إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الأكراد والمشكلة الكردية




الملا مصطفى البرزاني
جلال طالباني
عبدالله أوج آلان
عبدالرحمن قاسملو


منطقة الأكراد "كردستان"



الأكــــراد

المبحث الثالث

الأكراد في العراق حتى حكم الأخوين عارف

أولاً: دولة العراق الجديدة، وقضية الموصل

احتل الإنجليز العراق، عام 1917، بعد طرد القوات العثمانية منه، ووضع تحت الانتداب الإنجليزي، في 3 مارس 1920. وأقر مؤتمر القاهرة، الذي أنهى جلساته في 9 أبريل 1921، المشروع الجديد لإنشاء دولة عربية في العراق، برئاسة الشريف فيصل بن الحسين. ونودي بالشريف فيصل ملكاً على العراق في 11 يوليه 1921م، وتوِّج على عرش العراق، في 23 أغسطس 1921.

وفي نهاية الحرب العالمية الأولى، كانت القوات التركية لا تزال محتفظة بمنطقتَي الموصل والسليمانية. بينما ترابط القوات البريطانية في جنوب الموصل. وعلى أثر توقيع معاهدة الهدنة، في مندروس، أو مودروس (Mondros, Moudros)، بين الحلفاء والدولة العثمانية المنهزمة، في أول نوفمبر 1918. انسحب القائد التركي بقواته من الموصل، إلى داخل الأراضي التركية، بموجب نصوص المعاهدة المذكورة.

وكانت بريطانيا وتركيا تعلمان أهمية الموصل النفطية. وحاول الأتراك الاحتفاظ بها، وضمها إلى تركيا الحديثة. فأقر المجلس الوطني التركي، في "الميثاق الوطني"، في 13 سبتمبر 1919، في مادته الأولى، ما يلي:

"إذا اقتضت الضرورة، يقرر مصير أجزاء الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تسكنها أكثرية عربية، والتي كانت، حين عقد الهدنة في 20 أكتوبر 1918، تحت احتلال القوات المعادية، وفقاً لتصويت سكانها الحر.

أما تلك الأجزاء (سواء كانت داخل خط الهدنة المذكورة، أو خارجه)، التي تسكنها أكثرية عثمانية مسلمة، متحدة في الدين والجنس والهدف، ومشربة بعواطف الاحترام المتبادل، وبالتضحية، وتحترم احتراماً كلياً متبادلاً الحقوق، القومية والاجتماعية، والظروف المحيطة بها، فتؤلف جزءاً من الوطن، لا ينفصل عنه لأي سبب، منطقي أو قانوني".

وبعد انتصار الأتراك على اليونانيين، وطردهم من غربي الأناضول وإزمير، أعلن مصطفى كمال، فيما يتعلق بمشكلة الموصل، أن الميثاق الوطني هو الحد الأدنى لحقوق تركيا. وأعلن عصمت إينونو، رئيس الوفد التركي إلى مؤتمر لوزان، عام 1923، بإصرار، أن سكان الموصل، هم من الترك المسلمين، بدليل أنهم انتخبوا عنهم نواباً في المجلس الوطني الكبير. وعقدت معاهدة لوزان، التي عالجت كافة الأمور بين تركيا والحلفاء، ورسمت الحدود التركية مع جيرانها (بلغاريا واليونان وسورية وروسيا وأرمينيا). إلا أنها أبقت الحدود التركية، الجنوبية والجنوبية الشرقية، من دون تسوية. فقد نصت المادة الثالثة على ما يلي: "ستتم تسوية الحدود الفاصلة بين تركيا والعراق، بطريقة دولية، بين الحكومتَين البريطانية والتركية، في غضون تسعة أشهر. وإن لم تتوصل الحكومتان إلى اتفاق، خلال المدة المعينة، تحال القضية إلى مجلس عصبة الأمم".

وعقد مؤتمر، في إستانبول، لبحث مشكلة الموصل، في 19 مايو 1924. وأعلن رئيس الوفد التركي، قائلاً: إن الترك والأكراد أبناء وطن واحد. وإنه من المستحيل اقتطاعهم من وطنهم، من أجل بضعة آلاف من الأشوريين. وكرر الحجة التركية القائلة إن الأكراد في ولاية الموصل، قد "انتخبوا عنهم نواباً في المجلس الوطني الكبير".

ولم ينجح مؤتمر استانبول، فعاد الطرفان، التركي والبريطاني، إلى مجلس عصبة الأمم. وحاول الأتراك، عام 1924، الاستيلاء على الموصل، بالقوة، ولكنهم انسحبوا منها، في العام نفسه.

وأُحيلت مسألة الحدود إلى مجلس عصبة الأمم، فقرر، في 30 سبتمبر  1924، تشكيل لجنة دولية، من ثلاثة أعضاء، للتحقيق في مشكلة الموصل، وتقديم تقريرها حول الحدود. وكان أعضاء اللجنة، هم: الكولونيل البلجيكي باوليس، والكونت تيكيلي، وهو رئيس وزراء المجر السابق، وفيرسن، الوزير السويدي المفوض، الذي تولى رئاسة اللجنة. وقد قررت اللجنة إجراء بالتحريات في المنطقة، فوصلت إلى الموصل، في يناير 1925.

وقدمت اللجنة تقريرها إلى مجلس عصبة الأمم. واقترحت تركيا إجراء استفتاء، يبيّن إرادة السكان. غير أن بريطانيا، عارضت الاقتراح، لأن الأمر يتعلق بخط الحدود، وليس بمنطقة من المناطق. وتقدم الجانبان بأرقام مختلفة عن القوميات القاطنة في الموصل.

وقد عَدَّ الإنجليز الأكراد آريين، لا تربطهم بالأتراك رابطة. أما الأتراك، فأعلنوا أنه لا يوجد فرق بين الأكراد والأتراك، وأن الأمّتَين، قد عاشتا، بود، جنباً إلى جنب، طيلة قرون عديدة.

وتوصلت اللجنة إلى استنتاجات تختلف عن ذلك كلياً "ليس الأكراد عرباً، ولا ترْكاً، ولا فرْساً. إلا أنهم قريبون من الفرْس أكثر من الآخرين. وهم يختلفون، ويجب تمييزهم عن الأتراك. وهم بعيدون عن العرب، ويختلفون عنهم أكثر".

ثم يمضي التقرير، قائلاً: "وفي حالة اعتماد النواحي العنصرية، وحدها، أساساً للاستنتاج، فإنها تقودنا إلى القول بوجوب إنشاء دولة كردية مستقلة. فالأكراد يشكلون خمسة أثمان السكان. وإذا صار الاتجاه إلى هذا الحل، فإن اليزيديين، وهم عنصر مشابه للأكراد، يجب أن يدخلوا ضمن عددهم، فتكون نسبة الأكراد، حينذاك، سبعة أثمان السكان".

وهذا يعني أن الوثائق الرسمية لعصبة الأمم، تعترف بوجود الأكراد كأمة مستقلة، وكذلك، بحقهم في إنشاء دولة كردية مستقلة. قرر مجلس عصبة الأمم، في 16 ديسمبر 1925، ضم الموصل إلى الأراضي العراقية.

ولقد قبِلت تركيا، آخر الأمر، بخط بروكسل، الذي عَّين حدودها الجنوبية، بموجب القرار، الصادر عن لجنة عصبة الأمم، في بروكسل، عام 1924.

وبذلك فصلت كردستان العراق عن كردستان تركيا. ودخل جزء من أراضي كردستان ضمن حدود الدولة العراقية.

وفي 13 يناير 1926، أبرمت الحكومتان، العراقية والتركية المعاهدة التي نظمت الحدود بينهما. وجاء في المادة 12 من المعاهدة المذكورة ما يلي:

"على السلطات التركية، والسلطات العراقية، الامتناع عن كل مخابرة ذات صبغة رسمية، أو سياسية، مع رؤساء العشائر أو شيوخها، أو غيرهم من أفرادها، من رعايا الدولة الأخرى، الموجودين، فعلاً، في أراضيهما، وعليها ألاّ تجيز، في منطقة الحدود، تشكيلات للدعاية، ولا اجتماعات، موجّهة ضد أي من الدولتَين".

وما أن حصلت بريطانيا على امتيازاتها النفطية، حتى فقدت كل اهتمام بإنشاء دولة كردية. ولم يكن في نية البريطانيين حسم القضية الكردية، بل أرادوا إبقاءها ورقة ضغط في أيديهم، للضغط على الحكومة العراقية الجديدة. فتعبّر بريطانيا عن موافقتها على استقلال الأكراد، في "حالة جريان الأمور في العراق مجرى، لم تستشر في شأنه، وتوافق عليه".

وفي يونيه 1930، انتهى الانتداب البريطاني على العراق، وأصبح دولة مستقلة.

ثانياً: الثورات الكردية في العراق

حدثت عدة ثورات كردية، ضد الدولة العراقية الناشئة. وكانت أسبابها مزيجاً من الشعور الوطني والشكاوى المحلية، وتسببها حكومات موجَّهة توجيهاً خاطئاً، لا تأبه بالاستجابة لمطالب الأكراد القومية.

وتلاشت مطالبهم بمرور الزمن حتى اقتصرت على استخدام اللغة الكردية، في المدارس والدوائر الحكومية، وهو حق من حقوقهم، التي قررتها عصبة الأمم، واعترفت بها الحكومة العراقية، في حينه.

ومع أن الحكومة العراقية، كانت تؤكد، بين الحين والآخر، التزامها باحترام تلك الحقوق المبدئية، إلا أنها كانت تتهرب، باستمرار، من تطبيقها. وكانت تتهم من يطالب بتطبيقها من الأكراد بالروح الانفصالية.

1. ثورات الشيخ محمود البرزنجي

تولى الشيخ محمود الحفيد البرزنجي، الذي ينتمي إلى أُسرة مشهورة في السليمانية، زعامة أسرته، وأدى دوراً خطيراً في تاريخ العراق، في سنوات الحرب العالمية الأولى وما بعدها (1917 - 1930). وكان للشيخ محمود الحفيد نفوذ ديني واسع بين الأكراد، وله سطوة وجبروت، أشاعا الرعب بين الناس في السليمانية. ساعده العثمانيون بدعم مالي، لإزعاج الإنجليز في الشمال العراقي، عام 1918. وحينما وقعت الدولة العثمانية اتفاقية الهدنة، في (موندروس) سلمته لواء السليمانية. ليحكمه باسمها وبقي الفوج العثماني المرابط هناك، تحت إمرته وفي تصرفه.

ولكن الشيخ البرزنجي، الطامع إلى السلطان والزعامة، تنكر للمعسكر الخاسر، واتجه إلى الإنجليز، وطلب منهم ألاّ يستثنوا كردستان الجنوبية من قائمة الأقوام المحررة. وسلم إليهم لواء السليمانية في نوفمبر 1918، وأسلم إليهم، كذلك، جنود الفوج العثماني وضباطه، أسرى. وكافأه الإنجليز على ذلك، بتعيينه حاكماً (حكمدار) في لواء السليمانية. وعينت إنجلترا الرائد نوئيل (Noel)، والرائد دانليس، مستشارَين له.

واجتمع الحاكم البريطاني في العراق، ولسن (Wilson)، في ديسمبر 1918، بالشيخ محمود، وزعماء القبائل الكردية في لواء السليمانية. ووجد أنهم غير متفقين على نوع الحكم، الذي ينشدونه للمنطقة الكردية: فقد أعرب فريق منهم عن رغبته في حكومة كردية مستقلة. وطالب فريق آخر بإلحاق منطقتهم بالعراق. كما وجد أن بعض الأكراد غير راغبين في حكومة، يرأسها الشيخ محمود الحفيد.

وبقي الشيخ البرزنجي يحكم لواء السليمانية، بوصف-ه ممثلاً لل-حكومة البريطانية. وتوسع نفوذه، وأخذ يتصل بالحركة المناوئة للبريطانيين، في شرناخ. وبدا للإنجليز ضرورة التخلص منه. ففي منتصف مارس 1919، عيِّن الميجور سون حاكماً سياسياً في السليمانية، لتقليص نفوذ الشيخ محمود، وإرجاعه إلى الوضع الذي يتلاءم مع مؤهلاته.

ورداً على ذلك، بادر الشيخ محمود، في 20 مايو 1919، إلى انقلاب في السليمانية، بوساطة فرقة عسكرية كردية، تسمى "الشبانة"، تسانده القبائل الكردية في إيران، مثل الهورامان ومريوان. واعتقل الضباط الإنجليز في بيوتهم، وتولى السلطة المطلقة، وقطع الخطوط السلكية مع كركوك. كما استولى على قافلة، تحمل مالاً وأسلحة، كانت متجهة من كفري إلى السليمانية، واستولى على حلبجة في 26 مايو 1919.

ولكن البريطانيين سيروا إليه حملة عسكرية، في 19 يونيه 1919، وأحاطت بالشيخ وقواته، في دربندِ بازيان قرب السليمانية، وتمكنت من أسره وهو جريح، مع جماعة من أتباعه، وأرسلتهم إلى بغداد. وتقدمت القوة البريطانية حتى دخلت السليمانية، من دون قتال. وحكم على الشيخ البرزنجي بالإعدام، ثم خفِّف الحكم، من قِبل القائد البريطاني، إلى السجن عشر سنوات، والنفي إلى الهند.

من جهة أخرى، بدأ الحاكم البريطاني العام في العراق، ينفّذ لائحة الانتداب البريطاني على العراق، بإيجاد وضع خاص للأكراد، يتيح لهم التطلع إلى حكم ذاتي، قبْل أن يجري استفتاء الشعب العراقي في إقامة حكومة وطنية مركزية، في العراق يرأسها الملك فيصل بن الحسين. فقد نصت المادة السادسة عشرة من اللائحة المذكورة، على أنه "لا يوجد في هذا الانتداب ما يمنع المنتدَب من تأسيس حكومة مستقلة، إدارياً، في المقاطعات الكردية، كما يلوح له".

وحينما نُظم استفتاء للشعب العراقي، عام 1921، في تنصيب الأمير فيصل بن الحسين، ملكاً على العراق، رفض الأكراد، في لواء السليمانية، الاشتراك في الاستفتاء. وأعلن الشيخ قادر، شقيق الشيخ محمود، المنفي، مطالبته بحكم ذاتي مستقل، ورفض فكرة الانضمام إلى العراق.

واستغلت تركيا هذا الوضع، للضغط على بريطانيا، في مسألة الموصل، التي لم تُحل، بعد. فحشدت قواتها العسكرية، وعززتها بقوات غير نظامية. وعلى أثر الاشتباك المسلح، بين الإنجليز وقوات الشيخ القادر، تقدمت القوات التركية داخل الحدود العراقية، والتقت مع القوات الكردية، في منطقة "بشدر"، الواقعة شمال السيلمانية. واحتل الأتراك كوي سنجق، وهددوا مدينة عقرة، واندفعوا في اتجاه العمادية.

ولكن سرعان ما تقدمت القوات البريطانية، وطردت القوات التركية.

وهكذا، لم يجد البريطانيون بدّاً من الاستعانة بصديقهم، وعدوّهم القديم، المنفي إلى الهند، الشيخ محمود. فسمحوا له بالعودة إلى السليمانية، فرجع إلى موطنه، في 14 سبتمبر 1922. واختاره الإنجليز رئيساً للمجلس المحلي المنتخب، ثم حاكماً عاماً .

وبدأ الشيخ ينظم قواته، ويوسع نفوذه في لواء السليمانية، بقسوة بالغة. وأخذ يتجه صوب كركوك، مهدداً باحتلالها وضمها إلى حكومته.

وكانت بريطانيا تعلم مسبقاً بما سيقدم عليه الشيخ محمود، وتريد بذلك الضغط على حكومة الملك فيصل، لكي توقع المعاهدة العراقية - البريطانية الأولى، التي وقعت، فعلاً، في 12 أكتوبر 1922.

وبادر الشيخ البرزنجي إلى إعلان نفسه "ملكاً" على كردستان، في نوفمبر 1922، بعد أن تبيّن له أن الإنجليز سوف يتخلون عنه، بعد ما استنفدوا أغراضهم منه.

وحينما بعثت عليه بريطانيا حملة عسكرية، واحتلت السليمانية، في 4 مارس 1923، تمكن من استردادها، وحررها من الإنجليز، في 11 يونيه 1923.

وعلى أثر خلوّ معاهدة لوزان في يوليه 1923، من فكرة إعطاء حق تقرير المصير للأكراد، الوارد في معاهدة سيفر - وأصدرت الحكومة العراقية بياناً، بضغط من البريطانيين، تعترف فيه بحق الأكراد، القاطنين ضمن حدود العراق، في تأسيس حكومة كردية، ضمن حدود العراق.

غير أن الأكراد، لم يهتموا بهذا البيان، وسرعان ما تبيَّن أن الحكومة البريطانية، لم تكن جادة في ضغوطها، إذ ضمت السليمانية إلى العراق، واستعيض ببيان لمجلس الوزراء العراقي، في 11 يوليه 1923، يبدي فيه نياته الحسنة تجاه الأكراد. وجاء فيه:

أ. إن الحكومة العراقية، لا تنوي تعيين موظفين عراقيين، في الأقضية الكردية، عدا الموظفين الفنيين.

ب. إن الحكومة العراقية، لا تنوي إجبار سكان الأقضية على استعمال اللغة العربية، في مراسلاتهم الرسمية.

ج. إن حقوق السكان والطوائف، الدينية والمدنية، في الأقضية المذكورة، ستؤمن تأميناً صحيحاً.

ورافق هذا البيان حشود عسكرية عراقية، للقضاء على حكم الشيخ محمود. وتمكن الجيش العراقي من احتلال السليمانية في 19 يوليه 1924. بيد أن الشيخ البرزنجي، أجبر الجيش العراقي على التخلي عن المدينة، فبعثت عليه حملة عسكرية أخرى، استطاعت أن تقضي على نفوذه، وعلى أتباعه وتجبره على الانسحاب إلى الجبال. وعيّنت الحكومة العراقية أحد الأكراد متصرفاً للواء السليمانية، تابعاً للحكومة المركزية. فاستتب الأمن، إلى حين، في تلك المنطقة.

واتخذ الشيخ محمود من مقاطعته الشاسعة، في شرقي السليمانية، مقراً لحرب العصابات، في اللواء. وفي أكتوبر 1926، عقد اتفاقاً مع الحكومة العراقية، يغادر، بموجبه، العراق، مع أُسرته، ويمتنع عن التدخل في الشؤون السياسية، مقابل رد أملاكه إليه، واتخذ إيران مقاماً.

وفي فبراير 1929، قدم ستة من النواب الأكراد في المجلس النيابي، عريضة، إلى رئيس الوزراء في العراق، طلبوا فيها:

أ. زيادة نفقات المعارف، في كردستان.

ب. تأليف وحدة إدارية كردية، تضم ألوية السليمانية وأربيل وكركوك ولواءً آخر جديداً، يجمع الأقضية الكردية في لواء الموصل، على أن يتولى أمر هذه الوحدة الإدارية مفتش كردي عام، يكون الصلة بين منطقة كردستان والحكومة المركزية.

ج. زيادة نفقات الخدمات العامة، في المنطقة الكردية.

وقد وافقت الحكومة العراقية، والمندوب السامي البريطاني، على المطلبَين الأول والثالث. ورُفض المطلب الثاني. واتُّفق على سَن قانون اللغات المحلية، الذي جعل اللغة الكردية لغة رسمية، في الأقضية، التي يكون فيها الكرد أكثرية السكان.

وكان مقرّراً، أن تجري انتخابات، في صيف 1930. ولكن أهل السليمانية رفضوا الاشتراك فيها، واندلعت مظاهرات حاشدة، في 6 سبتمبر 1930، فوقعت اصطدامات بين الأهالي والشرطة والجيش، فقتل 45 شخصاً، وجرح 200 شخص.

وهكذا، عادت الأحداث الدموية إلى المنطقة، من جديد تسلل الشيخ محمود من إيران، في خريف 1930، إلى حدود لواء السليمانية، وأعلن الثورة، وقدم طلباً إلى المندوب السامي البريطاني في بغداد، بأن تترك الحكومة العراقية جميع منطقة كردستان، ما بين خانقين وزاخو، وتتولى حكومة كردية، تكون تحت انتداب الإنجليز، ريثما تُصدر عصبة الأمم قرارها الأخير، في شأن استقلال العراق.

ووجّهت الحكومة العراقية حملة عسكرية، للقضاء على الثورة. واستمرت في قتال مع قوات الشيخ محمود، حتى مارس 1931. وانتهت بأن سلم الشيخ محمود نفسه للحكومة، في 13 مايو 1931. وفرضت عليه الإقامة الجبرية في المناطق الجنوبية، وظل مقيماً بها، حتى نشوب الثورة، عام 1941، فتركت له حكومة رشيد عالي الكيلاني حرية الإقامة بالمكان الذي يريد، فاختار العودة إلى السليمانية.

وبذلك، انتهت ثورات الشيخ محمود، التي استمرت من عام 1918 حتى عام 1931، لتبدأ شخصية كردية أخرى الثورة، من جديد.

2. ثورة البارزاني الأولى

في منتصف القرن التاسع عشر، ظهرت أُسرة تنتمي إلى رجل دين، يدعى محمداً، من شيوخ الطريقة النقشبندية، واتخذت اسم البارزاني، نسبة إلى قرية بارزان[1]. وحل محل الشيخ محمد، بعد وفاته، ابنه عبدالرحيم، ووسع دائرة نفوذه. وأنجب الشيخ عبدالرحيم خمسة أبناء، هم الشيخ عبدالسلام، والشيخ أحمد، والملا مصطفى، والشيخ صديق، ومحمد بابو. وسيطرت هذه الأُسرة على منطقة بارزان وما حولها، من القبائل الكردية.

وصار الشيخ عبدالسلام مرجعاً لبارزان، بعد وفاة والده. ورفض إرسال متطوعين من أتباعه إلى الجيش العثماني، في الحرب العالمية الأولى. وامتنع عن دفع الضرائب إلى الدولة العثمانية، وتمرد عليها في مدينة عقرة، فوجَّهت إليه حملة عسكرية، أَسَرَته، وأعدم في الموصل، بعد محاكمته. وتولى الأمور في بارزان، من بعده، شقيقه الشيخ أحمد، فبرز على المسرح السياسي، في زمن الاحتلال البريطاني. وقدم إليه الإنجليز العون، المادي والمعنوي، لبسط سيطرته على المنطقة الشرقية من كردستان.

بدأ الشيخ أحمد بن عبدالرحيم البارزاني بالتمرد على الحكومة العراقية، حين حاولت، في أكتوبر 1931، نشر مخافر للشرطة في منطقة بارزان، منعاً لاعتداءات البارزانيين المتكررة على القرى الكردية. ووقع تصادم دموي بين الشرطة والجيش، من جهة، وأعوان أحمد البارزاني، من جهة أخرى، في نوفمبر 1931، ثم توسعت الأعمال العسكرية، فيما بعد، حتى 22 يونيه 1932، حين قصفت الطائرات البريطانية القرى في منطقة بارزان فدمرت 1365 بيتاً واحتل الجيش العراقي زيتا في جوار الخاد كواندة وطوقت القوات الحكومية الشيخ أحمد البارزاني فاضطر إلى تسليم نفسه لقوات الحدود التركية.

ومع أن الحركة البارزانية الأولى، تعَد منتهية، منذ 5 يوليه 1932، إلا أن ذيولها استمرت نحو سنة كاملة، لم تنقطع الاضطرابات، خلالها، في المنطقة. ذلك أن الحكومة التركية، اكتفت بإبعاد الشيخ أحمد البارزاني إلى أرضروم، أما أخواه، الملا مصطفى، والشيخ صديق، وأولو بك، وخليل خوشوي، التابعان لهما، فقد ظلوا قرب الحدود، يعبرونها إلى الأراضي العراقية، فيعبثون بالأمن.

وفي 13 مايو 1933، أصدرت الحكومة العراقية قانون العفو العام عن جميع البارزانيين. وفي 29 يونيه 1933، سلم الملا مصطفى، والشيخ صديق، وأولو بك، أنفسهم مع مائتين من أتباعهم، في شيروان مازن، ولحق بهم الشيخ أحمد البارزاني.

ولم تهدأ منطقة بارزان، إذ تواصلت أعمال العصيان، التي انبرى لها، خليل خوشوي، أحد أعوان البارزانيين، وهرب الملا مصطفى، وتزعم العصيان، من جديد. فوجّهت الحكومة العراقية إليه حملة عسكرية، في فبراير 1936، وقتلت خليل خوشوي، والتجأ الملا مصطفى البارزاني إلى الجبال .

وبعد انقلاب الفريق بكر صدقي، عام 1936، قبل الملا البارزاني الإقامة الجبرية بلواء السليمانية، بعيداً عن منطقته.

3. ثورة البارزاني الثانية

وحينما نشبت الحرب العالمية الثانية، هرب الملا مصطفى من محل إقامته الجبرية بالسليمانية، وعاد إلى بارزان، في يوليه 1943، وعمد إلى الانتفاضة، وأخذ يهدد سلامة الأهالي، من جديد، ويقطع المواصلات، حتى استفحل أمره.

وأرادت الحكومة العراقية معالجة القضية، بالوسائل السياسية، فعيَّنت ماجد مصطفى، وهو كردي، في منصب وزير في الحكومة، وكلفته بالتفاوض مع البارزاني. ونجح ماجد مصطفى في مهمته، وانتهت بتسليم الملا مصطفى نفسه للجيش العراقي، في 7 يناير عام 1944. وجيء به إلى بغداد، وشُرط عليه أن يسلم أتباعه أسلحتهم، ومقابل ذلك، يُعاد أخوه أحمد البارزاني إلى منطقة بارزان، وتزوَّد المنطقة المواد الغذائية والملابس.

ولتحسين الإدارة المدنية، عيِّن سبعة ضباط ارتباط، من الأكراد العاملين، في الجيش العراقي، لإدارة منطقة بارزان، بصورة مؤقتة، بإشراف وزير الدولة، ماجد مصطفى وإدارته.

ولكن هذه الإدارة، أخذت تعمل لمصلحة الملا مصطفى البارزاني، وتسعى إلى تحويل الحركة، من حركة عصيان إقطاعي إلى حركة قومية كردية، ضد الحكومة العراقية. ولما أحيل الضباط الأكراد السبعة إلى التقاعد، التحقوا بخدمة الملا مصطفى البارزاني، مما أدى إلى استفحال أمره، وأصبح أقوى شخصية في المنطقة الكردية بأسْرها.

وزاد نفوذ البارزاني بين القبائل والعشائر الكردية، وقدم الضباط الأكراد، الذين التحقوا به، خدمات عسكرية عظيمة، في فنون القتال، وتأسيس مراكز عسكرية محصنة، تشرف على الطرق الرئيسية، المؤدية إلى منطقة بارزان. وفقدت الحكومة العراقية، هيبتها، واستُهين بها.

وقدم إليه الإنجليز بعض العون، المادي والعسكري. وكانت له اتصالات مستمرة مع الاتحاد السوفيتي (السابق).

وباشر الملا مصطفى البارزاني عصيانه، في أغسطس 1945، عندما أمرت الحكومة قواتها باحتلال منطقة التمرد، والقبض على العُصاة وإعادة الطمأنينة والأمن للمنطقة.

وكانت قوة البارزانيين حوالي 2500 مسلح، مزودين بالبنادق الحديثة، وكانوا يسيطرون على منطقة واسعة، تمتد من روست حتى العمادية، ومن سر عقرة حتى نهاية برادوست. ويقودهم سبعة من ضباط الجيش السابقين، وكان على مقربة منهم الجيش الروسي، الذي قدم إليهم العون، المادي والمعنوي. وخلال حشد الجيش، طلب الملا مصطفى من جمعية "الكومه له"، أي اللجنة أو العصبة، الكردية، في إيران، عوناً عسكرياً عاجلاً، فأمدته بأربعمائة مسلح، من طريق منطقة برادوست، المحاذية للحدود الإيرانية.

ووقع القتال بين قوات الحكومة والبارزانيين، في 25 أغسطس 1945، في بادليان، على مقربة من بله، وكان قتالاً شرساً وقاسياً على الطرفَين. ولم تسفر المعركة عن نتائج حاسمة، حتى 4 سبتمبر 1945، حينما حقق الجيش العراقي بعض النجاح، باحتلال بعض المواقع البارزانية. وبعد قتال عنيف، متقطع لعدة أسابيع، تمكن الجيش، والقوات غير النظامية، من هزيمة البارزانيين، ودخلوا قرية بارزان، في 5 أكتوبر 1945، وطاردوا فلول البارزانيين إلى (كاني رش)، في اتجاه الحدود الإيرانية، في 9 أكتوبر 1945.

ودخل الملا مصطفى البارزاني منطقة آذربيجان الإيرانية التي كانت تحت الاحتلال الروسي، أثناء الحرب العالمية الأولى، ووصل أخوه أحمد إلى إيران. وبقي الملا، سنة ونصف السنة، في آذربيجان، تحت ظل الحكومة الكردية، التي أسسها الروس في صاوجبلاق الإيرانية، برئاسة جعفر بيشواري.

وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، عام 1945، اضطر الروس إلى الانسحاب من إيران، بعد أن ثبتوا أركان حكومة جمهورية مهاباد الكردية، التي ضمت حكومة بيشواري، ونصب القاضي محمد رئيساً لها.

ولكن هذه الجمهورية، انهارت أمام القوات الإيرانية، واشتبك البارزانيون مع القوات الإيرانية، التي تعقبتهم حتى الحدود العراقية، حيث وجدوا القوات العراقية أمامهم، فاستسلم لها القسم الأكبر منهم. ودخلت قوافلهم، مع أُسَرهم، إلى العراق، في أبريل 1947، وبينهم أحمد البارزاني وأربعة من الضباط الأكراد. وقد حوكم الضباط وأعدموا. أما الملا مصطفى البارزاني، فقد رفض الاستسلام، وتسرب عبر الحدود العراقية، وبدأ يناوئ الحكومة.

وبناء على تجدد العصيان البارزاني، أُعلنت الأحكام العرفية في قضاءَي رواندوز وزيبار، وسائر المناطق المتاخمة للحدود العراقية - الإيرانية. وتجمعت قوات البارزاني في شمال شيروان مازن، وفي 20 مايو 1947، باغتت القوات العسكرية العراقية قوات الملا مصطفى البارزاني، في هوبا، عند السفوح الشمالية لجبل بوتين. وحينما تأكد من عدم قدرته على المقاومة، هرب إلى تركيا، ومنها دخل إلى إيران، ثانية، حيث يمَّم صوب الاتحاد السوفيتي، والتجأ إلى الروس. وبذلك، هدأت الأحوال في منطقة كردستان العراقية، لأكثر من إحدى عشرة سنة.

وفي الاتحاد السوفيتي، منح الملا مصطفى حق اللجوء السياسي، وتدرب على الفنون العسكرية، إذ اشترك في بعض التدريبات العسكرية، وأعطي رتبة (جنرال) شرف.

وفي الاتحاد السوفييتي، كذلك، أسَّس الملا مصطفى البارزاني، الحزب الديموقراطي الكردستاني، الذي عرف، فيما بعد، باسم "البارتي"، وارتبط الحزب بالشيوعية والتيارات الماركسية. وبوساطة العناصر الشيوعية في العراق، أسَّس له فروعاً في المنطقة الكردية العراقية. ونشط الحزب في إصدار المنشورات, وأصدر مجلة حزبية. واكتشفت السلطات العراقية أمره، فاعتقلت معظم أعضاء لجنته المركزية، فتفرق أعضاؤه.

وشهدت الفترة من عام 1947 إلى عام 1958، ركوداً في الحركة الكردية.


 



[1] تقع قرية بارزان على سفوح جبال شيرين الجنوبية الواقعة في جنوب سلسلة جبال شيروان الفاصلة بين حدود تركيا مع العراق. وهي تابعة لقضاء الزيبار وتقع على بعد 25 كم شمال شرقي مدينة عقرة .وتقع في منطقة جبلية وعرة تحيط بها الجبال وترتفع أكثر من ألفي متر فوق مستوى سطح البحر، هذا الموقع جعلها منيعة على من أرادها وأكسبت أهلها البأس والشدة، وصارت موئلاً للعصيان وملجأ للهاربين من العدالة.