إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / العلاقات الدولية في أفريقيا منذ انتهاء الحرب الباردة









العلاقات الدولية في أفريقيا

المبحث الرابع

علاقات إسرائيل بأفريقيا منذ انتهاء الحرب الباردة

أولا. جذور الاهتمام الإسرائيلي بالقارة الأفريقية ودوافعه

1. جذور الاهتمام الإسرائيلي بالقارة الأفريقية

أ. الاهتمام بالمنطقة وطناً قومياً مقترحاً لليهود

لم تكن أفريقيا بالبعد المكاني أو الجغرافي المستحدث على خريطة الاهتمام الصهيوني؛ فما كان يُعرف "بمشروع أوغندا Oganda project أو إقامة مستعمرة يهودية في أفريقيا في بدايات القرن العشرين مستقراً للوطن اليهودي المقترح، تم بحثه فيما بين القيادة الصهيونية ممثلة في ثيودور هرتزل واللورد تشمبرلين وزير المستعمرات البريطاني. وقد كان من ضمن البدائل التي ناقشتها المؤتمرات الصهيونية وتبناها قطاع من الصهيونيين الذين يعرفون بالعمليين، وبعد أن منحت بريطانيا، دولة الانتداب على فلسطين، اليهود الحق في إقامة دولة لهم في فلسطين بموجب وعد بلفور 1917، ثم تأسيس دولة الكيان الإسرائيلي واعتراف عدد من دول العالم بها، فقد اتجهت نحو محاولة الاتصال بالنطاق القاري الأفريقي والآسيوي والاهتمام به، بحسبان أن ذلك من الأولويات الرئيسة للقيادة الصهيونية لكسر عزلتها والخروج إلى نطاق الارتباط العالمي، مع عدم إغفال الأبعاد الاقتصادية الكبيرة التي يمكن أن يحققها ذلك الأمر.

وبناءً على هذا التصور المبدئي، فقد كانت السيطرة على إيلات وإقرار الملاحة في خليج العقبة والبحر الأحمر في أعقاب العدوان الثلاثي (البريطاني والفرنسي والإسرائيلي) عام 1956 تمثل هدفاً لإقرار هذا الأمر وتدعيمه؛ حيث يُسهل عملية الاتصال بالقارتين. وقد أعطت معطيات الارتباط الغربي بإسرائيل دفعة قوية لهذا التوجه الصهيوني المبكر، وإذا كانت إسرائيل قد استطاعت أن تحدث اختراقاً مبكراً لعقل المجتمع الغربي وفكره فإن عملية إدارة الصراع الإقليمي فرضت عليها بذل أقصى درجات الحرص على دعم علاقاتها بالدول المختلفة وخاصة الدول الأقرب، والتي يمكنها تقبل بالوجود الإسرائيلي في المنطقة، وكانت دول القارة الأفريقية هى المرشحة لهذا التقارب.

ب. الاهتمام بالمنطقة كبديل احتياطي

لقد واصل مؤسسو الصهيونية التفكير في أفريقيا على أنها امتداد ممكن للكيان الصهيوني، أكثر من كونها وطنًا لليهود، ولمّا كانت هناك أعداد كبيرة من اليهود الذين أرادوا الاستقرار معًا في مناطق يستطيعون فلاحتها بأنفسهم، ويسمونها وطنًا مشتركًا، فقد عدت فلسطين مكانًا غير مناسب لكل اليهود الذين أرادوا الاستقرار معًا بهذه الطريقة. ولذلك فإن هرتزل رأى أن شرق أفريقيا يعد مكاناً مناسباً للموجة الثانية من الاستعمار اليهودي لا الموجة الأولى".

وهكذا يتضح مما تقدم أن دولة الكيان الصهيوني تشكل ما يمكن تسميته "الفاتيكان المسلح"، حيث أصبح لليهود مركز قيادة مستقل للصهيونية العالمية في أرض فلسطين، يتولى تنسيق نشاطات الجماعات اليهودية في مختلف أرجاء العالم، والتي من المتصور أن يبقى معظمها خارج الكيان الصهيوني ليتولَّى مهمة تعبئة التأييد السياسي والمالي لها، وإن كان ذلك لا يمنع من وجود مركز تبادلي أو احتياطي للمركز في شرق أفريقيا.

ويبدو أن منطقة شرق أفريقيا ـ والتي كانت مطروحة في السابق وطناً قومياً لليهود تشكّل المركز "الاحتياطي" أو "التبادلي" للحركة الصهيونية، ويظهر ذلك جليًا من النشاط الصهيوني المكثف في المنطقة بعون أمريكي، في كل الظروف والمتغيرات، وهو نشاط استهدف في جانب كبير منه تطويق العالم العربي من الجنوب، وتقليص المد الإسلامي على أطرافه، بالتعاون مع المسيحية العالمية، ابتداء من افتعال الصراع الموريتاني ـ السنغالي والتهديد بضرب القدرات العسكرية للجزائر، والوجود العسكري الأمريكي- الصهيوني في تشاد، والمساعدات لحركة التمرد في جنوب السودان من جانب الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، ومجلس الكنائس العالمي، ثم التدخل في أحداث القرن الأفريقي لترتيب الأوضاع لصالح الإمبريالية الأمريكية والصهيونية. وكل ذلك تمهيد لتعزيز مركز "تبادلي" أو احتياطي آمن للحركة الصهيونية يحقق لها الأغراض الدفاعية المذكورة من جهة، والأغراض الهجومية المتمثلة في تقليص الوجود الإسلامي في أفريقيا، والتحكم في منابع مياه النيل، ومدخل البحر الأحمر من جهة ثانية.

ج. الاهتمام بالمنطقة كمرتكز للتواصل مع الأقليات اليهودية في أفريقيا

يقوم اليهود الأفارقة بدور رئيس في دعم العلاقات الأفريقية ـ الصهيونية, لا سيما أن أي يهودي في العالم له الحق في الحصول على جنسية دولة الكيان والهجرة إليها والاتصالات مع يهود أفريقيا مستمرة, سواء عن طريق الكيان نفسه أو عن طريق الوكالة اليهودية. لقد شكلت الهجرة اليهودية الأفريقية إلى فلسطين ما نسبته 16% من مجموع السكان اليهود, وارتفعت هذه النسبة إلى حوالي 18,5% بعد قدوم يهود الفلاشا وغيرهم, ومن ثم فإن هذه النسبة كفيلة بأن تكون جسرا ثقافيا وسياسيا واقتصاديا بين الكيان وأفريقيا. وينفرد التعامل الصهيوني مع القارة الأفريقية بدرجة عالية من الخصوصية يتَّضح ذلك في جانبين؛ أولهما: يتمثَّل في عملية الربط الأيديولوجي والحركي بين الصهيونية وحركة الجامعة الأفريقية والزنوجة، وثانيهما: يتمثّل في التعمد الصهيوني التعامل مع جماعات إفريقية بعينها تدعيمًا لاستمرارها في السلطة إن كانت حاكمة، أو توسيعًا لدورها في نشر حالة عدم الاستقرار السياسي في بعض الدول الأفريقية، ويمكن الإشارة إلى ذلك كالتالي:

(1) عملية الربط الأيديولوجي بين الصهيونية وحركة الجامعة الأفريقية والزنجية

تظهر علمية الربط الأيديولوجي بين الصهيونية وحركة الجامعة الأفريقية والزنجية والتي حاكتها الصهيونية العالمية في عدة أوجه منها:

(أ) الزعم بخضوع كل من اليهود والأفارقة (الزنوج) لاضطهاد مشترك، فكلاهما ضحايا للاضطهاد وللاثنين ماضٍ مؤلم، وأنهما من ضحايا التمييز العنصري، وبينهما من هنا تفاهم متبادل، ويزيد من تلاقي تطلعاتهما أن لهم جذورًا ممتدة في ماضيين متشابهين جوهراً، ومن ثم فإن سياسة الكيان في أفريقيا تعدّ تطلعاً أصبح يتمثل في الرغبة الصهيونية في مساعدة الذين عانوا المآسي كالشعب اليهودي.

ويؤكد موسى ليشم ـ والذي كان رئيسًا للإدارة الأفريقية في الخارجية الصهيونية ـ على أن العلاقات القوية التي تطوَّرت بين دولة الكيان وأفريقيا إنما تتصل بالروابط التي قامت بين اليهود والأفريقيين، فجذور التعاطف بينهما تتمثل أساسًا في أن المدنية السائدة صنفت اليهود الزنوج أجناساً منحطة، وأن التجربة التاريخية والنفسية متشابهة بينهما، وتمثَّلت في تجارة الرقيق وذبح اليهود، وهذا التماثل ليس ذا طبيعة تاريخية أو مجردة فقط، ولكنه يتأكد من خلال التطلع اليهودي لتجديد ما أسماه وجودهم القومي، وكذلك من خلال كفاح الأفريقيين للتعبير عن أنفسهم في ظل الاستقلال، أي من خلال رغبة كل من الشعبين في حفظ قيمه الثقافية.

(ب) إضفاء المسحة الصهيونية على حركة الجامعة الأفريقية، فمنذ أواخر القرن الماضي وبداية القرن الحالي ومع أخذ الحركة الصهيونية، وحركة الجامعة الأفريقية إطارهما التنظيمي فقد أطلق على حركة الجامعة الأفريقية اسم "الصهيونية السوداء"، وأطلق على أحد زعمائها المتصدرين لفكرة "عودة الزنوج الأمريكيين إلى وطنهم الأصلي أفريقيا" -وهو ماركوس جارفي اسم- "النبي موسى الأسود"، بل إن تشبه الزنوج بالكيان الصهيوني وإضفاء طابع ديني على حركتهم للعودة إلى أفريقيا يوضّح هذا التأثير بالفكر الصهيوني إلى حد بعيد. فقد كان الأسقف ألكسندر وولترز ـ أحد أساقفة كنيسة صهيون الأسقفية الميثورية الأفريقية ـ أكبر سند لسلفستر ويليامز -أول داعية لحركة الجامعة الأفريقية-، والذي نظَّم أول مؤتمراتها في لندن عام 1900 بمساعدة من كنيسة صهيون ودعمها، وكان معروفًا أن زعماء هذه الكنيسة يستندون إلى العهد القديم من الكتاب المقدس، وخاصة عندما "عدوا للهروب من العبودية على مثال ما حدث لبني إسرائيل، واستعانوا بالآيات الخاصة بالحياة الأخرى من موت وبعث وخلود ليسبغوا على حركاتهم نوعًا من هالة قدسية، أو رضىً إلهي".

(ج) أن عملية الربط بين الصهيونية وحركة الجامعة الأفريقية قد استهدفت من بين ما استهدفت مواجهة الإسلام في أفريقيا من جهة، وضرب العلاقة بين حركة التحرر العربية والأفريقية من جهة أخرى؛ إذ صرح عديد من القيادات الدينية المسيحية في الولايات المتحدة الأمريكية مبكرًا أن الهدف من تهجير الزنوج الأمريكيين إلى أفريقيا إنما يستهدف نشر المسيحية فيها من خلالهم، والوقوف أمام انتشار الإسلام في القارة.

وبعد الحرب العالمية الثانية فقط، أدركت دولة الكيان والقوى الاستعمارية أهمية "القيادات الوطنية" والمثقفة في أفريقيا مع المد التحرري الذي بدت عليه الحياة السياسية الأفريقية؛ فكان اقترابها البارز في البداية من نكروما ونيريري وسنغور أكثر من غيرهم. وقد كان وزن هؤلاء في حركة التحرر الأفريقية ضروريًا للكيان والغرب عامة لتحجيم صلة هذه الحركة بحرية التحرر العربية، وبالطبع فقد أفاد في هذا الأمر ميراث الصهيونية والزنوجية المبكر من جهة، بل وطبيعة ميراثهم من الفكر الليبرالي، وحتى اليساري الأوروبي في توجهه نحو الكيان الصهيوني من جهة أخرى.

(د) كان من نتائج ما تقدم أن ظهرت دولة الكيان إلى الوجود متمتعة برصيد من التعاطف المنبثق عن العوامل الدينية والثقافية، دون أن يثقل كاهلها شيء من سلبيات الصدام أو التعامل العدائي بينها وبين القارة الأفريقية وأهلها، على عكس العرب الذي اتُّهموا في هذا السياق بمزاولة تجارة الرقيق في أفريقيا. وقد كانت استجابة الزعماء الأفريقيين للتعامل مع الكيان الصهيوني في المجالات كافة سريعة وودية، فمن المعروف أن ليبريا كانت أول دولة إفريقية تعترف بالكيان الغاصب، وثالث دولة اعترفت بها في العالم (بعد الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي) عام 1948.

(2) التركيز على دعم العلاقات مع جماعات أفريقية محددة

تتضح هذه الخصوصية في التعامل الصهيوني مع القارة الأفريقية، والتي تعدّ من ثوابت السياسة الخارجية الصهيونية في أفريقيا، والتي تتجاوز التعامل المؤقت مع أنظمة الحكم الأفريقية - بافتراض عدم استقرارها- إلى التعامل المستقر وشبه الدائم مع جماعات بعينها تتَّسم بثقل عددي وسياسي، فتقوم بمساندتها إذا كانت تشكّل قاعدة للسلطة القائمة دعمًا للاستقرار السياسي، وتوطيد الأواصر والعلاقات مع الكيان، أو تقوم بمساندتها إذا كانت خارج السلطة السياسية لإشاعة حالة من الفوضى وعدم الاستقرار السياسي في دولة تعدّ معادية للكيان. ولم تغفل دولة الكيان في هذا المقام أهمية الربط الأيديولوجي بين التقاليد الصهيونية وتقاليد هذه الجماعات، كما هو الحال مع جماعة الدينكا في جنوب السودان، وجماعة الأمهرا في إثيوبيا.

2. دوافع الاهتمام الإسرائيلي بالقارة الأفريقية

لم يكن التوجه الصهيوني نحو أفريقيا فجائياً أو غير مخطط له، إنما ظهر هذا التوجه في بدايات تكوين الدولة اليهودية والتي سعت لتوثيق علاقاتها بدول العالم، ولم تكن لتتردد عن التقدم إلى الدول المختلفة عارضة عليها نفسها، كما حدث مع الصين الشعبية عندما أرسل "موشى شاريت" أول وزير خارجية لدولة إسرائيل إلى "شواين لاى" رئيس الوزراء الصيني في 9 يناير عام 1950، عارضاً الاعتراف الإسرائيلي بالصين، ولكن الصين رفضت الطلب الإسرائيلي في حينه لحسابات خاصة برغبتها في عدم إغضاب العرب.

ولذلك فإن الدوافع التي حدت بإسرائيل إلى التوجه إلى أفريقيا تمثلت أساساً في أن أكثر من 15% إلى 17% من سكان إسرائيل من اليهود قدموا أساساً من أفريقيا في الفترة الحرجة للدولة اليهودية الممتدة من عام 1948 حتى عام 1967. واستمرت حتى تهجير يهود إثيوبيا الفلاشا في ثمانينيات القرن الماضي. وهذا الأمر المرتبط بالوضع السكاني في إسرائيل دفع إلى الاهتمام بالواقع الأفريقي وبالقطع فقد لعب هؤلاء المهاجرون من أفريقيا لإسرائيل دوراً كبيراً في دفع عجلة الاهتمام بالوضع الأفريقي.

فإذا كان معظم المهاجرين الأوائل من أفريقيا من يهود البلاد العربية الأفريقية وخاصة دول الشمال الأفريقي، فإن عملية تهجير يهود أثيوبيا، وما ارتبط بها من أحداث أظهرت أن النشاط الصهيوني في أفريقيا يعتمد الانتقائية في عمليات التهجير. فهؤلاء اليهود من الفلاشا - والذين يشكك كثير من الإسرائيليين أنفسهم في حقيقة يهوديتهم ومن ثم عدم استيفائهم لشروط حق العودة وما يمكن أن يسببه ذلك في انتفاء نظرية الاختصاص اليهودي عليهم التي روجت لها الدعايات التاريخية منذ أمد بعيد.

ولكن إسرائيل عندما ركزت عليهم، رغم الشكوك التي أحاطت بهم، كانت ترى أن هؤلاء الأفارقة يمكن أن يحلوا عمالةً مكان الفلسطينيين وأيضاً يمكن تجنيد العديد منهم في جيش الدفاع الإسرائيلي، وبطبيعة الحال فإن واقع الحياة في أثيوبيا ساعد كثيراً على هجرة هؤلاء الأثيوبيين إلى إسرائيل. ومع ذلك فإن إسرائيل لم تلعب الدور نفسه مع الجالية اليهودية في جنوب أفريقيا، حيث صنفتها من الجاليات التمويلية كيهود الولايات المتحدة الأمريكية، وأيضاً فإن وضع هؤلاء اليهود ساعد إسرائيل كثيراً في تدعيم مركزها في الجنوب الأفريقي، وهو ما سنتعرض له لاحقاً، وإقامة مزيد من التعاون مع النظام العنصري هناك، قبل انتقال الحكم إلى الوطنيين الأفارقة بقيادة "نيلسون منديلا".

ولكن الدافع الإسرائيلي للتوجه إلى أفريقيا لم يقتصر على ذلك فقط، إنما معطيات الواقع الأفريقي أعطت اهتماماً كبيراً لدوافع الارتباط الإسرائيلي مع القارة، ولا سيما العامل الجغرافي الذي يفصح عن أن أفريقيا هى البعد المكاني الأقرب إلى إسرائيل. وهذا الأمر حاولت من خلاله إسرائيل الالتفاف حول النطاق العربي المحيط بها وما يسببه من تضييق على الاقتصاد الإسرائيلي، وكان الأمل نحو الارتباط الأفريقي يحدوها في التغلب على معوقات البناء والتنمية الإسرائيلية ويوفر مورداً للاحتياجات، وخاصة المواد الخام، وسوقاً كبيرة؛ وأيضاً فإن إسرائيل، وعلى ضوء الموقف الإستراتيجي الذي فرضته الحركة المصرية في تأييدها لثورة اليمن عام 1962 من ميزة إستراتيجية نسبية للمصريين والعرب في صراعهم مع إسرائيل، سارعت إلى الاهتمام بالارتباط بدولة أثيوبيا الجار غير العربي على سواحل البحر الأحمر، لا سيما أنها كانت ثاني دولة أفريقية تعترف بها (أول دولة أفريقية اعترفت بإسرائيل هي ليبيريا وذلك عام 1948).

ومن الدوافع المهمة التي ساعدت ومهدت على التركيز الإسرائيلي على التغلغل والارتباط بالقارة الأفريقية ومهدت له، هو النجاح النسبي للحركة الإسرائيلية أفريقيا عنها آسيوياً، حيث إن قارة آسيا بها عدد أكبر من الدول الإسلامية التي تقف عائقاً في سبيل الارتباط والتغلغل الإسرائيلي هناك، كما أن القوى الكبرى الآسيوية مثل الصين صدت التقارب الإسرائيلي معها ولم تسمح لإسرائيل، بالنفوذ إلى مؤتمر باندونج عام 1955، وشعرت القيادة الإسرائيلية أن المردود الإسرائيلي في أفريقيا سوف يكون أسرع ارتباطاً بتسويق المشروع الصهيوني هناك، وتصوير اليهود على أنهم المعانون والمضطهدون مثل الزنوج الأفارقة. وإن إسرائيل بلد صغير ليس له أطماع الدول الاستعمارية الكبرى التي جثمت عقوداً طويلة محتلة بلدان القارة الأفريقية.

ثانياً: الأهداف والمصالح الإسرائيلية في أفريقيا

1. أهداف السياسة الإسرائيلية في أفريقيا

يرى أ د. إبراهيم نصر الدين أن أهداف السياسة الخارجية الصهيونية في أفريقيا تكاد تنحصر فيما يلي:

أ. الدفاع عن بقاء دولة الكيان ووجود وضمان أمنها، وذلك من خلال فك طوق العزلة العربية المفروضة عليها سياسيًا واقتصاديا، كي تتمكن من الخروج من هذه العزلة المفروضة عليها إقليميا (عربيًا) لتتجاوز المسرح الإقليمي إلى ما وراءه (أفريقيا) والحصول على أكبر تأييد دولي لوجودها وسياساتها من جانب؛ ثم العمل على تطويق الدول العربية ومصر خاصة لتهديد أمن مياه النيل، وتأمين موانئ البحر الأحمر، والتأثير على اقتصاديات الدول العربية وعرقلة نموها من جانب ثانٍ. فضلاً عن السعي لخلق تيار مناهض للعرب ومؤيد للكيان الصهيوني في أفريقيا من جانب ثالث.

ب. خلق مجال حيوي لطاقاتها وإمكاناتها الإنتاجية والفنية، على نحو يؤدي إلى تحقيق مكاسب اقتصادية من زيادة التبادل التجاري، وخلق سوق واسعة للصادرات الصناعية الصهيونية، وضمان مورد مهم للخامات، وخلق مجالات عمل جديدة للخبرات الفائضة لدى الكيان الصهيوني.

ج. توثيق الروابط بينها وبين الاستعمار لضمان المصادر التمويلية، وخدمة مصالح الاستعمار ومواجهة نشاط الكتلة الشيوعية في أفريقيا.

غير أنه يلاحظ أن الكثيرين في تحديدهم لأهداف السياسة الخارجية للكيان في أفريقيا قد تجاهلوا وضع هذه الأهداف في منظومة أولويات السياسة الخارجية الصهيونية بعامة من جهة، ثم إنهم أغفلوا فرز هذه الأهداف لتحدد أيها ذو طبيعة تكتيكية مرحلية، وأيها ذو طبيعة إستراتيجية طويلة المدى من جهة أخرى، خاصة بعد أن أصبح وجود الكيان الصهيوني مؤكدًا، وأمنه مضمونًا، بل وأصبح يهدّد أمن الآخرين والاعتراف به قائمًا، وعزلته الاقتصادية والسياسية مقوَّضة، وعلاقاته الاقتصادية مع الدول الأفريقية مؤمَّنة ومتنامية. ومن ثم يرى البعض أن الأهداف الإستراتيجية للسياسة الخارجية الصهيونية بصفة عامة تتمثل في ثلاثة أهداف هي:

أولها: ضمان حماية الأمن القومي الإسرائيلي

يتركز هذا الهدف على ضرورة التأكيد على "تأمين الوجود والبقاء للكيان الإسرائيلي"، حيث يتسم هذا الوجود بخاصتين:

الأولى: أنه يسعى إلى المحافظة على الشخصية النقية للدولة (دولة دينية).

الثانية: أنه وجود ديناميكي متمدد وتوسعي تحت ضغط الهجرة المتزايدة التي تأتي إعمالاً "للوعد الإلهي" وفكرة "أرض الميعاد".

وبناء على ذلك فإن الأمن القومي الإسرائيلي يستهدف في حالة منطقة القرن الأفريقي البعُد الإستراتيجي المتمثل في تحقيق السيطرة الإقليمية بغرض الالتفاف على أشكال العزلة التي تفرضها الدول العربية حول إسرائيل، وتأمين الملاحة في البحر الأحمر، وذلك بضمان الوجود الإسرائيلي من خلال الدولة الأفريقية الوحيدة على البحر الأحمر إثيوبيا ووريثتها بعد ذلك اريتريا، في إطار ضمان تلبية احتياجات إسرائيل الاقتصادية وخاصة في مجالات التسويق والعمالة والمواد الخام، وأيضاً ضمان تحقيق الاتصال بالأقليات اليهودية الأفريقية وتشجيعها على الهجرة إلى إسرائيل وهو ما تحقق بالنسبة ليهود الفلاشا في أثيوبيا، ومن قبل يهود الشمال الأفريقي العربي الذين غادر معظمهم بلدانهم التي كانوا يعيشون فيها تحت تأثير الدعاية الإسرائيلية التي أثارت الفزع فيما بينهم، أو من خلال التضييق الذي اعتمدته بعض الأنظمة العربية حول يهودها خوفاً من اتصالهم بإسرائيل.

ثانيها: ضمان اكتساب الشرعية الدولية للكيان الإسرائيلي

ينطوي هذا الهدف على تأمين القبول والرضا وضمانه من جانب دول المجتمع الدولي لوجود الكيان الإسرائيلي، وكذلك ضمان الاعتراف القانوني والواقعي بالوجود الصهيوني وأمنه في المنطقة العربية، ومن قبل الدول العربية. لقد عبر دافيد بن جوريون أول رئيس لوزراء إسرائيل عن أهمية ذلك وأكد "أن الطريق الأكثر ضمانة للوصول إلى السلام والتعاون مع جيراننا لا يكون بدعوة شعب إسرائيل ووعظه بالسلام كما يفعل بعض محبي السلام من البسطاء ولكن عن طريق الحصول على أكبر عدد ممكن من الأصدقاء في آسيا وأفريقيا الذين سيفهمون أهمية إسرائيل وقدرتها على الإسهام في تقدم الشعوب النامية والذين سينقلون ذلك المفهوم إلى جيرانهم العرب". ويعبر أحد الكتاب الإسرائيليين عن نفس الفكرة في قوله: "إن إسرائيل لا تقوم بعمل خيري في أفريقيا وأن النشاط الإسرائيلي ليس منزهاً تماماً عن المصلحة العامة والصريحة، لتحطيم الحصار العربي وأن نجد جيراناً صالحين يستطيعون أن يعملوا في الوقت المناسب للتقريب بين إسرائيل والبلاد العربية".

ولذلك استمد التحرك الإسرائيلي في أفريقيا زخماً لتأمين اعتراف سياسي وتسويق المفاهيم الإسرائيلية لتسوية الصراع العربي الإسرائيلي، من خلال إظهار إسرائيل بمظهر الدولة الضعيفة غير الطامعة، والتي تطلب من هذه الدول الأفريقية التوسط بينها وبين الطرف العربي. هذا إلى جانب أن إسرائيل كما أسلفت سعت مبكراً إلى ضمان كسب أصدقاء لها وخاصة في المحافل الدولية كالأمم المتحدة في إطار سعيها الدؤوب للحصول على مركز دولي بارز يكسبها مزيداً من الشرعية الدولية، وهى تسعى إلى ذلك بالقطع معتمدة على أصدقائها في الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية.

ثالثها: ضمان تحقيق الهيمنة الإسرائيلية الإقليمية

يعدّ الأمن والشرعية مقدمات ضرورية لا غنى عنها لتحقيق الهدف الأساس طويل المدى للوجود الصهيوني، وهو ما يمكن تلخيصه في الهيمنة على الإقليم باعتباره يمثّل "المجال الحيوي" للوجود الصهيوني من ناحية، ولضمان ألا يتجاوز في نموه وتوجهاته حدًا يعرّض المصالح الغربية لخطر أو لتهديد جديد. ويبدو أن ترتيب أولويات أهداف السياسة الخارجية الصهيونية في منطقة القرن الأفريقي يختلف من مرحلة إلى أخرى، كما يختلف الوزن النسبي لكل منها في إطار المرحلة نفسها. فالترتيب السابق لأهداف دولة الكيان الإسرائيلي الإستراتيجية ـ الأمن فالشرعية ثم الهيمنة- يعكس إلى حد كبير تدرجاً تاريخياً في أولويات الحركة الصهيونية، فالفترة اللاحقة لقيام الدولة حتى منتصف الستينات تقريباً كان التركيز فيها على مطلب الأمن، أما الفترة الممتدة من منتصف الستينيات حتى مطلع السبعينيات فهي تتسم بالتركيز على مطلب الشرعية بعد توطيد دعائم الأمن.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن قطع الدول الأفريقية العلاقات الدبلوماسية مع الكيان في غمار حرب أكتوبر 1973 لم يرتفع مطلقًا إلى حد التشكيك في "شرعية" الوجود الصهيوني، وعلى ضوء ذلك يمكن التركيز على أن المرحلة الراهنة واللاحقة ستشهد تركيزًا صهيونياً على مطلب الهيمنة. ولعل ذلك يدفع إلى نتيجة مفادها أن تطبيق مفهوم "الإمبريالية الفرعية" أو "الصغرى" على الوضع الراهن للكيان هو أكثر المفاهيم صدقاً، حيث هو يفسّر الطبيعة العالمية للحركة الصهيونية في أعلى مراحلها، وعلاقتها البنيوية ـ مجسَّدة في دولة الكيان ـ بالنظام الإمبريالي الدولي وعلى رأسه الولايات المتحدة، ويفسّر أيضًا الاختلاف الذي يبدو أحيانًا مع المركز، ونتائج كل ذلك في الدور الإقليمي للكيان وعلاقاته في العالم الثالث وخاصة أفريقيا.

إذن فالتركيز الإسرائيلي على التغلغل في أفريقيا يحقق أهدافاً مهمة للمخطط الإستراتيجي تتحدد في محاور محددة أولها الأمن وكسب الأصدقاء في إطار ضمان الشرعية لتحقيق السيطرة على المجال الإقليمي وصولاً للهيمنة المطلوبة والتغلب على أية عقبات محتملة قد يثيرها العرب في سبيل ذلك. لقد وعت إسرائيل حقيقة ما تمثله أفريقيا من تأثير في المجال الدولي والإقليمي فالدول الأفريقية غير العربية تصل إلى أربعة وخمسين دولة أعضاء في الأمم المتحدة يمثلون حوالي ثلث أعضاء المنظمة الدولية، وهم يمثلون عاملاً مهماً في ضمان تأمين الأغلبية في أي قرار يعرض على الجمعية العامة، والمثل الواضح في ذلك هو قرار الجمعية العامة الذي اتخذته في نوفمبر عام 1975 والذي نص على أن الصهيونية شكل من أشكال العنصرية، وقد أيدت القرار 20 دولة أفريقية، وعارضته خمس دول، وامتنعت عن التصويت 12 دولة.

وهنا يمكن القول إن موقف كل من الدول التي امتنعت عن التصويت أو عارضت القرار ذهب لصالح إسرائيل أى 17 دولة وقد جاء هذا القرار في فترة ولاية كورت فالدهايم السكرتير العام للأمم المتحدة. ولكن في سابقة لم تحدث في الأمم المتحدة من قبل، وفي ظل ولاية بطرس غالي سكرتيراً عاماً للأمم المتحدة، ثم ألغي القرار عام 1992 بتأييد أفريقي ملحوظ، بعد أن سوقت إسرائيل دعايتها مستغلة المناخ الدولي والإقليمي ممثلاً في تأييد أمريكي للموقف الإسرائيلي، والضغط الشديد على الدول الأفريقية من ضمن دول العالم للتصويت لصالح إلغاء القرار، والمناخ الإقليمي المتمثل أساساً في اتفاق السلام بين إسرائيل ومصر الدولة المحورية العربية الأفريقية، فضلاً عن انطلاق عملية السلام من مدريد في أكتوبر عام 1991.

ويلاحظ أن إسرائيل في تحركها نحو أفريقيا سوف تظل محتفظة بثوابت أهدافها ولكن مع إعادة ترتيب الأولويات داخل الهدف الواحد نفسه؛ ففيما يخص الأمن على سبيل المثال فإن إسرائيل سوف تسقط من أولوياتها موضوع "الهجرة"؛ لأنها قد حققت أهدافها في هذا الأمر مرحليا حتى الآن، وأيضاً فإن موضوع المقاطعة العربية وكسر طوق العزلة سوف يتراجع، لا سيما أن الدول العربية نفسها قد كسر العديد منها هذه العزلة بإقامة علاقات دبلوماسية أو تجارية مع إسرائيل، فهناك ست دول عربية غير مصر لها علاقات مع إسرائيل تختلف من دولة إلى أخرى. كما أن النظام العالمي الجديد وطبيعة العلاقات دفعت العديد من الدول العربية إلى التعامل الاقتصادي المباشر وغير المباشر مع إسرائيل.

ولذلك فإن هناك أهدافاً فرعية جديدة، أو أخرى قديمة سوف يكون التركيز عليها، كموضوع فتح الأسواق الأفريقية والإنفراد بها على المستويات كافة، وأمن البحر الأحمر، وخاصة على ضوء تجربة منع الملاحة في وجه إسرائيل بعد قفل باب المندب في عام 1973، وهى أمور لها اهتمام بالغ إسرائيلياً في ضوء مفاهيم إدارة الصراع والأمن القومي، من ناحية، وهدف الهيمنة الإسرائيلية، التي تعمد إليه بالأصالة أو بالوكالة، من ناحية أخرى. فقد استغلت إسرائيل ارتباطها بالغرب وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، وركزت على إبراز أهميتها بالنسبة للسياسة الغربية وتحركها على المستوى الإقليمي (العربي) والأفريقي في إطار دورها في النظام العالمي الجديد الذي يرسخ مبدأ الهيمنة الإسرائيلية وكيف أنها مهمة لهذا النظام لتأكيد هيمنته في القارة الأفريقية.

2. الأهداف والمصالح الإسرائيلية في القارة الأفريقية

أ. الأهداف الإسرائيلية في القارة الأفريقية

يمكن الإشارة إلى أن المخططات الإسرائيلية تجاه منطقة القرن الأفريقي تمثل تهديداً للأمن القومي العربي بعامة، والأمن الوطني المصري بخاصة، حيث تهدف إسرائيل إلى تدعيم علاقاتها بدول الجوار العربي الأفريقي بغية الالتفاف حول الأمة العربية في شكل حزام يمتد من إثيوبيا، وإريتريا، مروراً بكينيا، وأوغندا، وتنزانيا، ورواندا، وبوروندي، والكونغو الديمقراطية، بما يهدد منابع النيل في أول هدف إستراتيجي، ثم الالتفاف حول السودان عبر جمهورية أفريقيا الوسطى، مع تطويق المغرب العربي عبر تشاد والنيجر ومالي والسنغال، بل إن هناك محاولات للتغلغل في أقصى جنوب القارة، ومن ثم فإن أبرز تلك المخططات تتركـز في الآتي:

(1) التأثير على الأمن المائي والغذائي العربي

تسعى إسرائيل لاستخدام المياه ورقة ضغط على مصر والسودان، وعلى مصر خاصة، ومن ثم فإن التنسيق الإسرائيلي مع دول منابع النيل، إثيوبيا وأوغندا والكونغو الديمقراطية خاصة يمثل تهديداً للمصالح المصرية والسودانية.

(2) تهديد الملاحة في البحر الأحمر

يمثل الوجود الإسرائيلي في القرن الأفريقي والجزر الواقعة عند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر تهديداً خطيراً للمصالح الإستراتيجية والأمنية والتجارية للدول العربية والأفريقية في البحر الأحمر. ولذلك فإن الوجود الإسرائيلي في المنطقة يمكنها من ترتيب الأوضاع بما يخدم المصالح الإسرائيلية والأمريكية.

(3) إضعاف التأييد الأفريقي للقضايا العربية

تسعى إسرائيل من خلال دورها المتنامي في أفريقيا إلى إضعاف التأييد الأفريقي للقضايا العربية، وكسب الرأي العام الأفريقي إلى جانبها، خاصة في قضايا الصراع الإسرائيلي، الأمر الذي قد يفقد العرب رصيداً كبيراً من التأييد السياسي الأفريقي.

(4) محاولة الربط الأيديولوجي والحركي بين إسرائيل وأفريقيا

تركز إسرائيل على عملية الربط الأيديولوجي والحركي بين الصهيونية وحركة الجماعات الأفريقية، وذلك بالإشارة إلى أن كلاً من اليهود والأفارقة "الزنوج" قد عانوا من اضطهاد مشترك، وأنهما من ضحايا التمييز العنصري، هذا بالإضافة إلى العمل على إضفاء المسحة الصهيونية على علاقاتها الأفريقية.

(5) تدعيم العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الدول الأفريقية

عملت إسرائيل على تدعيم علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع الدول الأفريقية، وفتح أسواق إسرائيلية بها لطاقاتها وإمكاناتها الإنتاجية والفنية، على نحو يؤدى إلى تحقيق مكاسب اقتصادية، مع زيادة التبادل التجاري وضمان مورد مهم للخامات، وخلق مجالات عمل جديدة للخبرات الفائضة لدى إسرائيل.

(6) تنفيذ السياسات الغربية وخاصة الأمريكية في القارة

تعد إسرائيل هى الحليف الإستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية والدول الغربية في القارة، والمنفذ لسياساتها، حيث تعمل حلقة اتصال أو وسيط يسهم في دعم العلاقات الغربية الأمريكية.

ب. المصالح الإسرائيلية في القارة الأفريقية

تتعدد المصالح الإسرائيلية في أفريقيا وتتنوع ويمكن الإشارة إلى بعض جوانبها وفقاً لما يلي:

أ. المصالح السياسية

يتمثل الهدف الرئيس لسياسة إسرائيل الخارجية في اكتساب عناصر الشرعية السياسية والاعتراف القانوني بها لا سيما أن امتناع الدول الأفريقية عن الاعتراف بإسرائيل يعنى التشكيك في شرعية وجودها، ومن ثم تسعى إسرائيل لتحقيق المصالح السياسية الإسرائيلية في أفريقيا وهى كالآتي:

(1) تطوير علاقاتها الدبلوماسية مع الأطراف الأفريقية، لترسيخ مفهوم الوجود الإسرائيلي بوصف كيانها دولة ذات سيادة وعضواً بالمجتمع الدولي.

(2) التأثير على الأصوات الأفريقية بالأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى لصالح تأييد المواقف الإسرائيلية في مواجهة الجانب العربي بخاصة، وعدم المساس بمركزها الدولي بعامة.

(3) التقارب الإسرائيلي مع القارة الأفريقية وتخطيطها الدقيق لإيجاد مصالح أفريقية في إسرائيل ما يؤدى إلى إحراج الأطراف الأفريقية عند إدانة إسرائيل دولياً.

(4) الاستغلال الجيد للنفوذ الإسرائيلي في القارة لشرح وجهة النظر الإسرائيلية فيما يتعلق بقضية الشرق الأوسط عامة والمسألة الفلسطينية خاصة.

ب. المصالح الأمنية والإستراتيجية

تولى إسرائيل اهتماما خاصاً لضمان تحقيق مصالحها الأمنية، وذلك انطلاقا من حسابات متعددة لا تنبع فقط من القرب الجغرافي لإسرائيل من القارة الأفريقية، وإنما أيضاً لتحقيق مصلحتها الإستراتيجية في القارة والمتمثلة في الآتي:

(1) في إطار الإستراتيجية الإسرائيلية، احتلت القارة أهمية بارزة، بحسبان أنها تمثل جزءاً من المجال الحيوي الإسرائيلي.

(2) منع تحويل البحر الأحمر إلى بحيرة عربية.

(3) محاولة السيطرة على باب المندب.

(4) استغلال وجودها في شرق القارة، لمحاولة النفاذ إلى محور غرب أفريقيا لتشكيل حزام يطوق الدول العربية تهدد من خلاله العمق الإستراتيجي للمغرب العربي.

(5) البعد المائي في علاقاتها بدول حوض النيل، للضغط على مصر واستغلال قرب موقعها الأفريقي من مصر في التلويح بإمكانات تهديد المنشآت المائية الرئيسة "السد العالي".

(6) السعي لاستغلال موارد القارة الأفريقية من أجل متطلبات التنمية ودعم جوانب الاقتصاد الإسرائيلي، مع ربط الموانئ والمطارات والمنافذ الأفريقية بشبكة من الخطوط الملاحية والبحرية والجوية الإسرائيلية.

(7) تمثل سياسة تشجيع الهجرة عموماً لإسرائيل أحد أهم محاور الاهتمام ببعض المناطق الأفريقية، انطلاقاً من صغر تعداد سكان الدولة، وبالشكل الذي أولت معه اهتماما بتهجير تجمعات يهودية في كل من "أثيوبيا- الفلاشا، وجنوب أفريقيا وزيمبابوي وكينيا"، فضلا عن استثمار بقاء تجمعات أخرى حتى الآن في أفريقيا وتوظيفهم لتحقيق المصالح الإسرائيلية الأخرى بعامة، وما في ذلك محاولة دعم ثقلهم للتأثير الإيجابي على توجهات الأنظمة الأفريقية تجاه إسرائيل.

ثالثاً: أساليب وآليات تفعيل العلاقات الإسرائيلية مع أفريقيا

1. استغلال العلاقات السياسية مع دول المنطقة

تعتمد إسرائيل في تحركها نحو تحقيق غاياتها اعتماداً على ضرورة توسيع دوائر علاقاتها الخارجية واستناداً إلى مجموعة من الفرضيات ترتكز أساساً على عدة مبادئ من أهمها ضمان تحقيق مبدأ "الأمن" والأمن ليس مفهوماً أحادى الجانب يرتبط بالنواحي العسكرية منفصلة، إنما هو ذو أبعاد متعددة يهدف في نهايته إلى تنمية قدرات الدولة وكما عبر عن ذلك روبرت مكنمارا "إن الأمن ليس هو المعدات العسكرية وإن كان يتضمنها".

والأمن عموماً ليس هو القوة العسكرية وإن كان يشملها. والأمن ليس هو النشاط العسكري التقليدي وإن كان ينطوي عليه؛ إن الأمن هو التنمية، وبدونها لا يمكن أن يوجد أمن، والدول النامية لا تنمو في الواقع، ويجب أن تظل آمنة، ومن ثم فإن نظرية الأمن في حد ذاتها ليست "استاتيكية" (ثابتة) بل هي "ذات طابع ديناميكي" (متغير) يرتبط بعدد من المحددات منها:

أ. التغير المرتبط بالعوامل والظروف الداخلية والخارجية للدولة ويؤثر على تغير الموقف الأمني، ولذا فالأمن حالة متغيرة وليست ثابتة، تتأثر بنظام الحكم والأيدولوجيا وغيرها من العوامل.

ب. نسبية الأمن، فأمن دولة ما يختلف نسبياً عن أمن دولة أخرى، وفقاً لمنظور كل منهما إليه، وإن كان يجمعهما إقليم واحد.

ج. إن تحقيق حالة الأمن المطلق افتراضاً يعنى في المقابل، تحقيق التهديد المطلق لدول الجوار.

إن إسرائيل تسعى سعياً دؤوباً إلى تحقيق مفهوم الأمن، وتحاول أن تصل فيه إلى الأمن المطلق، وبالقطع فإن هذا الأمر لن يكون إلا على حساب دول الجوار الإقليمي، وهى الدول العربية، تساعدها في ذلك المواقف العالمية السائدة ومن أهمها العلاقات الإستراتيجية التي تربطها بالولايات المتحدة الأمريكية والتي تعطى إسرائيل التغطية الدولية اللازمة للنفاذ إلى الساحة العالمية. يساعد في ذلك تدنى الموقف العربي وحالات عدم الاستقرار السياسي والعسكري التي تسود المنطقة.

يضاف إلى ذلك الإدراك الإسرائيلي بضرورة بناء عملية التنمية الذاتية والسعي الجاد لتملك مقوماتها، لأنها لن تظل تستعير قوتها الأمنية، وإنما عليها أن تبنى هذه القوة الذاتية، حتى أصبحت إسرائيل الآن واحدة من أكبر عشر دول مصدرة للسلاح في العالم. وقد استغلت إسرائيل الوضع العالمي وعلاقتها بالولايات المتحدة الأمريكية التي أعطتها زخماً كبيراً في الولوج إلى الساحة الأفريقية، ومن قبل فعلت فرنسا وإنجلترا ومازالتا. وأيضاً استغلت الوضع على الساحة الإقليمية وما حدث على موقف الصراع من تطورات، وعقد مصر- وهي من أكبر الدول الأفريقية- اتفاق سلام مع إسرائيل في نهاية السبعينيات من القرن العشرين، والأردن وحتى السلطة الفلسطينية (اتفاق أوسلو). وبدأت إسرائيل تركز على بناء قاعدتها الاقتصادية الضخمة في تعاملها الأفريقي لتستطيع تحقيق التنمية لمواجهة تحديات الحرب والاستقرار الاقتصادي والاجتماعي من ناحية، وصولاً لإستراتيجية الأمن المطلق من ناحية أخرى.

وهو ما يبرز الدور المهم لأفريقيا تجاه لإسرائيل لتحقيق متطلبات التنمية بما تحويه القارة من ثروات تساعد في توفير الخامات والاستثمار والأسواق، وأيضاً لتوفير المجال الإستراتيجي الحيوي لإسرائيل للتغلب على معوقات الوصول للأمن المطلق. ولذا فإن الأمن القومي ومفهوم إدارة الصراع الدولي والإقليمي هما جناحا التحرك الإسرائيلي الأفريقي، وتسعى إلى التنسيق الدائم الأكبر بينهما، وخاصة في الشق الخاص بالأمن القومي حيث يمثل هذا الأمر الاهتمام الأكبر للقيادة الإسرائيلية، ويرتبط كذلك بحالة التنمية الذاتية بوصفها عنصرا أساسيا ومكملاً لعنصر الأمن.

وقد شهدت العلاقات الإسرائيلية الأفريقية بصفة عامة تطورات مهمة في جوانبها كافة (السياسية، الاقتصادية، الثقافية، الاجتماعية، العسكرية، الأمنية)، خلال العقدين الأخيرين، على ضوء عوامل كثيرة، لعل أبرزها، صعود العولمة، ونمو ظاهرة الإرهاب الدولي بعد أحداث سبتمبر 2001، بالإضافة لنمو العلاقات السياسية والاقتصادية المتنامية بين إسرائيل وعدد من دول القارة، وغيرها من العوامل الإقليمية والعالمية. كما يعد العامل الاقتصادي هو الأبرز في النفوذ الإسرائيلي إلى القارة الأفريقية. ويوجد لإسرائيل علاقات دبلوماسية متنوعة مع العديد من الدول الأفريقية، ويقدر عدد الدول الأفريقية التي يوجد بها تمثيل دبلوماسي مقيم بدرجة سفارة 13 دولة، وتمثيل غير مقيم 30 دولة، ومكتب رعاية مصالح، مكتب اتصال، وهو ما يعنى أن معظم علاقات إسرائيل الأفريقية هي علاقات تمثيل غير مقيم.

2. توظيف القدرات الإسرائيلية للنفاذ داخل للقارة الأفريقية

يمكن طرح أبرز أساليب وأدوات إسرائيل في النفاذ للقارة الأفريقية في الآتي:

أ. أنشطة السفارات والبعثات الدبلوماسية في الدول التي لإسرائيل علاقات مباشرة معها مثل كينيا وإثيوبيا وأوغندا وإريتريا، فضلاً عن أنشطة الأجهزة والمؤسسات الاستخباراتية في الدول التي لها علاقات أو لاتوجد علاقات رسمية معها في المنطقة.

ب. تبادل الزيارات واللقاءات على مستوى القيادات السياسية والمسؤولين الرسميين وغير الرسميين.

ج. استثمار العلاقات الإسرائيلية الغربية الممتازة، وذلك لصالح تطوير العلاقات الأفريقية الإسرائيلية، بالإضافة لاستثمار الدور الأمريكي في أفريقيا خاصة بعد تزايد الاهتمام الأمريكي مؤخراً بقضايا ما يسمى بالإرهاب الدولي، بعد تداعيات أحداث 11 سبتمبر 2001.

د. استثمار حاجة الدول الأفريقية للدعم العسكري والأمني والاقتصادي، مثل الدعم ببعض النوعيات من الأسلحة والذخائر والخبرات الإسرائيلية في مجال الاستخبارات وجمع المعلومات.

هـ. استثمار مجالات التفوق التكنولوجي الإسرائيلي، وخاصة التقنية التي تحتاجها الدول الأفريقية لتطوير مجالات التنمية المختلفة (زراعة – صناعة – سياحة – صحةتعليم – رياضة).

و. دعم أنظمة الحكم الأفريقية، ودعم تلك الأنظمة في مجال السيطرة الداخلية وتأمين استمرار وجودها وذلك من خلال (مجالات الاستخبارات ـ تقديم المعلومات ـ تدريب الحرس الخاص بالنظم الأفريقية ودعم فاعليته وقدراته).

ز. استثمار عدم وجود إستراتيجية عربية منسقة تجاه القارة الأفريقية.

ح. استغلال إسرائيل للظروف الدولية في الارتباط بالقارة الأفريقية، وهناك مجموعة من الظروف الدولية التي عملت على تسهيل الحركة الإسرائيلية داخل أفريقيا.

ط. تقديم المنح الاقتصادية والتدريبية والتعليمية: عملت القيادة الإسرائيلية على استحداث العديد من الوسائل التي تساعدها على مد مظلة الارتباط بالقارة الأفريقية واستمرارها. ومنها الشركات العاملة في المجالات الاقتصادية والتي لا يتعدى الكثير منها أن يكون فرعاً من أفرع أجهزة المخابرات الإسرائيلية، وأيضا لجأت إسرائيل إلى اجتذاب الكثير من الدارسين والفنيين الأفارقة ومنحت العديد منهم الفرصة للدراسة في المعاهد والكليات الإسرائيلية. وفي الوقت نفسه أسست في وقت مبكر العديد من الهيئات العلمية وربطت أنشطتها لصالح دفع العلاقات الإسرائيلية الأفريقية، كما قامت إسرائيل بإيفاد الخبراء في المجالات المختلفة (إلى الدول الأفريقية) وخاصة في مجالات التدريب العسكري والفني والذين عملوا على تنشيط الدور الإسرائيلي الفاعل في أفريقيا مبكراً.

وتعددت الأشكال والأساليب التي سعت إسرائيل من خلالها لتأكيد الارتباط بأفريقيا سواء عن طريق الحكومة الإسرائيلية، أو عن طريق الهيئات والإدارات العاملة في مجال التعاون الأفريقي مثل الهستدروت. أو عن طريق أصدقاء إسرائيل من الدول الكبرى خاصة وتقديم الدعم اللازم لمواصلة التغلغل الإسرائيلي في أفريقيا عن طريق اشتراط هذه الدول الكبرى على الدول الأفريقية شراء معدات وأسلحة من إسرائيل والتعاون معها. بل وصل الأمر إلى أن أصدرت الخارجية الأمريكية أمراً إلى سفاراتها في الخارج في الثمانينيات من القرن العشرين بوضع إمكاناتها كافة لتسهيل عمل الممثلين الرسميين الإسرائيليين وغير الرسميين. كما شكلت الخارجية الأمريكية، لجنة أمريكية إسرائيلية مشتركة؛ لتنسيق العمل في العالم الثالث، وتسهيل تحقيق أهداف السياسة الخارجية الإسرائيلية في أفريقيا.

ي. استغلال الأداة الاتصالية والدعائية الإسرائيلية في القارة الأفريقية: في إطار الاستغلال الإسرائيلي للمتغيرات الدولية. وفي سياق أنها تعمل وسيطاً لقوى أخرى لتأكيد سيطرتها وهيمنتها في القارة الأفريقية، كان على إسرائيل أن تنشئ وسطاً دعائياً واتصالياً يضمن نجاح سياستها في القارة الأفريقية.

3. العوامل التي دعمت علاقات إسرائيل بدول القارة الأفريقية

ارتبط التعاون الإسرائيلي مع دول القارة الأفريقية بحسابات ومحددات من أهمها:

أ. واقع تطور الدول الأفريقية

كما هو معلوم فإن نهاية الخمسينيات وعقد التسعينيات كانا من أهم الفترات التي شهدت حركة التحرر الأفريقية وسيطرة الكوادر العسكرية في معظم البلدان الأفريقية على السلطة وحاجتها إلى الخبرة الأمنية الإسرائيلية، قليلة التكاليف، وساعد على ذلك حالة عدم الاستقرار الأمني والعسكري على الساحة الأفريقية سواء على الصعيد الداخلي للدول، أو في الإطار الإقليمي واستغلال إسرائيل لذلك في تعزيز علاقاتها مع الدول الأفريقية.

ب. شكل وطبيعة النظام العالمي

فقد استغلت إسرائيل التنافس الدولي على مناطق النفوذ والمصالح الإستراتيجية في ظل ثنائية القطبية منذ بداية الخمسينيات وحتى نهاية الثمانينيات لتعزيز تعاونها العسكري مع الدول الأفريقية باستغلال علاقاتها الممتازة مع العالم الغربي والولايات المتحدة الأمريكية خاصة، ومع انقضاء مرحلة الحرب الباردة وما واكبها من تقلص للوجود الشرقي بالدول الأفريقية، وحاجة القوى الدولية والولايات المتحدة الأمريكية خاصة للشريك الإستراتيجي القادر على تأمين مصالحها بأفريقيا لا سيما مع تراجع الاهتمام الغربي عموماً بالقارة الأفريقية وتصاعد الصراعات الإقليمية بها، وسياسات تقليل الإنفاق الدفاعي للقوى الغربية والولايات المتحدة.

ومن ثم فقد سارعت إسرائيل إلى ملء الفراغ خدمة لمصلحتها ومصلحة حلفائها الغربيين، مستغلة الحاجة الأفريقية لإعادة بناء مؤسساتها العسكرية، والقدرة على تسويق إنتاجها وخبرتها في هذا المجال. وأيضاً الدعم الأمريكي لتحركها في القارة بحسبان أنها تحقق أهدافاً غربية مهمة في ظل التحول الديمقراطي وتفجر قضايا اللاجئين وظاهرة الإسلام السياسي إلى جانب الخلافات الحدودية والصراعات العرقية والقبلية، إضافة إلى انفراج عملية السلام العربي/ الإسرائيلي، مقابل ضعف فاعلية التعاون العربي الأفريقي.

ج. الاحتياجات العسكرية في القارة الأفريقية

لقد أسست إسرائيل إستراتيجيتها للتحرك على الساحة الأفريقية من خلال مجموعة من المبادئ والركائز الأساسية التي ترمى أولاً إلى تحسين الوجه الإسرائيلي في القارة الأفريقية وجعله مقبولاً من دولها ، وإظهار أهمية اعتماد هذه الدول على إسرائيل في إعداد كوادرها العسكرية وتأهيلها إضافة إلى تقديم التسهيلات كافة التي تتيح بناء علاقات مع الأنظمة الأفريقية وإظهار مدى قدرتها على خدمة أهداف هذه الدول علمياً وعسكرياً. وفي الوقت نفسه فقد درست إسرائيل الواقع الأفريقي وتابعت المتغيرات المستمرة على الواقع المحيط بالقارة الأفريقية وارتبط ذلك بوضوح الأهداف والتحديد الدقيق لأسبقيات التنفيذ وتطويع علاقات التعاون العسكري لصالح تحقيقها؛ والعمل على اختراق الأجهزة الأمنية للدول الأفريقية وبناء علاقات قوية بالمؤسسات العسكرية. وتنشيط الأعمال الاستخباراتية خدمة لهذه الأهداف وجمع المعلومات اللازمة عن دقائق الدول الأفريقية.

وفي إطار تحقيق إستراتيجيتها سعت إسرائيل إلى تقسيم القارة الأفريقية لمجموعة من دوائر الاهتمام وفقاً لأسبقيات الأهداف؛ لتحقيق أقصى مردود إيجابي لحركتها أفريقيا، فقسمت القارة جنوب الصحراء إلى أربعة دوائر هي شرق أفريقيا وغرب أفريقيا ووسط أفريقيا وجنوب أفريقيا. وفي نفس الوقت حاولت إسرائيل الانتشار في الدول الأفريقية كافة خلال المرحلة الأولى من التوجه للقارة، ثم التركيز حالياً على عدد من الدول المحورية بكل دائرة إقليمية. ففي البداية ركزت إسرائيل على مثلث إثيوبيا (شرق أفريقيا)، وغانا (غرب أفريقيا)، وجمهورية جنوب أفريقيا (جنوب أفريقيا). في مرحلة الفتور التي سادت العلاقات الإسرائيلية الأفريقية تم التركيز على جنوب أفريقيا وكينيا وزائير، ومع إعادة القارة علاقاتها مع إسرائيل ركزت على جنوب أفريقيا وشرق أفريقيا ووسط القارة على التوالي في أسبقيات الاهتمام.

ومع اختلاف أولويات المصالح الإستراتيجية الإسرائيلية نجد التركيز مع الدوائر والدول المختلفة فعلى سبيل المثال نجد في المراحل الأولى للعلاقات الإسرائيلية بأفريقيا أعطت إسرائيل اهتماماً بأثيوبيا لتأمين الوجود في البحر الأحمر ونجدها اليوم تعطى اهتماماً بأثيوبيا وإريتريا ولكن في اتجاه التعاون الاقتصادي والعسكري نظراً للوجود الغربي لا سيما من جانب الولايات المتحدة الأمريكية سواء في البحر الأحمر أو الخليج العربي وتأثير ذلك على الأنشطة العسكرية المتضادة للقوى الإقليمية في المنطقة وانعكاس ذلك على أمن إسرائيل بالإيجاب.

وقد ساعدت إسرائيل، في تحركها الإستراتيجي في أفريقيا لإقامة علاقات التعاون العسكري مع دولها، مجموعة من الآليات والأجهزة الرسمية وغير الرسمية. فتضم وزارة الخارجية الإسرائيلية أقساماً وإدارات تهتم بالتعاون الإسرائيلي الأفريقي. وأما المؤسسة العسكرية فإنها تمارس دورها من خلال أجهزة الاستخبارات العسكرية (أمان) والذي يضم قسماً خاصاً بأفريقيا يتبعه مندوبون بالدول الأفريقية للحصول على المعلومات عنها وعن النشاط العربي بها وتتعاون "الموساد" مع كل من وزارة الخارجية ووزارة الدفاع في هذا الاتجاه.

وتسهم في هذا الشأن أنشطة للهستدروت، ومؤسسات التعليم والتدريب المدنية، كما أن الشركات الإسرائيلية العاملة في أفريقيا في المجالات المختلفة كثير منها يعمل في اتجاه تحقيق أهداف الإستراتيجية الإسرائيلية في أفريقيا، وخاصة في اتجاه المعلومات والاستخبارات . كما أن الجاليات اليهودية المقيمة في الدول الأفريقية كانت تعمل في اتجاه تحقيق الإستراتيجية الإسرائيلية والالتزام بها. علاوة بالقطع على الدعم الكبير الذي كانت تتلقاه هذه الإستراتيجية من جانب القوى الغربية لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية.

د. التخطيط للتعاون العسكري الإسرائيلي مع دول القارة الأفريقية

اتخذت إسرائيل العديد من الأساليب منها توقيع اتفاقيات وبروتوكولات التعاون العسكري، وتخصيص بعثات للعمل في الدول الأفريقية، كما فعلت مع إريتريا حيث ساعدتها في بناء القوات الخاصة والبحرية والقوات الجوية، ومع أثيوبيا حيث ساعدتها في بناء قواتها الجوية وإعادة إصلاح العاطل من سلاحها الجوي. ومع زائير حيث ساعدتها في تكوين الحرس الجمهوري الزائيري، وكذلك الحال مع كينيا وغينيا وغيرها من البلدان الأفريقية.

بالإضافة إلى إرسال إسرائيل الخبراء العسكريين لتدريب الكوادر العسكرية الأفريقية وتأهيلها للمساعدة في بناء وتطوير العديد من القواعد الجوية والمشاركة في بناء الأجهزة الأمنية والإستخباراتية العسكرية بالدول الأفريقية وإنشاء محطات الاستطلاع والإنذار ببعض دول القارة الأفريقية ولا سيما تلك التي تخدم أهداف الإستراتيجية الإسرائيلية.

كما أن إسرائيل صدرت إلى أفريقيا العديد من أساليبها التي اعتمدتها في بناء نظمها الدفاعية ومنها نظام المزارع التعاونية العسكرية على غرار ما هو معمول به لعناصر الناحال والجدناع في إسرائيل. وفي إطار تسويق منتجاتها العسكرية اعتمدت إسرائيل على إدراج منتجاتها للعديد من الدول الأفريقية في إطار برنامج مساعدات الدول الغربية لهذه الدول لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية التي اعتمدت على إسرائيل في هذا المجال، وخاصة في فترة الحرب الباردة. وتعد إسرائيل حالياً من أهم الدول المصدرة للسلاح إلى أفريقيا وتعتمد إسرائيل في الترويج لمبيعات السلاح سياسة إعلامية تبرز التفوق العسكري الإسرائيلي سواء من خلال وسائل الإعلام أو بتنظيم الزيارات للقادة والقيادات العسكرية الأفريقية لإسرائيل للإطلاع على أنشطة الإنتاج الحربي هناك . كما أنها تتبع سياسة تخفيض أسعار منتجاتها عن مثيلاتها في الدول الأخرى ، وتسعى دائماً إلى الالتزام بمواعيد التوريد في المواعيد المحددة.

وقد عد أحد الخبراء العسكريين الإٍسرائيليين "أن هذه السياسات الإسرائيلية تستفيد منها الدول الأفريقية أكثر من إسرائيل وأن شراء هذه الدول للسلاح الإسرائيلي ليس في إطار المجاملة إنما لأنه الأجود والأرخص". وقد لعبت إستراتيجية تصدير السلاح الإسرائيلي لأفريقيا دوراً بديلاً عن العلاقات الدبلوماسية أو مكملاً لها ، وعملت على تدعيم العلاقات الأفريقية الإسرائيلية. ولم تكتف فقط بسياسة البيع إنما قامت بإنشاء برامج للإنتاج المشترك مع الدول الأفريقية لكي تربطها بها لأجيال طويلة، ولكنها جعلت من نفسها المتحكم الرئيس في هذا الإنتاج وخاصة في جانبه التقني. كما قامت بإبرام العديد من العقود لتحديث الأسلحة التي في حوزة الجيوش الأفريقية التي تتعاون معها. وفي إطار إدراكها لطبيعة الدول الأفريقية وكثرة الانقلابات العسكرية، سارعت إسرائيل بتدعيم تعاونها بعناصر المعارضة في الدول الأفريقية ضماناً لدوام علاقاتها بهذه الدول في حالة تغير الأوضاع السياسية بالدولة.

رابعاً: الممارسات المرتبطة بعلاقات إسرائيل بأفريقيا

ترتبط إسرائيل بعلاقات متفاوتة مع معظم دول منطقة القرن الأفريقي، ويؤثر في هذه العلاقات الأهداف المرجوة وأولويات تنفيذها. ويشمل التعاون العسكري مع دول القارة مجالات متعددة من التدريب إلى إقامة القواعد ومراكز المخابرات والاشتراك في تأمين بعض الأنظمة والاشتراك في تنظيم وتسليح الجيوش الأفريقية. وتأتى هذه الدول على سلم الأولويات الإسرائيلية نظراً لأهميتها في تأمين نطاق الأمن الحيوي الجنوبي لإسرائيل (المدخل الجنوبي للبحر الأحمر) واكتساب وسيلة ضغط على الدول العربية بالمنطقة (مصر والسودان والسعودية واليمن).

ويحقق الوجود الإسرائيلي في هذه المنطقة لها تطويق البلدان العربية وعزلها عن القارة الأفريقية، مع إمكان التأثير على القرار الأفريقي من خلال وجود منظمة الوحدة الأفريقية سابقاً والاتحاد الأفريقي حالياً في أثيوبيا. كما أن توثيق علاقات إسرائيل مع دول منطقة القرن الأفريقي وحوض النيل يمكنها من استغلال ذلك مستقبلاً في الضغط على مصر والسودان في تحقيق مصالحها بالمنطقة ومياه النيل. فضلاً عن أن المنطقة تعد نقطة ارتكاز لتحقيق الاتصال بوسط وجنوب القارة من ناحية وتحقيق مصالحها الاقتصادية، لسهولة الاتصال بها، من ناحية أخرى.

خامساً: التحديات التي تواجه علاقات إسرائيل بأفريقيا

1. تقييم التدخل الإسرائيلي في القارة الأفريقية

لقد سعت إسرائيل إلى زيادة نفوذها في القارة الأفريقية حتى تغلغلت في مجالات الاهتمام الأفريقي كافة. واستخدمت إسرائيل جميع الوسائل المتيسرة لتحقيق أهداف تغلغلها أفريقيا في نظام متكامل مستفيدة من الظروف الدولية والإقليمية في ظل هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية عالمياً، وضعف الموقف العربي ولا سيما بعد حرب الخليج. وقد استهدفت إسرائيل من تحركها الأفريقي التغلب على واقعها الإقليمي الرافض لها والوصول إلى الوضع المناسب لتطويق البلدان العربية، وإفشال أية تحركات عربية على الساحة الأفريقية والوقيعة بين العرب والأفارقة في إطار تحقيق أهداف إسرائيل سواء على المستوى الإستراتيجي أو الأمني، علاوة على أهدافها الاقتصادية والمتمثلة في ضمان الأسواق الأفريقية مفتوحة أمام منتجاتها العسكرية، وساعد إسرائيل في تحركها الأفريقي طبيعة ارتباطها مع الغرب ذي الارتباط التاريخي بالقارة الأفريقية في ظل العلاقة الإستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية وعمل إسرائيل بصفة وسيط لصالح القوى الغربية في القارة الأفريقية.

تمثل منطقة القرن الأفريقي وإقليم البحر الأحمر، بوصفهما وحدتين متكاملتين، أهمية كبيرة في إطار تحقيق الأمن القومي العربي، وبصفة خاصة في دائرته الخليجية من ناحية، والأمن القومي للدول العربية الأفريقية، ولا سيما مصر والسودان من ناحية أخرى لعلاقتهما الوثيقة بدوائر الأمن المباشر لكل منهما ارتباطاً بالآتي:

·      إن منطقتا القرن الأفريقي وإقليم البحر الأحمر تمثلان الجدار الجنوبي للأمن القومي العربي وحزام الأمن الغربي والعمق الإستراتيجي لمنطقة الخليج العربي (طبقاً لما أكدته حرب الخليج) بوصفهما الاتجاه الرئيس لعبور التجارة النفطية وحلقة الاتصال بين النظم الإقليمية بالمنطقة، فضلاً عما يضمانه من دول عربية.

·      على صعيد الأمن القومي المصري والسوداني فإن، منطقتا القرن الأفريقي والبحر الأحمر، تمثلان الحزام الأمني للعمق الإستراتيجي للبلدين، علاوة على تحكمهما في مناطق تأمين الملاحة عبر قناة السويس، وتركيز الثروة النفطية المصرية والسودانية الناشئة بالبحر الأحمر والمساس بهما يؤثر في الأمن القومي المصري والسوداني والذي هو أحد ركائز الأمن القومي العربي.

باستعراض الأهداف الإٍسرائيلية في منطقة القرن الأفريقي، فإنه يمكن تقدير التهديدات المنتظرة على النحو التالي:

أ. تهديد نطاق الأمن الحيوي العربي

تتمثل أساساً في تهديد نطاق الأمن الحيوي للاتجاه الإستراتيجي الجنوبي من خلال الوجود الإسرائيلي بالقرن الأفريقي والدول الأفريقية المتاخمة للدول العربية. وبناء على ذلك فإن الصراع على الممرات والمناطق الإستراتيجية وخاصة في البحر الأحمر حيث التناقض سيظل قائماً وجدياً بين متطلبات الأمن الإسرائيلي ومتطلبات الأمن القومي العربي؛ فإسرائيل تسعى من خلال حصولها على تسهيلات بحرية بالمداخل الجنوبية بالبحر الأحمر عن طريق الوجود بإريتريا، إلى إقامة نقاط ارتكاز للاستطلاع ومتابعة الأنشطة العربية، واستغلال المنطقة عند الضرورة وسيلةً للضغط وتشتيت الجهود عند إدارة صراع مسلح بين إسرائيل والعرب، فضلاً عن إمكان استخدام المنطقة نقاط انطلاق لتوجيه ضربات وقائية سواء تجاه مصر أو تجاه أحد الأهداف العربية.

ب. التأثير على الأمن القومي المصري والسوداني

حيث تركز إسرائيل في تحركها على التأثير على الأمن القومي المصري والسوداني من خلال أحد أهم روافده، وهى تهديدات تطال مياه النيل من خلال سعى إسرائيل لاستغلال علاقاتها بدول حوض النيل للضغط على مصر عند إدارة أي مواجهة بالمنطقة، وذلك بغرض التأثير على الموقف المصري خلال مفاوضات السلام العربية - الإسرائيلية، والسعي لتحقيق مطامحها في الحصول على مياه النيل، وعرقلة أي جهود قد تقدمها مصر للسودان والدول المحيطة للخروج من أزمة التمرد في إقليم دارفور السوداني، والمحافظة على وحدة تراب تلك الدولة.

كما أن إسرائيل تعمل على عرقلة أية مشروعات مصرية لتنمية الموارد المائية بأعالي النيل، وتسعى جاهدة إلى إثارة الاتجاهات المطالبة بإعادة النظر في اتفاقية مياه النيل، كما أن إسرائيل تسعى إلى تقديم خبرتها واستثماراتها في اتجاه تنفيذ مشروعات تضر بالصالح المصري والسوداني في مياه النيل، كسعيها إلى تحويل نسبى لتغيير اتجاهات المصب لأفرع النيل لتتجه إلى البحر الأحمر، وقد عطلت الحرب الإريترية الأثيوبية هذه الجهود في الوقت الراهن. كما أن إسرائيل لا تتردد في دعم الاتجاهات المضادة للحركة المصرية السودانية للتنسيق والتعاون بين دول الحوض والمنظمات والتجمعات الإقليمية ذات الصلة بهذا الأمر. ومن ناحية وفي إطار حروب المياه القادمة، فإن إسرائيل تطمع في مياه النيل، وتدرك أن أمن مصر مرتبط بها ارتباطاً عضوياً، ولذلك فهي تركز وجودها في دول حوض النيل، وتزاول العديد من السياسات والممارسات التي تؤدى إلى خلق تناقضات عدائية عربية ـ أفريقية تصل إلى حد اختراع مشروعات في بعض الدول الأفريقية والاستعداد الغربي لتمويلها للتأثير على حصة مصر والسودان من مياه النيل.

ج. التأثير على الأوضاع في الصومال

إذا كانت هذه بعض الانعكاسات السلبية الإسرائيلية على الأمن القومي العربي ممثلاً في التأثير على دولتين فيه هما مصر والسودان. فإن البعض يشير إلى دور مؤثر لإسرائيل في دعمها اللوجستي للقوات المتقاتلة في الصومال، ودعمها لاستمرار الصراع، وحالة عدم الاستقرار من خلال مناصرة فريق على آخر. حيث تدخل الفوضى والاقتتال العام في الصومال ضمن مخططاتها، ويعزز من ذلك التصور تعاونها الوثيق مع ما يسمى بجمهورية أرض الصومال.

د. التأثير على علاقات الدول الغربية بالدول الإسلامية في المنطقة

تدعي إسرائيل أنها خط الدفاع الأول للغرب ضد الخطر الجديد، المتمثل في التطرف الديني والإرهاب. وتقدم نفسها إلى الدول الأفريقية على أنها الخبير الأول في مقاومة هذا التطرف والإرهاب. ولا شك أنها ستقدم -أى إسرائيل- سابقة أعمالها في ممارساتها القمعية ضد الفلسطينيين مصورة إياهم للبلدان الأفريقية على أنهم إرهابيون ولا سيما منظمتا المقاومة "حماس" و"الجهاد" من ناحية، فضلاً عن كفالة الحماية الذاتية لنظم الحكم في العديد من الدول الأفريقية ضد محاولات التورط ضدها من ناحية أخرى.

إن التحرك الإسرائيلي في القارة الأفريقية يتطلب من الدول العربية في المنطقة والمجاورة له، وتخصيصاً مصر والسودان لأن تكون هناك إستراتيجية طويلة المدى للتعامل مع مجمل الأوضاع فيها، ويدخل في هذا السياق ضرورة اعتماد سياسة ردع عسكري، تستهدف الردع المتدرج المرن تجاه دول أفريقية تمثل تأثيراً حيوياً على محاور الأمن العربي مثل حوض النيل لضمان حفظ مصالح مصر والسودان المائية، وتأمينها من خلال امتلاك القدرات العسكرية اللازمة للتدخل (عند الضرورة) ضد أية أعمال من شأنها المساس بمصالحهما في حوض النيل. وإشعار دول الحوض بهذه القدرة العربية، وأنها لا يمكن أن تقبل مساساً بمصالح الدول العربية في هذا الشأن.