إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / العلاقات الدولية في أفريقيا منذ انتهاء الحرب الباردة









العلاقات الدولية في أفريقيا

المبحث الثالث

علاقات فرنسا بأفريقيا منذ انتهاء الحرب الباردة

إذا كان للولايات المتحدة سياسة عامة تجاه أفريقيا، وسياسة خاصة تجاه منطقة القرن الأفريقي تسعي إلي وضعها موضع التنفيذ الفعلي، فالشيء الجدير بالوقوف عنده و إعطاؤه قدراً من العناية، هو التوجه والسلوك الأمريكي تجاه الدول الفرنكفونية على وجه التحديد، ومنها السلوك الأمريكي تجاه جيبوتي مثلاً، والذي اجتهد البعض في تفسيره وعدوه نوعاً من الضغوط على فرنسا للخروج Outgoing من مناطق نفوذها التقليدية، وهو الأمر الذي يتلاقي مع تصريحات كبار الساسة الأمريكيين، والتي ترمي إلي أن السياسة الأمريكية المعاصرة تجاه أفريقيا لا تعرف حدودا تقف عندها.

واستنادا إلي ذلك، وخلال هذه الفترة الانتقالية للعلاقات الدولية الأفريقية ، تسجل الولايات المتحدة الأمريكية تقدما ومكاسب ملحوظة وكبيرة، نتيجة دخولها لتحل محل تأثير نفوذ الاتحاد السوفيتي ومعسكره السابق عامة أو جزئياً، طبقا لأوضاع كل حالة أو كل دولة في أفريقيا، ومن بين هذه الدول يوجد عدد من الدول الفرنكفونية، وهذا يحدث قلقا واهتماما في السياسة الفرنسية تجاه القارة الأفريقية، فهي تسعي منذ فترة لطرح إطار جديد ومحاولة تنفيذه أو إنشاء توازن جديد منضبط يحفظ نفوذها ووجودها الحالي، كما يعمل بأساليب متنوعة لاستعادة ما فقدته من مراكز ونفوذ.

وفي ظل هذا التوجه والسلوك الأمريكي تجاه أفريقيا، يكون من المناسب تناول التوجهات والتدخلات الفرنسية في القارة الأفريقية وذلك كالتالي:

أولاً: طبيعة التوجهات الفرنسية تجاه أفريقيا

1. انتهاء الحرب الباردة وتأثيرها على الوجود الفرنسي

لقد كان لانتهاء الحرب الباردة انعكاسات مؤثرة على الوجود والمصالح الفرنسية ليس فقط في منطقة القرن الأفريقي فحسب، وإنما أيضا في أفريقيا بعامة، وبدل أن كانت فرنسا تهيئ نفسها لتحل محل الاتحاد السوفيتي سابقا في مناطق نفوذه التقليدية، وأن تملأ الفراغ السياسي الذي نشأ بعد انهياره، وهو الأمر الذي كانت فرنسا تعول عليه في إطار التنافس الدولي داخل أفريقيا من أجل بقائها قوة عظمى، ومن أجل تعظيم مكانتها العالمية، إلا أن الولوج الأمريكي إلى أفريقيا وتعاظم الاهتمام بها، أملى على صانعي ومتخذي القرار في فرنسا ضرورة إعادة تقييم سياسات فرنسا وأفعالها في هذا الشأن، ومثل هذا الوضع أفرز العديد من التأثيرات ومنها:

أ. مخاوف الفشل من التدخل في المنطقة

مع نهاية الحرب الباردة، أصبح هناك قدر كبير من التردد من جانب الدول الأوروبية في التدخل العسكري في الصراعات الداخلية الأفريقية، حيث تولدت قناعة لدى حكومات الدول الأوروبية بخطورة التدخل في تلك الصراعات، سواء على حياة جنودها، وربما على مستقبلها السياسي أيضاً، خاصة بعد الفشل الأمريكي والفرنسي في الصومال ورواندا على الترتيب. وهنا دأبت بريطانيا وفرنسا على تأكيد عدم رغبتهما في التدخل في تلك الصراعات، كما اتخذ البرلمان الألماني عام 1996 قراراً بعدم مشاركة الجنود الألمان في مهام دولية دون تفويض من مجلس الأمن الدولي.

وقد فسرت الحكومة الألمانية ذلك القرار بعدم قدرتها على تحمل المخاطر السياسية التي يمكن أن تنجم عن المشاركة بقوات عسكرية خارج الحدود الألمانية، دون وجود ضرورة تفرضها المصالح الوطنية للبلاد. ومن جهة أخرى، أعربت الحكومة النمساوية عن ذات الموقف عندما أكدت رفضها استخدام قواتها البرية خارج حدودها الدولية. وفي ظل التغير الذي طرأ على الموقف الأوروبي من التدخل في الصراعات الداخلية الأفريقية، تحمست العديد من الدول الأوروبية لفكرة إنشاء قوات أفريقية لحفظ السلم. وفي هذا الإطار كان الموقف البريطاني والفرنسي هو الأبرز في إطار الموقف الأوروبي العام، وذلك بحكم عضويتهما الدائمة في مجلس الأمن الدولي حالياً، وأيضاً بسبب العلاقات القوية للدولتين بدول أفريقيا منذ العهد الاستعماري.

ب. مخاوف الاصطدام مع الوجود الأمريكي المتنامي في المنطقة

يبدو أن فرنسا لا تتدخل إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية في اتخاذ مواقف سياسية معادية لبعض الدول الأفريقية مثل: الصومال والسودان وغيرها، وذلك حتى لا تضر بمصالحها الاقتصادية في الأسواق الأفريقية. وهذا واضح في عدم مشاركة فرنسا للولايات المتحدة في موقفها من الدول السابق الإشارة إليها أو حتى من الدول التي تتعاطف معها الدول الأفريقية ولو كانت خارج القارة الأفريقية مثل العراق.

ومن ناحية أخرى فإن فرنسا تعلن أنها لا تمانع في التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية في الأسواق الأفريقية، ولا تنظر إلى التحركات الأمريكية الأخيرة في الأسواق الأفريقية على أنها ضد المصالح الفرنسية، ولكنها ترحب بدور للسياسة الأمريكية في أفريقيا لأن فرنسا لا تستطيع وحدها تحمل أعباء مساعدة الدول الأفريقية في التنمية الاقتصادية. كما تهدف فرنسا إلى تحقيق مشاركة جديدة ومزيد من التعاون، ووضع حد للتنافس الضار، وذلك من أجل توسيع مناطق الصداقة والمشاركة والتجارة والاستثمار والمعونات.

ج. محاولة توظيف المكانة الدولية والقدرات الفرنسية

يُعد الوجود والتحرك الفرنسي المعاصر في منطقة دول القرن الأفريقي، من المسائل المصيرية لفرنسا، وربما لا يغيب عن ذاكرة صانعي ومتخذي القرارات والسياسات الفرنسيين مقولة الرئيس الفرنسي الراحل فرنسوا ميتران في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي أنه لاوجود لفرنسا في القرن الحادي والعشرين بدون أفريقيا، ومن ثَم فإن سياسة فرنسا وسلوكها يتوجها بوصفها إحدى الدول الأوروبية ذات العلاقات التقليدية من ناحية، وأنها الدولة التي تسعى إلى تحقيق أهداف ومصالح محددة لها في تلك المنطقة الهامة من أفريقيا، وبوصفها كذلك إحدى دول الاتحاد الأوروبي وبتحديد أدق إحدى الدول الفاعلة فيه، حيث ظلت فرنسا لسنوات طويلة تعد الدولة الأوروبية الأولى من حيث قوة نفوذها وقدرتها على الحركة والفعل في الساحة الأفريقية، حيث ظلت حوالي عشرين دولة أفريقية تدور في فلكها لسنوات طويلة، حتى قيل إن أفريقيا تمثل أحد عوامل ثلاثة لمكانة فرنسا الدولية، بجانب مقعدها الدائم في مجلس الأمن وقدرتها النووية، وقد حافظت فرنسا على علاقاتها بالدول الأفريقية التي استقلت عنها نتيجة لسياسة تعاونية محكمة ودقيقة طبقتها مع هذه الدول في المجالات العسكرية والاقتصادية والثقافية، ومنذ انتهاء الحرب الباردة تأثر النفوذ الفرنسي في أفريقيا نتيجة عدة عوامل أهمها: انخفاض الأهمية الإستراتيجية لأفريقيا لدى القوى الغربية بصفة عامة، والنشاط الأمريكي المتزايد المنافس لفرنسا في القارة.

ومن ثم فإن فرنسا ترى في تعاظم الوجود الأمريكي داخل القارة الأفريقية إضرارا ليس بأهداف فرنسا ومصالحها خاصة، وإنما بأهداف الاتحاد الأوروبي ومصالحه عامة. كما أن التركيز على حالة التدخل الفرنسي في منطقة دول حوض النيل والسودان هو محاولةُ للإجابة على السؤال التالي: هَلْ سياسة فرنسا الأفريقية حقاً هي الانتقال من النمط القديم للاستعمار الجديد ونمط السياسات الموروثة Patrimonial التي اتسمت بها العلاقات العميقة وشبه العائلية بين الفرنسيين ونُخَب Francophone الفرنكفونية الأفريقية واعتماد سياسة جديدة تكون فيها الفرنكفونية الأفريقية مصممة ضمن سياسة عالم ثالث أوسع؟ وإلى أي مدى وصل التطبيع لهذه العلاقات Normalisee. وبمعنى آخر، فهل فرنسا تَبتعدُ عن سياستها التقليدية بحزم نحو سياسة تحرر مالي واقتصادي وعسكري ودبلوماسي وسياسي؟ وهل هي عملية إعادة انتشار في أفريقيا؟ وباختصار، هَلْ سيشاهدُ حقاً تصفية استعمار العلاقات الفرنكُو ـ أفريقية؟

2. مسارات التحرك الفرنسي فيما بعد الحرب الباردة

تعد فرنسا نفسها أكبر مانح للمعونات الاقتصادية في أفريقيا، وأنها تمتلك أكبر قدر من الاستثمارات الأجنبية في القارة الأفريقية. وتقوم السياسة الفرنسية تجاه الأسواق الأفريقية على أساس استغلال ما تمتلكه فرنسا من رصيد ثقافي ولغوي ـ فرانكفوني ـ في أفريقيا في توسيع نفوذها الاقتصادي في الأسواق الأفريقية. وتسعى فرنسا في الوقت الراهن إلى اتخاذ مسارات جديدة للتكيف مع الأوضاع الاقتصادية والسياسية في أفريقيا ومنها:

أ. الاستقطاب خارج نطاق الفرنكفونية

لم تعد السياسة الفرنسية تجاه الأسواق الأفريقية تكتفي بالتركيز على المناطق التي لها فيها موروث ثقافي ولغوي، ولكنها تمتد إلى دول إفريقية أخرى. حيث إن من الملاحظ على السياسة الفرنسية تجاه الدول الأفريقية أنها تحاول استقطاب هذه الدول بعيدا عن الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما فعلته بطريقة ذكية عندما نظمت مؤتمر القمة الفرنسية ـ الأفريقية في ديسمبر 1998 كما استضافت العاصمة الفرنسية يوم 7 ديسمبر 1999 مؤتمر وزراء خارجية الدول الأفريقية وفرنسا؛ والذي بحث قضايا الأمن والتنمية في الدول الأفريقية، وركز على دعم مسيرة التنمية، وحل النزاعات الحالية في بعض دول القارة.

ب. التركيز على النخب الحاكمة

يلاحظ أن السياسة الفرنسية تجاه أفريقيا تعطي أهمية للفئة السياسية والثقافية العليا، أو النخب الحاكمة التي ترى أن الأمن والاستقرار مدخل للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهي عكس السياسة الأمريكية التي تعطي أولوية للفئة الاقتصادية العليا التي ترى أن التنمية الاقتصادية والاجتماعية هي المدخل للأمن والاستقرار.

ج. تفكيك محاولات التكامل الأفريقية

إن توجهات كل القوى الاقتصادية الغربية المتنافسة في الأسواق الأفريقية، فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية خاصة تسعى إلى إحداث تغييرات في التوجهات الحالية للدول الأفريقية، حيث تهدف هذه القوى إلى إعادة ترتيب عملية التكامل الاقتصادي بين هذه الدول، والتحول نحو إقامة اقتصاد إفريقي بطريقة مختلفة، وذلك عكس ما هو قائم حاليا من وجود تجمعات وكيانات اقتصادية متجاورة سوف تكون أساسًا لبناء الجماعة الاقتصادية الأفريقية. وهذه المحاولات والتوجهات نحو التغيير لأسس وخطط التعاون الاقتصادي الأفريقي تدعو إلى التخوف بشأن مستقبل هذا التعاون وسيره بطريقة سلسة، وذلك لأن كل محاولات التغيير يمكن عدها محاولة فك وإعادة تركيب لعملية التكامل الاقتصادي في أفريقيا، وكل طرف يعيد التركيب وفقا لمصالحه في إطار هذا التنافس الحاد، وهو ما يهدد مستقبل هذا التعاون الأفريقي.

ثانياً: تطور وآليات التدخل الفرنسي في أفريقيا

1. تطور التدخل الفرنسي في القارة الأفريقية

إن المتتبع لسياسة فرنسا في أفريقيا يلاحظ أنها تطورت خلال فترة ما بعد انتهاء الحرب الباردة، مرورا بثلاث مراحل يمكن تناولها بإيجاز كالتالي:

الأولي: ويمكن تسميتها بسياسة الإهمال الحميد (المرغوب فيه )Benign Neglect وقد امتدت منذ عام 1989 وحتى عام 1994، وخلال تلك المرحلة اعتمدت فرنسا على رصيد علاقاتها بالعديد من الدول الأفريقية التي ترتبط معها بعلاقات قوية، مع إعطاء الأولوية لمصالحها الاقتصادية، ومن هذا المنظور فقد شهدت فترة التسعينيات من القرن الماضي تخفيضا لقيمة الفرنك في منطقة الفرنك الأفريقي، وقد عللت فرنسا لهذا الإجراء بأنه جاء نتيجة اختلاف القيمة الاسمية عن القيمة الفعلية للفرنك، ما دفعها إلى تخفيض قيمة الفرنك في المنطقة الفرنكفونية المالية الأفريقية لتقليص الأعباء على اقتصادها، وهو الأمر الذي أدى إلى إحداث نوع من التوتر في العلاقات الفرنسية الأفريقية في عهد الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران.

الثانية: ويمكن تسميتها بسياسة رد الفعل الدفاعيDefensive Reaction وهو ما يعني من وجهة النظر الفرنسية أن منظومة مصالحها في أفريقيا، تمثل لها مسألة تستأهل الدفاع عنها، ومن ثم فإنها تحتفظ لنفسها بحق الدفاع عن تلك المصالح وبالكيفية وبالآلية التي تراها مناسبة.

الثالثة: ويمكن تسميتها بسياسة الواقعية النشطة Active Realism (التكيف الإيجابي مع الواقع) وتتزامن تلك المرحلة مع تنامي الاهتمام الأمريكي بالقارة الأفريقية وطبيعة التوجهات والسياسات والممارسات الأمريكية والتي تتحرك جميعها باتجاه الحد من الوجود الفرنسي في القارة الأفريقية إن لم يكن السعي للخروج الفرنسي منها، وأمام مثل هذه الأوضاع تجد فرنسا نفسها في حالة لا تمكنها من التصدي للتطلعات والمطامح الأمريكية في أفريقيا ومن ثم فإنها أخذت في محاولة التكيف مع هذا الوضع، وبالطريقة التي تحافظ بها، ولو على الحدود الدنيا لمصالحها في أفريقيا، من خلال السعي لإيجاد قواسم مشتركة لعلاقاتها مع الولايات المتحدة فيما يتعلق بأفريقيا، ومن خلال الترويج بأنه لا يوجد تعارض أو تهديد أمريكي لمصالحها هناك، وأن التعاون والمصالح المشتركة يمكن أن تكون البديل المناسب للصراع.

2. آليات التدخل الفرنسي في القارة الأفريقية

تحافظ فرنسا على الروابط الأمنية المتعددة، وعلى بقائها وتنميتها، والتي قد تضعف أحياناً، وقد تقوى أحياناً أخرى، وذلك في سياق المتغيرات الدولية، ومدى المعونات الفرنسية المقدمة، ثم التنافس الفرنسي الأمريكي في القارة، وأبرز الاتفاقيات الأمنية الفرنسية تتمثل فيما يلي:

أ. القواعد العسكرية

تُعد قاعدة جيبوتي قاعدة بحرية، وهى تعمل نقطة ارتكاز متقدمة للقوات الفرنسية، كما أنها تقوم "بالعمليات الأمنية الخفيفة Soft Security Issues"، وتُعد هذه القاعدة من أهم القواعد الفرنسية في أفريقيا وأكبرها، حيث يتمركز بها ثلاث سفن إنزال، وتستطيع استقبال العديد من القطع البحرية، وبها 2850 جندي فرنسي، وسريتا دبابات، و26 مركبة مدرعة للاستطلاع، وست مدفع عيار 155 مم وسرب جوى ميراج (عشر طائرات) وطائرة نقل وطائرتا بحث وإنقاذ عمودية.

ب. اتفاقيات الدفاع المشترك

تناقص عدد اتفاقيات الدفاع المشترك التي كانت عقدتها فرنسا مع الدول الأفريقية في الستينيات، وبلغ حالياً "ثماني اتفاقيات" فقط ومنهم جيبوتي[1]. ورغم ذلك فقد أتاحت فرنسا للدول الأفريقية التي لم توقع مع فرنسا مثل هذه الاتفاقيات الحق في طلب المساعدة العسكرية الفرنسية في الأزمات الطارئة، ويعد طلب حكومتي تشاد وزائير "الكونغو الديمقراطية" عام 1996 مثالين على ذلك.

ج. اتفاقيات التعاون العسكري والمعونة الفنية

هى اتفاقيات ثنائية تشمل عدة مجالات: المساعدات العسكرية والفنية، المساعدات المباشرة لجيوش الشرطة وأجهزتها - المنح الدراسية العسكرية وبرامج التدريب للضباط الأفارقة، وتختلف مدة سريان هذه الاتفاقيات من دولة إلى أخرى، ويمكن تجديدها أو إلغاؤها طبقاً لاتفاق الطرفَين الفرنسي والأفريقي، وتشمل هذه الاتفاقيات الثنائية إحدى وعشرين دولة أفريقية[2] منها جيبوتي في منطقة القرن الأفريقي.

ترى فرنسا أنها تَتحرك باتجاه المُحَافَظَة على السلام، وأنها تتخذ موقفاً محايداً في منطقة القرن الأفريقي؛ لكي تَحْمي مصالحَها فيها بعامة، وفي جيبوتي بخاصة. وتجدر الإشارة إلى أن فرنسا قدمت مساعدةً إلى الصومال لدَعْم التعليم والاستقرار السياسي والاقتصادي أثناء حقبة الثمانينيات من القرن الماضي، كما تَوسّطتْ فرنسا في محادثات السلام أيضاً بين إثيوبيا والصومال في عام 1988، ولعل التوجهات الفرنسية وخصوصا في عهد رئاسة جاك شيراك تجْعلُ فرنسا قوَّة نالت قدراً من الاحترام من جانب جميع الأطراف، بالإضافة إلى كَسْب بَعْض قوة الدفع السياسية في المنطقة، ولعل هذا ما يفسر لماذا تدعم فرنسا خطةَ حفظ سلام الإتحاد الأفريقي بالكامل للصومال؟

3. الإستراتيجية الفرنسية المعاصرة تجاه القارة الأفريقية

إن فرنسا تسعى في إستراتيجيتها الجديدة في القارة إلى توسيع شبكة علاقاتها؛ بحيث تتخطى مناطق نفوذها التقليدية إلى دول أفريقية جديدة كانت تابعة للنفوذ البريطاني والبرتغالي والبلجيكي والسوفيتي، وتهتم فرنسا عامة بوجودها في نفس مناطق الاهتمام الأمريكي؛ ولذلك تحتدم المنافسة بين البلدين في مناطق البحيرات العظمى والقرن الأفريقي والغرب الأفريقي، بالإضافة إلي اهتماماتها بالشمال والشرق الأفريقي، كما أن سياستها الجديدة ترمي إلي فتح الحوار مع دول الجنوب الأفريقي أيضا، ولذلك فإن السياسة الفرنسية الحالية ـ بشقيها السياسي والاقتصادي ـ تنبع من المشروع الذي أعدته وزارة الخارجية الفرنسية عام 1997، وعُرف باسم "مشروع أفريقيا"، وكانت أهم ملامحه:

أ. تأييد إقامة أنظمة سياسية جديدة في الدول الأفريقية وفق مبادئ الديمقراطية (بالطبع وفقًا لمعايير المصلحة الفرنسية).

ب. دعم العلاقات بأنواعها مع الحكومات المدنية، والعمل على تقليص دور المؤسسات العسكرية في أفريقيا.

ج. إعداد كوادر سياسية واعية من الشباب، وتثقيفهم وتدريبهم سياسيًّا وحزبيًّا؛ لكي تكون النخبة السياسية الحاكمة في المستقبل تابعة لباريس.

د. دعم برامج التنمية والإصلاح الاقتصادي، مع التركيز على الدول التي تمتلك بنية أساسية معقولة.

هـ. إعادة تنظيم الوجود العسكري الفرنسي في أفريقيا، بحيث يضم الخبراء والمستشارين أكثر مما يضم وحدات عاملة. وبالفعل قامت فرنسا بتقليص عدد قواعدها العسكرية في القارة إلى ست قواعد فقط في دول: جيبوتي، تشاد، السنغال، كوت ديفوار، الكاميرون، الجابون، وكانت آخر قاعدة تمت تصفيتها هي قاعدة بونجي في أفريقيا الوسطي أواخر عام 1997، وذلك بعدما كانت تُستخدم للهيمنة على مناطق أفريقيا الوسطى والبحيرات العظمى.

و. إعادة النظر في العلاقات التقليدية الفرنكفونية، والسعي لتنفيذ إعادة انتشار واعتماد إستراتيجية دبلوماسية وسياسية فرنسية تعلي من شأن مصالح فرنسا الاقتصادية بعيداً عن الفرنكفون الأفريقي وتذهب إلى مناطق جديدة في أفريقيا مثل نيجيريا، وأنجولا، وناميبيا، وزمبابوي وجنوب أفريقيا، وبلدان أخرى من العالم الثالث مثل البرازيل، والهند، وفيتنام الخ.

ويلاحظ أن هذه الخطة التي اعتمدتها فرنسا - ويظهر منها حرصها الرسمي على الالتزام بمبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان - جاءت بعد الانتقادات الدولية الحادة التي وُجهت لحكومة باريس؛ بسبب إصرارها على دعم الأنظمة الفاسدة، خاصة نظام موبوتو في الكونجو الديمقراطية، وبعد سقوط نظام موبوتو (مايو 1997) عملت فرنسا على صياغة هذه السياسة لتحسين صورتها أمام الرأي العام العالمي.

ويرى البعض على سبيل المثال أن سياسة فرنسا الأفريقية المعاصرة قد تأثرت بالعديد من العوامل ومنها:

(1) التغيرات في البيئة العالمية التي حدثت في أعقاب نهاية الحرب الباردة.

(2) العولمة.

(3) أن السياسة الفرنسية نحو أفريقيا لَمْ تَعُدْ مُحدَّدة بالعوامل الدبلوماسية والجغرافية السياسية، والحسابات السياسية البحتة وإنما ارتبطت بالنواحي الاقتصادية والمالية أيضاً.

(4) الواقعية الجديدة للتوجهات الأفريقية، وخصوصا في ظل القيادات الجديدة وفي ظل سياسات الترغيب والترهيب الأمريكية في التعامل مع الواقع الأفريقي.

(5) تعاظم التنافس على أسواق العالم الثالث، وفي هذا الصدد يبدو أنّ الولوج الأمريكي إلى الأسواق الأفريقية أمر لا فكاك عنه.

(6) الانشغال وتركيز الاهتمام الفرنسي وصب اهتمامه على مسألة الوحدة الأوربية، مما لاشك فيه أن التطورات التي حدثت في أوروبا الشرقية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفيتي (سابقا)، ومحاولة استقطاب تلك الدول والسعي لضمها لعضوية الاتحاد الأوروبي، والنظر إليها على أنها مناطق جاذبة للاستثمارات الآمنة والمربحة، لكل ذلك وغيره من الأسباب فقد آثرت فرنسا الانشغال بالشأن الأوروبي، حتى وإن كان على حساب الفرنكفون الأفريقية ومطامحها الأفريقية.

(7) كما تأثرت تلك السياسة أيضا بوفاة رئيس ساحل العاج فيليكس هوفويه بونييه Houphouet Boigny في ديسمبر عام 1993، وهو الذي ظل منذ توليه السلطة في أغسطس 1960 من أشد المناصرين للفرنكفونية الأفريقية والحليف الرئيس لفرنسا في المنطقة، لروابطه الشخصية بعدّة أجيال من الزعماء الفرنسيين، كما تأثرت تلك السياسة برحيل الفرنسي جاك فوكارت Foccart في مايو 1997 والذي كان مسؤولاً رئيساً عن ملف العلاقات الفرنسية ـ الأفريقية لسنوات طويلة، وقد مثل هذا نهايةَ عصر حقيقي في علاقات فرنسا الأفريقية. وزاد من ذلك تخفيض قيمة الفرنك الأفريقي CFA في مواجهة نظيره الفرنسي، والنكسات التي منيت بها سياسة فرنسا في منطقة البحيرات الكبرى، وفي الكونغو الديمقراطية (زائير سابقا) والتقارب الفرنسي من الجنوب الأفريقي، وسياسة الهجرة الفرنسية التقييدية، التي انعكست تأثيراتها في غالب الأحوال بالسالب على واقع العلاقات الفرنسية ـ الأفريقية.

من خلال تناول السياسات والممارسات الفرنسية والأمريكية تجاه الدول الأفريقية تعميماً، ومنطقة القرن الأفريقي تخصيصاً، يلاحظ أن كلتا الدولتين تستخدمان العديد من الأساليب في إطار التنافس بينهما في القارة الأفريقية، ومنها استخدام الدولتين لأسلوب انتقائي يتعلق بموضوعات الديمقراطية وحقوق الإنسان وحكم القانون في تدخلاتها في الدول الأفريقية بوجه عام.

ويلاحظ في هذا الشأن تحرك السياسة الأمريكية باتجاه محاولة التأثير داخل منطقة الفرنكفون الأفريقي ذاتها، ومنها دعوة المتحدث باسم الخارجية الأمريكية في عام 1999 للحكومة في ساحل العاج للإفراج عن زعماء المعارضة من حزب التجمع الجمهوري الذين اعتقلتهم الحكومة، وذكر أن الإجراء الحكومي هدفه إسكات صوت المعارضة، وأن الولايات المتحدة سوف تعيد تقييم علاقاتها مع الحكومة إذا انحسرت أو تراجعت فيها الموجة الديمقراطية وأن استمرار الحكومة في هذا الاتجاه يمكن أن يؤدي إلي حرب أهلية ويؤثر في أوضاع الاستقرار والتجارة والاستثمار، وهو الأمر الذي ترتب عليه رد حكومة ساحل العاج الذي تمثل في اتهام الولايات المتحدة بالتدخل والدعوة لإثارة العنف الداخلي.

وإذا كانت كل من فرنسا والولايات المتحدة تستخدمان مثل تلك الأساليب لتعليل تدخلهما في الشؤون الداخلية للدول الأفريقية بطريقة أو بأخرى ، فإن استخدام الولايات المتحدة لهذا الأسلوب في ساحل العاج التي تعد إحدى القلاع الفرنكفونية الأفريقية، وللمرة الأولى، إنما هو دلالة على مدى مسار التوجهات والتحركات الأمريكية في أفريقيا.

وهذا يعني أن السياسة الأمريكية تتحرك في مناطق الاهتمام والمصالح خطوات محددة، بغير اكتراث للقوى الفاعلة الأخرى، ووفقاً لقاعدة أنه على المتضرر اللجوء إلى الولايات المتحدة، وقد استوعبت فرنسا هذ النهج والتحرك الأمريكي، وقد اختارت لنفسها نهجاً وتحركاً ودياً وتعاونياً غير مسبوق عبر عنه ساركوزي خلال زيارته للولايات المتحدة، عند إلقائه خطاباً أمام الكونجرس الأمريكي أوائل عام 2008.

ثالثاً: حالات للعلاقات الفرنسية في أفريقيا

تعد فرنسا من أكثر الدول الأجنبية تدخلا في القارة الأفريقية، إذ لا تزال فرنسا تتمتع بنفوذ كبير في العديد من مناطق القارة، وساعد على ذلك وجود القواعد العسكرية واتفاقيات الدفاع والتعاون العسكري والفني، وهو الأمر الذي يساعد على إتمام عمليات التدخل كلما كان ذلك الأمر مطلوباً. ومنذ بداية تسعينيات القرن الماضي شهدت المنطقة محل الدراسة العديد من حالات التدخل الفرنسي، وتباينت الأهداف المعلنة حول تلك التدخلات مابين التدخلات الإنسانية، والتدخلات بغرض حفظ السلام والأمن أو التدخل بغرض مواجهة عدوان خارجي على دولة ما، والمحافظة على النظام الحاكم بها، أو التدخل بغرض مكافحة الإرهاب وغيرها من التدخلات.

وفي إطار تناول جوانب تدخل السياسة الفرنسية في منطقة القرن الأفريقي سيكون التركيز على حالتين لهما صلة بالأحداث في تلك المنطقة ولهما تأثيرات مباشرة وغير مباشرة عليها، كما أن لهما ارتباط بالنفوذ والمصالح الفرنسية فيها وهما منطقتا القرن الأفريقي وحوض النيل ذواتا التأثير على دول الجوار في المنطقة كالتالي:

1. العلاقات الفرنسية مع جيبوتي

علي الرغم من حصول العديد من الدول الأفريقية على استقلالها مع حلول أوائل ستينيات القرن الماضي، وعلي الرغم من السوء الذي اتسم به الاستعمار الفرنسي، فقد تمكنت فرنسا من التكيف مع الواقع الجديد وبدلاً من أن تنقلب الدول الأفريقية المستقلة على الماضي الاستعماري الفرنسي بكل مآسيه، أغرتها فرنسا بأهمية العلاقات الفرنسية -الأفريقية وضرورة مواصلتها، وفقا لتصورات جديدة وبعيدا عن السياسات والممارسات الاستعمارية، وقد نجحت فرنسا، فعلاً، ليس فقط في استمالة معظم تلك الدول وإنما أضافت لها دول جديدة.

وقد ظلت فرنسا لسنوات طويلة تعد الدولة الأوروبية الأولى من حيث قوة نفوذها وقدرتها على الحركة والفعل في الساحة الأفريقية، حيث ظلت حوالي عشرين دولة أفريقية تدور في فلكها لسنوات طويلة، حتى قيل إن أفريقيا تمثل أحد عوامل ثلاثة لمكانة فرنسا الدولية، بجانب مقعدها الدائم في مجلس الأمن وقدرتها النووية، وقد حافظت فرنسا على علاقاتها بالدول الأفريقية التي استقلت عنها نتيجة لسياسة تعاونية محكمة ودقيقة طبقتها مع هذه الدول في المجالات العسكرية والاقتصادية والثقافية، ومنذ انتهاء الحرب الباردة تأثر النفوذ الفرنسي في أفريقيا نتيجة عدة عوامل أهمها: انخفاض الأهمية الإستراتيجية لأفريقيا لدى القوى الغربية بعامة، والنشاط الأمريكي المتزايد المنافس لفرنسا في القارة.

إذن ففي منطقة القرن الأفريقي تتنافس فرنسا مع الولايات المتحدة من خلال نفوذها التقليدي، ولسنوات طويلة في جيبوتي، وهي أكبر قاعدة عسكرية فرنسية في أفريقيا، ويعد التدخل والوجود الفرنسي في دولة جيبوتي، هو امتداد للحقبة الاستعمارية الفرنسية، حيث كانت جيبوتي تسمي في تلك الحقبة الصومال الفرنسي، وبعد استقلال هذا الإقليم لم يُضم إلى الصومال على الرغم من مطالبته وسعيه لذلك، وإنما أعلن دولة مستقلة عنه، وظل منذ ذلك التاريخ تربطه علاقات وطيدة بفرنسا، على مستويات متنوعة ومتعددة، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، حيث كانت توجد قاعدة لفرنسا على إقليم الدولة، كما أن جيبوتي هي إحدى دول منظمة الفرنكفونية، إلا أن الوقت الراهن يشير إلى تنامي الاهتمام والوجود الأمريكي، والعسكري خاصة في جيبوتي، في إطار السياسة والإستراتيجية الأمريكية العامة الرامية إلى تعظيم مصالحها ونفوذها ومكانتها العالمية، وأيضاً مزاحمة الوجود الفرنسي حتى في مناطق نفوذه التقليدية، بل ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد وإنما يتجاوزه إلى التضييق على الوجود الفرنسي من أجل دفعه إلى الخروج النهائي.

2. العلاقات الفرنسية مع اريتريا

يبدو أن باريس في موقف جد صعب، لا سيما فيما بعد التحولات الدولية في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وانتهاء مرحلة التنافس القطبي مما كان يترك لها مجالاً للمناورة في إطار التنافس على مناطق النفوذ بين الكتلتين الشرقية والغربية . ولكن تغير الظروف الدولية ولا سيما بعد حرب الخليج أظهر الولايات المتحدة أنها القوة الدولية العظمى في العالم وباقي حلفائها يدورون في فلكها، أو ينبغي عليهم أن يكونوا كذلك، كما أنها ذهبت إلى مراجعة الكثير من تحالفاتها وعلاقاتها الدولية وإعادة صياغتها وفق أهدافها ومصالحها الكونية. وفي منطقة القرن الأفريقي تتنافس فرنسا مع الولايات المتحدة من خلال نفوذها في جيبوتي، وهي أكبر قاعدة عسكرية فرنسية في أفريقيا. بالإضافة إلى العلاقات الطيبة التي تربطها بنظام أسياسي أفورقي في إريتريا؛ حيث تدعمه فرنسا باستثمارات ومساعدات فنية ومالية. كما كان لها موقف إيجابي مع جبهة التحرير الإريترية منذ عام 1982. وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى أن فرنسا عضو في نادي أصدقاء الإيجاد.

من ناحية أخري وفي إطار المراجعة الفرنسية لسياساتها وممارساتها، ولا سيما فيما يتعلق بفشل سياسة فرنسا السابقة في كل من رواندا والكونجو الديمقراطية، إلى سعي باريس لإحداث نقلة شكلية في إستراتيجياتها في منطقة البحيرات العظمى، هذه النقلة تتمثل في استخدام وسائل السياسة الخارجية الأمريكية نفسها من إعلان دعمها لحقوق الإنسان وتأييد النظم الحاكمة، أيًّا ما كانت توجهاتها.

أو بمعنى آخر: هل تمثل الأغلبية أم الأقلية، ولعل هذا يفسّر أسباب حرص وزير خارجية فرنسا هوبير فيدرين في جولته خلال الفترة ما بين 12 - 14 أغسطس 2001 على الاتصال بالدول التي تساند المتمردين في الكونجو، وهي رواندا وأوغندا، وحرصه على لقاء زعماء المتمردين الذين ينطلقون من هذه الأراضي لشنّ هجماتهم ضد نظام الرئيس الكونغولي الحالي جوزيف كابيلا، في الوقت ذاته اعترض فيدرين خلال جولته على استخدام النظام في كينيا أسلوب الحسم العسكري، ومن ثَم تمثَّل الطرح الفرنسي في هذا الشأن تأكيد أهمية تنفيذ بنود اتفاق لوساكا للسلام الذي كان توقيعه في يوليه عام 1997، ويقضي بسحب القوات الأجنبية الموجودة في الكونجو سواء المساندة للنظام (أنجولا ـ زيمبابوي ـ ناميبيا) أو تلك المؤيدة للمتمردين (رواندا ـ أوغندا) ونشر قوات مراقبة تابعة للأمم المتحدة بعد جمع الأسلحة من الميليشيات المتقاتلة، ودمج هذه الميليشيات في الجيش الوطني. ولقد عرضت فرنسا أن تشارك بالقسم الأكبر من القوات التي سيجري نشرها في الإقليم.

وهكذا يلاحظ أن باريس تسعى لحفظ نفوذها في المنطقة من أجل مواجهة النفوذ الأمريكي من ناحية، وضمان الحفاظ على مصالحها الإستراتيجية والاقتصادية من ناحية ثانية، حتى وإن تطلَّب ذلك إحداث نقلة شكلية في أدوات تنفيذ سياساتها الخارجية في المنطقة، وهكذا تؤكّد فرنسا كغيرها من الدول الكبرى أن مفهوم المصلحةInterests les Réseaux سيظل هو الحاكم لتوجهات هذه الدول. وثالث هذه العوامل وأهمها على الإطلاق هو صراع النفوذ في داخل القارة الأفريقية بين فرنسا والولايات المتحدة.

ويلاحظ أن فرنسا اضطرت لتخفيض معوناتها للدول الأفريقية، وخاصة الدول الناطقة بالفرنسية تحت ضغوط الأزمة الاقتصادية والاجتماعية في فرنسا واتساع نفوذ اليمين المتطرف، وترافق ذلك مع تخفيض الوجود العسكري الفرنسي في هذه الدول، حتى إنه من بين 22 دولة تربطها معاهدات دفاعية مع فرنسا، انحصر الوجود العسكري الفرنسي في عدة دول فقط. ومن الطبيعي أن تقود مثل هذه الإجراءات إلى التقليل من ارتباط هذه الدول ونخبها السياسية بفرنسا، ومن ثم بحثها عن مصادر جديدة للمعونات والدعم السياسي والعسكري. ويبدو أن الولايات المتحدة تحرص على أن تقدم نفسها بديلاً للنفوذ الفرنسي، كما أنها شجعت بروز أجيال جديدة من القيادات السياسية مستفيدة من غياب أي ماضٍ استعماري لها، ورافعة لشعارات التنمية والتحديث والديمقراطية والتعددية.

إن هناك عدد منْ الأحداث توضح أنّ سياسة فرنسية جديدة تَتشكّلُ حالياً تجاه أفريقية، وفي نفس الوقت، فإن هناك عواملُ هيكلية داخلية تشير إلى تفضيل سياسة الوضع الراهن. وهكذا، فبينما يُشيرُ بَعْض المراقبين إلى وجود عملية تحرر وإعادة انتشار جذري للسياسة الفرنسية، يُشدّدُ آخرين على ميلَ فرنسا لإبْقاء الوضع الراهن. وبصفة عامة يمكن الإشارة إلى أنّ سياسةَ فرنسا الأفريقية حقاً هي في مرحلة انتقالية تتراوح بين محاولة الَتعايشُ والتأقلم بين محاولة التغيير والاستحداث لتوجهات جديدة انطلاقا من العادات والوضع الراهن القديم.

3. العلاقات الفرنسية مع السودان

أ. أهمية السودان بالنسبة لفرنسا

تعد السودان من الدول التي توليها فرنسا أهمية كبيرة في إطار التنافس على مناطق النفوذ والمصالح ، كما أنها تدخل ضمن إستراتيجيتها لفترة ما بعد الحرب الباردة والرامية إلى التوسع خارج النطاق التقليدي للدول الفرنكفونية، ومن هنا نشأت في السودان المنافسة الفرنسية للولايات المتحدة الأمريكية في البداية من خلال مساندة فرنسا لنظام البشير في السودان، والذي كان العدو الأول للولايات المتحدة في المنطقة. وقد ساندت فرنسا النظام الإسلامي في السودان لعدة أسباب أهمها الرغبة في إيجاد مرتكز لها في منطقة البحيرات العظمى، بعد أن تراجع نفوذها في هذه المنطقة (وخصوصاً فيما يتعلق بالكونغو الديمقراطية وجيبوتي)، واستخدام فرنسا لحكومة الإنقاذ - خاصة في فترة وجود حسن الترابي في الحكم ـ في الوساطة بين الجماعات الإسلامية في الجزائر وفرنسا التي كانت تسبب لفرنسا الكثير من المشكلات الأمنية والاجتماعية في الداخل بالإضافة إلى تدفق النفط في بحر الغزال واحتمالات وجوده في الشمال أيضاً.

وقد استطاعت فرنسا بمساندتها لحكومة الإنقاذ أن تعيق نسبياً ومرحلياً الاندفاع الأمريكي نحو السودان ؛ إلا أن السلوك الفرنسي لم يصمد أمام الدور الأمريكي والتدخل المتعاظم والمكثف في تلك الدولة، حيث تراجع الدور الفرنسي واقتصرعلى التصريحات الدبلوماسية بشجب الحرب وتأييد مبادرة الإيجاد، بل وتحول نحو التأييد الكامل للموقف الأمريكي وخصوصاً في السياسات والممارسات التي تقترن بهذا الموقف وتدعم أيضا داخل مجلس الأمن فيما يتعلق بجميع القرارات التي صدرت بشأن مشكلات وأزمات السودان وفي مواجهة نظامه الحاكم.

إن مواصلة السياسة الفرنسية تجاه السودان هي السمة الرئيسة لها من الجانب الفرنسي على الرغم من تعاقب الحكومات والرؤساء وليست هناك حاجة للتذكير بأن النظام في السودان ظل دون تغيير. وتعاقبت تشكيلات الحكم في فرنسا بدءاً بالاشتراكيين حتى عام 1993 حيث انفرد الحزب الاشتراكي بالحكم بالرئيس فرانسوا ميتران في رئاسة الجمهورية وحكومات الأغلبية الاشتراكية في البرلمان المتعاقبة من ميشيل روكارد إلي بيير بيرغوفوا مرورا بإديت كريسون والذي وضع أسس العلاقات السودانية الفرنسية في المرحلة الجديدة بعد انقلاب 30 يونيو. ثم تلت ذلك فترة التعايش بين الرئيس فرانسوا ميتران الاشتراكي وحكومة إدوارد بلادور اليمينية في عام 1993 التي طورت التعاون السوداني الفرنسي ليشمل الجوانب الأمنية والعسكرية. بعده جاءت مرحلة اليمينيين مع انتخاب الرئيس جاك شيراك لرئاسة الجمهورية وتشكيل حكومة ألان جوبيه الائتلافية التي أوصلت هذه العلاقات لقمتها.

ويبدو أن الليبرالية بأوجهها السياسية والاقتصادية ليست السبب الوحيد لعودة الاهتمام الأمريكي بالقارة الأفريقية، بوصفها قاسماً مشتركاً مع التوجه والوجود الفرنسي فيها، ولا سيما بالنسبة للمناطق الإستراتيجية فيها كمنطقة القرن الأفريقي، وهو الأمر الذي شجع وزير الدفاع ومدير مخابرات وكالة الاستخبارات الأمريكية السابق، جيمس شليزنجر للإشارة إلى إن هدف الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، هو اجتذاب أفريقيا جنوب الصحراء، في إطار النفوذ الأميركي، أي أن الإرادة والهدف ـ حتى في عهد جورج بوش (الابن) وبتصميم أشد وطأة ـ تتحركان باتجاه إحلال النفوذ الأمريكي بمفهومه الواسع سياسيا وأمنياً، واقتصادياً وثقافياً ودينياً مكان أية مظاهر للنفوذ بما في ذلك النفوذ الفرنسي. وهكذا تحولت أفريقيا وتحديداً منطقة القرن الأفريقي إلى ميدان آخر للتحديات وللمواجهات المباشرة منها وغير المباشرة بين الولايات المتحدة وأوروبا وعلى وجه الخصوص فرنسا بوصفها العنصر الأوروبي الفاعل في الوقت الراهن.

ويعد السودان وما يدور بداخله من سياسات وتفاعلات وممارسات ميداناً فعليا للمناورات الأمريكية والفرنسية، وتحاول فرنسا جاهدة أن تستثمر هذا الوضع باعتباره فرصة من أجل البقاء ليس في السودان ولا منطقة القرن الأفريقي فحسب بل في القارة الأفريقية، وذلك من خلال إحداث أكبر قدر من التقارب مع الولايات المتحدة، وأيضاً من خلال إظهار أكبر قدر من التفاهم والتعاون والتضامن معها، طالما بات الأمر يقترن بالبقاء والاستمرار.

ب. العلاقات الفرنسية ـ السودانية

لقد اتسمت العلاقات بين فرنسا والسودان في مراحلها المبكرة بحذر، وباندفاع. ففرنسا لم تخف على الإطلاق رغبتها في أن تظل علاقاتها مع النظام السوداني بعيدة عن العلانية لحسابات تتعلق بوضعها في داخل الاتحاد الأوربي وعلاقاتها مع عدد من القوى الإقليمية مثل مصر والمملكة العربية السعودية وفوق هذا وذاك من منظور علاقاتها مع الولايات المتحدة الأمريكية التي لم تتوقف عن ممارسة الضغوط على باريس للحد من علاقاتها مع السودان. وقد قاومت الدبلوماسية الفرنسية محاولات فرض العقوبات على السودان أو إدانته في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لكنها كانت على الدوام تنتهي بالتصويت لصالح تلك العقوبات أو القرارات تحت ضغط الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

بالمقابل، كان للخرطوم منظور مناقض للموقف الفرنسي ولحسابات خاصة بها هي أيضاً، مرتبطة أساساً بصورة النظام الحاكم في الخارج ورغبته في تقديم نفسه ضحية للسياسة الأمريكية، ومن ثم يظهر أنه يتمتع بعلاقات عادية مع الدول غير الخاضعة للنفوذ الأمريكي وفي مقدمتها فرنسا. لكن النظام الحاكم السوداني استجاب لرغبة فرنسا في إبعاد علاقاتهما عن العلانية وظلت ملفات العلاقات تدار من قبل القنوات السرية بين البلدين لفترة من الوقت امتدت حتى أوائل الألفية الثالثة. بل إن فرنسا أصرت على رفض استقبال أي مسؤولين سياسيين سودانيين علناً وشمل ذلك رفض استقبال وزير الخارجية الأسبق على عثمان محمد طه، ورفضها دعوة السودان للمشاركة في قمة الدول الفرنكفونية في باريس عام 1998. في موازاة ذلك استقبلت باريس خلال فترة التسعينيات من القرن الماضي مسؤولين من الصف الثاني ووزراء سودانيون مكلفون بملفات مهمة مثل النفط والاقتصاد، كما استقبلت وتحت جنح السرية مختلف القيادات الأمنية والعسكرية.

وجاء التغيير في المنهج الفرنسي في أغسطس عام 1998 وقبل أيام من القصف الأمريكي لمصنع الشفاء في الخرطوم بحري عندما استقبلت العاصمة السودانية وزير التعاون الفرنسي شارل جوسلن في إطار مهمة استكشافية، استبقها بلقاءات مع قيادات المعارضة، وفي مقدمتهم الدكتور جون جرانج في القاهرة. وفتحت الزيارة الأبواب أمام إقامة علاقات عادية بين البلدين، لا سيما وأن ذلك تزامن مع ارتخاء القبضة الأمنية للنظام السوداني ومحاولته تقديم صورة جديدة لنفسه تقوم على أساس تطبيع العلاقات والأوضاع الداخلية. وزار وزير الخارجية السوداني د مصطفي عثمان إسماعيل باريس نهاية عام 1999 في أول زيارة في إطار العلاقات الثنائية بهذا المستوى وكان يمكن أن تكون أنجحها لولا ما نقل عن رفض الرئيس الفرنسي جاك شيراك استقبال المسؤول السوداني، وبقاء لقاءاته على المستوى الوزاري مع العلم أن الرئيس البشير كان قد استقبل وزير التعاون الفرنسي عند زيارته للخرطوم.

ويلاحظ أن مرحلة التعايش بين الرئيس جاك شيراك اليميني وحكومة ائتلاف اليسار بقيادة الحزب الاشتراكي والتي تضم الحزب الشيوعي وحزب الخضر ويرأسها ليونيل جوسبان، والتي واصلت السياسة نفسها مع السودان مع اختلاف طفيف هو إخراجها للعلن وقيادتها للحوار الأوربي السوداني. إذن يمكن الاستنتاج من هذا الاستعراض السريع لتشكيلات الحكم في فرنسا وإتباعها لذات النهج والسياسة مع السودان طوال سنوات التسعينيات من القرن الماضي إلى أنه على العكس مما تروج له بعض الدوائر في فرنسا من أن سياستها السودانية طارئة ومرتبطة بمتطلبات آنية وأن السودان يوجد خارج الأولويات الإستراتيجية للدولة والدبلوماسية الفرنسية ، يبدو واضحا أن هذه السياسة التي لاقت توافقا من كل أطراف اللعبة لها أسسها ومبرراتها في البناء الإستراتيجي الفرنسي وأن فرنسا وجدت هوى إستراتيجياً وأمنياً في هذه السياسة لذا واصلتها دون انقطاع على مدى عشر سنوات. أما فيما يتعلق بعلاقة فرنسا الرسمية وشبه الرسمية بالتجمع الوطني الديمقراطي الإطار الجامع للمعارضة السودانية، وبفصائل التجمع الرئيسة كل على انفراد، فيلاحظ ما يلي:

(1) أن فرنسا فضلت، وما زالت تفضل، التعامل مع فصائل التجمع كل على حدة. لذا فإن باريس استقبلت كل قيادات فصائل التجمع في الخارج بدءاً من العقيد جون جرانج ومنصور خالد ودينق الور من الحركة الشعبية، والصادق المهدي والتيجاني سيسي من حزب الأمة ، وحاتم السر من الحزب الاتحادي وعز الدين على عامر والتيجاني الطيب والشفيع خضر من الحزب الشيوعي بالإضافة للعديد من الشخصيات المستقلة المعارضة من الشمال والجنوب. لكن كل محاولات دعوة وفد جماعي يمثل قيادة التجمع باءت بالفشل وهو ما يفسر جزئيا أسباب عدم قيام السيد محمد عثمان الميرغني رئيس التجمع بزيارة رسمية للجمهورية الفرنسية.

(2) أن فرنسا ظلت تنظر للجيش الشعبي لتحرير السودان والذي يمثل الفصيل العسكري الرئيس في التجمع على أنه جزء من الإستراتيجية الأمريكية المنافسة في منطقة البحيرات ومن ثم اعتمدت موقفا حذرا منه، وهو ما بادله إياها الجيش الشعبي بعد تداول المعلومات عن التعاون الأمني والعسكري بين السودان وفرنسا. كما أن لباريس نظرة مطابقة للدول الداعمة للجيش الشعبي وللمعارضة السودانية وفي مقدمتها أوغندا وإريتريا التي تعدها مخالب للإستراتيجية الأمريكية.

(3) أن المعارضة السودانية تعاملت برد الفعل المباشر مع السياسة الفرنسية ( ما عدا بعض الفصائل ) واتخذت موقفا ناقدا ومتشددا من فرنسا بدلا عن اتخاذ موقف هادئ وفتح حوار مع باريس في إطار تفهم نظرتها الإستراتيجية وأخذ مصالحها في الحسبان كما فعلت مع مصر على سبيل المثال مما قاد إلى صعوبات في علاقتها مع باريس استفاد منها النظام.

(4) أن فصائل المعارضة لم تستفد بالصورة المثلى من تضامن المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني مع قضيتها، لجهلها أو تجاهلها لدور هذه المنظمات في الضغط على الحكومة الفرنسية في اتجاه تغيير سياستها تجاه السودان. آخر الملاحظات، أن الحكومة الفرنسية والمعارضة السودانية ستكونان عاجلا أم آجلا مضطرتان للدخول في حوار طالما أن للأولى مصالح في السودان والمنطقة المحيطة به وطالما أن المعارضة تقدم نفسها بديلاً للنظام الحاكم؛ لذا فإن الإسراع بمثل هذا الحوار يجنب الطرفين الكثير من الجهد والمشقة في المستقبل.

ثالثاً: أزمة الوجود الفرنسي في أفريقيا

1. التحدي الأفريقي

تشكّل القارة الأفريقية إحدى أهم دوائر السياسة الخارجية الفرنسية، وهو الأمر الذي عبَّر عنه الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران في القمة الفرنسية - الأفريقية التي عقدت في بيارتيز بفرنسا (نوفمبر 1994)، حيث أكَّد للحاضرين أنه بدون أفريقيا فلن يكون لفرنسا تاريخ في القرن الحادي والعشرين، وهو الأمر الذي يدلل على مدي الاهتمام الفرنسي بأفريقيا ومدي التعويل عليها في بناء وبقاء مكانة فرنسا الدولية، وهو ما يعني أيضا أن تلك العلاقة مع أفريقيا بلغت من وجهة النظر الفرنسية إلي مستوي العلاقة المصيرية. ويبدو أن هذا الإدراك ليس مقصورًا على ميتران فقط، بل هو مواصلة لسياسة ثابتة، حيث سبقه في ذلك الجنرال ديجول، الذي أرسى تقليدًا لا يزال ساريًا، يشرف بموجبه رئيس الدولة الفرنسية ومستشاريه على ملف الشؤون الأفريقية، ويصنف هذا الملف على أنه "بالغ السرية". كما ربطت في منتصف التسعينيات من القرن الماضي وزارة التعاون الدولي مع أفريقيا بوزارة الخارجية لضمان فاعلية التواصل مع قضايا.

لقد شهد عام 1998 والربع الأول من عام 1999 إصدار القانون الأمريكي الخاص بالتجارة والفرص مع أفريقيا ثم زيارة الرئيس كلينتون لدول في القارة وعقد قمة مع عدد من القادة الأفارقة في عاصمة أوغندا، وبعد ذلك قدمت الإدارة الأمريكية مقترحا بإنشاء سوق مشتركة مغاربية/ أمريكية في إطار شراكة مع تونس والجزائر والمملكة المغربية كما توالت زيارات المسؤولين الأمريكيين الكبار من مدنيين وعسكريين لدعم الروابط والعلاقات مع دول أفريقيا بما في ذلك جمهورية جنوب أفريقيا في إطار الشراكة الإستراتيجية بين الدولتَين.

وتجدر الإشارة إلى انعقاد مؤتمر في 16 مارس 1999 في واشنطن تلبية لدعوة الرئيس الأمريكي السابق بيل كلينتون ـ وبرئاسته ـ التي وجهت إلي 46 دولة أفريقية وتركز موضوع المؤتمر على السياسة الأمريكية لبناء الشراكة الأفريقية/ الأمريكية من أجل النمو والتجارة والفرص الاقتصادي واقتراح الرئيس الأمريكي بإلغاء مبلغ 70 مليار دولار قيمة ديون مستحقة على الدول الأفريقية الفقيرة وإنشاء مركز أمريكي كبير للدراسات الأفريقية في أفريقيا وأيضا اعتماد اقتراح بيع جزء من الرصيد الذهبي لدي صندوق النقد الدولي لتمويل المساعدات للدول الأفريقية وتخفيض أعباء ديونها.

2. التحدي الأمريكي

في إطار المزاحمة الأمريكية للوجود الفرنسي في أفريقيا، فقد سبق لوزير الخارجية الأمريكية الأسبق وارن كريستوفر إبان جولته الأفريقية عام 1995 أن رفع التحدي علناً في وجه الدبلوماسية الفرنسية ذات الحضور القوي في أفريقيا آنذاك ، وذكر " لقد انتهى الزمن الذي كانت بعض الدول تقرر تقسيم أفريقيا إلى مناطق نفوذ " و أضاف " إن أفريقيا بحاجة إلى دعم كل أصدقائها وليس إلى رعاية حصرية من قبل البعض". ثم اختتم تصريحه بأن زيارته عززت ثقته وقناعته بأن على الولايات المتحدة الأمريكية أن تحافظ على وجودها ونشاطها في هذه القارة " وقد عملت أمريكا بالفعل على زيادة وتيرة التبادلات التجارية وزيادة نسبة الاستثمارات في جنوب القارة وفي مناطق جنوب الصحراء.

واتساقا مع هذا التوجه فقد أعلنت الولايات المتحدة أنها عازمة على التخلص من القيود التي كانت تحد من حريتها في القارة الأفريقية أثناء الحرب الباردة، وقد عززت تحالفها مع جوناس سافيمبي زعيم الاتحاد الوطني لاستقلال أنجولا (يونيتا) الذي كان يقود المعارضة المسلحة بدعم أمريكي مباشر ضد النظام الموالي للاتحاد السوفيتي سابقاً . وتقوم الولايات المتحدة بتقديم الدعم لدول أفريقية أخرى مثل أوغندا وبوروندي ورواندا وإثيوبيا في إطار علاقات ثنائية يجري تطويرها بهدوء.

كذلك فقد سعت إدارة كلينتون السابقة وبعدها إدارة جورج بوش الابن حالياً إلى تقوية النفوذ الأمريكي في القارة الأفريقية حتى لو كان ذلك على حساب النفوذ الفرنسي التقليدي في جميع المجالات السياسية والعسكرية والاقتصادية بعد أن رسخت الهيمنة الأمريكية على شؤون الكوكب وقيادة النظام العالمي، وقد سبق لواشنطن أن أنشأت صندوق دعم لأفريقيا بقيمة 350 مليون دولار لمساعدتها في تنفيذ مشاريع البني التحتية للقطاع الخاص، وتشجيع الاقتصاد الحر، وتفكيك منظمة الاقتصاد المخطط والمركزي، وإنهاء ما يسمى بالقطاع العام لكي يسهل على مؤسساتها الخاصة التغلغل في النسيج الاقتصادي الأفريقي، وقد أعلنت مؤسسة الاستثمار الأمريكية الخاصة عبر البحار أنها ستستثمر 41 مليون دولار في خمسة مشاريع في أنجولا وليسوتو وناميبيا وجنوب أفريقيا، وأنشأت صندوق البنية التحتية لأفريقيا لتقديم المساعدات والمعونات في مجالات النقل والاتصالات والطاقة والمياه والتجهيزات الصحية لتوفير 7 آلاف فرصة عمل إضافية بتكلفة 350 مليون دولار وهذه هي الترجمة الفعلية والعملية لجولة بيل كلينتون في آذار مارس 1998 التي أشرنا إليها قبل قليل.

لقد أصبحت مسألة التعامل مع النفوذ الأمريكي المتزايد في القارة ومواجهته، خاصة بعد الحرب الباردة، وبعد تراجع مكانة بريطانيا، تمثل عبئاً على صانعي ومتخذي القرارات والسياسات الفرنسيين، وهذا ما يلاحظ من تصريحات المسؤولين الفرنسيين والأمريكيين، ففي أثناء زيارة وليام ديلي وزير التجارة الأمريكي الأسبق للقارة في ديسمبر 1998، أي بعد انعقاد القمة "الأفريقية ـ الفرنسية" العشرين بأيام قليلة، أكَّد أن هناك دولاً عديدة أصبحت مؤهلة للخروج من دائرة نفوذ الأوروبيين ـ فرنسا تحديدًا ـ وأن بلاده مصمّمة على الالتزام بشكل قاطع وعلى مدى طويل بعملية الاستثمارات الجارية في أفريقيا. وفي المقابل فقد انتقد الرئيس شيراك في القمَّة الأفريقية - الفرنسية العشرين السياسة الأمريكية تجاه أفريقيا، ورأى أنها تقوم على مبدأ المصلحة فقط، وليس مبدأ التكافؤ، كما انتقد الشعار الذي رفعه الرئيس الأمريكي السابق كلينتون، وهو: "شراكة لا تبعية مع أفريقيا"، ويرى في المقابل أهمية تقديم المساعدات بجانب الاستثمارات.

ومن هذا المنطلق فقد شعر المسؤولون الفرنسيون بخطورة الهجمة الأمريكية ضد مصالحهم في أفريقيا، ولكنهم شعروا أنهم عاجزون عن الوقوف في وجهها بمفردهم، ما دعا أحد المسؤولين الفرنسيين إلي توضيح أنه "على الشركاء الأوروبيين أن يقفوا إلى جانب بلاده في توازن القوى القائم بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا في أفريقيا"، وشدد أيضاً على "أن فرنسا ينبغي أن تكون واثقة من الاعتماد على شركائها الأوروبيين لأنها لا تستطيع أن تفعل ذلك وحدها"، كما ذكر" أن تفاقم الوجود الأمريكي في أفريقيا يتطلب دوراً أوروبياً موحداً لمواجهته، وعلى الاتحاد الأوروبي أن يضطلع بدور مهم في أفريقيا ". و أشار المسؤول الفرنسي إلي " أن الذي يحدو بأمريكا للشروع بمثل هذا التحدي ليس لدوافع سياسية بحتة فحسب، بل هناك دوافع اقتصادية" وأوضح كذلك " أن نتائج الأبحاث والتنقيبات النفطية تحمل على الاعتقاد أن خليج غينيا يحوي احتياطات هائلة من النفط قد توازي في حجمها احتياطات الخليج العربي وهذا ما يثير شهية وأطماع الولايات المتحدة".

وهكذا بقدر ما كانت فرنسا تتراجع بخطوات سريعة في شأن القضايا التي كانت تتبناها وتدافع عنها، كانت الولايات المتحدة تتقدم بخطوات أسرع لملء أي فراغ تتركه فرنسا من ناحية، ولتربح مواقع جديدة في القارة الأفريقية ولا سيما في مناطق النفوذ الفرنسية التقليدية في أفريقيا من ناحية أخري، والدليل على ذلك تنامي علاقات التعاون بين كل من الولايات المتحدة والعديد من الدول الفرنكفونية الشديدة الارتباط بفرنسا لسنوات طويلة ومنها السنغال والمغرب والكاميرون وساحل العاج وجيبوتي وتونس ورواندا وبوروندي والكونغو الديمقراطية، وهكذا فإن القائمة آخذة في التزايد، في الوقت الذي تذهب فيه السياسة الفرنسية للأخذ بسياسة دفاعية تارة، وبسياسة تكيف تارة أخري في محاولة منها لمجرد البقاء.



[1] تلك الاتفاقيات مع كل من: الكاميرون وأفريقيا الوسطى وجزر القمر وكوت ديفوار وجيبوتي والجابون والسنغال وتوجو

[2] تلك الدول هي: بنين بوركينا فاسو بوروندي الكاميرون أفريقيا الوسطى جزر القمر كوت ديفوار جيبوتي الجابون غينيا الاستوائية غينيا/ كوناكرى مدغشقر مالي موريشيوس موريتانيا النيجر رواندا السنغال سيشل تشاد توجو، وقد سقطت الاتفاقية الموقعة عام 1973 بين فرنسا والكونغو زائير بسقوط موبوتو سيسيسيكو عام 1997.