إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الديوانيات الكويتية، ودورها السياسي




الديوانية حديثا
الديوانية قديما
ديوانية البابطين
ديوانية الرعيل الأول





الأثر السياسي للديوانية في الكويت

الأثر السياسي للديوانية في الكويت

          لقد ظلت الديوانية طوال تاريخها مكاناً لمناقشة ما يهم المجتمع من أمور. من هذه الأمور ما قد يكون طارئاً فيفرض نفسه ليكون حديث الساعة مثل نشوب حرب أو حدوث كارثة أو وفاة عالم أو حاكم؛ ومنها ما قد يكون له صفة الاستمرارية مما يعنى به الناس من أمور دينهم أو معاشهم. والديوانية التي تمسك بها المجتمع الكويتي الصغير منذ نشأته الأولى، حول قلعة الكوت، لم تكن بمعزل في يوم من الأيام عن ما يهم ذلك المجتمع من أمور سياسية محلية أو عالمية. وقد ساعد غياب الأحزاب السياسية الرسمية أن تصبح الديوانية، وهي المؤسسة التقليدية التي تلتقي فيها فئات المجتمع دون أن تكون لها صفة رسمية، هي ميدان العمل السياسي. وربما ازداد الأثر السياسي للديوانية وأصبح أكثر وضوحاً خلال الأزمات السياسية وإن كانت بعض الديوانيات تحافظ على توجهها السياسي تحت كل الظروف. بل ذهب بعض الباحثين إلى أبعد من ذلك حين قال إن الديوانية تمثل برلماناً ولكن دون التمتع بشرعية البرلمانات الرسمية بالطبع.

          ولأن الديوانيات تمثل جميع قطاعات المجتمع الكويتي؛ فيلتقي فيها الشباب، والكهول، والكبار؛ كما يلتقي فيها التجار، والساسة، والصناع، والصيادون، والفقراء؛ توجد في الكويت الكثير من الديوانيات ذات النشاطات المختلفة وكل يتوجه للديوانية التي يجد فيها رفقته ومن يأنس بهم ويناقش معهم ما يهمه من أمور.

          والنشاط السياسي في الديوانيات شكل من أشكال المشاركة السياسية، وهي التي يقوم فيها بعض الأفراد أو الجماعات بمحاولة التأثير على القرارات السياسية وتوجهات الرأي العام نحوها. وقد يكون هذا النشاط مؤيداً للنظام أو معارضاً له. وفي الديوانيات الكويتية يوجد الاثنان معاً، فهناك ديوانيات مؤيدة للحكومة وهي عادة ديوانيات كبار موظفي الحكومة ووزرائها، وغيرهم من التجار والوجهاء الذين يوجهون النقاش في ديوانياتهم لتوعية الحضور بمبررات بعض القرارات والمواقف السياسية للحكومة. وبالمقابل هناك ديوانيات بعض الناشطين السياسيين وبعض أعضاء مجلس الأمة ممن اتخذوا من ديوانياتهم منابر للتوجيه السياسي المعارض والتوعية السياسية بأهمية المشاركة في القرارات المصيرية.

          ولإن كان النقاش السياسي في الماضي محصوراً في عدد محدود من الديوانيات في المناطق الحضرية التي يقوم عليها بعض الأعيان والنشطون السياسيون أو ما يطلق عليه ديوانيات النخبة؛ فإن جميع الديوانيات في الكويت يدور فيها نقاش سياسي من وقت لآخر، بدرجات متفاوتة، يؤثر على الرأي العام ودرجة الوعي السياسي، خاصة في أوقات الانتخابات البرلمانية، إذ تشير بعض الأبحاث إلى أن حوالي 64% من مرتادي الديوانيات تأثر توجههم الانتخابي عن طريق العلاقات الشخصية داخل الديوانية. كما توصل بعض الباحثين إلى أن الإقبال على الديوانيات المهتمة بالشؤون السياسية سواء المعارضة للحكومة أو ديوانيات أصحاب النفوذ والمراكز السياسية في الدولة تلاقي إقبالاً أكثر من الديوانيات التي يقتصر اللقاء فيها على السمر والجوانب الترفيهية. ولكن الديوانيات، بلا شك تتفاوت فيما بينها بشكل كبير في درجة تأثيرها على القرار السياسي في البلاد تبعاً لقوة أصحابها ودرجة نشاطهم ونفوذهم.

          ويمكن القول إن الوظيفة السياسية للديوانية الكويتية كانت ملازمة لها طوال تاريخها منذ نشوء الكويت وإبان وقوعها تحت الحكم البريطاني وبعد الاستقلال وحتى أثناء الاحتلال العراقي. وقد ساهمت الديوانيات في الكويت في عملية المشاركة السياسية وخاصة الديوانيات ذات التوجه السياسي والديوانيات الثقافية التي يدعى إليها بعض المفكرين لإلقاء محاضرات عامة. وكانت مساهمة الديوانية الكويتية في المجال السياسي وأثرها على نماذج المشاركة السياسية واضحة بشكل أكبر أثناء الأزمات السياسية وأثناء غياب مجلس الأمة وخلال الانتخابات. وتعرض فيما يلي لنماذج من موجات المد السياسي للديوانيات الكويتية في مراحلها المختلفة.

          في عام 1938 والكويت خاضعة للحكم البريطاني، أذن الشيخ أحمد الجابر الصباح بتشكيل مجلس تشريعي للبلاد، استجابة لرغبة بعض الأعيان والتجار. وقد شكلت لجنة لهذا الغرض، وعقدت هذه اللجنة اجتماعاتها في ديوانية يوسف المرزوق. ولا يمكن أن نتوقع، والحالة هذه، أن تكون الديوانيات الأخرى بمعزل عن ما يدور في البلاد من أخبار الترشيحات والمهام والإنجازات المنتظرة من المجلس التشريعي الجديد.

          كان دخول أجهزة الراديو إلى البلاد، وقيام الحرب العالمية الثانية؛ إيذاناً بدخول الديوانية مرحلة جديدة وإعطاء جلستها أهمية كبيرة لدى أفراد المجتمع. فجهاز الراديو لم يكن متاحاً للجميع في ذلك الوقت، بل اقتصر اقتناؤه على التجار وميسوري الحال وهم في الغالب أصحاب الديوانيات والقائمين عليها. فأصبح التوجه للديوانية لسماع الأخبار ومتابعة مستجدات الحرب ومناقشتها والتعليق عليها مع الأقران، من الأمور الملحة التي تشد الكثير من أبناء الحي والأقارب للحضور إلى الديوانية كل مساء. وطغت النقاشات السياسية المرتبطة بالحرب على الديوانيات التي انقسم روادها بين مؤيد للحلفاء بما فيهم بريطانيا التي كانت تستعمر البلاد؛ ومؤيد لألمانيا ودول المحور.

          كان إعلان استقلال البلاد سنة 1961 وما تبعه من أحداث من الموضوعات التي فرضت نفسها على مجالس الديوانيات آنذاك. ففي التاسع عشر من شهر يونيه سنة 1961 أعلن في الكويت عن إلغاء معاهدة الحماية المعقودة بين بريطانيا والكويت سنة 1899 واستبدالها بمعاهدة صداقة وتحولت الكويت بموجب ذلك إلى دولة مستقلة. ولا يمكن أن يمر حدث كهذا إلا ويفرض نفسه في مجال الديوانيات ويدور الحديث حول مستقبل البلاد، وما ستشهده من متغيرات.

          بعد ستة أيام فقط من إعلان الاستقلال ادعى العراق على لسان رئيسه آنذاك عبدالكريم قاسم ولايته على الكويت؛ فحرك الشيخ عبدالله السالم أمير الكويت جيش الكويت الصغير تحسباً لهجوم عراقي. في الثلاثين من الشهر نفسه تقدمت الكويت بطلب الانضمام لعضوية الأمم المتحدة. وفي نفس اليوم طلبت المساعدة من بريطانيا ومن المملكة العربية السعودية ضد هجوم عراقي محتمل على أراضي الكويت الغنية بالنفط، والتي كان دخلها اليومي يتجاوز مليون دولار أمريكي من النفط. وبدأت القوات البريطانية بالوصول إلى الكويت من القواعد البريطانية في البحرين وعدن وقبرص وغيرها. وبناءً على طلب من الكويت عرضت بريطانيا الأمر أمام مجلس الأمن في الثاني من يوليه؛ إلا أن النقاش انتهى بفيتو روسي ضد المشروع البريطاني المطالب بدعم استقلال الكويت.

          بعد انضمام الكويت إلى جامعة الدول العربية، في العشرين من شهر يوليه سنة 1961 وافقت جامعة الدول العربية على إرسال بعثات من الجيوش العربية لتحل محل الجيش البريطاني في الكويت طالما استمر التهديد العراقي. ساهمت المملكة العربية السعودية بحوالي 1200 من الجيش إلى جانب بعثات أقل من السودان والأردن وتونس ومن الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا).

          هذه الأحداث المتلاحقة والهامة في تاريخ الكويت لا يمكن أن يتصور مرورها دون أن تفرض نفسها على النقاش في مجالس الكويتيين وديوانياتهم. وظلت الديوانيات مكاناً لتبادل الآراء وتهذيب الأفكار بين مرتاديها.

          في شهر أغسطس من السنة نفسها، ورغبة في تثبيت أركان الدولة المستقلة الفتية، وللرد على حملة الانتقادات الموجهة لنظام الحكم، وربما بضغط من بريطانيا التي لا تريد أن تظهر أمام العالم حامية لأنظمة غير ديموقراطية صدر قانون بإنشاء مجلس تشريعي للبلاد وقسمت البلاد إلى مناطق انتخابية. وكان من نتيجة ذلك زيادة التقارب بين القيادة والشعب خاصة في ظل وجود بعثات لجيوش عدة في البلاد. ذلك المجلس تطور عنه مجلس الأمة من سنة 1963 حتى اليوم.

          مما لا شك فيه أنه أثناء انتخابات المجلس التشريعي ومجلس الأمة الأول أسهمت النقاشات الدائرة في الديوانيات الكويتية بإثراء الوعي السياسي والتفاف الناس حول أعيانهم ومفكريهم. إذ تذكر المصادر أن معظم أعضاء المجلس التشريعي المنتخبين كانوا أصحاب ديوانيات. ومما يدل على عمق وقوة أثر الديوانية في التركيبة الاجتماعية الكويتية أن القانون رقم 65 الصادر سنة 1979 بعد حل مجلس الأمة سنة 1976 والقاضي بمنع تجمع الأفراد في الأماكن العامة دون إذن قد استثنى في المادة الثالثة منه الديوانية باعتبارها عرفاً اجتماعياً لازماً ومتأصلاً في عادات الناس. وقد أعطى ذلك الاستثناء للديوانية دفعة سياسية قوية لأنها باتت المتنفس الوحيد لأفراد الشعب للاجتماع وتجاذب أطراف الحديث، بل والضغط على الحكومة لإعادة الحياة النيابية إلى البلاد.

          ولازالت الديوانية إلى اليوم تؤدي دوراً سياسياً بارزاً في الانتخابات والأنشطة السياسية الأخرى. بل إن البعض ينظر إليها لاستطلاع رأي الشعب حول أي قضية من القضايا على أنها مخبار أو مجس لمعرفة توجهات الرأي العام. كما يرى بعض الباحثين أن الديوانية تمثل جانباً سلبياً في العملية الديموقراطية في البلاد حيث تكرس فكرة الانتخابات الفرعية القائمة على الروابط الأسرية والقبلية والتي تجري قبل الانتخابات العامة.

          وقد أدركت الحكومة كما أدرك المرشحون والناشطون الاجتماعيون والسياسيون في المجتمع الكويتي ما للديوانية من أثر وأهمية في حياة هذا المجتمع الصغير. فهي من أبلغ الطرق وأقصرها للوصول إلى قلوب الناس. فعلاوة على الوزن الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الكبير للقائمين على هذه الديوانيات؛ فإنه يرتادها الداني والقاصي والمتعلم والأمي. كما يطرح النقاش فيها بأسلوب مفهوم للجميع ومحبب إلى قلوبهم لدرجة أن الديوانيات نافست الصحافة بشكل كبير. وذلك لأن قراء الصحف من المثقفين فقط، بينما ترتاد الديوانيات جميع الفئات.

          ويركز المرشحون وأعضاء مجلس الأمة على الانطلاق من الديوانيات لإبداء وجهات نظرهم وتبرير مواقفهم. وقد ساعد صغر المجتمع الكويتي على أن تعتمد الحملات الانتخابية على اللقاء المباشر مع الناخبين في ديوانياتهم[1]. وإذا كان المرشح نفسه من أصحاب الديوانيات؛ تحولت تلك الديوانية إلى منبر انتخابي لإقناع المؤثرين وأصحاب النفوذ من مرتادي ديوانيته بمؤازرته.

          وعندما حلت الحكومة مجلس الأمة الكويتي عام 1986، توجه الناشطون السياسيون في المجتمع الكويتي إلى مناقشة الحكومة، في محاولة منهم لإعادة الحياة النيابية، عن طريق اللقاء مع سمو أمير البلاد، وعن طريق الخطابات والرسائل الموجهة إليه بهذا الشأن. ولما أعيتهم الحيلة لجأوا إلى مخاطبة أفراد المجتمع، وتوضيح وجهة نظرهم للناس من خلال الديوانيات. وبدأت سلسلة من اللقاءات الدورية الأسبوعية في عدد من الديوانيات، وكانت اللقاءات تعقد في الديوانيات مساء الاثنين من كل أسبوع.

          كان اللقاء الأول في ديوانية النائب جاسم القطامي. تلاه اللقاء الثاني بعد أسبوع في ديوانية النائب مشاري العنجري. وثم اللقاء الثالث في ديوانية النائب محمد المرشد. وكان عدد الحضور يتزايد في كل مرة ولاقت هذه اللقاءات والأنشطة إقبالاً كبيراً. كان اللقاء الرابع في ديوانية النائب أحمد الشريعان وقد تدخلت قوات الشرطة وأوقف صاحب الديوانية لمخالفته قانون التجمعات. كان اللقاء الخامس في ديوانية النائب فيصل الصانع. ودعي إلى الاجتماع السادس في ديوانية النائب عباس مناور. وشكلت هذه اللقاءات ضغطاً على الحكومة، حتى منعت الحكومة هذه اللقاءات، ودعت إلى الحوار الذي قاد في النهاية إلى إنشاء المجلس الوطني، الذي أعقب جلسته الأولى بشهر واحد فقط، الغزو العراقي الغاشم لدولة الكويت، فتوقفت نشاطاته، حتى دعي للانعقاد مرة أخرى بعد التحرير.

          حافظت الديوانية على أثرها الاجتماعي والسياسي في المجتمع الكويتي، بشكل متوازن، وإن كان يطغى أحدهما على الآخر، في مرحلة من المراحل، تبعاً لأحداث الساعة، وتبعاً لنوعية مجتمع الديوانية، وتوجهات القائمين عليها، فإن كان صاحب الديوانية فقيهاً أو عالماً جلب إليها الفقهاء والعلماء والمهتمين بهذه الجوانب، وغلبت هذه الجوانب على الحوار داخل الديوانية. وإن كان صاحب الديوانية من التجار كان معظم جلسائه منهم وانساق الحديث بالطبع إلى التجارة والاقتصاد. وإن كان صاحب الديوانية أديباً كان النقاش كذلك، وإن كان سياسياً أو وزيراً أو برلمانياً كان النقاش حول السياسة والأمور والأحداث السياسية المحلية والعالمية. إلا أن الديوانيات عموماً يطغى على نقاشاتها التوجه السياسي في أوقات الانتخابات أو الأزمات السياسية التي تمر بها البلاد، في ظل عدم وجود أحزاب سياسية في الكويت. ثم لا يلبث الدور الاجتماعي للديوانية الذي لا ينقطع إلى أن يكون الأكثر أثراً.



[1] ولكن هل سيستمر الحال على ما هو عليه مع ازدياد أعداد الديوانيات وزيادة عدد سكان الكويت؟.