السرب 206 في أولى ساعات الصباح لاستطلاع جنوب الأطلسي ومراقبة الأسطول الأرجنتيني في تلك المنطقة ضاربة رقماً قياسياً جديداً في الطيران لأبعد مدى في تلك الطلعة التي قطعت فيها مسافة 8433 ميلاُ (13636كم2)

وبنهاية اليوم الأول للعملية "ستون" كان قد تمَّ تأمين رأس الشاطئ ضد التهديدات البرية الأرجنتينية، إلا أنه كان أقل تأميناً ضد الهجمات الجوية.

وعلى الجانب الأرجنتيني جاء رد فعل قيادة الجنرال "منديز" في "ستانلي" بطيئاً، فعلى الرغم من التقارير التي تلقتها تلك القيادة عن التحركات البحرية البريطانية إلى منطقة "سان كارلوس"، وحتى عندما تلقت أول بلاغ من قائد القوة الأرجنتينية التي كانت في مستعمرة "بورت سان كارلوس" عن دخول سفن الإبرار البريطانية "مياه سان كارلوس"، لم تصدق ما جاء في ذلك البلاغ ـ على ضوء الدراسة التي سبق إعدادها والتي استخلصت استحالة الإبرار في تلك المنطقة ـ إلا أن القيادة البحرية في الجزيرة رأت ضرورة التأكد من تلك المعلومات، فأرسلت إحدى طائراتها من طراز "أير ماكي" المتمركزة في مطار "ستانلي" بقيادة الملازم "كريبا".

وسرعان ما وجد ذلك الطيار نفسه أمام مجموعة سفن التأمين والمساندة خارج "مياه سان كارلوس"، فهاجم الفرقاطة "أرجنوت" بالمدافع والصواريخ، فجُرح ثلاثة أفراد من طاقمها بجروح خطيرة وأصاب الفرقاطة بإصابات بسيطة، ولم يسمح ظهوره المفاجئ على ارتفاع منخفض قريباً من الفرقاطة البريطانية باستخدام صواريخها من طراز "سي كات" فاشتبكت معه بمدافعها المضادة للطائرات، إلا أن الطيار الأرجنتيني عاد بطائرته سالماً إلى مطار "ستانلي".

ولم يمض وقت طويل على عودة الملازم "كريبا" بطائرته إلى "ستانلي" حتى بدأت طائرات "بوكارا" المروحية في الظهور في منطقة "سان كارلوس" بعد ساعتين من بزوغ أول ضوء ذلك اليوم، وبدأت في الهجوم على السفن البريطانية بالرشاشات، إلا أنه تمَّ صدها جميعاً بواسطة نيران المدافع المضادة للطائرات في تلك السفن، في الوقت الذي تمكنت فيه إحدى جماعات القوات الخاصة في منطقة "جوس جرين" من إسقاط إحدى تلك الطائرات أثناء مرورها فوقها بواسطة صاروخ ستنجر محمول على الكتف.

ولم تكن الطائرات الأرجنتينية من طرازي "أير ماكي" و"بوكارا" ـ المتمركزة في مطارات "فوكلاند" ـ تمثل تهديداً حقيقياً للسفن البريطانية في منطقة "سان كارلوس"، فقد كان ذلك التهديد يتمثل في طائرات القتال المتمركزة في المطارات الجنوبية للأرجنتين ـ وخاصة طائرات "سوبر اتندار" المسلحة بصواريخ "إكسوست" ـ والتي كان على مجموعة سفن الحماية والمساندة مواجهتها بكل ما تعانيه من قصور في منظومة الدفاع الجوي، فضلاً عن التأثير السلبي للمرتفعات المحيطة بمضيق "فوكلاند" على الكشف الراداري للسفن البريطانية في المنطقة[1].

وفي حوالي العاشرة والنصف صباح ذلك اليوم بدأت سفن القتال البريطانية في مضيق "فوكلاند" تواجه ذلك التهديد عندما أخذت طائرات القتال الأرجنتينية ـ القادمة من الغرب ـ تتدفق على المنطقة في سلسلة من الهجمات الجوية العنيفة لمدة خمس ساعات، وشارك في هذه الموجات الهجومية طائرات "سكاي هوك" من المجموعتين الرابعة والخامسة، وسرب طيران البحرية الثالث، بالإضافة إلى طائرات "داجر" من المجموعة السادسة وطائرات "ميراج" من المجموعة الثامنة، واستهدفت هذه الموجات مجموعة سفن الحماية والمساندة السبع في مضيق "فوكلاند" والتي كانت تتكون من ثلاث مدمرات (انتريم، برليانت، بروودسورد)، وأربع فرقاطات (أردنت، أرجنوت، بلايموث، يارموث).

وخلال موجات الهجوم الجوي السابقة ـ التي مثَّلت أولى مراحل الهجوم في ذلك اليوم ـ فَقَدَ الأرجنتينيون أربع طائرات، أسقطت "بروودسورد" منها طائرة "ميراج" جنوب مدخل "مياه سان كارلوس"، كما أسقطت إحدى دوريات المقاتلات البريطانية طائرة "بوكارا"، وقبل نهاية هذه المرحلة أسقطت دورية أخرى من مقاتلات "سي هارير" طائرتي "سكاي هوك" كانتا تهاجمان الفرقاطة "أردنت" بعد مطاردة طويلة عبر جزيرة "فوكلاند الغربية".

وخلال الهجمات الجوية السابقة حاول الطيارون الأرجنتينيون التغلب على صواريخ الدفاع الجوي للسفن البريطانية بالاقتراب منها بسرعات عالية وعلى ارتفاع منخفض جداً، مما كان يؤدي في كثير من الأحيان إلى عدم انفجار قنابلهم زنة ألف رطل، وقد تعرَّضت كلٌ من المدمرتين "انتريم" و"بروودسورد" والفرقاطتين "أردنت" و"أرجنوت" للهجوم عليها بالقنابل والمدافع، وكانت المدمرة "بروودسورد" هي الوحيدة التي تعرضت للهجوم بمدافع الطائرات فقط، ونتيجة لتلك الهجمات أُصيبت السفن الثلاث الأخيرة إصابات شديدة، بينما أُصيبت المدمرة "انتريم" بأضرار بالغة نتيجة لإصابتها بقنبلة اخترقت مؤخرتها.

ويبدو أن مخابرات القيادة الأرجنتينية في "بوينس أيرس" لم تعلم في البداية بوجود قوة رئيسية من سفن الإبرار في مراسي "سان كارلوس"، فلم تتعرض تلك السفن لأي تهديدات حقيقية خلال المرحلة الأولى للهجوم، وهو أمر حاولت القيادة الأرجنتينية تصحيحه عندما بدأت المرحلة الثانية بعد ظهر ذلك اليوم، إلا أن المرة الوحيدة التي نجحت فيها طائرات القتال الأرجنتينية في اختراق دفاعات سفن القتال البريطانية والوصول إلى "مياه سان كارلوس"، لم يكن الحظ فيها حليفها، فلم تُصب أيٌّ من سفن الإبرار في تلك المياه.

وخلال المرحلة الثانية التي استمرت نحو ساعة تقريباً، استخدم فيها الطيارون المهاجمون تكتيكات أفضل مع تركيز الجهود أثناء الهجوم، كما عدَّلت سفن القتال البريطانية في مضيق "فوكلاند" أوضاعها لتحقيق أداء أفضل لمنظومة الدفاع الجوي بتلك السفن، والتي دُعمت بزيادة أعداد الطائرات في دوريات المقاتلات، ممَّا زاد من فعالية الدفاع الجوي البريطاني نسبياً في المنطقة وأدَّى إلى إسقاط ست طائرات أخرى بواسطة دوريات المقاتلات.

وعندما بدأت أولى موجات الهجوم خلال المرحلة الثانية، تلقت الفرقاطة "أرجنوت"، التي كانت تسد طريق الاقتراب إلى "مياه سان كارلوس"، صدمة الهجوم الأولى، فبينما كان طاقم الفرقاطة لا يزال يزيل أثار هجمات المرحلة السابقة، اقتربت ست طائرات "سكاي هوك" من الغرب عَبْر جزيرة "فوكلاند الغربية"، وفوجئ طاقم "أرجنوت" بظهور تلك الطائرات فوق مرتفعات الضفة الغربية لمضيق "فوكلاند".وعندما بدأت هذه الطائرات هجومها على المدمرة، نجحت دفاعات الأخيرة في إسقاط إحدى تلك الطائرات، غير أن السفينة أُصيبت بقنبلتين انفجرت إحداهما في المخزن الأمامي لصواريخ "سي كات"، وأدَّت إلى انفجار بعض الصواريخ وذخائر مدفعية الدفاع الجوي، بينما أصابت الثانية غرفة الغلايات دون أن تنفجر، إلا أنها أدَّت إلى توقف القوى المحركة بالفرقاطة، وجرها داخل "مياه سان كارلوس" تمهيداً لعودتها مبكراً إلى إنجلترا.

وفي الوقت الذي هُوجمت فيه الفرقاطة "أرجنوت" كانت المدمرة "برليانت" تتعرض أيضاً للهجوم، غير أن إصابتها كانت أقلَّ من سابقتها لعدم تعرضها للهجوم بالقنابل، إلا أن طلقات مدافع الطائرات اخترقت جدرانها الرقيقة وأدَّى انفجارها إلى قطع الكابلات المتصلة بمنظومة صواريخ "سي وولف" وأجهزة الكمبيوتر الأخرى، كما تعطَّل جهاز السونار وجُرح بعض الأفراد في غرفة العمليات.

ولم يكن حظ الفرقاطة "أردنت" أفضل من سابقتها، فعلى الرغم من إفلاتها من موجة الهجوم السابقة، إلا أن حظها الحسن لم يستمر طويلاً، فبعد قيامها بتقديم المعاونة بالنيران لجماعة القوات الخاصة في منطقة "جوس جرين" تلقت الفرقاطة الأمر بالانضمام إلى مجموعة سفن القتال خارج "مياه سان كارلوس"، فاتخذت مكانها على بعد ميل واحد من الفرقاطة "يارموث" في نهاية الطرف الجنوبي لمواقع سفن القتال الأخرى في مضيق "فوكلاند"، وقد وضعها ذلك الموقع في طريق طائرات القتال الأرجنتينية التي بدأت تقترب من اتجاه الجنوب الغربي.

وسرعان ما تعرضت الفرقاطة لثلاث هجمات منفصلة من طائرات "داجر" و"سكاي هوك"، وقد أمسكت بها الطائرات الأولى في وقت أصيب فيه نظام صواريخ "سي كات" بالسفينة بعُطل لم يُعرف سببه، ولم يكن لديها وسيلة أخرى للدفاع عن نفسها سوى مدافعها عيار 20 مم، إلاّ أن ذلك لم يكن كافياً بطبيعة الحال، فقد كان الطيارون الأرجنتينيون يقومون بالهجوم بشكل أفضل ممَّا كان عليه الحال خلال مرحلة الهجوم الأولى صباح ذلك اليوم، فأصيبت الفرقاطة بقنبلتين انفجرت إحداهما داخل حظيرة الطائرات العمودية وأدت إلى تدمير الطائرة العمودية وقاذف الصواريخ الذي كان فوق الحظيرة، فضلاً عن انفجار أحد الطوربيدات ومقتل أربعة من طاقم الفرقاطة.أما القنبلة الثانية فقد استقرت في غرفة المحركات المساعدة دون أن تنفجر.

وعلى أثر الهجوم السابق تلقت الفرقاطة الأمر بالتوجه شمالاً للاحتماء بين سفن القتال الأخرى، غير أنها سرعان ما تعَّرضت للهجوم مرتين أخريين بطائرات "سكاي هوك"، وأصيبت مؤخرتها إصابات بالغة، وبلغ عدد القنابل التي أصابتها سبع قنابل انفجرت كلُّها، وأدَّت إلى اشتعال النيران فيها ومقتل اثنين وعشرين من طاقمها، وعندما وجد قائدها أن الفرقاطة مهدَّدة بالغرق مرة واحدة، أمر طاقمها باخلائها، وما لبثت أن عجلت الانفجارات والنيران بغرقها جنوب غرب مدخل "مياه سان كارلوس" بنحو سبعة أميال ونصف الميل.

وبنهاية اليوم الأول للعملية "سَتُون" كان قد تمَّ إنزال ثلاثة آلاف فرد وألف طن من الأسلحة والمعدات ومواد الإمداد بأمان على شواطئ "سان كارلوس" دون تدخل حقيقي ضد عملية الإبرار، نظراً إلى تركيز الهجمات الجوية الأرجنتينية ضد مجموعة سفن الحماية والدعم في مضيق "فوكلاند"، والتي دفعت وحدها ثمن هذه الحماية، فقد أسفرت الهجمات الجوية الأرجنتينية خلال ذلك اليوم عن إغراق الفرقاطة "اردنت"، ووضع كل من المدمرة "انتريم" والفرقاطة "أرجنوت" خارج الخدمة وفي داخل كل منهما قنبلة معرَّضة للانفجار، فضلاً عن إصابة المدمرتين "برليانت" و"بروودسورد" إصابات شديدة، ومقتل ثلاثةٍ ضباطٍ وأربعةٍ وعشرين من الرتب الأخرى، بالإضافة إلى أسر أحد الطيارين.

وإلى جانب الخسائر البحرية السابقة، فقد اللواء الثالث طائرتين عموديتين من طراز "جازيل" بطياريهما، كما فقد السرب الأول إحدى طائراته من طراز "هارير GR3"، وكلها بنيران القوات البرية الأرجنتينية.

وعلى الجانب الآخر قامت القوات الجوية وطيران البحرية الأرجنتينية خلال ذلك اليوم بنحو ستين طلعة هجومية من القواعد الجنوبية في الوطن الأم، فضلاً عن بعض الطلعات المحدودة بواسطة الوحدات الجوية المتمركزة في مطارات "فوكلاند".وخلال هذه الطلعات فَقَدَ الأرجنتينيون اثنتي عشرة طائرة بواسطة المقاتلات وعناصر الدفاع في منطقة الإبرار.

وعلى الأرض تم تدمير ثلاث طائرات عمودية أرجنتينية بواسطة "الهارير GR3"، وإصابة بعض طائرات "بوكارا" بواسطة نيران الفرقاطة "أردنت".أما الخسائر البشرية الأرجنتينية فتمثلت في مقتل خمسة من طياري القتال وعشرة أفراد من القوات البرية، وأسر ستة آخرين[2].

وعلى الصعيد البري قامت القيادة الأرجنتينية في "فوكلاند" ببعض المحاولات الفاشلة لدعم قواتها في "جوس جرين" لتمكينها من إحباط الإبرار البريطاني أو عرقلته على الأقل.فعلى ضوء المعلومات الناقصة التي تلقاها الجنرال "منديز"، كان تقديره الأوَّلي أن البريطانيين أنزلوا كتيبتين على شاطئ "سان كارلوس"، وهو ما اعتبره إبرار ثانوي لجذب اهتمامه نحو تلك المنطقة، بينما يتم الإبرار الرئيسي بالقرب من "ستانلي" فيما بعد، ومن ثم ظل متمسكاً بالتجميع الرئيسي لقواته في منطقة "ستانلي".

وكانت أولى محاولات القيادة الأرجنتينية لدعم قواتها في "جوس جرين" هي دفع مدفعين عيار 105 مليمتراً إلى تلك القوات على متن إحدى سفن خفر السواحل ليلاً، غير أن بعض طائرات "الهارير" من السرب 800 اكتشفت السفينة البطيئة صباح اليوم التالي قبل وصولها إلى هدفها وهاجمتها بمدافعها وأصابتها إصابات بالغة لم تسمح لها باستكمال مهمتها، فتم إفراغ حمولتها ونقلها بالطائرات العمودية إلى "جوس جرين" التي دُعمت بمدفعين إضافيين جرى نقلهما جواً في وقت لاحق، ووصلت هذه المدافع إلى هدفها في الوقت المناسب لتشترك في القتال ضد كتيبة المظلات الثانية خلال معركة "جوس جرين".

وفي الوقت الذي كانت فيه القوات البريطانية مستمرة في بناء رأس الشاطئ، كان الجنرال "جالتييري" يضغط على "منديز" ليفعل شيئاً حيال ذلك، إلا أن الأخير أوضح له أنه لا يستطيع دفع قواته إلى "سان كارلوس" لقلة وسائل النقل المتاحة لديه، فضلاً عن أن الخطة الدفاعية ـ التي صدقت عليها القيادة الأرجنتينية في "بيونس أيرس" ـ بُنيت على أساس تركيز الجهود في منطقة "بورت ستانلي".

وطلب الجنرال "منديز" من القيادة الأرجنتينية العامة دفع لواء قرطبة (فوج مدعم)[3] جواً من قاعدته في الوطن إلى مطار "جوس جرين"، غير أن الجنرال "جالتييري"، رفض هذا الطلب خوفاً من اعتراض المقاتلات البريطانية لطائرات النقل، وعرض بدلاً من ذلك دفع قوات اللواء على دفعات صغيرة تسمح لطائرات النقل بالتسلل ليلاً إلى مطار "ستانلي"، ثم تقوم الطائرات العمودية بنقلها بعد ذلك إلى "جوس جرين"، إلاّ أن الجنرال "منديز" وجد أن عملية النقل الجوي إلى "ستانلي" بالشكل المقترح ستستغرق عشرة أيام، فضلاً عن أن ما تبقى لديه من طائرات عمودية لن يسمح بنقل قوات اللواء إلى "جوس جرين" في وقت مناسب، ومن ثمَّ استُبعدت تلك الفكرة.

3.احتلال وتأمين رأس الشاطئ، 22-27 مايو (أُنظر شكل احتلال رأس الشاطئ)

إزاء عجز الأرجنتينيين عن القيام بعمل بريّ فعَّال لإيقاف بناء وتدعيم رأس الشاطئ البريطاني في منطقة "سان كارلوس"، لم يكن أمامهم سوى شن سلسلة من الهجمات الجوية على القوات البريطانية في تلك المنطقة، استمرت ستة أيام (من 22 إلى 27 مايو)، نفَّذوا فيها اثنتي عشرة غارة مستقلة، شارك فيها نحو مائة وثلاثين طائرة.

وخلال هذه الفترة تخلى الأرجنتينيون عن تكتيكاتهم الجوية السابقة التي أصابتهم بخسائر جسيمة في أُولى أيام الإبرار، ولجأوا إلى أسلوب جديد هو اقتراب طائراتهم في أقسام منفصلة كل طائرتين على ارتفاع منخفض جداً، مع استغلال الجزر والهيئات الطبيعية لستر اقترابها من أهدافها وعدم كشفها مبكراً برادارات السفن البريطانية، كما كثر استخدامهم لطائرات الإمداد بالوقود جواً، ممَّا سمح بزيادة فترة بقاء طائراتهم في الجو ومكَّن الطياريين الأرجنتينيين من تفادي المقاتلات البريطانية والاقتراب من منطقة رأس الشاطئ من اتجاهات أقل تعرضاً للنيران المعادية، ودَعَّم أعمال قتالهم محطات الرادار الأرجنتينية في "فوكلاند" ـ التي تَحَسَّن أداؤها خلال هذه الفترة ـ فكانت ترصد محلات دوريات المقاتلات البريطانية وتبلّغها للطائرات المقتربة، بينما كانت طائرات النقل النفاثة تقوم باستنزاف مجهود المقاتلات البريطانية وجذبها بعيداً عن منطقة "سان كارلوس" بالاقتراب من الجزر على ارتفاع عالٍ، وعندما توجه إليها المقاتلات البريطانية كانت تستدير عائدة بسرعة عالية بعيداً عن تلك المقاتلات.

وخلال تلك الفترة تركَّزت الهجمات الجوية الأرجنتينية على السفن البريطانية في مياه ومراسي "سان كارلوس"، إلا أن نيران الأسلحة المضادة للطائرات بالمنطقة لم تمكنها إلا من إصابة ثلاث سفن (سفينتي الإبرار "سير جلاهاد" و"سير لانسلوت"، والفرقاطة "أنتلوبي").وأُصيبت كل من الأوليين بقنبلة لم تنفجر في الرابع والعشرين من مايو، بينما أصيبت الثالثة قبل ذلك بيوم واحد ـ بعد وصولها إلى المنطقة بأربع ساعات ـ بقنبلة من إحدى طائرات "سكاي هوك" اخترقت جانبها الأيمن واستقرت فوق غرفة المحركات دون أن تنفجر، وفي اليوم التالي تعرضت الفرقاطة "أنتلوبي" لهجوم جديد من طائرة "سكاي هوك" أخرى وضعت قنبلة ثانية لم تنفجر في جانبها الأيسر، غير أنها أدَّت إلى مقتل أحد أفراد الطاقم وجرح اثنين آخرين، وعندما جرت محاولة تأمين هذه القنبلة انفجرت وأدَّت إلى اشتعال النيران في الفرقاطة وتفجير مخزن صواريخ "سي كات"، ممَّا تسبَّب في شَطْر الفرقاطة وغرقها بعد أن تمَّ إخلاء طاقمها الذي قُتل وجرح منه عددٌ كبيرُ من الأفراد.

وإزاء الهجمات الجوية الأرجنتينية منذ اليوم الأول للإبرار، اضطر الأدميرال "وودوارد" إلى دفع حاملتي طائراته نحو خمسين ميلاً، في اتجاه منطقة "سان كارلوس" في بعض الأيام، كما دفع المدمرتين "كوفنتري" و"بروودسورد" إلى شمال جزيرة "ببل" لعمل كمين صواريخ في طريق اقتراب الطائرات الأرجنتينية القادمة من الوطن الأم، ولما كانت الفرصة لم تُتح لاشتباك المدمرتين بصواريخهما حتى مساء الرابع والعشرين من مايو، فقد تساءل قائداهما عمَّا إذا كان من الأنسب العودة والانضمام إلى مجموعة القتال الرئيسية، إلا أن الأدميرال "وودوارد" رأى استمرار بقائهما في المنطقة يوماً آخر، فقد قَدَّر احتمال تكثيف الأرجنتينيين هجماتهم الجوية في اليوم التالي (25 مايو) الذي يوافق العيد الوطني للأرجنتين.

وكان القائد البريطاني مُحقاً في تقديره، فقد خطَّط الأرجنتينيون لتوجيه ضربة قاسية للأسطول البريطاني شمال جزر فوكلاند، وكان أبرزُ أهدافِهم في ذلك اليومِ هما مُدمرتا الكمين أمام جزيرة "ببل" وإحدى حاملتي الطائرات وسط مجموعة القتال الرئيسية شمال جزيرة "فوكلاند الشرقية"، وإن كان الطيران الأرجنتيني افتتح أعمال قتاله في ذلك اليوم بسلسلة من الهجمات الجوية في منطقة الإبرار، ثُم جاء الدور على المدمرة "كوفنتري" بعد ظُهر اليوم نفسه، فأصابتها طائرتا "سكاي هوك" بقنبلتين مدمرتين زنة كل منهما ألف رطل، اخترقت الأولى جانبها الأيسر وانفجرت داخلها، وأطاح انفجار الثانية بغرفة عمليات المدمرة وقتل عشرة أفراد من طاقمها في غرفة المحركات الأمامية، وسرعان ما بدأت المدمرة تميل بشدة على جانبها الأيمن، فأسرع طاقمها بمغادرتها قبل غرقها، وبعد نحو ساعة من الهجوم عليها انقلبت السفينة وغاصت في الْيَمِّ.

ولم يمض وقتٌ طويلٌ على غرق المدمرة السابقة حتى أقلعت طائرتا "سوبر اتندار" من قاعدة "ريو جاليجوس" وبكل منهما صاروخ "إكسوست" مستهدفة أحد الأهداف البريطانية الثمينة المتمثلة في حاملتي الطائرات "هيرمس" و"انفنسبل"، وبعد إعادة تزويدهما بالوقود جواً، اتجهت الطائرتان إلى نقطة شمال جُزر "فوكلاند" بنحو مائة وعشرة أميال (177,9 كم)، ثم استدارتا ناحية الجنوب، وسرعان ما اكتشف الطياران على شاشتي الرادار مجموعة القتال الرئيسية على مسافة سبعين ميلاً (113 كم) شمال الطرف الشمالي الشرقي لجزيرة "فوكلاند الشرقية".

وفي نحو الساعة 1630، وعلى مسافة 30 ميلا (48.5 كم) شمال موقعها في النطاق الخارجي لمجموعة القتال الرئيسية اكتشفت الفرقاطة "أمبوساد" الطائرتين المقتربتين على شاشة رادارها طراز 992، وأنذرت باقي الأسطول في الحال، فأطلقت معظم سفن القتال قذائف الرقائق المعدنية “Shaff” للتشويش على رادارات العدو المقترب والصواريخ التي يحملها، إلاَّ أنَّ سفينة الحاويات الكبيرة "أتلانتك كونفيور" التي كانت على نحو ميلين (3كم) يمين الفرقاطة "أمبوساد" لم تكن مزودةً بمثل تلك الوسائل الدفاعية، فما أن أطلق الطياران الأرجنتينيان صاروخيهما في اتجاه سفن القتال حتى انحرف أحدهما نحو "أتلانتك كونفيور"، بينما ضلَّ الآخر اتجاهه.

وسرعان ما اندلعت النيران في السفينة الضخمة على أثر الانفجار الذي أطاح بجزء من هيكلها الأيسر، وعندما فقدت السيطرة على النيران غادرها طاقمها بعد أن فقد اثني عشر رجلاً، وما لبثت النيران المشتعلة أن أتت على آلاف الأطنان من مواد الإمداد بالإضافة إلى ثلاث طائرات عمودية "شينوك" وست أخريات من طراز "وسكس"، الأمر الذي تسبَّب في مشكلة إدارية لقيادة اللواء الثالث، وخاصةً في مجال النقل الجوي، فقد كان مخططاً إبحارُ السفينة المحترقة إلى "سان كارلوس" في تلك الليلة.

وبَعْدمَا يقربُ من يومين تراجعت فيهما الهجمات الجوية الأرجنتينية، نشطت تلك الهجمات مرة أخرى مساء السابع والعشرين من مايو لأول مرة ضد القوات البرية البريطانية في رأس الشاطئ، فقصف تشكيل "سكاي هوك" مركز قيادة اللواء الثالث بقنابل مزودة بمظلات فرملية إلا أنها سقطت بالقرب منه فقتلت جنديين وجرحت أربعةً آخرين، وقصف تشكيل أرجنتيني آخر القوات البريطانية في خليج "أجاكس" ـ على الضفة المقابلة "لسان كارلوس" ـ بأربع قنابل مماثلة، قتلت إحداهما أربعةَ جنودٍ وجرحت عشرين آخرين (مات أحدهم فيما بعد)، وكانت معظم الخسائر من أفراد الكتيبة 45 كوماندوز، غير أن الوحدة الطبية ـ التي لم تميز نفسها بعلامة الصليب الأحمر لوجودها وسط قوات أخرى ـ نجت بأعجوبة، لعدم انفجار القنابل الثلاث التي سقطت عليها مباشرةً، وعلى أثر هذا الهجوم تحطمت إحدى طائرات "سكاي هوك" بواسطة نيران الدفاعات المضادة للطائرات في "سان كارلوس"، إلاّ أن طيارها قفز بالمظلة.

وعلى الجانب الآخر كان نجاح المقاتلات البريطانية في إحباط الهجمات الجوية الأرجنتينية محدوداً، فمن الغارات الجوية الأرجنتينية الاثنتي عشرة التي تمَّ شنُّها في هذه الفترة، لم تصد تلك المقاتلات إلا ثلاثاً منها.

وفي الوقت الذي كانت فيه القوات البريطانية عاكفةً على دعم وتأمين أوضاعها في رأس الشاطئ استعداداً للخطوة التالية كانت طائرات الاستطلاع البحري من طراز "نمرود" المتمركزة في جزيرة "أسنشن" تقوم بدوريات مكثفة ولفترات طويلة لاستطلاع المسرح البحري جنوب الأطلسي ومتابعة التحركات الأرجنتينية فيه، بينما كانت طائرات "نبتون" و"بوينج 707" الأرجنتينية تتابع التحركات البحرية البريطانية في المسرح عن بعد خوفاً من اعتراضها بواسطة مقاتلات "الهارير" البريطانية المتمركزة على مَتْن حاملتي الطائرات، وفي الخامس والعشرين من مايو تمركزت بعض طائرات "الفانتوم" التابعة للسرب التاسع والعشرين بجزيرة "أسنشن" للدفاع الجوي عن القوات البريطانية في الجزيرة والمياه المحيطة بها.

ومع تزايد حِدَّة القتال خلال هذه الفترة بدأت القوات الجوية الأرجنتينية تُعاني من العجز في ذخائرها الحيوية وصعوبة تدبيرها من الخارج نتيجة للحظر الأوروبي والأمريكي المفروض عليها، وعندما حاولت الالتفاف حول قرار الحظر باستيراد احتياجاتها من الذخائر عن طريق إحدى دول أمريكا اللاتينية التي أبدت استعداداً لمساعدتها، ظل ذلك الحظرُ عَقَبةُ كؤوداً أمام تلك الجهود، مثُلَما حدث عندما احتجزت الولايات المتحدة الأمريكية إحدى طائرات الشحن من طراز "بوينج 707" تابعة للإكوادور ـ كانت تحمل شحنة من القنابل المصنَّعة في إسرائيل ـ عندما هبطت للتزوُّد بالوقود في مطار "كيندي" بنيويورك وهي في طريقها إلى الأرجنتين، وعندما عرضت "بيرو" مساعدات عسكرية على الأخيرة، احتجزت السلطات الفرنسية إحدى سفنها التي كانت تحمل على مَتْنِها ثمانية صواريخ "إكسوست"، ثم سمحت لها بمغادرة ميناء "الهافر" يوم 20 مايو بعد مصادرة حمولتها من تلك الصواريخ.

وعلى عكس الأرجنتين لم تكن القوات البريطانية تعاني عجزاً في ذخائرها أو معداتها، فقد كانت مصانعها فضلاً عن المصانع الأمريكية تُلبِّي احتياجاتها مع إجراء التعديلات اللازمة عليها طبقاً لنتائج الاستخدام الميدانيّ لها، كما سمح لها حجمُ أسطولها الكبير وتنوّع وحداته باستيعاض معظم خسائرها في سفن القتال، بينما كانت القيادة الأرجنتينية عاجزة عن استيعاض خسائرها البحرية أو الجوية.

وخلال هذه الفترة (22-27 مايو) خسر الأرجنتينيون إحدى عشرة طائرة منها خمسٌ بواسطة المقاتلات وأسلحة الدفاع الجوي البريطانية في منطقة "سان كارلوس"، والباقي بواسطة نيران الأرجنتنيين أنفسِهم في الجزُر، وفي مقابل هذه الخسائر تكَّبِد الأسطول البريطاني خسائر جسيمة ـ نتيجة للهَجمَاتِ الجوية الأرجنتينية تمثَّلت فيما يلي:

أ. إغراق المدمرة "كوفنتري".

ب. إغراق الفرقاطة "أنتلوبي".

ج. إغراق سفينة الحاويات "أتلانتك كونفيور"

أمّا الخسائُر الجويةُ البريطانيةُ في تلك الفترة فتمثلت فيما يلي:

أ. تدمير طائرة "سي هارير" (حادث).

ب. تدمير ثلاث طائرات عمودية "شينوك".

ج. تدمير ست طائرات عمودية "وسكس".

وعلى الرغم من الخسائر البريطانية السابقة، وفَقْد آلاف الأطنان من مواد الإمداد مع غرق السفينة "أتلانتك كونفيور" فإن القوات البريطانية نجحت في تثبيت أقدامها في رأس الشاطئ ودعم أوضاعها وتأمينها، وبنهاية هذه الفترة كان هناك نحو خمسة آلاف فردٍ وأكثر من عشرةِ آلاف طنٍ من مواد الإمداد في رأس الشاطئ، ينتظرون وصول اللواء الخامس للتحرُّك نحو الأهداف المخطَّطة التالية.




[1] في غياب نظام الإنذار المحمول جواً (AEWS) ورادارات الرؤية السفلى (Look Down Radar) في مقاتلات الهارير ووجود حاملتي الطائرات هيرمس وأنفنسيل بعيداً عن منطقة الإبرار لتجنب الهجوم عليهما بصورايخ إكسوست، اعتمد نظام الإنذار الجوي في منطقة الإبرار على رادارات سفن الحماية والمساندة الراسية في مضيق فوكلاند، إلا أن الجبال المحيطة بذلك المضيق كانت تحد من قدرة تلك الرادارات على اكتشاف الطائرات الأرجنتينية في الوقت المناسب، كما أن الأعداد المحدودة من مقاتلات الهارير لم تكن تسمح بالتواجد في الدوريات الجوية طوال الوقت، وحتى عندما تتواجد تلك المقاتلات في الجو لم يكن مركز السيطرة على المدمرة انتريم قادراً على توجيهها على الطائرات المقتربة نتيجة لإعاقة الجبال المحيطة للكشف الراداري، وكان كل ما يستطيع هذا المركز هو إبلاغ المقاتلات البريطانية عن الهجمات الجوية الأرجنتينية ومكان هذه الهجمات وتوقيت مغادرة الطائرات الأرجنتينية لمنطقة الهجوم.

[2] تشير بعض المصادر الغربية إلى أن الأرجنتين فقدت في ذلك اليوم ثلاث عشرة طائرة قتال (طائرة ميراج، 5 طائرات سكاي هوك، 5 طائرات داجر، وطائرتين بوكارا، أسقطت المقتلات البريطانية منها تسع طائرات (5 طائرات بواسطة السرب 800، 4 طائرات بواسطة السرب 801)، بينما أسقطت سفن القتال ثلاث طائرات، كما أسقطت أحدى جماعات القوات الخاصة طائرة واحدة.

[3] كان هذا اللواء يمثل الاحتياطي الإستراتيجي الأرجنتيني بالنسبة إلى فوكلاند.

[4] عدم قدرة القوة الجوية على متن حاملتي الطائرات هيرمس وانفسبل على تحقيق السيطرة الجوية في منطقة فوكلاند، كما كان مأمولاً، إضافة إلى غرق الطائرات العمودية، التي كان يعتمد عليها قائد اللواء الثالث في نقل قواته.