إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية عسكرية / الحرب في أنجولا






مناطق تمركز الجبهات المتصارعة



المبحث الثاني

المبحث الثاني

صراع القوى في أنجولا

على الرغم من أن عدداً من القوى شاركت في الصّراع والحرب في أنجولا، إلاّ أنه يمكن التمييز بين بعض القوى الرئيسية، التي تمثل أطراف الصراع والحرب. وتوضيح طبيعة الصراع ومسارات الحرب بينهم، على النحو الآتي:

أولاً: أطراف الصراع (اُنظر خريطة مناطق تمركز الجبهات المتصارعة)

تنقسم أنجولا إلى ثلاث جماعات عرقية كبرى، تشكل 80%، من سكانها. وقد مثلت الحركات الرئيسية في البلاد، هذا الانقسام العرقي، في أوضح صوره، وصار أتباعها يشكلون ثلاثية الصراع، في الحرب الأنجولية. وهذه الأطراف هي:

1. الحركة الشعبية لتحرير أنجولا "مبلا"      Popular Movement for the Liberation of Angola (MPLA)

نشأت عام 1956، من أعضاء تابعين للحزب الشيوعي الأنجولي، الذي يُعد امتداداً للحزب الشيوعي البرتغالي. وقد استطاعت، منذ البداية، اجتذاب عدد من المثقفين، ذوى الأفكار التقدمية. وعندما طردتها السّلطات البرتغالية من لواندا، في مارس 1959، انتقلت إلى كونا كرى، ثم إلى كينشاسا، ثم إلى برازافيل، حيث استقرت هناك. واختير "أوجستينو نيتو" ـ الطبيب الشاعر ـ رئيساً لها، في عام 1962. وعقب هذا الاختيار، اعتمدت الجبهة في تكوينها، على قبيلته كيمبوندو، التي ينتمي إليها أوجستينو، والتي تمثل 25% من سكان أنجولا، وتتركز في وسطها، خاصة في لواندا.

وقد اتخذت الحركة خطاً ماركسياً واضحاً، وأقامت علاقات قوية، مع سائر الأحزاب والمنظمات الشيوعية، والاشتراكية في إفريقيا، وخارجها. كما أقامت دعائمها السياسية، على أساس أن الصراع في أنجولا، ليس صراعاً بين ثلاثة جيوش متحاربة داخل البلاد، وإنما هو صراع بين قوي الشعب، التي تمثلها تلك الجبهة، وبين العسكريين، الذين تمثلهم الحركات الأخرى. ولذلك، أنشأت قوات المقاومة الشعبية، ومنظمات عمالية وطلابية ونسائية مختلفة. وقد اكتسبت الحركة تأييداً شعبياً، واسع النطاق، انعكس ذلك على تكوينها العسكري، بيد أنها عانت من انقسامات داخلية متعددة.

وقد بادرت الحركة عقب إنشائها إلى إصدار نشرات تحدد فيها أهدافها، وسياساتها. ولذلك، يمكن اعتبارها أول حركة سياسية، ذات برنامج عملي محدد. وكان بيانها الأول يدعو الشّعب الأنجولي إلى تنظيم نفسه، والكفاح في جميع الجبهات، من أجل تصفية "الإمبريالية"، والاستعمار البرتغالي، حتى تصبح أنجولا دولة مستقلة، وتتمتع حكومة وطنية، ديموقراطية، وائتلافية، من جميع القوي، التي حاربت الاستعمار البرتغالي. وقد مارست الحركة نشاطاً تعليمياً سرياً، لمحو أمية المواطنين. وإذا كانت الحركة قد ضمت، في بداية تأسيسها، العناصر الوطنية المثقفة، من الخلاسيين "المخلطين من الأوروبيين والمواطنين المحليين"، السّاخطين على السلطات البرتغالية، إلا أنها ضمت، بعد ذلك، العمال، والموظفين، والتجار، والمزارعين، في شرق أنجولا ووسطها. فأصبحت بذلك جبهة وطنية متحدة، تضم الأنجوليين، بغض النظر عن أوضاعهم الاجتماعية، العرقية، والدينية.

وقد صاغت الحركة، في أوائل الستينيات، برنامجاً كاملاً، يعكس مطالب مختلف القوى الاجتماعية، داخل البلاد، ويطالب بالإعلان الفوري، لاستقلال أنجولا، وإقامة دولة مستقلة، وإنشاء نظام جمهوري، يتساوى فيه السكان، ويعمل على تنمية الثقافة الوطنية. وقد لجأت، في هذه الفترة، إلى أسلوب العمل السياسي، فدعت في يونيه 1960، حكومة البرتغال إلى نبذ أساليب العنف المسلح، وأن تضع موضع التنفيذ، حق شعب أنجولا، في تقرير المصير، والاستقلال.

وقد اقترحت الحركة عقد مؤتمر، يضم ممثلي جميع الحركات الوطنية في أنجولا، وممثل حكومة لشبونة، قبل نهاية 1960، لمناقشة قضية الاستعمار في أنجولا وتسويتها. وإذا كان رد السلطات البرتغالية آنذاك، قد تمثل في حركة اعتقالات، واسعة النطاق، في صفوف أعضاء الحركة، وقياداتها، بما فيهم زعيمها "أوجستينو نيتو"، فقد واصلت الحركة نشاطها من المنفي، في كوناكري. ثم انتقلت في أكتوبر 1961 إلى ليوبولدفيل. ومنذ فبراير 1961 أعلنت الحركة موجة من القتال المسلح، تمثلت في شن العديد من الهجمات في لواندا، وما حولها، على مواقع الفرقة العسكرية البرتغالية، والاستيلاء على أسلحتها، ومهاجمة السجون، ومحاولة إخراج المعتقلين السياسيين منها.

وقد مرت الحركة بفترات عصيبة خلال الأعوام 62، 63، 1964، كادت أن تعصف بتنظيمها. وكان السبب تعرضها إلى مواقف عدائية، من جانب حكومات "سيريل أدولا" و"تشومبي" و"موبوتو"، في الكونغو "كينشاسا". كما أن اعتراف منظمة الوحدة الإفريقية عام 1963، بحكومة المنفي، التي رأسها "هولدن روبرتو"، كان ضربة قوية للحركة الشعبية. فقد ترتب على ذلك الاعتراف امتناع كثير من الدول عن مساعدة الحركة، بل دفع حكومة الكونغو "كينشاسا" إلى إغلاق مقر قيادة الحركة، ومكاتبها في ليوبولد فيل، بحجة وجود حكومة أنجولية شرعية ـ حكومة أنجولا في المنفي. وأدت مثل هذه الضغوط، إلى معاناة الحركة، وتعرضها للانشقاق عام 1963، فانشقت عنها جناح "فيرياتو داكروز". وعندما أجرت بعض الحكومات الإفريقية، في كل من القاهرة، والجزائر، وغيرها من الدول، اتصالات واسعة، لمعرفة حقيقة موقف الحركة، أرسلت لجنة التسعة ـ التابعة لمنظمة الوحدة الإفريقية ـ لجنة تقصي حقائق في نوفمبر 1964. وبناء على تقرير تقصي الحقائق، اعترفت لجنة التسعة بالحركة الشعبية، منظمة لتحرير أنجولا، وتقرر أن يُصرف لها مساعدات مالية سنوية. كما سحبت منظمة الوحدة الإفريقية اعترافها بحكومة المنفي. ومنذ عام 1964، بدأت الحركة نشاطها انطلاقاً من قواعدها، في برازافيل، وباتجاه إقليم كابيندا، ضد القوات البرتغالية.

2. الجبهة الوطنية لتحرير أنجولا "فنلا"             National Front for the Liberation of Angola (FNLA)

بدأت على أساس أنها تجمع عرقي "قبلي"، في عام 1954. وكان هدفها الأساسي إحياء مملكة الكونغو القديمة، ثم تحولت إلى حركة كفاح مسلح ضد البرتغال، في عام 1961. وقد تزعم الجبهة منذ نشأتها "هولدن روبرتو"، وهو رجل أعمال، وصهر الرئيس الزائيري الأسبق "موبوتو سيسيسيكو". وقد اتخذت تلك الجبهة، من كينشاسا مقراً لها، واعتمدت أساساً في تكوينها على قبيلة "كيكونجو" الكبرى، التي تقيم في شمال أنجولا، وتمثل حوالي 25% من السكان، وتضم في فروعها جماعة الباكونجو، الذين يتوزعون بين الكونغو "كينشاسا"، وأنجولا، وكانوا يمثلون الركيزة الأساسية، لروبرتو هولدن. وكانت الجبهة الوطنية تمثل التوجه الغربي بين حركات التحرير الأنجولية. وهي بحكم تكوينها، تمثل الجماعات الأكثر ثراء، التي ترتبط برؤوس الأموال الأجنبية، والمصالح الغربية في المنطقة. كما أن اعتمادها على الباكونجو، واللاجئين الأنجوليين، في الكونغو "كينشاسا"، وممارستها لأنشطها من خارج أنجولا، أدى إلى إضعاف قاعدتها الشعبية السياسية، وإلي تنامي شعور قوي بأنها فقط امتداد لنفوذ كينشاسا في أنجولا. وقد تلقت الجبهة منذ البداية، مساعدات من الولايات المتحدة الأمريكية، وفرنسا، والصين، إضافة إلى الكونغو "كينشاسا".

وقد نجحت الجبهة من السيطرة على الحكومة الأنجولية في المنفي، ونالت اعتراف العديد من الدول الإفريقية، إضافة إلى منظمة الوحدة الإفريقية. إلا أن تلك الحكومة جرى حلها بعد سحب معظم الدول اعترافهم بها، وكذلك فعلت منظمة الوحدة الإفريقية. وكانت الجبهة قد فشلت في الوصول بنضالها، في محاربة القوات البرتغالية، إلى مرحلة الثورة الشعبية، وظل نضالها محدود النطاق، نتيجة عوامل عدة منها:

أ. إصرار البرتغال، في تلك المرحلة، على مواصلة استعمارها لأنجولا، خصوصاً بعد ظهور البترول، في إقليم كابندا الأنجولي، إضافة إلى إمداد الغرب، وحلف شمال الأطلسي البرتغال، بمساعدات عسكرية، مكنتها من مواصلة ضرب عمليات الكفاح المسلح في أنجولا، وفي إطار محافظة الغرب على مصالحه المتعددة هناك.

ب. فشل الجبهة في تحقيق التوازن القبلي/ العرقي داخلها، حيث ظلت قيادة الحزب، والجيش، منبثقة عن قبائل الباكونجو. وقد اتضح ذلك الاتجاه الإقليمي، والقبلي، والعرقي، من الانقسامات التي طرأت على الجبهة، منذ عام 1962، باستقالة عدد من القادة العسكريين في حكومة المنفي، واتهامهم روبرتو، بالعمل على تمزيق الجيش، وتطهير معارضيه واغتيالهم، ثم استقالة وزير خارجية الحكومة "سافيمبي"، بعد اتهامه روبرتو بمحاباة أقاربه، وانحيازه للباكونجو.

ج. تركيز الجبهة الوطنية على العمل العسكري، وإهمالها التعبئة السياسية، والتنظيم الشعبي، داخل أنجولا. ولعل مرد ذلك هو وجود قيادة الجبهة ومقرها خارج حدود أنجولا، في الكونغو "كينشاسا"، ثم تراخيها بعد ذلك عن العمل العسكري، واهتمامها بالنشاط الدبلوماسي والسياسي، خصوصاً في فترة حكومة المنفي.

3. الاتحاد الوطني لاستقلال كل أنجولا "يونيتا"      Union for the Total Independence of Angola (UNITA)

أسس هذه الجبهة "جوناس سافيبمي"، وزير خارجية حكومة أنجولا في المنفي، التي ترأسها "هولدن روبرتو". وقد انفصل "سافيبمي" عن الجبهة الوطنية لتحرير أنجولا "فنلا" عام 1964، وأنشأ "يونيتا" عام 1966، بعد اتهامه لروبرتو بالقبلية والخضوع للولايات المتحدة الأمريكية. واتخذ سافيبمي من "لوساكا" عاصمة زامبيا، مقراً لحركته، ولكنه طُرد منها عام 1967. فلجأ إلى القاهرة حتى منتصف عام 1968، حتى تمكّن من الرجوع إلى الجزء الشرقي من أنجولا، لتصبح بذلك "حركة الاتحاد الوطني لاستقلال كل أنجولا"، أول حركة وطنية تمارس نشاطها من داخل أنجولا. وترتكز يونيتا على قبيلة "أوفيمبوندو" في الجنوب، التي تشكل 33% من سكان أنجولا. وظلت يونيتا تستند إلى قاعدة سياسة وشعبية واسعة، وتتبع سياسة المهادنة تارة، والعنف تارة أخرى. كما أنها تبنت فكرة اشتراكية تارة، ورأسمالية تارة أخرى. وقد ساعدتها الصين تارة، والغرب تارة أخرى، إضافة إلى جنوب إفريقيا.

وقد برز تكوين "يونيتا" من تفاعل ثلاثة عناصر، هي:

أ. الأعضاء المجندون، المنتمون إلى قبائل "امانجولا"، وانشقوا عن حكومة المنفى، وكان من بينهم جنوداً تدربوا في الصين.

ب. الطلبة الأنجوليون، المنتمون إلى وسط أنجولا وجنوبها، وتلقوا تعليماً في الخارج، وشكلوا "الاتحاد القومي لطلبة أنجولا".

ج. الأعضاء المحليون، التابعون لجميعات المساعدة الذاتية لقبائل: "تشيكوي"، و"تويني"، و"لوتشازي"، ممن وصلوا إلى زامبيا مع اللاجئين الأنجوليين.

وكانت العلاقات قد ساءت بين وزامبيا و"يونيتا"، التي اتخذت منها مقراً لها، نتيجة لقطــع عناصر تابعة لها خط السكك الحديدية، الموصل بين زامبيا وبنجويلا، ما أضر بمصالح زامبيا. ومع بداية التسعينيات، بدأ انحسار الصراع داخل أنجولا بين جبهتين، هما: الحركة الشعبية لتحرير أنجولا "مبلا"، أو بمعني آخر الحكومة الأنجولية، والاتحاد الوطني لاستقلال كل أنجولا "يونيتا". أما الحركة الوطنية لتحرير أنجولا "فنلا"، فعلي الرغم من وجودها، إلا أنّ عملياتها كانت شبه متوقفة.

وظل طرفا الصراع ـ مبلا ويونيتا ـ نشيطين، يساندهما تحالف متنوع الأطراف؛ فحكومة أنجولا (حركة مبلا) ـ نظراً لعلاقاتها ومعاملاتها السّابقة مع كوبا، في الشؤون السياسية والعسكرية أيام الحرب الباردة ـ استثمرت تلك العلاقات في صراعها مع "يونيتا"، كلما استلزم الأمر ذلك. ومن ظاهر ذلك، إرسال كوبا في أوائل عام 2000 خبراء ومستشارين عسكريين إلى أنجولا، قدر عددهم بحوالي خمسة آلاف. ويلاحظ أنه على الرغم من معرفة الولايات المتحدة بذلك، إلا أنها لم تصدر بياناً يستنكر أو يحذر، من مغبة التدخلات الأجنبية. ويبدو أن الولايات المتحدة أصبحت أكثر تحمساً للتعاون مع الحكومة الأنجولية، على حساب "يونيتا"، حليفها السابق في أنجولا. ولعل ذلك هو أحد نتائج انتهاء الحرب الباردة، طالما أن الحكومة الأنجولية بدأت عملية التحول الديموقراطي، وأخذت في تعزيز علاقاتها مع الغرب.

كما أن قوات "يونيتا" بدأت في شراء أسلحة حديثة، عبر التجارة غير المشروعة، مثل مدافع بعيدة المدى من إنتاج جنوب إفريقيا، وقواذف صواريخ سوفيتية الصنع، (اشترتها الحركة من أوكرانيا). كما أنها استفادت من خدمات خبراء ومستشارين عسكريين من المملكة المغربية. كذلك نشط طيارون في قيادة الطائرات الحربية لطرفي الصراع، تعاقدت معهم شركات الأمن، من أوكرانيا وجنوب إفريقيا وكوبا، وغيرها.

وكانت ميزانيات الحرب في أنجولا ضخمة، ومصادرها لا تتوقف أو تنضب. فالحكومة تتحصل على عوائد بترولية يومية تقدر بحوالي عشرة ملايين دولار، دفعتها شركات أمريكية وفرنسية وبلجيكية وبريطانية. كما تبيع الماس، المستخرج من مناجم تحت سيطرتها، بما تصل قيمته إلى حوالي أربعمائة مليون دولار سنوياً. أما "يونيتا" فتعتمد على تجارة الماس غير المشروعة، وتصل مبيعاتها سنوياً إلى حوالي خمسمائة مليون دولار. ويُذكر أنها باعت خلال الفترة ما بين عامي 1992 حتى 1998، ماساً يقدر بحوالي أربعة مليارات دولار، على الرغم من قرار الأمم المتحدة، الصادر في يوليه 1999، بحظر التجارة غير المشروعة في الماس، ومع ذلك فالتجارة مستمرة.

ثانيا: وقائع الحرب ومساراتها

إذا كانت الحرب في أنجولا ضد المستعمر البرتغالي قد انتهت باستقلال البلاد، مع منتصف السبعينيات، والحرب ذات الطابع التدخلي الدولي قد انتهت ـ نسبياً ـ بانتهاء الحرب الباردة، مع أواخر الثمانينيات، إلا أن الحرب الداخلية الأنجولية استمرت دون انقطاع. وهذا الأمر هو ما يؤكد على فرضية أن العنصر الداخلي للحرب، هو العامل الثابت؛ وأن العنصر الخارجي يمثل العامل المتغير، في الأزمة الأنجولية.

وعلى الرغم من ذلك، فإن التدخل الخارجي، سواء كان إقليمياً أو دولياً، قد ترك آثاراً سيئة على مسارات تلك الحرب، وأسهم في تصعيدها وتعاظمها، وإذا كان ثمة رأي يقول إن الحرب في أنجولا يمكن تصنيفها إلى حربين أهليتين رئيسيتين، استمرت الأولى في الفترة ما بين عامي 1981-1991، والثانية في الفترة ما بين عامي 1992-1994، إلاّ أن الواقع الفعلي يشير إلى تعدد أوجه الحرب ومساراتها التي أسهمت فيها القوى الداخلية والإقليمية والدولية. وذلك أنها جمعت بين الحرب الأهلية، والحرب ضد المستعمر، والحرب من أجل السلطة والثروة، والحرب من أجل المصالح والنفوذ، وغير ذلك من الصراعات والحروب. ويمكن توضيح ذلك في إيجاز على النحو الآتي:

1. الحرب ضد الاستعمار البرتغالي

كانت أنجولا نموذجاً سيئاً للمستعمرات البرتغالية في إفريقيا. فقد شاع فيها التخلف الحضاري والسياسي والاقتصادي، وتفاقم الاستنزاف للموارد المختلفة. ذلك أن البرتغال، منذ دخولها إلى أنجولا عام 1482 حتى خروجها عام 1975، اعتمدت على تطبيق "سياسة الاستيعاب"، وعدّت المستعمرات البرتغالية أجزاء من دولتها وراء البحار. فاستنّت التشريعات، واتخذت الإجراءات، التي مكنتها من تطبيق هذه السياسة لقرون طويلة. ولكن حتى الخمسينيات من القرن العشريٍن، كانت نسبة مَنْ تم استيعابهم بالفعل، وفقاً للسياسة البرتغالية، لا تتعدى 1% من سكان أنجولا، بينما ظل بقية السكان في وضع يماثل وضع العبيد. وعلي الرغم من إلغاء الرق في المستعمرات البرتغالية في عام 1875، إلاّ أن قوانين العمل الإجباري، التي استمر العمل بها حتى عام 1963، كانت امتداداً صريحاً لأسلوب الاسترقاق. كما أن سياسة التعليم والخدمات الصحية بُنيت على أساس عنصري واضح.

أما عن الحقوق السياسية والمدنية، فإن الأغلبية العظمي من السكان حرموا منها،. فإن كانت بعض الدول الاستعمارية، في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولي، قد سمحت لسكان مستعمراتها بحق تكوين أحزاب سياسية، فإن البرتغال قابلت أي محاولة للتعبير عن الهوية والوطنية والحضارة الإفريقية في أنجولا، بالعنف والقسوة. ونجحت سياسة حكومة البرتغال في تحطيم أي تجمع للنشاط الوطني، بأسلوب بوليسي وعسكري؛ وبينما كانت عمليات التحرير والتغيير تجري في دول القارة الإفريقية، ظل تطور المستعمرات البرتغالية يتعثر، بين واقع البرتغال المتخلف وبين نظرياتها وممارستها الاستعمارية الجامدة. وبذلك استثارت البرتغال عوامل السخط والاستياء، بين صفوف شعوب المستعمرات البرتغالية في إفريقيا، نتيجة لسياسات القهر والاستغلال والاستعلاء الاستعماري.

وفي ظل تلك الأوضاع السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية المتردية، والناجمة عن السياسات، والممارسات الاستعمارية البرتغالية، تنامت المقاومة السلمية من جانب القوى الوطنية، ومنها العريضة، التي قدمتها الحركة الشعبية لتحرير أنجولا "مبلا"، في يونيه 1960، إلى حكومة لشبونة، تناشدها فيها إقرار تسوية سلمية، من أجل الإصلاح السياسي. إلاّ أن رد الحكومة البرتغالية عليها، تمثل في اعتقال قيادات "مبلا"، ومنهم "أوجستينو نيتو"، الذي اعتقل وعُذّب ونُفي إلى جزر الرأس الأخضر، ثم أُدع السجن في لشبونة. وقد ترتب على ذلك خرود أعضاء "مبلا" في تظاهرة سلمية، في إحدى المدن الأنجولية (كاتيت Catete)، للمطالبة بالإفراج عنه، إلاّ أن الشرطة فتحت النار على المتظاهرين، وقتل منهم ثلاثين فرداً، كما قتل واعتقل آخرون. وعندئذ انطلقت موجة من العنف ضد البرتغاليين في لواندا العاصمة، تصدت لها السلطات البرتغالية.

وعندما فشلت القوى الوطنية الأنجولية، في تحقيق هدفها، المتمثل في الاستقلال، على الرغم من تكرار المطالبات والمناشدات من جانبها، وابتداء من عام 1961، بدأت الثورة الأنجولية الفعلية، والحرب من أجل الاستقلال. وقد اتخذت في ذلك الحين ثلاثة أشكال من الثورات المسلحة:

أ. الأولي: حرب ماريا Maria War

بدأت في يناير بمقاطعة "مالنجي" Malange، في الشمال الشرقي للبلاد. وقد قام بها عمال القطن في صورة إضراب، عقب تدهور أسعار القطن، والفشل في بيعه. ورد البرتغاليون على الإضراب بمزيد من الاعتقالات، التي ترتب عليها رد فعل مضاد من جانب العمال، تمثل في المزيد من الأنشطة المسلحة والهجمات على الممتلكات البرتغالية. وقد سميت تلك الثورة بـ"حرب ماريا" نسبة إلى "أنطونيو ماريانو" زعيم الطائفة المسيحية المريمية Maria Messianic Cult، الذي قاد معه أتباعه ذلك النضال. وقد تغلب البرتغاليون على تلك الثّورة عن طريق تفجير القرى، وملاحقة أعضاء تلك الطائفة والقرويين غير المسلحين وقتلهم. كما قُبض على ماريانو وسُجن وعُذب، حتى توفي في السجن البرتغالي.

ب. الثانية: ثورة "الحركة الشعبية لتحرير أنجولا" "مبلا"

 شجعت حرب ماريا "الحركة الشعبية لتحرير أنجولا" "مبلا" الماركسية التوجه، على البدء في الحرب الثانية، منذ صباح 4 يونيه 1961. فهاجم مئات المقاتلين، والأعضاء في الحركة، السجن السياسي الرئيسي في لواندا، وقتل سبعة من رجال الشرطة البرتغالية. كما هجم الثوار على محطة للإذاعة، وعلي ثكنات الجنود البرتغاليين.

ج. الثالثة: ثورة الباكونجو Bakongo

تركت الثورتان السابقتان تأثيراتهما على المواطنين الباكونجو، في شمال أنجولا. فاعلنت قيادات من "اتحاد شعب أنجولا" Angola People Union (APU)، ثورة شارك فيها عمال الزراعة في بريمافيرا Primavera، وانتشرت حتى عمت جميع أراضي الإقليم. وكان من نتائجها مقتل حوالي ألف جندي برتغالي، وحوالي ثلاثمائة من المدنيين البرتغاليين، في الأسبوع الأول للثورة، وهو الأمر الذي دفع البرتغاليين إلى النزوح عن شمال أنجولا. ثم ما لبث البرتغاليون أن قاموا في يوليه بمجزرة منظمة مضادة، استخدمت فيها قنابل النابالم، التي ألقيت على القرى، وقادة الحملة قوة قوامها خمسة وعشرون ألف مقاتل برتغالي، بمساندة من المستوطنين البرتغاليين، في إطار خطة، ليست فقط لاستعادة سيطرتهم على الإقليم، وإنما للثأر والانتقام من تلك الثورة، ومن قاموا بها. وتسببت ممارسات البرتغاليين البشعة في مقتل ما لا يقل عن عشرين ألف مواطن أنجولي، وتشريد أكثر من ثلاثمائة وخمسين ألفاً أخرين، ذهبوا كلاجئين إلى الكونغو "كينشاسا"، وانضموا إلى مائة وخمسين ألف مواطن، كانوا قد لجأوا أيضاً إلى هناك في أعقاب حرب ماريا.

وعلى الرغم من أن البرتغاليين استطاعوا قهر الثورات الثلاث السابقة، في نهاية عام 1961، ونشروا قوات قوامها مائة وأربعون ألف جندي من البرتغاليين في بؤر التوتر، إلاّ أن الثورة الأنجولية لم تخمد، بل ظل النضال من أجل الحرية والاستقلال يتنامى، منذ أواخر الستينيات، حيث بدأت الجبهات الثلاث: "الحركة الشعبية لتحرير أنجولا"، و"الجبهة الوطنية لتحرير أنجولا" و"الاتحاد الوطني لاستقلال كل أنجولا"، والتي أسست ابتداء من أوائل الستينيات، في التحرك، من أجل مقاومة الاحتلال البرتغالي.

وإذا كانت حركات المقاومة الثلاث، "مبلا" و"فنلا" و"يونيتا"، قد بدأت في ممارسة الأنشطة الثورية ضد الاحتلال البرتغالي، إلاّ أن تلك المقاومة أعاقها الخلافات والانقسامات والصراعات التي كانت دائرة بين تلك الحركات، وهو الأمر الذي انعكس سلباً على نتيجة هذا النضال، أو جدواه ومداه. كما أتاح الصراع الفرصة لبقاء البرتغاليين فترة أطول، نظراً لضعف تلك المقاومة وتشتتها.

وعلى الرغم من ذلك، واجهت البرتغال مقاومة عنيفة في أنجولا، أسهم فيها اتساع مساحتها، وظروفها الطبيعية والمناخية، وحدودها الطويلة المشتركة مع أكثر من دولة إفريقية، وهو ما كان يعني استنزاف قدر من موارد البرتغال، في حربها ضد الثوار. ومع ذلك فقد تركت تلك الحرب آثارها داخل البرتغال، خاصة بين النخب العسكرية. فتكونت حركة الجيش في لشبونة، التي قادها الجنرال "سبينولا"، وقامت بانقلاب عسكري في أبريل 1974، أطاح بالديكتاتور "سالازار". وعلى الرغم من أن سياسة سبينولا كانت تقوم على أساس تطوير نوع من العلاقة الفيدرالية، بين البرتغال ومستعمراتها، وعلى أساس البقاء أطول مدة ممكنة في أنجولا، إلا أن تلك السياسة أدت إلى خلافات واسعة بين قادة الانقلاب، انتهت بإزالة "سبينولا" وتولي "كوستا جوميز" رئاسة البرتغال. وفي أعقاب ذلك بدأت مرحلة التفاوض مع الحركات الوطنية، من أجل الاستقلال في المستعمرات البرتغالية، ومنها أنجولا.

2. التدخل الأجنبي في أنجولا

على الرغم من إمكانية التمييز بين التدخل الإقليمي، والتدخل الدولي، في أنجولا، إلا أنهما، في الواقع، غير منفصلين عن بعضهما. وهي ظاهرة تعكس، بصفة عامة، عن صراع المطامع والمصالح وتوازنات القوي الإقليمية والدولية.

وكانت مظاهر تدخل الدول الكبرى، في الصراع الدائر في أنجولا، ذات وجوه متعددة: فقد أرسل الاتحاد السوفيتي أسلحته ومعداته ومستشاريه للحركة الشعبية لتحرير أنجولا "مبلا"، كما تدفق المتطوعون الكوبيون بأسلحتهم، من طريق الكونغو برازافيل، إلى جانب تلك الجبهة التي تميل إلى المعسكر الشرقي؛ وقد ردت الصين على ذلك بمساعدة "الجبهة الوطنية لتحرير أنجولا" "فنلا"، و"الاتحاد الوطني لاستقلال كل أنجولا" "يونيتا"، بالسلاح والمستشارين. كما بدأت شحنات السلاح والمساعدات الأمريكية تتدفق إليهما من طريق الكونغو "كينشاسا". وبدأت أنواع السلاح والخطط الحربية تتطور، تُفاقم من الأزمة الأنجولية، باتساع دائرة الحرب بين القوى المتداخلة، ومن ورائها القوى الوطنية المتصارعة. وذلك أن انتصار أي جبهة وطنية، كان يعني انتصاراً للقوى الدّاعمة لها من ناحية، وفي الوقت ذاته، خسارة للطرف الآخر ومؤيديه. وعلي هذا الأساس كان انتصار "الحركة الشعبية لتحرير أنجولا" "مبلا"، يمثل انتصاراً للاتحاد السوفيتي وحلفائه واليسار البرتغالي والكونغو برازافيل، كما يعني انتكاسه للجبهتين الأخريين "فنلا" و"يوينتا" والقوى الداعمة لها، الصين والولايات المتحدة وحلفائهما، والكونغو "كينشاسا"، وجنوب إفريقيا. ومرد ذلك أن لكل دولة، من تلك الدول، مصالح سياسية وإستراتيجية واقتصادية في أنجولا.

فقد أصبحت أنجولا في نظر الدول الغربية، قاعدة لوجود عسكري، وسياسي، ومذهبي "الاتحاد السوفيتي/ كوبا"، الأمر الذي جعلها هدفاً لمخططات الدول الغربية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا، وهما الدولتان اللتان ظلتا تتمتعان بمصالح متنوعة، بامتيازات اقتصادية كبيرة في عدد من الدول المحيطة. فوجود نظام ثوري في أنجولا، يضم في نظر الدول الغربية خطر وشيك، ومن ثم بدأت الدوائر الغربية، سواء على المستوى الرسمي أو غير الرسمي، تتوجس خيفة من انطلاق الدعم السوفيتي/ الكوبي من أنجولا، إلى مناطق أخرى مجاورة. وعلى الرغم من ذلك، كانت أنجولا، نتيجة لكل العوامل السابقة، هي موقعة الفشل الأمريكي والغربي في إفريقيا.

3. صراع القوى الوطنية في أنجولا

كان لصراع لقوى الوطنية في أنجولا العديد من المساوئ، التي من مظاهرها:

أ. تضاؤل دور القوى الوطنية في النضال، من أجل الاستقلال

على الرغم من أن المهمة الرئيسية للحركات الوطنية الثلاث ("مبلا"، و"فنلا"، و"يونيتا")، كانت تتمثل ـ منذ إنشائها قبل الاستقلال ـ في النضال من أجل الاستقلال، وتحرير البلاد، من الاحتلال البرتغالي الاستعماري، إلاّ أن قتالها الفعلي ضد القوات البرتغالية كان متواضعاً. ومع ذلك اضطرت الحكومة البرتغالية، إلى حشدٍ كبير من قواتها في أنجولا، لمواجهة هذه الحركات، ما أثار التذمر داخل البرتغال، وأدى إلى الإسراع بانقلاب أبريل 1974. أما الحركات الوطنية الثلاث، فقد انصرفت إلى القتال فيما بينها منذ البداية. فخلال الفترة ما بين عامي 1962-1966، اندلع القتال بين "الجبهة الشعبية لتحرير أنجولا" "مبلا"، و"الجبهة الوطنية لتحرير أنجولا" "فنلا" في شمال أنجولا. كما اندلع القتال في المنطقة الشرقية من أنجولا بعد عام 1966، ثم بدأ "الاتحاد الوطني لاستقلال كل أنجولا" "يونيتا" المشاركة في قتال الجبهتين.

ب. فشل تجربة حكومة أنجولا في المنفى

على غرار تجربة الجزائر، في إقامة حكومة في المنفى، قبل الاستقلال عن فرنسا، كانت أنجولا تسعى إلى تكرار التجربة. ففي 19 يوليه 1962، أصدرت لجنة التوفيق، التابعة لمنظمة الوحدة الإفريقية، بياناً، ناشدت فيه الدول الإفريقية الاعتراف بحكومة "هولدن روبرتو" في المنفى، على أساس أنها الحكومة الوحيدة، التي تمثل الحركة الوطنية في أنجولا، وتطلب تقديم المساعدة إليها. وتوالت اعترافات الدول الإفريقية بها، ومنها الجزائر ومصر ومالي والمغرب وساحل العاج. وفي 10 يونيه 1964، أُعلن رسمياً أن لجنة التنسيق "لجنة تحرير إفريقيا"، اعترفت بحكومة أنجولا في المنفى التي يرأسها هولدن.

ومن واقع التجربة، فإن تلك الحكومة فشلت في تحمل مسؤولياتها، وعانت من أوجه قصور مختلفة، منها:

(1) عجزها عن قيادة النشاط في الميادين الحربية والتربوية وإعاشة اللاجئين، بعد اعتراف منظمة الوحدة الإفريقية بها، وهو الأمر الذي ترتب عليه انتكاس حركة النضال المسلح، في حين أولت النشاط الدبلوماسي اهتمامها، فضلاً عن أنها فشلت في استقطاب القوي الوطنية الأخرى داخل البلاد.

(2) اقتصار النشاط المسلح لحكومة المنفى، على شمال أنجولا فقط، حيث قبائل باكونجو، الموالية لهولدن. وعندما حاولت الحكومة فتح جبهة جنوبية، رفضت حكومة كينشاسا ذلك، خشية أن يؤدي نشاط الثوار الأنجوليين ضد البرتغاليين، في تلك المنطقة، إلى تعطيل سكة حديد بنجويلا، الوسيلة الوحيدة لنقل نحاس كاتنجا.

(3) سيادة الطابع الفردي في قيادة روبوتو لحكومة المنفى، وتركيز جميع السلطات في يده. كما أن الولاءات العرقية والدوافع الشخصية، كانت من العوامل التي أضعفت الحكومة وتنظيماتها.

(4) سوء استخدام وتوزيع المبالغ المخصصة للتحرير، التي تلقتها حكومة المنفى من منظمة الوحدة الإفريقية، والدول الأعضاء فيها.

(5) الانقسامات والتهديدات العديدة، التي تعرضت لها حكومة المنفى، ومنها تعرضها لمحاولة انقلابية في يونيه 1965، للإطاحة بروبرتو، عندما أعلن وزير دفاعه المنشق، إبعاد روبرتو عن منصبه. وقد هاجم أنصار وزير الدفاع مقر حكومة المنفى في كينشاسا، واحتلوه، واستولوا على الأموال والمستندات التي كانت به. ولكنهم هربوا بعد تحرك الجيش الكونجولى لإحباط تلك المحاولة. وقد ترك هذا الأمر انطباعات سيئة عن تلك الحكومة، وعلى قدرتها في تحمل مسؤولياتها، بشكل فعلي وفعّال.

لذلك، ففي 21 يوليه 1968، سحبت لجنة التحرير اعترافها بهذه الحكومة، بعد أن تجمّد نشاطها العسكري والنضالي. وأعلن "ديالوتيللي" أمين عام منظمة الوحدة الإفريقية ـ آنذاك ـ أن تقصي الحقائق أكد أن حكومة المنفى في أنجولا، كانت تعني بالخداع، أكثر من النضال في أنجولا.

ج. الفشل في إقامة جبهة وطنية متحدة، للتفاوض من أجل الاستقلال

إذا كانت الحركات الأنجولية قد تقاعست في النضال، من أجل تحرير البلاد، فقد كانت أكثر تقاعساً في إقامة جبهة وطنية موحدة، للتفاوض مع البرتغال، من أجل إقرار الاستقلال. وعلى كلٍ، فقد جرت المفاوضات، في يناير 1975، بين قادة حركات التحرير الثلاثة والحكومة البرتغالية، وتوصلت إلى اتفاق، بشأن تحديد موعد الاستقلال، في 11 نوفمبر 1975، على أن يسبق ذلك تشكيل حكومة انتقالية رباعية التشكيل، تُمثّل فيها السلطات البرتغالية وممثلو الجبهات الثلاث، وتوزع الوزارات عليهم، على أن تكون الرئاسة فيها دورية، وأن يتم اتخاذ القرارات بأغلبية الثلثين، إضافة إلى تشكيل لجنة دفاع وطني يكون هدفها الإشراف على اندماج الجبهات الثلاث في حيز وطني واحد؛ وكذلك قيام الحكومة الانتقالية بوضع مشروع دستور لأنجولا، وقانون للانتخابات، تمهيداً لإقامة البرلمان، وإجراء الانتخابات، التي حُدد لها أن تكون قبل أكتوبر 1975.

وعلى الرغم من تشكيل الحكومة المؤقتة "الانتقالية"، في 31 يناير 1975، إلا أنها انهارت بعد ستة أشهر، في يوليه 1975. وراحت الجبهات الثلاث ضحية لصراعها على السلطة، والتدخل الأجنبي. فقد تكتلت "الجبهة الوطنية" "فنلا" و"الاتحاد الوطني" "يونيتا"، ضد "الحركة الشعبية" "مبلا" أثناء التصويت على قرارات الحكومة، ولم تقبل "مبلا" استمرار هذا الوضع المعادي لها، والذي يشل حركتها، ما دفعها إلى الخروج في تظاهرات خلال الاحتفال بعيد العمال، أول مايو 1975. ولكن الأمر تحول إلى قتال عنيف، اتخذ صورة معارك شاملة، إيذانا ببدء الحرب الأهلية الشاملة. وهكذا أدت روح الصراع بين الجبهات الثلاثة، التي كانت متأصلة في أعماق قادتها وأعضائها لسنوات طويلة، إلى فشل الاتفاق المبرم مع الحكومة البرتغالية، بشأن "الحكومة الانتقالية الأنجولية"، بل ازدياد حدة الصراع والقتال بين الجبهات، في صورة حرب أهلية شاملة.

4. الحرب الأهلية في أنجولا

مرت الحرب الأهلية في أنجولا، بثلاث مراحل أساسية:

أ. الحرب الأهلية قبل الاستقلال

لم تصمد الاتفاقية، التي وقعت بين الحكومة البرتغالية، والحركات الوطنية الأنجولية، بشأن الاستقلال، سوى أقل من أسبوعين، حتى بدأت بوادر الحرب الأهلية في الظهور. ففي 13 فبراير 1975، شنّت "الحركة الشعبية" "مبلا" هجوماً على مكاتب الحركة، التي يتزعمها "شيبندا"، في لواندا العاصمة، بدعوى أن الاتفاقية الموقعة مع الحكومة البرتغالية لم تعترف بـ"مبلا"، وبذلك فهي اتفاقية غير مشروعة. وإذا كانت الحركة الشعبية قد نجحت في إقصاء جماعة "شبيندا" عن لواندا، وقتلت حوالي عشرين من أعضائها، فقد ترتب على هذا الهجوم مسارعة "شيبندا" وأعوانه إلى الانضمام للجبهة الوطنية "فنلا". ثم ما لبث أن دار القتال بينهم وبين الحركة الشعبية "مبلا"، بعد أن حاولت الجبهة الوطنية فتح مكاتب سياسية لها في لواندا، وإرسال فرق من جيشها إليها، وتحريك أعداد كبيرة من قواتها بأسلحتها الثقيلة، من الكونغو "كينشاسا" إلى أنجولا، بما فيها لواندا. وقد امتد هذا القتال من فبراير، وتعاظم في مارس وإبريل ومايو، وشمل مناطق أخرى. ونجم عنه سقوط سبعمائة قتيل، وألف جريح من الجانبين.

تحركت بعض الأطراف الإفريقية، من أجل وقف إطلاق النار بين القوى المتصارعة. واجتمع قادتها الثلاثة في ناكورو، في الفترة من 16-21 يونيه 1975، وخرجوا باتفاق يؤكد على ضرورة تدعيم السلطة المركزية للحكومة الانتقالية، وإنهاء كل صور العنف والقتال، وإنشاء جيش وطني موحد، ونزع سلاح المدنيين، وإجراء انتخابات عامة. ولكن هذا الاتفاق لم يُنفذ، إذ عقب توقيعه بيومين استؤنف القتال مرة أخرى، بعد أن اشتركت فيه قوات "الاتحاد الوطني" علناً. وبمساندة قوات الجبهة الوطنية ضد الحركة الشعبية، اتسع نطاق الحرب الأهلية، ليشمل كل أنجولا شمالاً وجنوباً.

وبدأت قوات "الحركة الشعبية" تقاتل بضراوة، للاستيلاء على قواعد "الجبهة الوطنية" في لواندا، ونجحت في ذلك. وبنهاية يوليه كانت "الحركة الشعبية" قد فرضت سيطرتها على العاصمة ووسط أنجولا، وامتدت شرقاً حتى حدود زامبيا، وأرغمت الجبهة الوطنية على التراجع إلى قواعدها، في الشمال الغربي. وقد تمكنت الحركة الشعبية "مبلا" من تحقيق هذه الانتصارات، بفضل الإمدادات العسكرية السوفيتية، التي كانت تصل إليها منذ مارس 1975، عبر الكونغو برازافيل. وفى ذلك الوقت أيضاً، قادت "الحركة الشعبية" هجوماً في الجنوب ضد قواعد "الاتحاد الوطني" "يونيتا"؛ ما دعا "سافيمبي" زعيم "الاتحاد الوطني"، إلى الاتصال بجنوب إفريقيا في يوليه 1975، التي سارعت إلى إرسال قواتها عبر حدود ناميبيا، واحتلت في أغسطس 1975 مشروع توليد الكهرباء في روكانا، بجنوب أنجولا. وعلى الرغم من إحكام "الحركة الشعبية" لسيطرتها على العاصمة، وعلى العديد من المناطق في أنجولا، واستخدام جهازها الحكومي، وأجهزة الاتصال الجماهيري، في فرض نفوذها السياسي، إلاّ أنها لم تستطع أن تحرز نصراً حاسماً على منافستيها، اللتين استفادتا كثيراً من المساعدات العسكرية الأمريكية، إضافة إلى تدخل جنوب إفريقيا، فضلاً عن دعم الكونغو "كينشاسا" لهما.

ب. الحرب الأهلية بعد الاستقلال

أعلن المندوب السّامي البرتغالي استقلال أنجولا، ليلة 11 فبراير 1975، وانسحاب قوات بلاده منها. وفي إطار الحرب الأهلية، التي شهدتها فترة ما قبل الاستقلال، والانقسامات المستحكمة بين القوي المتصارعة في أنجولا، استحكم الصراع على السلطة، في ذلك الوقت، حين سارع كل طرف إعلان عن تمثيله للحكومة الشرعية في البلاد. وأعلن في ذلك الحين، عن قيام جمهوريتين: الأولي، أعلنتها "الحركة الشعبية" "مبلا"، تحت اسم: "جمهورية أنجولا الشعبية في لواندا"، وتولي رئاستها "أوجستينو نيتو"، وحصلت على تأييد، واعتراف الكتلة الشرقية، وعدد من الدول الأعضاء، في منظمة الوحدة الإفريقية، والثانية: أعلن قيامها كل من "الجبهة الوطنية" "فنلا"، و"الاتحاد الوطني" "يونيتا" في هوامبو وسط البلاد، ولم تعترف بها رسمياً أية دولة.

وإن كانت الحرب الأهلية لم تتوقف، بالحصول على الاستقلال في أواخر عام 1975، بل استمرت بشكل أو بآخر، لكنها لم تتفاقم وتصل إلى ذروتها إلاّ بحلول عام 1981. وامتدت حتى عام 1991، وشاركت فيها جميع القوي المتصارعة، "مبلا" و"فنلا" و"يونيتا". كما شهدت تلك الفترة تعاظم الدعم الإقليمي والدولي، لتلك القوي المتصارعة.

ج. الحرب الأهلية عقب انتهاء الحرب الباردة

بانتهاء الحرب الباردة، وتقلص الكتلة الاشتراكية، بدءاً بانهيار الاتحاد السوفيتي، والتحولات التي حدثت في الدول الاشتراكية، الموالية له في أوربا الشرقية وغيرها من الدول، حاولت الولايات المتحدة فرض سيطرتها منفردة على العالم. وقد تركت تلك الأحداث تأثيراتها على الحرب الأنجولية، وأسهم في ذلك، أيضاً، نيل ناميبيا استقلالها في 21 مارس 1990، ومن ثم لم يعد لجنوب إفريقيا مصلحة من استمرار دعمها لـ"يونيتا". كما أن انهيار الاتحاد السوفيتي كان يعني انقطاع الدعم المقدم منه للحركة الشعبية "مبلا". فمارست الولايات المتحدة الضغوط على الحكومة الأنجولية، بزعامة دوس سانتوس؛ ما أدى إلى دخول "مبلا"، و"يونيتا" مرة أخرى، في محادثات استمرت عاماً كاملاً، بإشراف الأمم المتحدة، وإشراف وزير خارجية الولايات المتحدة. وانتهت تلك المحادثات بعقد اتفاق سلام في لشبونة، في 5 مايو 1991، ويقضي بوقف إطلاق النار بين الجانبين، ابتداء من 30 مايو 1991، وإجراء انتخابات متعددة الأحزاب في أنجولا، خلال الفترة ما بين سبتمبر 1992 ونوفمبر 1992. كما اتفق على قبول "مبلا" و"يونيتا" تشكيل جيش يتألف من أربعين ألف مقاتل بالتساوي بين الجانبين. ويلاحظ في هذا الصدد، أنه على الرغم من تغير الظروف الدولية، وتراجع الدعم العسكري الخارجي للقوي المتصارعة، إلاّ أن تلك المفاوضات كانت ناجمة عن معاناة الطرفين من الإنهاك العسكري، ولم تكن حرصاً على المصلحة العليا للدول. وعلى كلٍ، فقد كانت الثقة مفقودة بين الطرفين، الأمر الذي ترتب عليه تجدد القتال بينهما مرة أخرى.

إن تصعيد "سافيمبي" زعيم "يونيتا" للموقف، وعودة القتال بين قواته وقوات الحكومة، يمكن إرجاعه إلى الآتي:

(1) ظل "سافيمبي" سنوات طويلة يقود حرباً أهلية، ضد الحكومة الماركسية، التي تحالفت مع كوبا والاتحاد السوفيتي. وساندته في حربه الولايات المتحدة الأمريكية، وجنوب إفريقيا، بالمال والسلاح والتدريب وخدمات الإعلام؛ فلمّا انتهت الحرب الباردة بين الدولتين العظميين، توقفت المساعدات والمساندة لكلا الجانبين في أنجولا، ووقعت الاتفاقات بين الدول العظمي لإبرام اتفاقية سلام، وتوقفت الحرب، وانسحبت القوات الكوبية. ثم نالت ناميبيا استقلالها، وبدأ تيار التحول الديموقراطي، وإلغاء النظام العنصري في جنوب إفريقيا، وتخلّت الحكومة الأنجولية عن موقفها الأيديولوجي، وغيرت الدستور، وقبلت بالديموقراطية التعددية، واقتصاد السوق. كما جرى الاتفاق بشأن مصير القوات المتحاربة لدي الطرفين في البلاد. إلاّ أن "سافيمبي"، على ما يبدو، وجد نفسه بعد نتائج الانتخابات، التي أجريت في سبتمبر 1992، ليس أكثر من زعيم معارضة في دولة إفريقية، وهو يعرف أن مغانم الحكم ومناصب الدولة ومواردها، سوف تكون في خدمة حزب الحكومة ومصلحة قياداته، وأن المعارضة لا تحصل على شيء في الدول الإفريقية ومن ثم كان هذا مبرراً لعودته للقتال.

(2) خلال فترة الاستعداد للانتخابات، عقب اتفاق السلام في عام 1991، ترددت الأفكار والأحاديث حول استحسان تقاسم مسؤوليات الحكم، بين حزبيّ الحكومة والمعارضة، لضمان الاستقرار ونجاح التجربة البرلمانية. ولكن هذه الأفكار لم تتحول إلى اتفاق مكتوب بين الطرفين؛ ولهذا فإن رفض نتائج الانتخابات، ثم التصعيد وإطلاق النار من جانب قوات "سافيمبي"، إنما كان إجراءً محسوباً هدفه خلق التوتر المتصاعد، حتى يصل الموقف إلى عرض التهدئة، من خلال إقرار مبدأ تقاسم السلطة والإدارة والميزانية وتوزيع المناصب المدنية والعسكرية. وعلى ذلك، فالعودة إلى القتال كانت عملية ضغط عنيف للحصول على نصيب من السلطة والثروة القومية لحسابه، ولصالح أنصاره ومؤيديه. ويساند هذا الترجيح أن "سافيمبي" كان يعرف مقدماً ـ ومن خلال المباحثات ـ أنه لن يحصل على دعم أمريكي، أو جنوب إفريقي، لشن حرب من جديد. كما أن الحكومة لن تحصل على دعم روسي، أو كوبي، لموقفها في حالة الحرب. ومن ناحية ثانية، فإن نمو المصالح الاقتصادية والتجارية والبترولية، بين الدول الراعية لاتفاق السلام مع أنجولا، لم يكن يتيح الفرصة للقتال المستمر والدائم، وإنما بقدر محسوب يتوازى مع إمكانية الابتزاز والاستنزاف، كيفما تكون الظروف والأحوال.

وعلى ذلك، كان "سافيمبي" يتحرك حركة محسوبة، ليحتفظ لنفسه بخط الرجعة في قبول التسويات، التي يعرضها التحرك الدولي، أو أن يتراجع عنها حسبما تقتضي الظروف والأحوال. لذلك كانت قواته تطلق النار وتقاتل في أماكن عديدة من المدن والريف، وفي الوقت ذاته يبدأ في الحديث عن وقف إطلاق النار، ثم يعاود وقواته القتال. وكان في تلك الأحوال كلها يراقب تحرك الموقف الدولي، وينتظر أية مقترحات، أو وساطات دولية تعزز من موقفه.

كان اتفاق السلام الموقع في لشبونة، في 15 مايو 1991، يمثل البداية الممكنة لإنهاء الحرب في أنجولا، لأن تتضمن عناصر أساسية للتسوية، منها وقف إطلاق النار، وإجراء أول انتخابات تعددية في أنجولا، وإقامة جيش وطني، وتبادل الأسرى. إلاّ أنه عند التطبيق الفعلي، لوحظ أنه يطبق تحت ضغط الواقع، الداخلي والخارجي، الذي أملى على الرئيس الأنجولي "دوس سانتوس" أن يتخلى عن الماركسية، وأن يأخذ بالتعددية الحزبية، وتحرير الاقتصاد من هيمنة الدولة. ومن ثم، أُجريت انتخابات الرئاسة، والبرلمان في أنجولا، وتأسس، بالفعل، ثلاثة عشر حزباً، منها ثلاثة أحزاب رئيسية، تمثل الجبهات الرئيسية الثلاث في البلاد، إضافة إلى عشرة أحزاب أخرى، تتفاوت في درجة قواعدها الشعبية. كما دخل "جوناس سافيمبي"، زعيم "يونيتا"، و"هولدن روبرتو"، زعيم "فنلا"، الانتخابات الرئاسية، بجانب ثمانية مرشحين أخرين. وعندما أعلن رئيس المجلس الانتخابي الوطني نتائج الانتخابات، التي شارك فيها أربعة ملايين وأربعمائة ألف ناخب، من أصل أربعة ملايين وثمانمائة ألف ناخب مسجل، اتضح ما يلي:

(1) في انتخابات الرئاسة، حصل "سانتوس" على 45.57% من أصوات الناخبين، مقابل 47.17% لسافيمبي، كما حصل روبرتو على 2.11%، وحصل باقي المرشحين على 58.25% من الأصوات.

(2) في انتخابات البرلمانية، التي جرت لشغل مائتين وثلاثة وعشرين مقعداً برلمانياً، حصل الحزب الحاكم ـ وهو حزب الحركة الشعبية "مبلا" ـ على 53.74% من نسبة الأصوات، وهى تعادل مائة وتسعة وعشرون مقعداً، مقابل 34.1% من نسبة الأصوات، للاتحاد الوطني "يونيتا"، وهى تعادل سبعون مقعداً؛ ثم حزب الجبهة الوطنية "فنلا"، الذي حصل على خمسة مقاعد فقط. إلاّ أن "سافيمبي" ـ وفور ظهور النتائج الأولية للانتخابات، وتأكد فوز الحركة الشعبية، وزعيمها دوس سانتوس ـ أعلن عن رفضه لهذه النتائج، متهماً الحكومة بتزويرها. وانسحبت حركته من الجيش الأنجولي الموحد، وذكر بيان صادر عن "يونيتا"، أنها تشعر بأن الحكومة خدعتها، وأن الديمقراطية يجب أن تسمح لكل مواطني أنجولا بأن يختاروا زعماءهم، والحزب الذي يمثلهم بحرية. وبرفض "سافيمبي" نتائج هذه الانتخابات، وإعلانه تجدد القتال، دخلت أنجولا، مرة أخرى، في مرحلة جديدة من مراحل الحرب.

وكانت موافقة "يونيتا"، على الدخول في مفاوضات لوساكا، من أجل اقتسام السلطة في البلاد. وقد بدأت المفاوضات في 10 سبتمبر 1994، وانتهت في 29 سبتمبر، بالتوقيع بالأحرف الأولى، بين الحكومة الأنجولية وحركة "يونيتا"، على اتفاق سلام ينهي الحرب بينهما، وحُدد شهر نوفمبر 1994، لتوقيع الاتفاق رسمياً بين الطرفين. إلاّ أن استمرار "يونيتا" في رفضها التسليم بتفوق "مبلا" عليها، أطاح بهذا الاتفاق. وتجددت المعارك بين الطرفين دون توقف حتى إبريل 1997، ووافقت "يونيتا" على اتفاق يقضي بالاشتراك في حكومة وفاق وطني مع "مبلا"، وإن ظلت المخاوف من تجدد القتال قائمه.

وإذا كان المجتمع الدولي قد تدخل، مرة أخرى، لحل الأزمة الأنجولية، جرى اتفاق سلام جديد في نوفمبر 1994، بعاصمة زامبيا لوزاكا، تحت إشراف الأمم المتحدة، مما أشاع التفاؤل بقرب وضع حدٍ للحرب الدائرة في أنجولا، إلاّ أن أعمال القتال تجددت في ديسمبر 1998، بيـن القوات الحـكومية وقوات حـركة "يونيتا"، للأسباب الآتية:

(1) توقفت حركة "يونيتا" المعارضة عن تنفيذ بنود اتفاق السلام، الموقع عام 1994، برفضها التخلي عن الأراضي، التي تسيطر عليها في المرتفعات الوسطى. كما رفضت نزع أسلحة أفرادها، واحتفظت بحوالي ثلاثين ألفاً من جنودها مختبئين في الأحراش، مع أن الاتفاق أقرّ تسريحهم وإعادة تأهيلهم، وضم بعضهم إلى الجيش. كذلك رفضت التحول إلى حركة سياسية، بدلاً من حركة مسلحة.

(2) رغبة حركة "يونيتا" في الضغط على الحكومة، لإجبارها على سحب قواتها، التي تقاتل إلى جانب جيش الرئيس الراحل "كابيلا"، ضد المتمردين في الكونغو الديمقراطية، لاعتبارات تتعلق بحليف "يونيتا" السّابق "موبوتو"، الذي أطاح به "كابيلا".

(3) قناعة حركة "يونيتا" أن الرئيس الأنجولي "سانتوس"، ينتهج سياسة تهميش لها، ومن ثم فهي على قناعة، أيضاً، بمواصلة الكفاح المسلّح، لوضع حد لسياسة التهميش تلك.

(4) تعاظم حالة انعدام الثقة بين الحكومة الأنجولية وحركة "يونيتا"، على الرغم من اتفاق السلام الموقع بينهما. ومن مظاهر ذلك: رفض زعيم حركة "يونيتا" الانضمام للحكومة، واختياره البقاء في صفوف المعارضة، وعدم إقدامه على الذهاب إلى لواندا العاصمة، وخشيته من تسليم أسلحة مقاتليه.

وفى ظل تلك الظروف، حركت الحكومة قواتها للاستيلاء بالقوة، على الأراضي التي تسيطر عليها "يونيتا". وجاء رد "يونيتا" باستخدام القوة المسلحة أيضاً. وشهدت عدة مدن معارك عنيفة، على النحو الآتي:

(1) محاصرة قوات "يونيتا" مدينة كيتو، وعزلها تماماً لبضعة أيام، وهو ما دفع الحكومة إلى شن هجمات عنيفة بالمدفعية الثقيلة، على مواقع "يونيتا"، لفك الحصار عن المدينة.

(2) شهدت مدينة هوامبو، بوسط أنجولا، معارك ضارية، بين قوات الجيش النظامي وقوات حركة "يونيتا". ونتيجة لذلك، قررت الأمم المتحدة توجيه إغاثة إنسانية لتلك المدينة، لتوفير الاحتياجات الإنسانية لنحو مائة ألف أنجولي، شردتهم تلك المعارك.

(3) دارت معارك عنيفة، بين القوات الحكومية وقوات "يونيتا"، شمالي أنجولا، لإجبار القوات الحكومية على التخلي عن سيطرتها على بعض المناطق هناك. كما سقطت مدينة شيلوندا، في وسط البلاد، في أيدي قوات "يونيتا". إلاّ أن القوات الحكومية تمكنت من استعادة السيطرة عليها. كما شهدت مناطق عديدة أخرى، معارك عنيفة داخل أنجولا.

(4) اتخذت هذه الأزمة بعداً مهماً، عقب سقوط طائرة تابعة للأمم المتحدة، في أجواء مدينة هوامبو، ما أسفر عن فقدان أربعة عشر شخصاً كانوا على متنها. وعلى أثر ذلك توقفت عمليات الإغاثة الإنسانية لبضعة أيام، ودفع ذلك مجلس الأمن، التابع للأمم المتحدة، إلى مطالبة حركة "يونيتا" والسلطات الحكومية، بالتعاون مع المنظمة الدولية، وضرورة تقديم إيضاحات عن أسباب سقوط تلك الطائرة، والسعي للعثور على حطامها، ومهدداً باتخاذ إجراءات، لم يتم تحديدها.

ومما يُذكر أنه قبل انتهاء أزمة الطائرة هذه مع المنظمة الدولية، سقطت طائرة أخرى تابعة للأمم المتحدة، ما دعا مجلس الأمن إلى مطالبة حركة "يونيتا" والسلطة الحكومية، ضرورة التعاون للبحث عن ناجين في الحادثين. وأوفد السكرتير العام للأمم المتحدة ـ كوفي أنان ـ مساعده لشؤون الأمن، لإقناع الطرفين المتصارعين في أنجولا، تسهيل إرسال فرق إغاثة إلى مكان اختفاء الطائرتين.

إلى جانب ذلك، أرسلت الأمم المتحدة فريق إنقاذ، للبحث عن ثمانية عشر شخصاً، كانوا على متن الطائرتين. وفى ذلك الحين، نفى السكرتير العام لحركة "يونيتا" أي صلة للحركة بإسقاط طائرتي الأمم المتحدة، وأن ما يشاع في هذا الشأن هدفه زعزعه الثقة في الحركة. وفي الوقت نفسه، رأى آخرون أن حركة "يونيتا" هي المسؤولة عن ذلك، كرد فعل من جانبها على اتهام الأمم المتحدة بأنها تعيق تنفيذ اتفاق السلام. وفى أعقاب ذلك قررت الأمم المتحدة سحب موظفيها ومراقبيها، من مناطق القتال في أنجولا، إلى العاصمة لواندا، حرصاً على سلامتهم، مع إمكانية سحبهم بالكامل من أنجولا، إضافة إلى فرق الإغاثة. وكان هذا التهديد يعني: أن الأوضاع الأمنية والإنسانية في أنجولا، ظلت عرضة لمزيد من التدهور والتفاقم.