إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الأكراد والمشكلة الكردية




الملا مصطفى البرزاني
جلال طالباني
عبدالله أوج آلان
عبدالرحمن قاسملو


منطقة الأكراد "كردستان"



القدرة الشاملة لإيران

المبحث التاسع

أوضاع الأكراد في مطلع الألفية الثالثة

ارتبطت قضايا الأكراد مع مطلع الألفية الثالثة بالقضايا الدولية والإقليمية المعاصرة، وبقيت الأوضاع ملتهبة في إقليمي كردستان العراق، وكردستان تركيا، بينما اتسمت بالهدوء الحذر في باقي المناطق التي تقطنها قوميات كردية، سواء في إيران أو سورية، أو أرمينيا.

حقق أكراد العراق من المزايا القومية العديدة ما لم تحققه باقي القوميات الكردية، وذلك بسبب المتغيرات الحادة التي لحقت بالعراق، واستمرت طوال عقد التسعينيات من القرن العشرين، وأدت إلى إطلاق يد القيادات الكردية في التصرف دون رقابة الدولة.

كان هذا التصرف يحمل العديد من التوجهات، بدءاً من تحقيق الغاية القومية في بناء دولة كردية على أرض كردستان العراق، وهو أمل تاريخي للشعوب الكردية، مروراً بالانتقام من النظام العراقي نفسه، الذي وضع الأكراد طوال فترة حكم البعث على مستوى مواطنين من الدرجة الثانية، واستخدم ضدهم العديد من ألوان التنكيل والقهر، إنتهاءاً ببناء تحالفات مع قوى كبرى لضمان مستقبل القضية الكردية وعدم عودتها إلى سابق عهدها.

أمَّا في تركيا، فقد تسببت الأزمة بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني، التي استمرت طوال عقد التسعينيات، في كثير من الخسائر، وكلفت الدولة التركية عشرات المليارات من الدولارات، إلا أن النجاح الحقيقي الذي حققته تركيا في هذه المرحلة، هو عدم تمكين أكراد تركيا من الارتباط بعلاقة مع أكراد العراق، قد تؤدى إلى تغيير الخريطة السياسية للمنطقة.

إلى جانب تقليص قدرة حزب العمال الكردستاني، إلى أن أُلقي القبض على زعيمه "عبد الله أوجلان" والعديد من قياداته في نهاية عقد التسعينيات وبالتالي، فإن الأوضاع الكردية بدت مع مطلع الألفية الثالثة تتمتع بحراك محدود، وتحت السيطرة الكاملة من النظام العالمي الجديد، وتحت مراقبة دقيقة من القوى الإقليمية في المنطقة.

أولاً: أوضاع الأكراد في العراق

أدت الأخطاء الجسيمة التي ارتكبها النظام العراقي السابق إلى متغيرات حادة، عكست آثارها على قضايا الأكراد في العراق، بحيث يمكن الحكم، بأن أكراد العراق حصلوا على أكبر المكاسب من أخطاء النظام البعثى العراقي، وتمكنوا – بالاستفادة من هذه الأخطاء – من بناء قومي كردى في شمال العراق، سوف يلقى بظلاله مستقبلاً على الخريطة السياسية لمنطقة الشرق الأوسط بأكملها. وأوضاع الأكراد في العراق ذات شقين: الأول يتعلق بالمتغيرات في دولة العراق الأم، والثاني يتعلق بالمتغيرات في سياسات الأكراد أنفسهم.

ثانياً: المتغيرات في العراق وانعكاساتها على مجتمع الأكراد

بلغ عدد سكان العراق، في عام 2000 نحو 24 مليون نسمة ينقسمون إلى سكان مدن بنسبة 75%، وسكان الريف بنسبة 25%، كما تعددت التركيبة الأثنية في العراق، حيث كانت نسبة العرب حوالي 77.1%، والأكراد 18 - 20%، والتركمان 1.4%، والأشوريين 0.8%، والفرس 0.8%، وكانت التركيبة الدينية تحتوى على مسلمين بنسبة 95.8%، (وينقسمون إلى شيعه بنسبة 53.5%، منهم عرب وأكراد وفرس وتركمان – وسنة بنسبة 42.3% منهم عرب وأكراد وتركمان). ثم يأتي المسيحيون بنسبة 3.5%، وديانات أخرى بنسبة 0.7%.

والمجتمع العراقي بهذه التركيبة تغير تماماً، خاصة منذ عقد الثمانينيات في القرن العشرين، نتيجة للارتفاع الكبير في أسعار النفط، والذي ظهرت آثاره إيجابياً على الشعب العراقي ووفر له إمكانات كبيرة، ثم اندلعت حربا الخليج الأولى والثانية لتعمق المتغيرات في هذا المجتمع، والذي ساعد عليها الحكم الشمولي في العراق.

تشير الإحصائيات إلى أن عدد المليونيرات في العهد الملكي في العراق، لم يتعد 23 فرداً، ، وارتفع هذا العدد فى عام 1980، ليصبح 800 مليونيرا، وفى عام 2000 أصبحت أكثر من 3000 عائلة تمتلك الملايين.

وزاد أصحاب المصانع الكبيرة عن 6000 مالك، وأعضاء الغرف التجارية إلى حوالي 10 آلاف، واتحاد المقاولين إلى أكثر من 3000 عضو، ووصل عدد رجال الأعمال الأثرياء إلى حوالي 25 ألفا، بمعدل رجل أعمال ثري لكل ألف نسمة، ولم تقتصر هذه الأرقام على النظام الحاكم فقط، بل امتدت إلى الأكراد في الشمال، والشيعة في الجنوب خاصة لتقوية مكانة القوى الموالية للحكومة المركزية.

وهذا لم يمنع وجود أكراد ساخطين على النظام، وقلاقل مستمرة، ومواجهات بين السلطة والأكراد، نظراً لأن الدولة في العراق لم تحقق التوازن بين معادلات الاستقرار المتعارف عليها، والتي تحقق أمن النظام، وتتمثل هذه المعادلات التي لم يحققها النظام العراقي في الآتي:

1. المشاركة السياسية

وذلك من خلال التمثيل السياسي لكل مكونات المجتمع في أجهزة الدولة (البرلمان – الحكومة) بصورة متساوية، وهو ما لم يطبقه النظام العراقي لا مع الأكراد في الشمال، ولا مع الشيعة في الجنوب، وبقيت الغلبة للسنة في الوسط، ما أدى إلى وجود فجوة هائلة في انعدام الثقة بين الأكراد والسنة، بل أن النظام العراقي حاول في كثير من الأوقات خلخلة المجتمعات الكردية من خلال تشجيع مجتمعات سنية للهجرة، وتكوين مجتمعات تتفوق عدداً على الأكراد في العديد من المناطق ذات الأهمية الاستراتيجية مثل كركوك والموصل.

2. المشاركة الاقتصادية

أي إتاحة الفرصة لكل رجال الأعمال من كل الأديان والأثنيات والطوائف والمناطق، ولكل الطبقات الوسطى، بالانتفاع من العملية الاقتصادية بدلاً من أن تحصر الدولة مقاولاتها في حفنة من الأتباع في مناطق محددة، وفى هذا فقد اهتمت الحكومة العراقية بالموصل على حدود المنطقة الكردية، دون أن تقوم بتنمية حقيقية داخل مجتمع الأكراد، ولكنها – في نفس الوقت – أغدقت على الأكراد المنتسبين أو المؤيدين للسلطة، وبقدر ولائهم، حوّلوا إلى أثرياء.

3. المشاركة الثقافية

بمعنى احترام كل الأديان والمذاهب والشعائر واللغات والتوجهات الثقافية، حتى يتحقق التحام الأمة، وهو ما لم تنفذه الحكومة العراقية بشفافية تجاه الأكراد، ولم تنفذ من البنود التي نص عليها قانون الحكم الذاتي للأكراد عام 1974- غير البند المتصل باللغة وأهملت غيره من نصوص القانون.

4. المشاركة الإدارية

أمّا فيما يتعلق بالجيش وقوات الأمن خاصة، والمخابرات والجهاز الإداري للدولة عامة، بقى الأكراد مواطنين من الدرجة الثانية في تعامل الدولة معهم في هذا المجال، ومن كل ما سبق، فإن النظام دخل في صراع مع الأكراد، وكانت أحد الأهداف الرئيسية لهذا الصراع هي تعميق الفجوة بين فصائل الأكراد المختلفة. وقد ظل الصراع مشتعلاً حتى عام 2000 وراح ضحيته مئات القتلى من الجانبين.

لم تتوان الولايات المتحدة الأمريكية للحظة واحدة، بل انتهزت هذه الظروف لإفقاد الحكومة العراقية السيطرة على ربوع البلاد، وكانت عملية "ثعلب الصحراء" (17 – 20 ديسمبر 1998) التي استمرت لمدة 70 ساعة قامت القوات الجوية والصاروخية الأمريكية خلالها بتدمير العديد من الأهداف العسكرية والصناعية والبنية الأساسية في العراق، ثم أعلن الرئيس الأمريكي بيل كلينتون في أعقابها إستراتيجية الولايات المتحدة تجاه العراق في الآتي:

1. أنه طالما بقى صدام حسين في السلطة، سيكون مصدر تهديد، حيث يشكل خطراً على شعبه وعلى المنطقة بالكامل.

2. لابد من وجود حكومة جديدة، كما يجب التعاون مع المعارضة للعمل على إمكان عودة العراق إلى وضعه الطبيعي في المنطقة.

3. يجب استمرار وجود قوات عسكرية قوية في المنطقة لردع صدام في الوقت المناسب، ومنعه من توجيه قواته الجوية ضد جيرانه، أو ضد الأكراد في الشمال، أو الشيعة في الجنوب.

4. يجب استمرار الحصار الاقتصادى الذي كلف صدام حسين 120 مليار دولار، مع استمرار برنامج النفط مقابل الغذاء في حدود 10 مليار دولاراً سنوياً.

5. لن يسمح المجتمع الدولي بأن يهدد العراق جيرانه في أي وقت:

ومن خلال تنفيذ تلك الإستراتيجية تقلصت قدرات الحكومة العراقية في السيطرة على أرجاء العراق، خاصة المناطق الشمالية، حيث انطلق الحزبان الكرديان إلى تنفيذ ما يحلو لهما من دون رقابة من الدولة، وكان الفاعل الرئيسي الذي يؤثر على حركة الأكراد في الشمال، هو الولايات المتحدة الأمريكية ذاتها، وتركيا، وغيرهما. واستمرت المتغيرات في العراق المؤثرة على قضايا الأكراد على مرحلتين أساسيتين:

الأولى: حصار العراق، مع استمرار النظام العراقي في الحكم، والتي استمرت حتى 19 مارس 2003.

الثانية: غزو العراق، والإطاحة بالنظام البعثى، والسيطرة الكاملة للولايات المتحدة الأمريكية على تسيير الأمور في العراق (سلباً وإيجاباً).

وكان العراق محاصراً طوال عقد التسعينيات من القرن العشرين، وكان هناك شبه تقسيم أمنى يفقد الحكومة المركزية السيطرة على الأكراد في الشمال، والشيعة في الجنوب، نتيجة لفرض مناطق الحظر الجوى، إلا أن النظام العراقي لم يترك فرصة تضيع دون التدخل، سواء بالاستقطاب أو التآمر أو منع وصول الدعم أو الاغتيالات حتى لا يبقى المجال مفتوحاً أمام الأكراد في الشمال والشيعة في الجنوب لتكرار ما حدث في انتفاضتي عام 1991.

في نفس المجال، تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، من خلال الحصار، واستمرار الضربات العسكرية شبه اليومية في تقليص قدرة العراق العسكرية والاقتصادية، وشل حركة النظام العراقي في السيطرة على شمال العراق ـ بصفة خاصة ـ بما هيأ فرصة سانحة للأكراد في تحقيق تجربة حكم ذاتي برغم الخلافات بينهم.

تمكنت الولايات المتحدة الأمريكية ـ قائدة النظام العالمي الجديد ـ من استخدام منظمة الأمم المتحدة، وآليتها الرئيسية (مجلس الأمن الدولي) في فرض الوصاية على العراق، سواء من خلال القرار الرقم 986 في 14/4/1995 والخاص بقرار النفط مقابل الغذاء والذي خصص 13% من المخصصات لصالح الأكراد، أو القرار 1284 في 17 ديسمبر1999، والخاص بتعليق العقوبات شريطة قبول العراق التعاون مع لجنة التفتيش الدولية وتحقيق مراقبة دائمة على برامج إنتاج أسلحته، والخضوع لترتيبات مالية تتعلق بتسليم السلع والمنتجات المدنية المسموح بها للعراق.

وقد أدت هذه العقوبات إلى نتائج مخيفة على العراق شعباً ودولة، فالشعب تعرض لأبشع ألوان المعاناة من مجاعة وفقر وحرمان وافتقاد أبسط مقومات الحياة الإنسانية من غذاء ودواء، وفقدت الدولة معالم حضارتها ومدنيتها التي كانت قبل حرب الخليج الثانية، وفقد المجتمع قدرته على التماسك الداخلي، وأصيب البنيان القيمى والأخلاقي بالتصدع، وتمزقت الحياة الاجتماعية، وانتشرت مظاهر الفساد والتخلف والبطالة، وزادت معدلات الجريمة، كما زادت معدلات هجرة العلماء وأصحاب العقول، وأصحاب رؤوس الأموال إلى خارج العراق.

وإذا كانت هذه المظاهر تبدو واضحة في أرجاء العراق، إلا أن منطقة كردستان العراق كانت هي الأقل معاناة نتيجة الدعم المقدم لها من الولايات المتحدة الأمريكية.

طرح في مجلس الأمن، مع مطلع الألفية الثالثة مشروع قرار" العقوبات الذكية" على العراق، والذي كان يهدف إلى تخفيف معاناة الشعب العراقي، وإزالة العراقيل التي تعترض تدفق البضائع المدنية، وتخفيف الحصار في إطار العقود الإنسانية، وهو الطرح الذي رأت فيه دوائر دولية سياسية وإعلامية طرحا ذكيا للعقوبات، في ثوب تخفيف المعاناة عن الشعب العراقي، وتقليص قدرة النظام في توزيع السلع على الجماهير، بما يقلل من شعبيته، ويساعد على توسيع الفجوة بين النظام والشعب، وعموماً فإن هذا الطرح لم يطبق بصورة عملية، نظراً لأحداث 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي كانت بمنزلة زلزال عمت توابعه أرجاء العالم، خاصة في العراق.

في أعقاب تولى الإدارة الجمهورية برئاسة الرئيس جورج دبليو بوش السلطة في الولايات المتحدة الأمريكية في 21 يناير 2001، طفت على السطح قضية العراق، وظهرت ملامح لمدى ما تحمله الإدارة الجديدة من كراهية للنظام العراقي، وجاءت في أعقابها أحداث 11 سبتمبر2001، حيث شملت الإستراتيجية الأمريكية الدول والمنظمات المستهدفة في شن الحرب على الإرهاب من خلال رسالة بعث بها "صقور المحافظين الجدد" إلى الرئيس بوش في 20 سبتمبر2001 يحددون فيها أسبقيات شن الحروب في المنطقة كالآتي:

1. الأسبقية الأولى: شن الحرب على أفغانستان للقبض على أسامة بن لادن أو قتله، وتدمير قاعدته، وإسقاط حكم طالبان.

2. الأسبقية الثانية: شن الحرب على العراق، لإسقاط نظام صدام حسين، وتصعيد نظام بديل يحقق أهداف الولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة.

3. الأسبقية الثالثة: تفتيت حزب الله وتقليص قدرته بالضغط على إيران وسورية، للتوقف فوراً عن دعمه.

4. الأسبقية الرابعة: شل قدرة الفصائل الفلسطينية، من خلال دعم إسرائيل للتصرف حيالها.

ومن خلال هذا التوجه، وتوقع النظام العراقي لما قد يحدث، خاصة في أعقاب غزو أفغانستان، وتحول التوجه السياسي/ العسكري الأمريكي نحو المنطقة، فإن النظام العراقي بدوره شرع في استخدام إستراتيجية قاصرة لمواجهة أي عمليات غزو منتظرة تتحدد في الآتي:

1. ربط أمن النظام بأمن الدولة، واتخاذ كل الإجراءات الأمنية من أجل بقاء النظام وحمايته.

2. إهمال القضايا البعيدة عن مركز الدولة (ومن ضمنها قضية الأكراد)، وبالتالي توفر للأكراد مجالات خصبة للتصرف الذاتي بعيداً عن رقابة النظام.

3. رفض النصائح العربية أو إجراء التنسيق من أجل إبعاد شبح الحرب عن العراق والإصرار على مواجهة الأزمة بصورة منفردة.

4. تطبيق خطة عسكرية قاصرة لاتساير مواجهة التفوق الأمريكي المنتظر.

5. عدم إتخاذ إجراءات فعالة، ضد المعارضة العراقية (وبينها كوادر كردية)، حيث تحركت هذه المعارضة بحرية تامة للتعاون. مع قوات الغزو.

6. لم تحرك القيادة العراقية ساكناً في سبيل توحيد الأمة ضد الأخطار الخارجية، واقتصرت إجراءاتها في تحفيز عناصر حزب البعث، وبالتالي فقد خرج شمال العراق من أي إجراءات تدعمها الدولة لحشد الشعب في مواجهة الغزو، وكانت من نتيجة ذلك أن اندمجت البشمركة، وهي الميلشيات الكردية المسلحة، إلى قوات الغزو ضد الجيش العراقي نفسه.

ثالثاً: المتغيرات في المجتمع الكردي في بداية الألفية الثالثة

وإتساقاً مع المتغيرات على المستوى الإقليمي والعالمي، والمتغيرات في المجتمع العراقي نفسه، فقد حدثت متغيرات هامة داخل المجتمع الكردي في العراق عكست آثارها على التمايز الإجتماعى والثقافي للأكراد، وأدت إلى ظهور تيار قومي ينقسم إلى كتلة سليمانية، وكتلة أربيلية، وتيار إسلامي، وآخر يحافظ على التيار الماركسي، وأهم المتغيرات في هذا المجال تتحدد في الآتي:

1. تعميق الفجوة بين سكان الكتلة الحضرية وسكان القرى، وسكان المدن أنفسهم  فمثلاً تعد كتلة السليمانية كتلة حضرية تنتهي إلى الطبقات الوسطى الحديثة، ومن ثم، تخرج منها معظم الكوادر الكردية. أمّا كتلة أربيل فيغلب عليها الطابع القبلي، وهو ما يميز القيادات التي تخرج منها، وفي نفس السياق، تتعدد الثقافات الكردية خاصة من جانب اللغة، والتي هي لغة التفاهم بين الجماعات المختلفة، واختلاف لهجاتها ينم عن تباعد مستويات التفاهم.

2. تصاعد تأثير التيار الإسلامي في منطقة كردستان، فبينما حصل التيار الإسلامي على نسبة 3% من الأصوات في الانتخابات البلدية عام 1992، ارتفع رصيده ليحصل على 18% من الأصوات في الانتخابات عام 2000 في محافظتي أربيل ودهوك.. ويسيطر التيار الإسلامي على منطقة (حلبجه) (التي قصفت بالغازات السامة عام 1988)، وأبرز قبيلة هناك هي قبيلة بابان التي أمدت الحركة الإسلامية بالكثير من كوادرها ومؤيديها، وقد دخلت الحركة في صراع مع البارازانيين والطالبانيين، وهو صراع أيديولوجي وسياسي،  لا يخلو من جذور قبلية.

3. بروز كتلة رابعة (إلى جانب كتلة الطالبان والبرزاني والإسلاميين)، هي كتلة القبائل التي تميل إلى التعاون مع الحكومة المركزية (ويمكن تسميتها بالكتلة الوحدوية)، وتضم هذه الكتلة قبائل ضاربة الجذور مثل السورجيه، والهيركيه، والزيباريه، والمزورية والدوسكية، التي تمتد مناطقها من شمال أربيل، على امتداد ما يعرف بسهل أربيل، وصولاً إلى دهوك وشمالها (قرب الحدود العراقية – التركية).

وهذه القبائل، لاتريد استقلالاً كردياً، بل تميل إلى التعاون مع الحكم المركزي، وبفضل هذا التوجه، صارت زعامات هذه الكتلة من أصحاب الملايين، وأنشأ بعضهم حزباً يدعى "حزب المحافظين" عام 1991، أهم برامجه هي إنهاء الخلاف العربي – الكردي.

وكانت الساحة الكردية العراقية مع مطلع الألفية الثالثة تموج بالعديد من التشكيلات السياسية المختلفة في توجهاتها الفردية والعقائدية، ولكن معظم هذه التشكيلات لا يمارس الحياة السياسية بصورة جادة، بينما استمر حزبان سياسيان، ومجموعات إسلامية أخرى تتصدر قائمة العمل السياسي والدينى في كردستان العراق، وهم:

1. الحزب الديموقراطى الكردستاني: بزعامة مسعود البرزاني، وتغلب عليه النزعة القومية الكردية، ويعتمد إلى حد كبير على العشيرة البرزانية، ويكثر أتباعه في منطقة أربيل شمالي العراق، ويحتفظ الحزب بعلاقات جيدة مع تركيا والحكومة العراقية والولايات المتحدة وبعض الدول الأوربية، في حين أن علاقاته مع إيران سيئة.

2. الإتحاد الوطني الكردستاني: بزعامة جلال الطالبان، ويتبنى أيضاً إتجاهات قومية كردية، ويوجد لدى العديد من كوادره ميولاً ليبرالية، وتتركز معظم قواعد الحزب في النصف الجنوبي من كردستان العراق، ويرتبط الحزب بعلاقات جيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية، وإيران، في حين أن علاقاته ليست كذلك مع تركيا والنظام العراقي نفسه.

3. حزب الإتحاد الإسلامي: والذي يمثل فكر الإخوان المسلمين، ويقوده الشيخ محمد بهاء الدين، وشارك هذا الحزب في حكومة أربيل التي شكلها مسعود البرزاني، بوزير واحد (وزارة العدل)، ولهذا الحزب علاقات وطيدة مع الإخوان المسلمين في مصر، ومع حزب الفضيلة التركي.

4. الحركة الإسلامية: وهى تمثل التيار الإسلامي المسلح، وكان لها حضور كثيف في كل أنحاء كردستان العراق، لكنها تعرضت لانشقاقات عديدة داخل صفوفها منذ نهاية التسعينيات، إلى جانب النزاع المسلح بينها وبين الاتحاد الوطني الكردستاني.

5. جماعة أنصار الإسلام: "باك"، وتعد من أحدث الحركات التنظيمات السياسية الكردية، حيث تأسست في 10 ديسمبر 2001 بقيادة الشيخ "فاتح كريكار" والذي يطلق عليه "أبو سيد قطب"، وقد إنشقت هذه الجماعة عن الحركة الإسلامية، ونظراً لتشدد هذه الحركة وراديكاليتها، أطلق عليها "طالبان الكردية"، وأثيرت بعض الشكوك في وجود علاقة بينها وبين طالبان الأفغانية وتنظيم القاعدة، وقد دخلت هذه الجماعة في صدام مسلح منذ نشأتها مع الاتحاد الوطني الكردستاني كما كانت هذه الحركة أحد الأهداف الرئيسية للقصف الجوى الأمريكي على العراق إبان حرب الخليج الثالثة.

وبرغم هذه التعددية، إلا أن السيطرة في المنطقة الكردية بقيت باستمرار في يد الحزبين الكبيرين "الحزب الديموقراطى الكردستاني، والإتحاد الوطني الكردستاني".

رابعاً: تطور التغير في التوجه السياسي الكردستاني

بسبب ما أفرزه الحصار الذي فرض على العراق، وأدى إلى تقليص قدرة النظام العراقي في السيطرة على أرجاء الدولة، دخل الأكراد مرحلة سياسية جديدة، حيث وفرت الحماية الدولية لمنطقة كردستان العراق من قبل قوات التحالف الدولي، فرصة تاريخية لتطبيق تجربة حكم فريدة في المنطقة، ينعم فيها الأكراد بحكم ذاتي.

خاصة بعد أن سحبت الحكومة المركزية في العراق موظفيها من كل الإدارات العاملين فيها في كردستان العراق، حيث بدأ الحزبان الكرديان تجربة الإدارة المشتركة للإقليم، خاصة مع توفر الدعم المالي سواء، من حصة الأكراد في قرار النفط مقابل الغذاء التي تحددت بـ 13% من مستحقات العراق إلى جانب المساعدات التي خصصتها لهم الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد الأوروبي.

وكانت المحصلة من تجربة الحكم الذاتي العديد من الإيجابيات، في مقدمتها إعادة بناء كردستان، وتأسيس تجربة ديموقراطية متميزة في المنطقة، حيث أجيز للعديد من الأحزاب العمل السياسي بحرية كاملة، وتأسست صحف مستقلة، ومحطات إذاعية وتليفزيونية، كذلك تشكل العديد من مؤسسات المجتمع المدني في الإقليم، إلى جانب إطلاق حريات سياسية وفردية واسعة لأبناء المنطقة، وصدرت قوانين لضمان حقوق الإنسان والمرأة.

في عام 1998 ضغطت كل من الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا على أكراد العراق لتوحيد صفوفهم، حيث تبادل زعيما الحزبين الكرديين الرئيسيين أربعة رسائل لمحاولة التهدئة والتصالح، وشملت المقترحات المتبادلة في الرسائل العديد من النقاط الإيجابية منها:

1. إنهاء مسببات الحرب الداخلية، وإيجاد حل سياسي وعادل لجميع القضايا والمسائل المتنازع عليها بأساليب ديموقراطية سليمة.

2. توحيد حكومة إقليم كردستان، وذلك بإعادة تشكيل حكومة موحدة مؤلفة من ممثلي جميع الأحزاب الكردستانية، والتي تقوم بدورها بتهيئة الأجواء الملائمة لإجراء انتخابات حرة لاختيار أعضاء المجلس الوطني الكردستاني.

3. تطبيع الأوضاع في مدن أربيل والسليمانية ودهوك، وجميع مدن وقرى كردستان، لتكون مدناً للجميع.

4. تأمين حرية النشر والإعلام والنشاطات السياسية والفكرية والاجتماعية في جميع أنحاء كردستان.

5. التوزيع العادل للموارد، ومشاريع الأعمار والتنمية.

6. إنهاء الوجود المسلح على أرض كردستان، وتحريم الاقتتال الداخلي، والالتزام بوقف النار وتعزيزه، وإدانة الإرهاب والاغتيال، ومنع اللجوء إلى العنف في حل مشكلات كردستان.

7. إطلاق سراح جميع الأسرى والمعتقلين، وإيقاف تهجير المواطنين، وإعادة المهجرين إلى ديارهم ومدنهم وقراهم مع ضمان أمنهم وسلامتهم.

وقد أسفرت هذه الرسائل إلى عقد اجتماع مصالحه حضره أعضاء المكتب التنفيذي للحزبين في 12 فبراير 1998، في مدينة شقلاوة، صدر في أعقابه "خطة سلام" تضمنت النقاط التالية:

1. الالتزام بوقف إطلاق النيران، وانتهاج أسلوب الحوار في علاج المشكلات ورفض العنف.

2. الالتزام بوقف الحملات الإعلامية، وسد الثغرات لتحقيق الثقة بين الطرفين.

3. إطلاق سراح الأسرى والمعتقليين وإيقاف عمليات الترحيل والإبعاد، ومنع ملاحقة المواطنين واعتقالهم لأسباب سياسية.

4. تشكيل لجنة مشتركة للتعاون والعمل على تأمين الخدمات العامة في المجالات المختلفة.

5. استمرار اللقاءات بين الجانبين.

بناء على هذا الاتفاق استضافت الولايات المتحدة قطبي الحزبين الرئيسيين "مسعود البرزاني" وجلال طالباني" في واشنطن لتنسيق المواقف بينهم حيث عقدا اتفاقية سلام في 17 يوليه 1998 بين الحزبين الرئيسيين، وبرعاية وزيرة الخارجية الأمريكية "مادلين أولبرايت" تضمنت العديد من المبادئ الرئيسية أهمها:

1. الحفاظ على وحدة أراضى العراق، وأن المحافظات الكردية الثلاث هي جزء من دولة العراق.

2. الترحيب بعملية السلام والمصالحة، وأن الحزبين سيبذلان كل ما في وسعهما لبناء عراق موحد وعلى أساس فيدرالي.

3. إنشاء لجنة تنسيق عليا تعمل على تعزيز التنسيق والتعاون وتهيئة أجواء المصالحة ومساعدة المواطنين وتعمل على تشكيل حكومة مشتركة مؤقتة خلال الأشهر الثلاثة القادمة.

4. تطبيع الأوضاع في المحافظات الثلاث الرئيسية (أرييل ودهوك والسليمانية)، وتنظيم انتخابات حرة وعادلة في سبيل تشكيل مجلس إقليمي في فترة لاتتجاوز ستة أشهر، يشرف عليها مراقبون دوليون.

5. الاتفاق على عقد لقاء بين الحزبين الرئيسيين في أنقرة لتنسيق المواقف بين الطرفين. (وبرغم أتفاق السلام، إلا أن الأوضاع استمرت كما هي دون تغيير يذكر).

إلا أن الاتفاقية قد أثمرت، مع مطلع الألفية الثالثة، إنهاء الصراعات بين الأكراد، ووقوفهم صفاً واحداً متسقاً مع الولايات المتحدة، وضد النظام العراقي نفسه، وسعى الحزبان الكرديان الرئيسيان إلى طي الخلافات الماضية بينهما، وقاما بتوقيع اتفاق للتعاون الأمني أبرماه في ألمانيا في منتصف أبريل 2002، وهو الاتفاق الذي تضمن إنشاء مركز مشترك للعمليات لمحاربة ما أسموه "بالإرهاب الإسلامي" في كردستان العراق.

خاصة بعد أن اشتد حجم الخطر الذي بات يشكله المقاتلون الإسلاميون التابعون لجماعة "جند الإسلام"، وهى إحدى فصائل جماعة أنصار الإسلام، التي تشتبه الإدارة الأمريكية في صلتها بتنظيم القاعدة.

وتوصل الحزبان الكرديان الكبيران، في أوائل سبتمبر 2002، إلى اتفاق يقضى بتسوية خلافاتهما بشكل نهائي، خاصة فيما يتصل بتشكيل البرلمان الموحد، من خلال أربع لجان مشتركة رفيعة المستوى عملت على تحقيق ذلك خلال شهر واحد.

كما اتفقا على أن يعيد كل منهما فتح مكاتبة في المناطق التي يسيطر عليها الفريق الآخر، وأن يعيد الأملاك التي صادرها كل منهما للآخر خلال المواجهات المسلحة بينهما بين عام 1994 – 1996، والإفراج عن المعتقلين، وتسهيل حرية تنقل المواطنين في مختلف مناطق كردستان العراق، وقد وقع زعيما الحزبين هذا الاتفاق الذي عُد وثيقة اتفاق سلام في 2 أكتوبر2002، وصدق عليه بالإجماع البرلمان الكردي الذي عقد أولى جلساته في 4 أكتوبر2002، بعد توقف دام ست سنوات.