إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الأكراد والمشكلة الكردية




الملا مصطفى البرزاني
جلال طالباني
عبدالله أوج آلان
عبدالرحمن قاسملو


منطقة الأكراد "كردستان"



الأكــــراد

المبحث الثاني

تاريخ الأكراد، حتى معاهدة سيفر (Sèvres) عام 1920

أولاً: موجز تاريخ الأكراد، حتى معاهدة سيفر (Sèvres) عام 1920

1. لمحة تاريخية

عاش الأكراد، طوال تاريخهم، تحت السيطرة الأجنبية، التي بدأت في القرن الخامس قبل الميلاد، حينما استطاع الإمبراطور الأخميني، سيروس، أن يدمّر، عام 550 ق. م، المملكة المسماة ميديا، التي يعُدها المؤرخون الوطن الأصلي للأكراد.

ثم خضعوا لحكم الإسكندر الكبير، الذي قضى على الأخمينيين، عام 330 ق.م. ثم خضعوا للأرمن (الأرسانيين)، خلال القرنين، الثاني والأول قبل الميلاد، ثم للدولة الرومانية حتى القرن الثالث الميلادي، ثم للأرمن الذين اختلطوا بالأكراد.

وتعاقب على حكْمهم الإمبراطورية الفارسية والإمبراطورية الرومانية. وحكمهم الأرمن، مرات عديدة. وأخيراً، خضعت كردستان للدولة البيزنطية، التي اقتسمتها مع الإمبراطورية الساسانية، بين القرنين، الثالث والسابع، الميلاديين، إلى أن جاء الفتح العربي الإسلامي، في عام 18هـ / 640م، في عهد الخليفة الراشد، عمر بن الخطاب. وقضى المسلمون على الإمبراطوريتَين البيزنطية والساسانية معاً، فدخل الأكراد في الإسلام، وكانوا عوناً لأمتهم الإسلامية، في العصور التالية.

وفي الواقع، إن القبائل الكردية، لم تكن خاضعة لتلك الدول خضوعاً حقيقياً، بل كانت تعيش في شبه استقلال، معتصمة بجبال كردستان الوعرة. وظهرت إمارات كردية مستقلة، خلال فترات الحكم الإسلامي تحت حكم بعض الأُسر الكردية. ولم يسيطر أي من هذه الإمارات، بمفردها، سيطرة تامة على كردستان. ولم يحتفظ أي منها باستقلالها الحقيقي. وكثيراً ما كان يحتدم الصراع بين الأُسر الكردية الحاكمة.

وكانت الدولة الأيوبية إمارة كردية إسلامية، أسسها صلاح الدين الأيوبي، عام 1171م، وبسطت سيطرتها على مصر والشام وبلاد الرافدين. وخاضت حروباً مظفرة ضد الصليبيين في فلسطين، حتى تمكن صلاح الدين من القضاء على الدويلات الصليبية في بلاد الشام، مسجلاً أمجد الفصول في تاريخ الإسلام.

وينتمي صلاح الدين يوسف الأيوبي (توفي عام 589هـ / 1193م) إلى قبيلة راوند الكردية، التي استوطنت منطقة ديفين، الواقعة في إقليم يرفان (إريفان). ودام حكم الأيوبيين 81 سنة (1169م ـ1250م). وظل الأكراد، منذ ذلك الحين حتى الغزو المغولي، يضطلعون بدور مهم في خدمة الحكام غير الأكراد، بسبب ميزاتهم الحربية البارزة.

وخضع الأكراد، بعد ذلك، لحكم السلاجقة الأتراك، في عام 1051م، وخدموا في الجيوش السلجوقية، وتعرضت القبائل الكردية لفتن من الحكام المحليين، جعلتها تدخل في صراع بعضها مع بعض، وظلت هذه السمة بارزة في حياة المجتمع الكردي، إلى اليوم.

وجاء الغزو المغولي، عام 1231م، لينشر الدمار والهلاك في ديار الإسلام، ومنها كردستان. وتلا ذلك غزو القائد المغولي، تيمورلنك (تيمور الأعرج)، عام 1402م، فخضعت له بلاد الأكراد وسائر بلاد الأناضول. وألحقت هذه الغزوات الضرر الكبير ببلاد الأكراد وأشاعت الخراب فيها.

ومع مطلع القرن العاشر الهجري، السادس عشر الميلادي، اقتسمت العالم الإسلامي الدولة الصفوية الشيعية، الحاكمة في إيران، والدولة العثمانية السُّنية، الحاكمة في الأناضول.

دخل الأكراد في طاعة السلطان سليم الأول، بفضل مساعي الحكيم الكردي، مُلاّ إدريس البدليسي، وهو من أهالي تبطيس، مستشار السلطان الذي أرسله إلى أمراء كردستان لما له من النفوذ بينهم واعتراف بفضله وعلمه. فانضم هؤلاء إلى السلطان العثماني. واستطاع الأكراد والأتراك قهر قوات الصفويين، بقيادة إسماعيل شاه الصفوي (1502 ـ 1518) في معركة جالديران، الواقعة إلى الشمال الشرقي من بحيرة أرومية، في 23 أغسطس 1514 (920 هـ). ودعموا المذهب السُّني في وجْه المذهب الشيعي.

وكان من نتائج هذه المعركة اقتسام بلاد الأكراد، بين الدولتَين، الصفوية والعثمانية، وخضع القسم الأكبر منها للحكم العثماني. وجُدّد ذلك التقسيم في معاهدة، عقدت عام 1639م (1048 هـ)، بين الشاه عباس وبين السلطان العثماني مراد الرابع. وكانت لتلك المعاهدة أثرها في كل مجريات التاريخ الكردي، فيما بعد.

وبعد عام 1514م أصدر السلطان العثماني أوامره، إلى الحكيم الكردي، إدريس البدليسي، الذي يعمل مستشاره في الشؤون الكردية، أن يشكل الإقطاعات الكردية. وسعياً إلى توطيد الحدود التركية الجديدة، عمد المستشار الكردي إعادة توطين القبائل الكردية على امتداد الحدود، وأعفاها من الالتزامات كافة.

وتكللت جهود إدريس البدليسي بإصدار السلطان سليم الأول مرسوماً (فرمان)، يقضي بترك الإدارة في كردستان للأمراء، الذين يتوارثونها، وليس عليهم إلا أن يقدِّموا جيوشاً مستقلة، بإدارتهم، إلى الدولة، حينما تكون في حرب مع إحدى الدول الكبيرة. وعليهم أن يدفعوا إلى خزينة الدولة مبلغاً من المال، كل سنة. وقد حدد ذلك الفرمان الحكومات الكردية بحكومات: أربيل وكركوك والسليمانية، وحصن كيف، وجزيرة ابن عمر، وحكاري وصاصون، والعمادية، وبيتليس. وكانت تلك الحكومات تسمى: إمارة بابان، إمارة سوران، إمارة بهدينان، إمارة بوتان. وكان هناك 16 إمارة معترفاً بها.

واعترف الفرمان لرؤساء هذه الحكومات، الذين أطلق عليهم لقب "دَرَه بيك" أي سيد الوادي، بحقوق وامتيازات متوارثة في أراضيهم ومناطق نفوذهم. كما أن الحكومة العثمانية، لم تكن تتدخل في شؤونهم الداخلية. ولقد أفلح الملا إدريس، بخطته هذه، في ضمان حماية الحدود التركية الشرقية، ضد أي غزو إيراني.

وشهدت الحقبة الواقعة بين عام 1514 والنصف الثاني من القرن التاسع عشر، نشوء مشيخات كردية، تتمتع بقدر من الاستقلال، في نطاق الإمبراطورية العثمانية، حتى إن بعضها أقام صِلات مع الشاه الإيراني والسلطان العثماني، في آن واحد.

وظل هذا الوضع حتى دخلت الإمارات الكردية تحت الحكم العثماني المباشر منذ عام 1847م.

ومع الوقت، تناست الحكومة العثمانية المتعاقبة اتفاقية الحكم الذاتي تلك وأزالت أكثر الحكومات الكردية، ولم يبقَ منها، في نهاية القرن السابع عشر، سوى حكومة اليزيديين، في سنجار، والمليين في ديار بكر، والزازا (ظاظا) في درسيم، وقد أصبحت تسمى "سنجق بك".

وأعادت الدولة العثمانية، في عهد السلطان محمود الثاني، تنظيم أمور ولاياتها، فجعلت المنطقة الكردية ضمن ثلاث ولايات، هي: بغداد وديار بكر وأرضروم.

ولم تكن الإقطاعات والمشيخات الكردية متحدة، على الرغم مما تتمتع به من استقلال محدود، بل كانت في حروب مستمرة، الأمر الذي اضطرها إلى طلب المساعدة من شاه إيران، أحياناً، ومن السلطان العثماني، أحياناً أخرى.

2. أهم الإمارات الكردية

أ. الشداديون

أولى الأُسر الكردية، شبه المستقلة، التي ذكرها التاريخ، هي أُسرة بَنِي شداد. ومؤسسها محمد بن شداد بن قرطق، عام 340هـ / 951م. وحكمت مناطق كردستان، الشمالية الشرقية، واستمرت حتى عام570هـ / 1174م، حينما سقطت في يد الكرج.

ب. إمارة بَنِي حسنويه

أسّسها حسنويه بن الحسين البزركاني، رئيس إحدى القبائل الكردية، عام 348هـ / 959م، واستمرت نصف قرن حتى عام 406 هـ / 1015م تقريباً. وذاع صيت ذلك الأمير، وضم الجزء الأكبر من كردستان، الذي يشمل همدان ودينور ونهاوند وقلعة سرماج. وهاب البويهيون جانبه. وتولى، بعده، ابنه بدرالدين بن حسنويه، الذي قوي نفوذه، ومنحه الخليفة العباسي لقب "ناصر الدولة و الدين". وقد قتل على يد رجاله، عام 405هـ ، وخلفه ابنه، ثم حفيده، حتى تخلص منهم البويهيون، عام 406هـ/1015م.

ج. المروانيون

عُرفت، في الفترة عينها، الأُسرة المروانية، التي أسّسها أبو عبدالله حسين بك دوستك، من أمراء أكراد العشيرة الحميدية، في آمد (ديار بكر)، الذي استولى على أرمينيا وأرجيش ثم على عدد من المدن. وضيّق عليه الحمدانيون، بينما كان يحاول الاستيلاء على الموصل، وقتل عام 380هـ . وشملت هذه الإمارة بعض بلاد أرمينيا ومناطق موش وأرجيش وأورفة. واشتهر من حكام المروانيين الأمير أبو نصر أحمد، الذي تولى الحكم من قِبل الخليفة العباسي في بغداد، وذاع صيته في عصره، لعدله وقدرته. وحكم مدة 51 سنة. وقضى السلاجقة على هذه الإمارة، عام 489هـ / 1096م.

د. الشهرمانيون

خلفت الأُسرةَ المروانية الأُسرةُ الشهرمانية، التي حكمت ديار بكر وأرضروم، من سنة 1100م إلى سنة 1207م.

ثم قضى السلاجقة الأتراك على هذه الإمارة الكردية. ومن بعدهم، جاء الغزو المغولي الكاسح، الذي استمر حتى عام 1400م.

هـ. مملكة أردلان

كانت تمتد على طرفَي الحدود العراقية - الإيرانية (في لواء السليمانية، اليوم)، من جبال قرا داغ وأودية شهر زور وأصقاع أردلان (كردستان الإيرانية، في الوقت الحاضر)، التي كانت تقطن فيها قبائل الكلهور الكردية القديمة.

وكانت أُسرة بَنِي أردلان تحكم هذه المنطقة، منذ القرن الثاني عشر الميلادي، وعاصرت الحكم المغولي. واضطرتها الدولة الجلائرية في العراق إلى التخلي عن القسم الشمالي الشرقي من الإمارة. وفي القرن الخامس عشر استعاد الحاكم الأردلاني القسم الشمالي من بلاده، فأصبح نهر الزاب الكبير، من جديد، الحدود الشمالية لمملكته.

ودخلت هذه الإمارة تحت الحكم العثماني، بعد انتصار السلطان العثماني سليم الأول على الصفويين، في معركة جالديران، عام 1514. وبقيت أمور الحكم الفعلية في أيدي الأكراد. ولكن العثمانيين غزو إمارة أردلان، بوساطة والي حلب، عام 1538، وجعلوها ولاية عثمانية لفترة من الزمن.

وفي عام 1600، تبدل الوضع، فخضعت أردلان للشاه عباس. فتولى حكم الإمارة أحمد خان الأردلاني، بوصفه ملكاً من التابعين لشاه إيران. وطلب الشاه عباس من أحمد خان، عام 1605، إخضاع القبائل الكردية، في بيتليس والعمادية ورواندوز، لحكم الشاه. وبذلك استعاد الأمير الكردي ممتلكات أردلان القديمة. وانتهى حكم الأُسرة الأردلانية بغزو القائد العثماني، خسرو باشا، الذي قضى عليها، بعد معركة جرت في عام 1629.

و. إمارة بابان

بعد أفول الإمارة الأردلانية، ظهر في بلاد البشدر شخص، اسمه أحمد الفقيه، الذي أسس الأسرة البابانية. وعرفت قبيلة بشدر بنظامها الاجتماعي، الذي يقسمها إلى زعماء وعوام. وخلف أحمد الفقيه ابنه ماوند، الذي توسع نفوذه في شهر بازار وما جاورها. بيد أن المؤسس الحقيقي لأُسرة بابان، هو سليمان بك بن ماوند بن أحمد الفقيه. ففي النصف الثاني من القرن السابع عشر الميلادي، كان سليمان بك الشخصية البارزة في شهرزور، وحل محل الأردلانيين في حكم المنطقة، عام 1694. فاستعان الأمير الأردلاني بالإيرانيين، فأرسلوا جيشاً، دمر خصمهم الباباني، الذي اضطر إلى اللجوء إلى استانبول، حيث استقبل بحفاوة بالغة، ومنح سنجق بابان. إلا أن موته أدى إلى خلافات بين أبنائه، فتمزقت إمارته على أيدي الزنكية وقبائل أخرى.

واستطاع بكر بك، أحد أبناء سليمان بك، أن يستأثر بالسلطة، و يوسع رقعة إمارته، فشملت المنطقة الممتدة بين نهرَي سيروان والزاب الصغير، والهضاب الكائنة شرق طريق كفري ـ ألتون كوبري. وصار يضاهي حكام أردلان، الذين تفصلهم جبال هورامان.

وهاجم العثمانيون بكر بك بن سليمان بك بابان، في عام 1715م، فقتل في إحدى المعارك. وبذلك، رجعت المناطق البابانية إلى النفوذ العثماني المباشر، حتى ظهور خانه باشا بن بكر الباباني، عام 1730، الذي امتد نفوذه من كركوك حتى همدان، وحكم أردلان أربع سنين.

واكتسحت جيوش الإيرانيين، في عهد نادر شاه، كردستان الجنوبية، واستمر الحكم الإيراني من عام 1730 حتى عام 1743. وظهر من البابانيين مَن تعاون مع الإيرانيين، إذ سمحوا للأكراد بحكم شهر زور فقط. وهكذا نشأ ميل الأسرة البابانية إلى التعاون مع إيران، التي قدمت العون إلى البابابيين، ضد الولاة العثمانيين، في بغداد.

ثم تولى سليمان باشا إمارة بابان، أربع عشرة سنة متقطعة. وتوسعت مطامحه إلى أردلان، فغزاها، عام 1763، إلا أن الجيوش العثمانية، سحقت جيشه. ثم اغتيل عام 1765، وجرى صراع حول السلطة بين أبنائه الثلاثة، الذين خلفوه، وكان ولاؤهم يتذبذب بين الدولتَين، الإيرانية والعثمانية.

وعيّن عبد الرحمن باشا على إمارة بابان، ما بين عامَي 1789  و 1811. وأسدى خدمات جليلة إلى الدولة العثمانية، في تعقب الثائرين عليها، 1792، وفي تأديب اليزيديين، في سنجار عامَي 1794 و 1799. وأخضع الثائرين، في العمادية، وفي الفرات، عام 1805م.

وعلى أثر اختلافه مع والي بغداد العثماني، إلتجأ إلى إيران. ثم عاد إلى السليمانية، واشتبك مع العثمانيين، فدُحرت قواته من قِبل والي بغداد، سليمان الصغير، عام 1808، عند مدينة كفري، ثم عزله والي بغداد، عام 1811. وتوفي عام 1813.

في عام 1812، عادت العائلة البابانية إلى الثورة، إذ خرج أحمد باشا الباباني على العثمانيين، وانتصر في معارك عدة، وتقدم إلى أطراف بغداد، وكاد يستولي عليها، وأوشك أن يقضي على القوى العثمانية قضاءً مبرماً. لولا أن عاجلته المنية.

وتولى حكم إمارة بابان محمود بن سليمان باشا، واستمر حكمه عامَين. وعام 1816، عُيِّن عبدالله باشا، شقيق عبد الرحمن باشا، حاكماً على السليمانية، من قبل والي بغداد، سعيد باشا، وتداول الحكم مع محمود باشا. وتدخلت إيران، بحملاتها العسكرية، غير مرة، في كردستان الجنوبية. وكان حكم البابان على السليمانية عاملاً مهماً من عوامل استمرار الحرب بين الدولتَين العثمانية والإيرانية.

وفي عام 1850م، دخل القائد التركي، إسماعيل باشا، السليمانية، بقوة من الجيش، قضت على حكم البابانيين، الذي استمر مدة قرن ونصف القرن.

ز. الإمارة السورانية

إمارة صغيرة، نشأت في منطقة رواندوز، في القرن الثاني عشر الميلادي. أسسها رجل صالح، قدم من بغداد، واتخذ من قرية جوديان مقراً له. وكان له ابن،  يدعى عيسى، ضم إليه بعض أراضي البابان، ونقل عاصمته إلى بلدة حرير. ضم السلطان سليمان القانوني هذه الإمارة إلى أربيل، بعد أن قتل أميرها، "المير عزالدين شير"، ونصّب عليها أميراً يزيدياً، عام 1534. ولكن السورانيين استرجعوا إمارتهم، بعد عودة السلطان إلى استانبول. وحافظوا على استقلالهم، حتى عام 1730، حينما ألحقها البابانيون بإمارتهم، وصارت تابعة لهم.

وحينما دَب الضعف في أمراء البابان، في نهاية القرن الثامن عشر، بسبب الصراع الإيراني ـ العثماني، استعادت الإمارة السورانية وجودها، في مقرها الجديد في رواندوز، وصار لها عام 1810 كيان واضح، حين كان يحكمها مصطفى بك أوغوز، الذي تزوج من فتاة بابانية البابانيين لكي يعزز مركز إمارته.

وخلفه، عام 1826، ابنه محمد، الملقب "مير كور"، أي الأمير الأعمى، وأخضع لحكمه شيروان،  وقبائل برادوست، في الشمال، وقلّل من نفوذ قبائل السورجية، وطرد الحاكم الباباني من حرير، واحتلها. وأقره والي بغداد، داود باشا، على حكمه. وأصبحت دهوك وزاخو من توابع إمارته العظيمة، واستولى على أربيل وألتون كوبري.

وقد اضطر والي بغداد، علي رضا باشا، في عام 1833، إلى الاعتراف به، ورفع مرتبته إلى "باشا"، إذ رأى فيه القوة الجديدة، التي يمكن استخدامها ضد الإمارة البابانية، ومقاومة أي زحف إيراني على العراق.

واشتهر الأمير مير كور بتنظيم الإدارة في إمارته، واستتب الأمر له فيها. وكان على جانب كبير من التقوى والصلاح، والتمسك بالشرع الحنيف، فحقق بين الناس العدالة، في دائرة الشريعة الإسلامية.

وهكذا أصبحت الإمارة السورانية، في منتصف القرن التاسع عشر، أقوى إمارة من إمارات كردستان قاطبة. ولم يبقَ أمام مير كور، للسيطرة على كردستان الجنوبية (العراقية) كلها، سوى القضاء على الإمارة البابانية، في السليمانية. وكان نمو الإمارة السورانية السريع، يثير وجل سليمان بابان وخوفه، فلجأ إلى الإيرانيين، على عادة البابانيين، وتعاون معهم على إرسال حملة عسكرية مشتركة، ضد مير كور، مما حدا أمير رواندوز على طلب النجدة من والي بغداد العثماني، فاستجيب طلبه، في الحال، مما اضطر الإيرانيين والبابانيين إلى أن إيقاف القتال.

ولم يلبث مير كور أن تعرض للخطر، من جانب العثمانيين، عندما قرروا القضاء على الإمارات الكردية، في أواخر القرن التاسع عشر. وبدأوا بانتزاع منطقة الشيخان، اليزيدية، من حكمه، ثم ثبتوا سلطانهم المباشر على نصيبين وماردين. وعلى الرغم من محاولة الإيرانيين دفع مير كور إلى إعلان الولاء لشاه إيران، إلا إنه لم يستجِب لهم، لاعتقاده أن في ذلك خيانة للمذهب السُّني، ولخليفة المسلمين.

وكان موقف مير كور يتدهور بسرعة، فسقطت ألتون كوبري وأربيل وحرير وكوي سنجق، في يد القوات العثمانية، بقيادة والي بغداد. وتقدمت القوات العثمانية في اتجاه رواندوز، وتخلى أعوان مير كور عنه، عندما صدر مرسوم (فرمان) سلطاني بعزله. وأدرك أن الأمور تتطور، بسرعة، ضده، فاستسلم، ونقل إلى استانبول، ثم قتل، عام 1838.

وعيَّن والي بغداد شقيق مير كور، المدعو "رسول"، حاكماً على رواندوز. وعندما حاول استعادة الحكم الذاتي الذي كان يتمتع به أخوه، تصدى له والي بغداد، بحملة عسكرية، فر على أثرها إلى إيران، عام 1846. وكان رسول هذا آخر حكام رواندوز، من الأمراء السورانيين.

وقد مهد سقوط الإمارة السورانية لسقوط إمارات كردية صغيرة، مثل الإمارة البهدينانية في العمادية، والإمارة البوتانية في جزيرة ابن عمر، ونور الله في حكاري.

ح. الإمارة البهدينانية

نشأت هذه الإمارة في مدينة العمادية، الواقعة على قمة جبل مرتفع، وسط سهل فسيح، مما جعلها قلعة حصينة، منيعة. حكمتها أسرة بهدينان، التي حظيت بتقدير السلطان العثماني، سليمان القانوني، فمنح حاكمها، حسن باشا، ولاية الموصل، عام 1600.

وكثيراً ما اضطر حكام العمادية إلى تبديل ولائهم، بين العثمانيين والإيرانيين. فخضع الأمير حسن باشا للشاه، تجنباً لسيطرة الأردلانيين، في أواخر القرن السادس عشر.

ولم تسلم هذه الإمارة من الصراع الداخلي بين أبناء الأسرة الحاكمة. وهو الطابع المميز لتاريخ كردستان كله.

وكان أعظم أمراء العمادية، هو بهرام باشا، الذي حكم مدة طويلة، وتوفي عام 1767. وخلفه ابنه إسماعيل، واستمر حكمه عشرين سنة. وبعد موته، عام 1787 شب الصراع بين أعضاء الأُسرة، وانتهى إلى توليِّ مراد بك، مبعوث الأمير الباباني، تنفيذاً لأمر والي بغداد، شؤون الإمارة. ثم تمكن هذا الوالي من القضاء على إمارة العمادية، عام 1839، التي استمرت تابعة لولاية الموصل، حتى عام 1849، وألحقت، بعدها، بولاية (وان)، ثم أعيدت، ثانية، لتتبع ولاية الموصل، في أواخر القرن التاسع عشر الميلادي.

ط. إمارة كريم خان زند، في إيران

إثر فترة من الحروب الطاحنة، أنشئت في إيران مملكة كردية مستقلة، هي المملكة الزندية، بقيادة كريم خان زند، في الفترة ما بين 1752 و 1795. وكان عهد كريم خان (1752م - 1779م) فصلاً مهماً من فصول التاريخ الكردي، إذ أعلن الاستقلال الكردي، وصار حاكماً لإيران كلها، تماماً مثل صلاح الدين الأيوبي، الذي حكم أمماً أخرى.

وكتب القنصل الفرنسي في بغداد، في رسالة بعث بها إلى باريس، عام 1763، يقول: "يبدو أن البلاد قد استعادت عظمتها وازدهارها تحت زعامة كريم خان، ذي التصرفات الحكيمة والنفوذ الشخصي. فقد حل الأمان والطمأنينة محل الفوضى المريعة والاقتتال المستمر، وقد استؤنفت التجارة، وأخذت القوافل التجارية تذهب إلى إيران وتعود منها، وأن خمسة وعشرين ألفاً من العائلات الإيرانية، التي كانت قد لجأت إلى العراق، أخذت، الآن، تعود لوطنها بالتدريج".

ووصف الرحالة الإنجليزي، مالكولم، القائد كريم خان بقوله: "عاش حياة سعيدة، ثم مات موتة أبٍ، تحفّ به أُسرته".

ي. إمارة بوتان

في عام 1821، تولى الأمير بدرخان إمارة الجزيرة وإقليم بوتان. وسعى إلى تخليص إمارته، وكردستان، كلها من الحكم التركي، وتوحيد إماراتها. وعزا الهزائم، اللاحقة بالأكراد، في انتفاضاتهم، إلى سببين:

(1) عدم اتحاد القوى الكردية حول فكرة وطنية واحدة.

(2) عدم وجود معامل للأسلحة والذخيرة، في كردستان.

لذا، بادر الأمير إلى العمل على لمّ الشعب، وتنظيم الصفوف بين القوى المختلفة. فأرسل إلى زعماء الكرد، المجاورين له، داعياً إياهم إلى الإتحاد، والعمل على إنقاذ كردستان. وبعث المبعوثين، لبث الدعوة إلى فكرة الوحدة. واستجاب الزعماء الأكراد لدعوته، من كل مناطق كردستان.

هذا في الجانب، السياسي والتنظيمي. أما في الجانب العسكري، فقد أنشأ في مدينة الجزيرة معملاً للأسلحة، وآخر للبارود.

وشرع يرسل الطلاب في بعثات إلى أوروبا، للتخصص بتجهيز الأسلحة والذخائر والمعدات الحربية. كما أخذ يبني السفن، لتسييرها في بحيرة وان.

ولما امتنع النساطرة المسيحيون، في إمارة بوتان، عن دفع الضرائب إلى الأمير بدرخان، بعث عليهم قوة عسكرية تؤدبهم. مما أثار هذا حفيظة الدول الأوروبية، خاصة بريطانيا وفرنسا، فاحتجت لدى الباب العالي، في استانبول، الذي أرسل، بدوره، مندوبين، لِثَنْيه بالوسائل السياسية، عمّا عزم عليه من توحيد كردستان. ولكن ذلك لم يجد نفعاً. فأوعز الباب العالي إلى المشير حافظ باشا، أن يرسل مندوباً من عنده، يجيد اللغة الكردية، إلى الأمير، يستوضحه نياته نحو الخليفة العثماني، ويدعوه، باسم الخليفة، إلى القدوم إلى إستانبول. ولما رفض الأمير بدرخان استجابة الدعوة، بعثت الدولة العثمانية عليه قوة عسكرية كبيرة، تمكن من القضاء عليها. وقطع علاقته بالدولة العثمانية، وأعلن استقلاله، وسك نقوداً باسمه، عام 1258هـ، كتب على أحد وجهَيها: "أمير بوتان بدرخان"، وعلى الآخر: "سنة 1258هـ".

وسيّر الباب العالي حملة أخرى، تحت قيادة عثمان باشا، ووقعت معركة قرب أورمية، بين الجيش العثماني وجيش الأمير بدرخان. وبعد انضمام قائد ميسرة الجيش الكردي، عزالدين شير، إلى العثمانيين، تمكنوا من احتلال الجزيرة، وهي مقر الإمارة. ثم حوصر الأمير في قلعة "أروخ"، ثمانية أشهر، وبعد أن نفدت مؤنه، استسلم للقوات العثمانية، فقضي على حركته.

في سنة 1877، وقعت الحرب الروسية ـ العثمانية، فجند العثمانيون كثيراً من المتطوعين الأكراد، وأُسندت قيادة قسم كبير منهم إلى أولاد الأمير بدرخان. ومنهم حسين كنعان باشا وعثمان باشا. فانتهز هذان القائدان الفرصة، واتفقا مع الضباط على التوجه نحو كردستان، لتحقيق ما فشل فيه والدهما من استقلال كردستان. فسافر الأميران الكرديان، سراً، إلى الجزيرة، عام 1879، واستوليا على مقاليد الأمور فيها، وأعلنا استقلال إمارة بوتان، التي امتدت إلى جولمريك وزاخو والعمادية ونصيبين، في بعض الأحيان. وأُعلن أكبرهما، عثمان باشا، أميراً وذُكر اسمه في خطب الجمعة. وتغلبا على الحملات العسكرية العثمانية الموجَّهة ضدهما. فعمد الباب العالي إلى سياسة المهادنة، إذ أمر السلطان عبد الحميد بإطلاق كل المعتقلين من عائلة بدرخان، وبعث إلى الأميرَين يدعوهما إلى حقن دماء المسلمين، واستعداده لاستجابة مطالبهم، بالوسائل السلمية. وتظاهر العثمانيون بمنح كردستان امتيازات خاصة، في الإدارة الداخلية. فدخل الأميران في مفاوضات مع السلطات العثمانية، في شأن الصلح، وتحقيق مطالب الكرد. وأحيطا بمظاهر الحفاوة، في خلال الاجتماعات. وصدرت تصريحات من المفاوضين العثمانيين، حول مطالب الأكراد وتحقيقها، في الجزيرة وفي كردستان كلها. وحيال ذلك اطمأن الأميران الكرديان، وأخذا يخففان من عدد الحراس، المرافقين لهما، عند حضور الاجتماعات. وذات يوم، أطبقت القوات العثمانية على الأميرَين وحرسهما. وأرسلت الأميرَين إلى استانبول، حيث أودعا السجن فترة من الزمن، ثم أُطلقا وفرضت عليهما الإقامة الجبرية بالآستانة.

وفي عام 1889، غادر كل من أمين عالي بك ومدحت بك، من أولاد الأمير بدرخان، الآستانة، سراً، ووصلا إلى طرابزون، حيث شرعا يتصلان مع رجال كردستان، بوساطة رجل، يدعى مصطفى نوري أفندي الشاملي. وجرى الاتفاق على أن تحتشد قوة مسلحة كبيرة، بقيادة بعض رؤساء الأكراد، في جويزلك، في منتصف الطريق بين أرضروم وطرابزون، وتكون في انتظار الأميرَين. وفعلاً، وصلت القوة الكردية إلى المكان المذكور، وسافر الأميران، سراً، من طرابزون، غير أن مصطفى نوري أفندي الشاملي، الذي كان الوسيط بين الأميرَين والقوات الكردية، أبلغ الأمر إلى الديوان السلطاني، الذي لم يتوانَ في إرسال قوات عسكرية، من أرضروم وأرزنجان إلى الجهات والطرق، التي يتوقع مرور الأميرَين منها. ووجد الأميران نفسيهما، مع القوة الكردية، على غرة، بين قوّتَين عثمانيتَين في جنوب مدينة أبيورت، وعلما أنهما وقعا في كمين. فجرت معركة، انجلت عن هزيمة الأكراد وهروبهم إلى جبال أرغني ومعدن واعتصموا بها. وبعد قتال، استمر فترة من الوقت، ومع وصول إمدادات عثمانية، استسلم الأميران الكرديان.

3. أهم الثورات الكردية في العصر العثماني

شهدت منطقة كردستان، في العهد العثماني، العديد من الانتفاضات والثورات المحلية، الناجمة، في الغالب، عن إلغاء الامتيازات والإقطاعيات الممنوحة للأغا أو الإقطاعيين الأكراد. أو هي نشبت لرفع الظلم والجور، الحاصلين من القوات العثمانية، ومن جمع الضرائب والتكاليف الباهظة، التي أثقلت كاهل الشعب الكردي. أو هي اندلعت، طلباً للاستقلال. وتعاقبت الثورات، طوال القرن التاسع عشر الميلادي. ومنها:

أ. كانت أعظم انتفاضات هذه الفترة، تلك التي اندلعت أثناء الحرب الروسية ـ العثمانية، في القرم (1853 ـ 1856) تحت قيادة يزدان شير، في منطقتَي حكاري وبوتان. بعَيد اندلاعها، استطاعت تحرير كل المنطقة، الممتدة بين بحيرة وان وبغداد. ومن أبرز خصائص تلك الانتفاضة، أنها لقيت تأييداً واسعاً من فئات الشعب، على نقيض ما حدث في الانتفاضة، التي قادها بدرخان. وقدم السكان المسيحيون العون إليها، بل أسهموا في القتال. وما أن حل يناير 1855، حتى بلغ تعداد قوات يزدان شير ثلاثين ألفاً، ثم ارتفع، في فبراير، إلى ستين ألفاً، ثم بلغ مائة ألف، من بينهم يونانيون وعرب.

وحاول القائد الكردي، أن يتعاون مع الجيش الروسي على محاربة العثمانيين، إلا إنه لم يفلح.

ودامت الانتفاضة عامين. ثم أرسلت بريطانيا قواتها، لمعاونة العثمانيين، من طريق مبعوثها، نمرود، ونجحت في إقناع يزدان شير بالصلح مع السلطان، فركن إلى الوعود، التي قطعت له، وسافر إلى القسطنطينية، وبسفره انتهت الانتفاضة. إلا أنها تركت آثاراً عميقة في المراحل التالية لنضال الأكراد. وما فتيء اسم يزدان شير، يُرَدَّد، بالتمجيد، في الفلكلور الكردي، حتى اليوم.

ب. في عام 1834، ثار أمير بدليس الشهير، شريف خان، ضد العثمانيين، حينما أرادوا إلغاء امتيازات إمارته، وكان مصير هذه الثورة الفشل.

ج. وثار في كردستان الشيخ عبيدالله (النهري) النقشبندي، من شمدينان، عام 1880، أثناء انشغال الدولة العثمانية بحربها مع روسيا. وكان الشيخ يهدف إلى تشكيل دولة كردية مستقلة، تشمل الجزء الجنوبي من ولاية وان، والجزء الشمالي من ولاية الموصل، على أن تكون تحت الإدارة العثمانية. وكان له نفوذ ديني واسع على مريديه وأتباعه، فأوقد فيهم الحماس، حتى اندفعوا إلى بلاد أورمية، حيث ارتكبوا مذابح ضد الشيعة.

وقد أفلح عبيدالله في بسط نفوذه على منطقة واسعة، بين بحيرة أورمية وبحيرة وان. واتخذ إصلاحات من شأنها القضاء على السلب والنهب، وتشجيع الزراعة والأعمال البناءة، واتَّبع سياسة ودية تجاه الأرمن والنساطرة.

وفي عام 1883، بعثت عليه الحكومة العثمانية حملة عسكرية، بالتعاون مع القوات الإيرانية، اضطرته إلى التسليم. ثم نُفي إلى الحجاز، ومكث في مكة حتى توفي فيها.

د. في أواخر القرن الثامن عشر بادر زعيم الملليين، وهم قبيلة خليط من التركمان والأكراد، تقطن في ما بين ماردين وديار بكر، تيمور باشا، إلى جمع العُصاة وقُطاع الطرق حوله، وهدد وُلاة ديار بكر، وأخل بالأمن. فجهزت الدولة العثمانية حملة عسكرية، قوامها ثلاثون ألف فارس، اتجهت إلى ماردين، حيث قضت عليه، وفرقت شمل عصابته، عام 1791. إلا أن حفيد تيمور باشا، تيماوي بك، ثبت لضربات الصدر الأعظم، رشيد باشا، الذي وجّه إليه حملات عسكرية، للقضاء على الإمارات الكردية. وخلفه ابنه محمود، الذي احتفظ بنفوذه بين قبائل الملليين، في ديار بكر. وترك لخلفه، ابنه إبراهيم باشا، اتحاداً قبائلياً قوياً، في أيام السلطان عبد الحميد.

ومع إعلان الدستور العثماني، وإطاحة السلطان عبدالحميد، عام 1908، لجأ إبراهيم باشا التيماوي، متزعماً قبيلة المللية، إلى أعمال العصيان، في تلك المنطقة. وجمع المغامرين، الذين التفوا حوله، فبسط نفوذه على المنطقة، حتى لقب بملك كردستان غير المتوج، مما اضطر الحكومة العثمانية إلى توجيه حملة تأديبية ضده، فقبضت عليه، ونفته إلى سيواس. وبعد فترة وجيزة، استطاع الهرب، والعودة إلى موطن قبيلته، في "يران شهر". وانتهز فرصة إعادة تكوين الحكومة العثمانية التشكيلات العسكرية الحميدية، فانخرط مع أتباعه فيها، وحصل على رتبة "مير ميران"، رئيس الرؤساء، مما هيأ له بسط نفوذه في الجزيرة وديار بكر، وأخضع القبائل الكردية المجاورة، وسيطر على المنطقة الممتدة بين ماردين والرها وأورفا وقراجه داغ. وبعثت عليه الدولة العثمانية حملة كبيرة، بعد عام 1908، وقبضت عليه وأعدمته.

هـ. وفي عام 1913، ثار الأكراد في ولاية بدليس، بقيادة الملا سليم، وشهاب الدين، وعلي، وانتهت ثورتهم بالفشل. ولجأ الملا سليم إلى القنصلية الروسية، في بدليس، حيث بقي مختبأ، إلى أن أعلنت الدولة العثمانية الحرب على روسيا، في الحرب العالمية الأولى، 1914. فاقتحم الجنود العثمانيون القنصلية، وقبضوا على الملا سليم، وشنقوه في أحد شوارع بدليس.

ومن جهة أخرى، عمدت الحكومة التركية، بحجة التراجع أمام القوات الروسية الزاحفة، إلى ترحيل سبعمائة ألف كردي من مواطنهم. وقد هلك كثير من هؤلاء قبل أن تنتهي فترة الإخلاء الإجباري هذه. وفي غمار الحرب العالمية الأولى، دمِّر العديد من القرى الكردية، وهلك العديد من قطعان ماشية الأكراد. وقتل آلاف من السكان المسالمين على يد القوات العثمانية، لا في كردستان تركيا فحسب، بل في كردستان إيران، كذلك.

4. سبب فشل الثورات الكردية

حملت الثورات الكردية عناصر فشلها، لأنها لم تكن مستندة إلى إيمان منبثق من تبلور الوعي، الثقافي والسياسي، بين الأكراد، كما كان ينقصها التعاون. وقد كان أغلب قادة تلك الثورات من زعماء القبائل. وكانت قبائلهم تأتمر بأوامرهم. وكان التعاون بين رؤساء القبائل ضعيفاً بل منعدماً. ومعظمهم كانوا يتمسكون بمصالحهم الذاتية، نتيجة سيادة النظام الإقطاعي. لذلك، كان كل زعيم كردي، يهتم بمصالحه الخاصة، غير معني بدعوات الزعماء الوطنيين. وآية ذلك، أن أغلب تلك الثورات، قد أخمدت بمعاونة رؤساء أكراد، مناوئين للزعماء الثائرين، بدوافع شخصية، أو بوحي من الحكومة العثمانية.

5. الألوية الحميدية الكردية

عقب الانتفاضات، التي جرت في أواخر القرن التاسع عشر، أخذ الباب العالي ينتهج سياسة أكثر مرونة، تجاه الأكراد. فأسست الدولة العثمانية، عام 1892، مدارس للقبائل، عرفت باسم "عشيرت مكتبلري"، ضمت إليها أبناء القبائل، العربية والكردية، وأبناء الأعيان، بهدف ربط هذا الجيل من الشباب، واستطراداً قبائلهم، بالدولة، وتنشئته على الولاء لها. وفي عام 1885، أنشأ السلطان عبدالحميد (1878 ـ 1908) كتائب محاربة، من أبناء العشائر الكردية، أطلق عليها اسم ألوية الخيالة الحميدية "حميدية آلاي لري"، ليستخدمها في حروب الدولة العثمانية مع الروس. وأنيطت بهذا الجيش الكردي، غير النظامي، مسؤولية توطيد النظام، وتقوية نفوذ الحكومة في كردستان. وفي الوقت نفسه، كانت تلك الألوية عاملاً مهماً في المحافظة على امتيازات الزعماء الأكراد، وسلطان رؤساء العشائر الكردية.

اضطلعت هذه التشكيلات بدورٍ مهمٍ في حماية الحدود العثمانية، مع روسيا وإيران، وشاركت في المعارك التركية ضد روسيا القيصرية. كما تورطت في الحوادث الدامية، الناجمة عن ثورة الأرمن، عامَي 1894 و 1895، حين ساعدت التشكيلات الكردية الدولة العثمانية على ارتكاب مذابح جماعية ضد الأرمن، في منطقتَي صاصون وحكاري، وتدمير قراهم ومدنهم.

ولكن العثمانيين لم يثقوا كثيراً بتلك الكتائب. فقد نص نظام الكتائب الحميدية، الصادر عام 1895، على منع أفرادها من ارتداء البزات العسكرية، وحمل السلاح، خارج فترات التدريب. ويمكن استدعاؤهم، خارج فترات التدريب، كذلك، إلى المحاكم الاعتيادية.

وبعد إعلان الدستور العثماني،عام 1908، أعيد تنظيم التشكيلات العسكرية الكردية، فاندمجت في أربع فِرق ولواء واحد، وكلها من قوات الخيالة الخفيفة. ثم ألغيت، بعد سنة من إعلان الحرب العالمية الأولى.

ثانياً: الحركة الوطنية الكردية، في النصف الأول من القرن العشرين

1. الوعي السياسي

بدأت الحركة الوطنية الكردية، في المجال السياسي، في عاصمة الدولة العثمانية، إستانبول، بعد خلع السلطان عبد الحميد الثاني، وصدور الدستور العثماني، وتولّي حزب الاتحاد والترقي أمور الحكم، في 23 يوليه 1908.

وعلى غرار النشاط القومي للمثقفين والضباط العرب في الآستانة، لإحياء القومية العربية، والمطالبة بالحكم الذاتي، كردّ فعل على الاتجاهات القومية التركية، ونتيجة للاتجاهات القومية، التي انتشرت بين الشعوب، في القرن التاسع عشر الميلادي - بادر عدد من النواب الأكراد في مجلس المبعوثان، إلى المطالبة بحق الأكراد في الحرية والإخاء والمساواة. وظهرت جمعيات كردية ثقافية، عام 1908، وصدرت صحف كردية، لتنمية الوعي بين الأكراد، وتعريف العالم بالقضية الكردية.

وكانت التنظيمات السياسية الكردية الأولى، تقف موقفاً إيجابياً من حكومة الاتحاد والترقي. فسمحت لها بالنشاط الثقافي، على أنها فروع لحزب تركيا الفتاة.

وقبْل ذلك، أصدر الأمير مدحت بدرخان جريدة كردية، عام 1315هـ/1898م، باسم "كردستان"، لتعريف الأمم والدول بالقضية، وتنمية وعي الأكراد أنفسهم بقضيتهم. وصارت هذه الجريدة لسان حال المثقفين الأكراد. وعلى أثر مرض صاحبها، ورئيس تحريرها، واصل شقيقه، عبدالرحمن بدرخان، إصدارها من القاهرة، ثم من جنيف، ثم من فولكستون . وبعد إعلان الدستور العثماني، عام 1908، عادت الجريدة الكردية إلى الصدور من استانبول، برئاسة الأمير ثريا بدرخان، ثم صدرت من القاهرة، في أثناء الحرب العالمية الأولى.

تأسست أول جمعية سياسية كردية، في الآستانة، عام 1908، تحت اسم "كردستان تعالي جمعيتي"، أي جمعية تقدم كردستان، على يد مجموعة من الأكراد البارزين، مثل: الأمير أمين عالي بدرخان، والفريق شريف باشا، والسيد عبد القادر (الذي شنقه الكماليون، فيما بعد، في ديار بكر)، والداماد (الصهر) أحمد ذو الكفل باشا. وأصدروا، كذلك، جريدة "الترقي والمساعدة الكردية المتبادلة".

وفي الوقت عينه، تأسست جمعية أدبية، فكرية، كردية، في الآستانة، باسم "جمعية نشر المعارف الكردية". ووفقت، عام 1910، في فتح مدرسة كردية، في إستانبول، من أجل تعليم أبناء الأكراد في الآستانة.

وتأسست جمعية "كرد تعاون وترقي جمعيتي"، أي جمعية التعاون والتقدم الكردية، عام 1908.

أقفلت هذه الجمعيات، والمدرسة الكردية، من قِبل حكومة الاتحاد والترقي، عام 1909، بعد إمعان الحكومة في سياسة تتريك شعوب الدولة العثمانية. فاضطرت جمعية تقدم كردستان إلى ممارسة نشاطها خفية.

وفي عام 1910، تأسست جمعية للطلبة الأكراد، في الآستانة، باسم " كرد هيوي طلبه جمعيتي"، أي جمعية الأمل للطلبة الأكراد، على يد عمر جميل أفندي وقدري جميل باشا، من أعيان ديار بكر، وفؤاد تمو بك الوانلي، ومحمود سليم، وزكي بك، من طلبة مدرسة الزراعة في إستانبول، وذلك بإيعاز من خليل خيالي الموطكي (موتكي) وتشجيعه. وأصدرت الجمعية عام 1913، جريدة "روزا كورد"، أي يوم الكرد، ناطقة باسمها. وتغير اسمها، بعد العدد الرابع، إلى "هه تاوي كورد"، أي شمس أو يوم الكرد. وواصلت هذه الجمعية نشاطها، حتى دخول إستانبول الحرب العالمية الأولى، فتعطلت أعمالها، بسبب سفر جميع أعضائها إلى ميادين الحرب.

بعد انتهاء الحرب عام 1918، عاودت جمعية "هيفي" أو "هيوي" نشاطها، حتى دخول مصطفى كمال أتاتورك إستانبول، عام 1922.

في الوقت عينه، كان يصدر عدد من مثقفي الأكراد، في الآستانة، جريدة كردية، باسم "زين"، أي الحياة.

وكانت قد تشكلت بعد الهدنة، عام 1918، في إستانبول، جمعية سياسية، باسم "جمعية استقلال الكرد". وضمت بين أعضائها جميع الأمراء والزعماء الأكراد. ثم انشق عنها بعض الأمراء، وأسسوا جمعية أخرى، باسم "كردستان اجتماعي تشكيلاتي جمعيتي"، أي جمعية التشكيلات الاجتماعية لكردستان. وتأسست جمعية أخرى، باسم "جمعية الشعب الكردي"، ومركزها القاهرة.

وأعاد نخبة من رجالات الأكراد، في الآستانة، تشكيل "جمعية تقدم كردستان"، عام 1918، وافتتحوا نوادي كردية، في عدد من مدن شرقي تركيا، مثل موش وبيتليس.

وواصل كثير من هذه الجمعيات نشاطها، في الآستانة، وعبْر فروعها في كردستان، حتى دخلت الحكومة التركية، بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، إستانبول، فانتقلت إلى بلاد أخرى، حيث واصلت نشاطها.

واقتصرت مطالب تلك الجمعيات والمنظمات على الحكم الذاتي لكردستان، وتقليص الضرائب المجباة، ونشوء إدارات محلية، وبناء مدارس، تدرَّس فيها اللغة الكردية، وأن يكون جميع الموظفين والضباط، العاملين في كردستان، من الأكراد.

ولم يكن لهذه الجمعيات أي تأثير في كردستان، الغارقة في الجهل، والبعيدة عن مراكز النشاط السياسي.

وأدى نشوب الحرب العالمية الأولى، عام 1914، إلى توقف كل هذه الأنشطة. وعندما أعلنت الدولة العثمانية الجهاد المقدس، أسهم فيه الأكراد بكل قواهم، من رجال وأموال. وتكبدوا خسائر كبيرة على يد القوات الأرمنية، التي انضوت تحت لواء الجيش الروسي، وانتقمت من الأكراد، في منطقة "بايزيد" و"الشكرد" و"وان"، وثأرت بما لحق بالأرمن، من قبْل، على يد الأكراد.

ورفض قادة جمعية تقدم كردستان أي أعمال ضد الأتراك، عندما طالب الشباب الكردي، من أعضاء الجمعية 1919م، باتخاذ قرار، حول إعلان استقلال كردستان، وطرد جميع القوات الأجنبية منها، بما فيها التركية ووقف سيد عبدالقادر ضد هذا الاقتراح، لأنه لا يليق بالحركة الكردية، في رأيه، الوقوف ضد الأتراك، في مثل هذا الظرف العصيب.

2. تقرير مصير الأكراد، في معاهدة سيفر (Sevres)، عام 1920 (أُنظر ملحق نصوص المواد الثلاث المتعلقة بالأكراد في معاهدة سيفر (Sèvres)، في 10 أغسطس 1920)

عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى، بانتصار الحلفاء، وهزيمة الدولة العثمانية، شعر فريق من الزعماء الأكراد بأن الحلفاء المنتصرين، يبيِّتون للأكراد سوءاً، إذ عزموا على إنشاء دولة أرمنية، تمتد حدودها من ساحل بحر قزوين حتى ساحل البحر الأسود، وتنحدر، غرباً، إلى البحر المتوسط، فتشمل ولايات: طرابزون وأرضروم ووان وبيتليس وديار بكر، وهي المناطق، التي يؤلف الأكراد أغلب سكانها.

ولذلك، نشط الحزب الوطني الكردي، في إستانبول، الذي يرأسه الأمير عبدالقادر شمدينان، مع أبناء بدرخان بجهود جبارة، لإقناع الحلفاء بتوحيد المناطق الكردية، ومنحها حكماً ذاتياً.

كما أخذ الجنرال شريف باشا السليماني، المقيم في باريس، على عاتقه تمثيل الجماعات السياسية الكردية، في مؤتمر الصلح، في باريس، في 22 مارس 1919، وفي أول مارس 1920. وقدم مذكرتَين إلى ذلك المؤتمر، ضمّنهما مطالب الأكراد، وحقهم في استقلال بلادهم ووحدتها السياسية، وأرفق بهما خريطة لكردستان كلها.

وكان شريف باشا، قد توصل إلى اتفاق مع رئيس الوفد الأرمني، بوغوص بوبار باشا، ينص على أن تكون البلاد الكردية مستقلة عن الدولة الأرمنية، المزمع إنشاؤها. ونتيجة لهذا الاتفاق، تقدَّما إلى مؤتمر الصلح، ببيان مشترك، يحددان فيه حقوق أمَّتَيهما. وقد وافق المؤتمر، مبدئياً، على هذا البيان.

وفرض ممثلو الحلفاء على الحكومة العثمانية المنهزمة معاهدة سيفر (Sèvres)، في 10 أغسطس  1920. وكان من مقتضاها تأليف حكومة أرمنية في ولايات طرابزون وأرضروم ووان وبيتليس (بدليس) (المواد 8- 93). وأشارت إلى إنشاء نوع من الحكم الذاتي للأكراد، القاطنين في منطقة، تصوروا حدودها في شرق الفرات وجنوبي بلاد أرمينيا، تحدها تركيا وسورية والعراق.

وشُرط الحكم الذاتي، باستفتاء أهالي المنطقة الكردية، المشار إليها. في ما إذا كانوا يريدون الانفصال عن الأتراك أم لا؟ ثم تُعرض نتيجة الاستفتاء على مجلس عصبة الأمم، لمناقشتها، وإصدار قراره في ضوئها، ذلك، حول الاستقلال الكردي. فإذا قررت عصبة الأمم جدارة الأكراد بالاستقلال، يبلغ القرار إلى الحكومة التركية، التي عليها أن تذعن له. فإذا بلغ الأمر إلى هذا الحدّ، لا يمانع الحلفاء، حينئذٍ، في انضمام أكراد الموصل إلى أكراد هذه الحكومة المستقلة استقلالاً ذاتياً.

على أن معاهدة سيفر، ولدت ميتة، فلم يكتب لها التنفيذ، إذ مزقتها انتصارات تركيا الحديثة، بقيادة مصطفى كمال أتاتورك، الذي دحر اليونانيين، وحرر الأناضول، وتفاهم مع الفرنسيين والإيطاليين. ثم عقد معاهدة لوزان، في 24 يوليه 1923، التي قضت على كل أمل في أن يكون للأكراد دولة مستقلة، أو اعتراف دولي.

وقد انتهى موضوع الأكراد إلى استبدال نصوص حول وجوب احترام الحقوق، الثقافية والدينية، للأقليات، بحقوقهم القومية والحكم الذاتي. وهكذا، خرج الأكراد من الحرب العالمية الأولى، وهم موزعون بين أربع دول: تركيا والعراق وإيران وسورية، إلى جانب أقليات كبيرة في جمهورية أرمينيا، التي كانت تابعة للاتحاد السوفيتي.