إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / اتفاقيات السلام العربية ـ الإسرائيلية خلال القرن العشرين





الحدود الأردنية الإسرائيلية
الحدود بين الأردن وفلسطين
قرار تقسيم فلسطين




المبحث الأول

المبحث الأول

السعي نحو السلام بعد حرب أكتوبر

أدت النتائج المباشرة لحرب أكتوبر 1973، إلى فتح طريق السلام بالقوة، بعد سنوات مضنية من الجهود المصرية والعربية والدولية في أعقاب حرب يونيه 1967، التي لم تسفر عن أي نتائج، أو تفتح طريق لحل النزاع في الشرق الأوسط.

والواقع أن الحرب لم تكن في حد ذاتها هدفاً، ولكنها كانت أداة لا بديل عنها لتحقيق هدف الأمة العربية الذي استنزف الكثير من جهدها وجهد المجتمع الدولي دون جدوى، ولم تستهدف الحرب إحداث الدمار أو الخراب، ولكنها جاءت لكسر الجمود وتحريك الساكن، ولذلك بنيت فلسفتها على إهدار النظريات، وقلب الموازين التي سيطرت دائماً على فكر إسرائيل، عن طريق إسقاط هذه النظريات العدوانية، وإهدار قيمة المبادئ التي قامت عليها، وإقناع إسرائيل أن البديل الوحيد الذي يحفظ لها أمنها هو السلام ولا شئ غيره.

نبعت إستراتيجية مصر من أجل تحقيق السلام، قبل معركة أكتوبر 1973، واعدّت الحرب جزءاً من هذه الإستراتيجية الشاملة، التي تضمنت أدوات أخرى بخلاف الأداة العسكرية، فما حدث يوم 16 أكتوبر 1973 - بعد مضى عشرة أيام من القتال - أدى إلى إيضاح معالم السياسة العسكرية المصرية ونواياها، ورغبتها الصادقة في إشاعة السلام وحقن الدماء، وفتح صفحة جديدة للعلاقات، كما بدت عناصر الإستراتيجية الشاملة تأخذ وضعها وتتفاعل لعرض التأثير المطلوب على مسار الصراع. في ذلك اليوم وقف الرئيس المصري محمد أنور السادات في مجلس الشعب يطرح مبادرة سلام جديدة، ذاكراً أن السلام الذي نقصده هو السلام القائم على العدل.

وفي اليوم نفسه، اتخذت خطوة مهمة على الجبهة الاقتصادية، فبالإضافة لما شهده يوم 16 أكتوبر 1973 من تطور سياسي مهم بمبادرة السلام، شهد كذلك دخول البترول ساحة المعركة، فقد قررت منظمة "أوبك" OPEC رفع سعر برميل البترول بنسبة 70%، كما دارت معركة اقتصادية على أعظم جانب من الأهمية يصاحبها جدل سياسي واسع النطاق تديره الدولتان العظميان مع مصر.

وهكذا مارست دول الخليج، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية، دورها الضاغط، فقد حذر الملك فيصل الولايات المتحدة الأمريكية بأنه ما لم يتوقف دعمها لإسرائيل، فستعيد السعودية النظر في سياساتها، بما في ذلك إيقاف ضخ البترول.

كانت حرب أكتوبر 1973 تمثل بداية مرحلة جديدة من مراحل تطور الصراع العربي ـ الإسرائيلي بما حققته من نتائج عسكرية وسياسية، كان أهمها تحريك قضية الاحتلال الإسرائيلي للأراضي العربية، ووضعت المشكلة ضمن المشكلات العالمية الملحة، بعد أن كاد المجتمع الدولي ينسى أن هناك احتلالاً إسرائيلياً لأرض عربية.

كما كان التحرك المصري نحو السلام، نتيجة رؤية إستراتيجية صحيحة وتحليل واقعي لمعطيات الحاضر ونظرة عميقة للمستقبل، وقد جاء هذا التحرك في ظل خمس حقائق أساسية هي:

·   أن الحرب مرحلة من السياسة العامة لتحقيق أهداف مصرية ـ عربية، ولا بد من استثمار النصر في اتجاه الهدف الرئيس، وهو إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأرض العربية.

·   التغير في نظرة القيادة السياسية المصرية إلى نتائج الاعتماد على التسليح السوفيتي، وأثر ذلك في تقييد حرية مصر من الحركة والمناورة السياسية.

·   إعادة تقويم أهمية دور السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وتأثيرها الكبير في الصراع العربي ـ الإسرائيلي، وضرورة جعلها شريكاً في السعي نحو البحث عن صيغة أخرى لمعالجة المشكلة.

·   أن الاحتفاظ بواجهة مظهرية من الوحدة العربية، أصبح لا يخدم المصالح القومية؛ لأن كل دولة من الدول العربية تحكمها نظريات سياسية مختلفة طبقاً لمصالح المعسكر الذي تنتمي إليه، مما أدى لغياب إستراتيجية عربية موحدة.

·   تفكك الحركة القومية الفلسطينية إلى اتجاهات متعددة، وعدم قدرة منظمة التحرير الفلسطينية على التحكم عسكرياً أو سياسياً في اتجاهات عمل باقي فصائل المقاومة، وبسبب خلافاتهم الداخلية لم يتمكنوا من وضع رؤية إستراتيجية إزاء قرار مجلس الأمن الرقم 242 ، ولم يتمكنوا من إقامة حكومة لهم في المنفى تتولى قضيتهم سياسياً ودبلوماسياً.

أولاً: إستراتيجية مصر في مرحلة صنع السلام

1. كان جوهر إستراتيجية مصر في مرحلة السعي نحو السلام هو التمسك بالأهداف القومية، مع تغير الأسلوب ليتمشى مع واقع الظروف الدولية المعاصرة، وطبيعة الصراعات في العالم كله، وكان هدف مصر هو احتواء إسرائيل حضارياً باستغلال قوى العرب السياسية، والدبلوماسية، والاقتصادية والأيديولوجية، حيث ثبت أن نتيجة الجولات العسكرية السابقة كانت لصالح إسرائيل في غياب الإستراتيجية العربية الموحدة.

2. ولما كانت القضية الفلسطينية هي جوهر مشكلة الشرق الأوسط، ولب الصراع العربي ـ الإسرائيلي، فقد حددت مصر هدفها النهائي الذي تعمل من أجله، وهو الوصول إلى التسوية العملية الشاملة، واستعادة حقوق الشعب الفلسطيني المشروعة وبدون التوصل إلى حل المشكلة الفلسطينية يكون السلام هشاً وغير مستقر.

3. وانطلاقاً من إستراتيجية مصر الشاملة لإدارة الصراع في هذه المرحلة، واعتماداً على مواثيق الأمم المتحدة وقراري مجلس الأمن الرقم 242، والرقم 338، حددت القيادة السياسية خطوطاً رئيسة تسير عليها في مرحلة صنع السلام هي:

أ. السعي إلى سلام شامل وعادل، يتم على مراحل، مهما طالت مدته، وليس حلاً منفرداً.

ب. أن القضية الفلسطينية هي جوهر الصراع، وبدون إيجاد حل لها فإن الصراع سيظل قائماً مهما توصلنا إلى أي أشكال للتسوية.

ج. لا تفريط في الأرض، ولا مناقشة في السيادة الكاملة على أرض مصر.

د. المحافظة على حرية الإرادة المصرية، ورفض التبعية، والتمسك بسياسة عدم الانحياز، ونبذ القواعد والأحلاف.

هـ. المحافظة على استمرار التحرك السياسي والدبلوماسي في المجالات كافة وإحباط محاولات إسرائيل للتعويق والمماطلة، وكشف أساليبها أمام الرأي العام العالمي.

و. الإصرار على إدخال الولايات المتحدة الأمريكية شريكاً كاملاً في المفاوضات، على أساس أنها تملك القدرة والتأثير الإيجابي للحل.

ز. قبول إسرائيل دولة مستقلة في المنطقة داخل حدود ما قبل 1967، وذلك تنفيذاً لقرار مجلس الأمن الرقم 242، مع الاستعداد لقبول كافة ضمانات الأمن لكلا الطرفين الإسرائيلي والعربي.

ح. عدم الدخول في صراعات جانبية مع دول الرفض العربية أو الاتحاد السوفيتي بشكل يؤثر في السير في جهود السلام.

ط. المرونة في المجالات التكتيكية خلال المفاوضات، مثل حجم القوات ونوعيتها، أو في المدد والتوقيتات.

ثانياً: المتغيرات التي أدت لمبادرة السلام عام 1977

1. بعد توقيع الاتفاق الثاني لفصل القوات بين مصر وإسرائيل في الأول من سبتمبر 1975، والانتهاء من تنفيذه في مارس 1976، اتسم الموقف السياسي المتعلق بالنزاع العربي ـ الإسرائيلي بالجمود، حيث كان عام 1976 هو عام انتخابات الرئاسة الأمريكية، وما يعقبها من ترتيبات تتخذها بها الإدارة الأمريكية الجديدة في ظل ما أجرته من دراسات، خاصة بوضع السياسة الجديدة، وتحديد الأدوار، ورسم أسلوب التحرك السياسي المطلوب.

وكانت مصر قد أخذت على عاتقها مهمة الدعوة إلى عقد مؤتمر جنيف للسلام في الشرق الأوسط في الفترة التي تلت توقيع اتفاق الفصل الثاني، رغم العوائق الناجمة عن إجراء الانتخابات الأمريكية، وتصاعد أزمة الحرب الأهلية في لبنان.

2. مع بداية عام 1977، تسلم الرئيس جيمي كارتر Jimmy Carter الإدارة الأمريكية، ومن ثم كثفت مصر جهودها الهادفة إلى عقد مؤتمر جنيف، حتى أخذ المراقبون يتحدثون عن عام 1977 بوصفه عام السلام، وكانت معظم التوقعات تشير إلى إمكان تحقيق تقدم ملموس على طريق السلام الشامل خلال ذلك العام.

وليس ثمة شك أن المناخ السياسي كان مهيئاً لزيارة الرئيس السادات لواشنطن في أبريل 1977، بعد اقتناع الإدارة الأمريكية الجديدة بضرورة إقامة وطن للشعب الفلسطيني، وأن مفهوم الحدود الآمنة لا يعنى أبداً احتلال إسرائيل لأرض عربية، وقد أسفرت هذه الزيارة عن عدة نتائج مهمة ـ لعل في مقدمتها ـ تأكيد الولايات المتحدة الأمريكية على أنها ستبحث تحديد الموعد النهائي لاجتماع مؤتمر السلام في جنيف الذي كان مزمعاً عقده بين وزيري الخارجية الأمريكية والسوفيتية سايروس فانس وأندريه جروميكو، بوصفهما ممثلين للدولتين الداعيتين لمؤتمر جنيف، والمشاركتين في رئاسته، كما أكدت الولايات المتحدة الأمريكية أن الحدود الدولية مبدأ محترم ومعترف به.

3. وفي الشهر التالي مباشرة حدث في إسرائيل تطور سياسي مهم، وصفته أجهزة الإعلام العالمية بأنه "حدث تاريخي " وذلك بفوز التيار السياسي اليميني في الانتخابات العامة الإسرائيلية بقيادة حزب الليكود. وتأتى أهمية هذا الحدث في أنه يقع لأول مرة منذ قيام إسرائيل، فقد استمر حزب العمل الذي أسسه بن ديفيد بن جوريون في الحكم منذ مايو 1948 وحتى سقط في 18 مايو 1977، ورأس مناحم بيجن الحكومة الجديدة، الذي أعلن أن الضفة الغربية وقطاع غزة جزء من أرض إسرائيل التاريخية، معلناً أنه لن يستجيب للضغوط الخاصة بإجراء تسوية في الشرق الأوسط لا تحقق لإسرائيل أهدافها وأمنها.

4. وفى إطار النتائج التي حققتها زيارة الرئيس السادات للولايات المتحدة، أصدرت الإدارة الأمريكية بياناً في 27 يونيه 1977، ربطت فيه بين ضرورة استقرار الأوضاع في الشرق الأوسط، ومستقبل المصالح الأمريكية في المنطقة، مؤكدة أن تأجيل التسوية السلمية في الماضي أدى إلى اندلاع حرب 1973.

5. وفى تطور آخر على مستوى الدولتين العظميين، تم الاتفاق بين وزيري الخارجية الأمريكية والسوفيتية على عقد مؤتمر جنيف، وإصدار بيان في الثاني من أكتوبر 1977، تضمن ورقة عمل احتوت على عدداً من المبادئ الأساسية، بشأن سرعة التوصل لتسوية عادلة ودائمة للنزاع العربي الإسرائيلي على أن تكون شاملة، مع تسوية كل المسائل المحددة ومنها الانسحاب من أرض احتلت عام 1967 وحل المسألة الفلسطينية بما في ذلك، إقرار حقوق الشعب الفلسطيني، وإنهاء حالة الحرب، وإقامة علاقات سلمية عادلة، مع توفير إجراءات لضمان أمن الحدود بين إسرائيل وجيرانها.

6. وقد حالت صعوبات عديدة، دون انعقاد المؤتمر، لعل أبرزها ما يتعلق بالاتفاق على جدول الأعمال من جانب سورية وإسرائيل، خاصة في موضوعات الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة والحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وطبيعة السلام، كذلك صعوبات تتعلق بتمثيل أطراف الصراع في المؤتمر وبصفة خاصة التمثيل الفلسطيني.

7. فضلاً عن ذلك، فقد أظهرت الاتصالات التي جرت أثناء انعقاد الدورة الثانية والثلاثين للجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 1977، أن مواقف الأطراف متباعدة للغاية ومن ثم أصبح من العسير التكهن بإمكانية انعقاد المؤتمر، بعد أن باءت كل محاولات عقده بالفشل، وبات واضحاً أن جهود السلام قد دخلت في حلقة مفرغة، بذلك أصبح الطريق ممهداً لإقدام مصر على مبادرتها الكبرى من أجل دفع عملية السلام.

وفى ضوء ذلك كله اتخذ القرار بمبادرة السلام، بهدف تخطي كل العقبات الإجرائية العقيمة التي تعطل مسار التسوية، وإزالة عقده الخوف وعامل الشك والمرارة، وتأكيد جدية مسعى العرب من أجل السلام.

ثالثاً: مبادرة السلام المصرية نوفمبر 1977

أدركت مصر، وفى وقت مبكر، أنه بدون تحريك الموقف، فإن القضية الرئيسة وهى انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة، وعودة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، التي تُعد جوهر الصراع، ستغرق في متاهات الإجراءات والشكليات الخاصة بعقد مؤتمر جنيف، الأمر الذي سيعود بالقضية إلى حالة الجمود والركود التي كانت عليها قبل حرب أكتوبر 1973. ولم يكن من المعقول أن تنزلق مصر مع التيار وتتوه هي الأخرى في مناقشات لانهاية ولا طائل من ورائها بعد أن تحملت عبء الحروب على مدى ثلاثين عاماً، وقدمت أكثر من مائة ألف شهيد من أغلى شبابها، ومن ثم فلم يكن أمامها إلا أن تتحرك متخطية كل العقبات والتحديات، ومن هنا كان قرار مصر الذي أعلنه الرئيس الراحل محمد أنور السادات بطرح مبادرة السلام، ثم زيارته التاريخية للقدس، التي فرضت على إسرائيل واقعاً جديداً جعلها مطالبة بأن تتحرك أمام الرأي العام العالمي نحو تسوية شاملة وعادلة للمشكلة بفكر جديد يتناسب وحجم المبادرة، وقد أدت الزيارة إلى تحقيق بعض النتائج، وإلى إزالة بعض العقبات للوصول إلى تسوية، مما جعل المجتمع الدولي أكثر إلحاحاً وتأييداً للطرفين لإيجاد حل سلمي ينهى حالة الحرب بين العرب وإسرائيل، ويعيد الأمن والاستقرار إلى المنطقة العربية.

هذا ويرى كثير من المحللين الإستراتيجيين؛ أن مبادرة السلام كانت بالشجاعة نفسها والإيمان والتصميم وبعد النظر الإستراتيجي التي أديرت بها حرب أكتوبر1973 ففي التاسع من نوفمبر عام 1977، أعلن الرئيس السادات في مجلس الشعب قوله: "إنني على استعداد حتى للذهاب إلى آخر نقطة في العالم، سعياً إلى السلام العادل، ومن أجل أن لا يقتل أو يجرح أي من أبنائي الضباط والجنود. بل إنني على استعداد حتى للذهاب إلى الكنيست الإسرائيلي؛ ولأننا أيضاً لا نخشى المجابهة مع إسرائيل". وخلال أسبوع استجابت الحكومة الإسرائيلية للمبادرة، ووجهت الدعوة الرسمية إلى الرئيس الراحل السادات يوم 17 نوفمبر لزيارة القدس، وذهب الرئيس السادات إلى القدس وألقى خطابه الشهير في الكنيست الإسرائيلي في 20 نوفمبر 1977، الذي حدد فيه الحقائق الخمس التالية:

1. أنه لا سعادة لأحد على حساب شقاء الآخرين.

2. إنني لم أتحدث ولن أتحدث بلغتين، ولم أتعامل ولن أتعامل بسياستين، ولست أتعامل مع أحد إلا بلغة واحدة، وسياسة واحدة، ووجه واحد.

3. إن المواجهة المباشرة والخط المستقيم هما أقرب الطرق وأنجحها للوصول إلى الهدف الواضح.

4. إن دعوة السلام الدائم العادل المبني على احترام قرارات الأمم المتحدة أصبحت اليوم دعوة العالم كله، وأصبحت تعبيراً واضحاً عن إرادة المجتمع الدولي سواء في العواصم الرسمية التي تصنع السياسة وتتخذ القرار، أو على مستوى الرأي العام العالمي الشعبي، ذلك الرأي العام الذي يؤثر في صنع السياسة واتخاذ القرار.

5 . ولعلها أبرز الحقائق وأوضحها أن الأمة العربية لا تتحرك في سعيها من أجل السلام الدائم العادل من موقع ضعف أو اهتزاز، بل أنها على العكس تماماً تملك من مقومات القوة والاستقرار ما يجعل كلمتها نابعة من إرادة صادقة نحو السلام صادرة عن إدراك حضاري بأنه لكي نتجنب كارثة محققة علينا وعليكم وعلى العالم كله، فإنه لا بديل عن إقرار سلام دائم وعادل لا تزعزعه الأنواء ولا تعبث به الشكوك ولا يهزه سوء المقاصد أو التواء النوايا.

رابعاً: ردود الفعل المختلفة إزاء مبادرة السلام

1. في السابع عشر من نوفمبر 1977، توجه الرئيس السادات إلى الرئيس حافظ الأسد في دمشق لمحاولة إقناعه بمبادرته، وفي بداية الحديث شرح الرئيس السادات فكرته في الذهاب لإسرائيل، ولكن الرئيس الأسد رفض هذا المقترح، خاصة ما يتعلق منه بالسماح للرئيس السادات بالتحدث باسم سورية، ومن ثم كان إصرار الرئيس السادات على مواصلة طريقه، وأكد أنه سيتحمل مسؤوليتها بنفسه، حتى لا يحرج الآخرين، ومن ثم أُخذ على السادات أنه لم يشاور العرب في أهم قضية تتعلق بمصير الصراع العربي ـ الإسرائيلي.

2. كما اتجهت بعض الدول العربية ـ بتشجيع من الاتحاد السوفيتي ـ نحو تكوين جبهة الرفض المسماة بالصمود والتصدي، ولم يكن هناك مبرر منطقي لتشكيل جبهة معادية، حتى وإن كانت مصر قد اضطرت إلى اتباع تحرك تكتيكي يضمن عودة الحق العربي والاستقرار في المنطقة، ولكن تمادي العرب في الرفض أتاح لإسرائيل فرصة العودة لأسلوبها القديم في سياسة التوسع باستخدام القوة لفرض السلام.

3. الموقف السوفيتي: كان الاتحاد السوفيتي السابق يحرص على العودة بالمواقف إلى حالة اللاسلم واللاحرب، فقد كان من الطبيعي أن يلقى بكل ثقله خلف الدول العربية التي تدور في فلكه لمساندتها في التصدي للتحرك المصري، يدفعه إلى ذلك محاولة إجهاض المبادرة لإظهار مصر عاجزة عن حل المشكلة. وفى الوقت نفسه اقتناعه بأن إخفاق مصر في تحقيق السلام، يضمن له البقاء في المنطقة.

4. الموقف الأمريكي: في الوقت الذي تبنى فيه الاتحاد السوفيتي السابق جبهة الرفض، كانت مصر تخوض بمفردها معركة السلام ضد الصهيونية العالمية داخل الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تتركز قوى المراكز الحساسة التي تقف خلف إسرائيل، وتؤثر في صنع القرار الأمريكي، وقد استطاعت مصر بالفعل أن تنجح في إحداث تحولات جوهرية، سواء في الرأي العام الأمريكي، أو على مستوى الإدارة الأمريكية، وكان هذا واضحاً في دخول الولايات المتحدة الأمريكية كشريكاً كاملاً في المفاوضات، وليست وسيطاً الأمر الذي أدى إلى إمكانية الوصول إلى إطار السلام من خلال مؤتمر "كامب ديفيد" وهى الحقيقة القائمة في الشرق الأوسط، وتقبلها إسرائيل التي حققت أهدافها الإيجابية وأثبتت نجاحها.

خامساً: مؤتمر السلام التحضيري بالقاهرة "مؤتمر مينا هاوس"

وجهت الدعوات لمؤتمر القاهرة التحضيري لمؤتمر جنيف للسلام في 26 نوفمبر 1977، وكان من الواضح أن معظم الدول العربية المدعوة، إن لم يكن كلها، لن تحضر المؤتمر، خاصة بعد انعقاد مؤتمر طرابلس في أوائل شهر ديسمبر 1977، الذي جاء رداً على دعوة مصر للمؤتمر التحضيري، ومن ثَم عُقد مؤتمر طرابلس تحت رعاية موسكو، حيث اتُخذ فيه موقف معادٍ لمصر وشنت أجهزة الإعلام لتلك الدول حملة قاسية ضدها، فانتقدت بشدة قرارات مصر بشأن زيارة القدس، وعقد مؤتمر القاهرة، وادعت هذه الأجهزة أن خطوات الرئيس السادات تستهدف تأجيل انعقاد مؤتمر جنيف للسلام على أن تحل الاتفاقات المنفردة مع إسرائيل محل التسوية الشاملة، وأن مؤتمر القاهرة لا يعدو أن يكون مناورة مصرية إسرائيلية تهدف إلى تحقيق اتصالات ثنائية بين البلدين للوصول بعد ذلك، إلى توقيع اتفاق مع إسرائيل خارج إطار مؤتمر جنيف.

كما هاجمت موسكو الولايات المتحدة الأمريكية، وقالت: إنها تشجع باشتراكها في مؤتمر القاهرة، تعميق الاتصالات المصرية الإسرائيلية المنفردة، وتعزز الانشقاق داخل صفوف الدول العربية، وهكذا قاطع الاتحاد السوفيتي مؤتمر القاهرة التحضيري، وتبعته كل من سورية، والأردن، ولبنان، ومنظمة التحرير الفلسطينية.

وقبل ساعات من انعقاد المؤتمر، يوم 14 ديسمبر 1977، حدد المتحدث الرسمي موقف مصر مرة أخرى من عناصر إقرار السلام الدائم والشامل في الشرق الأوسط، معلناً أن مصر ليست بحاجة لكي تؤكد، من جديد، أن موقفها لا يزال على التزامه بمقررات مؤتمر الرباط، التي تنص على: "الانسحاب من جميع الأراضي العربية المحتلة عـام 1967، وحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، وإقامة دولته المستقلة".

وأوضح المتحدث أن مصر وهى تدرك الأهمية الكبيرة للمرحلة الجديدة والدقيقة التي تدخل فيها قضية الشرق الأوسط، وأن المؤتمر هو أول خطوة تنفيذية لعملية السلام في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، فقد حرصت على توجيه الدعوة لكل الدول العربية التي تمثل طرفا في النزاع، ورغم عدم استجابة هذه الدول للدعوة فهي مازالت قائمة لهذه الأطراف، بما فيها الاتحاد السوفيتي الرئيس المناوب لمؤتمر جنيف، وستظل أماكن جميع الأطراف محفوظة حول مائدة المفاوضات.

وفى الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، أكدت مصر، في خطاب ألقاه الدكتور عصمت عبد المجيد رئيس وفد مصر، على الحقائق التالية:

1. أن الوقت قد حان للسعي بروح المسؤولية من أجل تحقيق سلام عادل ودائم في الشرق الأوسط، وأن على إسرائيل أن تؤكد تجاوبها الفوري مع الجهود المبذولة في هذا المجال.

2. أن مصر قدمت برهانها الواضح على التزامها بالسلام، وأن العالم يطالب إسرائيل بأن تظهر رغبة مماثلة، كما أنه يتطلع إلى إنجاز نتائج ملموسة ومحددة.

3. أن السلام لن يتحقق دون حل المشكلة الفلسطينية التي هي جوهر النزاع، كما يجب أن يقوم على مبادئ القانون الدولي وأهداف مبادئ ميثاق الأمم المتحدة وقراراتها.

4. أن اجتماع القاهرة التحضيري يتم في إطار الإعداد الفعلي لمؤتمر جنيف للسلام، وأن على الجميع الارتفاع بمستوى المسؤولية.

5. أن الدعوة التي وجهت إلى الأطراف المعنية كافة وهى سورية، والأردن، ولبنان، ومنظمة التحرير الفلسطينية، والاتحاد السوفيتي، مازالت قائمة، وأن مصر تأمل في أن يشاركوا في المرحلة التحضيرية من أجل الإعداد الدقيق لمؤتمر جنيف.

6. أن الهدف النهائي هو التوصل إلى تسوية شاملة، تتم بها استعادة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، حتى يسود العدل والسلام في الشرق الأوسط.

وقد تم الاتفاق على تشكيل لجنة فرعية ثنائية، مهمتها الإعداد لمؤتمر السلام من الناحيتين الفنية والإجرائية، وقد اتضح وجود خلاف رئيس في وجهات النظر؛ نظراً لأن الموضوعات المهمة التي طرحت كانت تناقش لأول مرة بين مصر وإسرائيل وجهاً لوجه، وفى حضور الأمم المتحدة والولايات المتحدة الأمريكية؛ بهدف التوصل إلى مبادئ اتفاق سلام شامل ، يتم تحقيقه بين إسرائيل وجيرانها، يحقق تسوية حقيقة للمشكلة الفلسطينية، وقد استندت مصر في العرض الذي قدمه الدكتور عصمت عبد المجيد، رئيس وفد مصر، إلى منطلقين يؤيدان موقف مصر:

أ. منطلق قانوني: يضمن تطبيق أحكام القانون الدولي، ويؤيد وجهة نظر مصر، وقد نصت عليه قرارات الأمم المتحدة، وحددها ميثاق المنظمة الدولية.

ب. منطلق سياسي: اتضحت أبعاده وتأثيراته بتوفير المناخ السياسي المناسب، بمبادرة الرئيس السادات، وبالتأييد الذي حصلت عليه هذه المبادرة من المجتمعين المصري والإسرائيلي، والمجتمع الدولي الذي أعطى للمفاوض المصري الثقة والقوة خلال المناقشات التي دارت.

واقترحت مصر الاتفاق على جدول أعمال لمؤتمر جنيف، يكون مبادرة للسلام، يتم إقرارها من أجل التوصل إلى سلام حقيقي بين إسرائيل والدول المحيطة بها، وتشمل كذلك تحقيق مطالب الشعب الفلسطيني وقيام دولته، وقد عبرت مصر بهذا الموقف عن مواقف جميع الدول المحيطة بإسرائيل، بما في ذلك الفلسطينيين، وأن مصر بتعبيرها عن هذه المبادئ للحل الشامل إنما تعكس الموقف العربي الموحد، والموقف الفلسطيني، لأنها لا تسعى لحل منفرد.

هذا وقد توقفت جلسات المؤتمر بعد أن أعلن عن عقد مؤتمر قمة مصري إسرائيلي في الإسماعيلية، بناءً على اقتراح مناحم بيجن، الذي أعد اقتراحاً أطلقوا عليه اسم "مشروع السلام الإسرائيلي" حمله إلى واشنطن أثناء انعقاد المؤتمر التحضيري ليعرضه على الرئيس كارتر، ثم جاء به إلى الإسماعيلية ليعرضه على الرئيس السادات في مؤتمر يعقد يوم 25 ديسمبر في مدينة الإسماعيلية.

سادساً: القمة الثنائية في الإسماعيلية

كان المؤتمر التالي في سلسلة الجهود المبذولة للسعي نحو إيجاد تسوية سلمية للصراع العربي ـ الإسرائيلي هو مؤتمر الإسماعيلية في الفترة من 25 - 26 ديسمبر 1977، وظهر فيه اختلاف وتباين كبيران حول مسألة الحكم الذاتي الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة.

وقد تحددت وجهة النظر الإسرائيلية بالنسبة للضفة الغربية وقطاع غزة في انتخاب سكان الضفة الغربية وقطاع غزة مجلساً إدارياً لتوجيه شؤونهم الإدارية، على أن يُعين بالمجلس ممثلون لإسرائيل والأردن، وتكون إسرائيل مسؤولة عن الأمن والنظام العام، ويكون للسكان حق الاختيار بين أن يكونوا مواطنين إسرائيليين أو أردنيين، وفى الوقت نفسه تخويل السكان الإسرائيليين الحق في شراء الأراضي والإقامة في هذه المناطق. هذا وقد بدا واضحاً تمسك إسرائيل بحقها في السيادة على تلك المناطق.

وقد تلخصت وجهة النظر المصرية في مؤتمر الإسماعيلية في أن تتعهد إسرائيل بالانسحاب من سيناء والجولان والضفة الغربية وغزه، وأن توافق على حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره.

ونظراً للتعارض الشديد بين الموقف المصري والإسرائيلي، فقد تم الاتفاق على تكوين لجنتين إحداهما سياسية للنظر في الإطار الشامل للتسوية بما في ذلك المسألة الفلسطينية، والأخرى عسكرية للنظر في النواحي العسكرية المتعلقة بالانسحاب الإسرائيلي من سيناء.

1. اجتماع اللجنة العسكرية "المرحلة الأولى"

عقدت اللجنة العسكرية المصرية الإسرائيلية بالقاهرة، سبع جلسات على مرحلتين، الأولى وشهدت أربع جلسات في الفترة من 11-13 يناير 1978، وشهدت الأخرى ثلاث جلسات خلال الفترة من 31 يناير إلى 2 فبراير 1978، بالإضافة لعدد من الاجتماعات الجانبية على مستوى الوزراء والمستويات الأقل، ودارت المباحثات خلال المرحلة الأولى حول المبادئ الأساسية لموضوعين رئيسين هما؛ الانسحاب الإسرائيلي من سيناء وترتيبات الأمن المتبادل، على أساس ما قدم من مقترحات إسرائيلية حول الحل العسكري مع مصر، التي قدمت أساساً في مؤتمر الإسماعيلية في 25 ديسمبر 1977، ثم المقترحات المصرية المضادة التي قدمت أثناء مباحثات اللجنة العسكرية، وقد أمكن التوصل، خلال هذه المرحلة، إلى بعض الجوانب الإيجابية، ولكن بقيت معظم الموضوعات الأخرى دون اتفاق، وقد أجلت مناقشتها للمرحلة الثانية.

عقدت الجلسة الافتتاحية في 11 يناير 1978، وقبل الجلسة مباشرة وزّع الوفد الإسرائيلي على الصحفيين بياناً مكتوباً، تضمن العديد من النقاط كان أبرزها: أن مبادرة الرئيس السادات فتحت الطريق نحو السلام، مع التركيز على أهمية السلام وعلاقته بالأمن على ألاّ تكون الرغبة في السلام على حساب الأمن، خاصة مع وجود بلدان متطرفة تهدد إسرائيل.

افتتح رئيس وفد مصر، الفريق أول محمد الجمسي نائب رئيس الوزراء ووزير الحربية، الجلسة الأولى بكلمة موجزة، أبرز خلالها أن اللجنة العسكرية تعمل في إطار التسوية السلمية الشاملة في الشرق الأوسط، واقترح الاتفاق على جدول أعمال، وإقرار المبادئ العامة التي تطبق لتحقيق الموضوعات الرئيسة، وتأجيل بعض الموضوعات العسكرية المتعلقة بالضفة الغربية وقطاع غزة إلى أن تتخذ اللجنة السياسية قرارات بشأنهما.

انتهت هذه الجولة يوم 13 يناير 1978 دون تحقيق أي تقدم في الموضوعات المطروحة، وعلى رأسها موضوعي المستوطنات والمطارات، ذلك لأن التمسك بمشروع السلام الإسرائيلي لن يحقق أي سلام، لأنه مشروع يتعامل مع السلام بمنطق الحرب، وقد كانت الفجوة شاسعة بين الجانبين، لكن كان عليهما أن يتركا الباب مفتوحاً، حيث إن طريق السلام يجب ألاّ يغلق، مهما اعترضه من عقبات.

2. اللجنة السياسية والتعقيدات الإسرائيلية "16 يناير 1978"

سافر الوفد المصري برئاسة محمد إبراهيم كامل وزير الخارجية إلى القدس لحضور اجتماعات اللجنة، وعند الوصول إلى مطار بن جوريون، كان موشى ديان وزير الخارجية الإسرائيلي في استقبال الوفد المصري والترحيب به.

وألقى رئيس الوفد كلمة قال فيها: إنهم حضروا للمشاركة في أعمال اللجنة بقلوب وعقول متفتحة، ونوايا خالصة؛ لبناء السلام العادل والدائم، مشيراً إلى أن هناك حقائق أساسية لابد من مواجهتها بشجاعة وبعد نظر، وهى أنه لا يمكن أن يتحقق سلام مع استمرار احتلال الأرض، أو مع إنكار الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، وفى مقدمتها حقه في تقرير مصيره، كما لا يمكن أن يتحقق سلام دائم ما لم تعمل شعوب المنطقة على إيجاد الظروف للعيش في جو من الأمان.

وفى الجلسة الافتتاحية، كرر وزير الخارجية المبادئ التي ذكرها عند استقبال الوفد في المطار، مضيفاً أن مصر بتراثها الحضاري العريق سوف تمضى في تحمل مسؤولياتها بوصفها جزءاً لا يتجزأ من العالم العربي، وأنها لذلك لا تهدف إلى سلام منفصل، أو سلام مؤقت، بل سلام شامل قائم على انسحاب شامل من كل الأراضي العربية، وأنها تقدر الدور النشط لوزير الخارجية الأمريكية في اجتماعات القدس.

أما ديان، الذي رأس أعمال اللجنة، فقد أعلن في كلمته تقديره للجهود الأمريكية في استمرار عملية السلام، ذاكراً أن اللجنة تواجه ثلاث قضايا وهى: "إنجاز مبادئ السلام بين إسرائيل والدول المجاورة"، وتحديد النقاط الأساسية لحل القضية الفلسطينية في" يهود والسامرا "الضفة الغربية" وغزة، ثم اتفاقية سلام بين مصر وإسرائيل"، مضيفاً: "أن اتفاقات السلام يمكن إنجازها بالتنازلات المتبادلة".

وتحدث سايروس فانس، وزير الخارجية الأمريكية؛ مؤكداً عدة حقائق: "أن الولايات المتحدة الأمريكية تولي محادثات القدس أهمية بالغة من أجل النجاح، لذلك لا بد من معالجة المشكلات الصعبة التي تباعد بين الأطراف، وأنه لابد من أن يقوم السلام على علاقات طبيعية، وليس مجرد انتهاء للعدوان، وأن تنسحب إسرائيل من أراضى احتلتها في عام 1967، والاتفاق على حدود آمنة ومعترف بها في إطار علاقات طبيعية. وأضاف: إنه لا بد أن يكون هناك حل للمشكلة الفلسطينية بجميع جوانبها، وأن يعترف الحل بالحقوق الشرعية للشعب الفلسطيني، ويمكنه من المشاركة في تقرير مصيره.

أحدثت كلمة وزير الخارجية المصرية، في الجلسة الافتتاحية، دهشة الجانب الإسرائيلي، وأثارت غضبه؛ نظراً للهجته المتشددة. وقال أحد المسؤولين الإسرائيليين: إن الكلمة المتشددة التي ألقاها الوزير المصري ستؤدى إلى ارتفاع ضغط الدم لدى عدد كبير من زعمائنا؛ الأمر الذي لن يخدم قضية السلام".

هكذا بدأت الأزمة تأخذ طريقها، عندما عقد ديان مؤتمراً صحفياً عقب الجلسة، هاجم فيه اقتراح مصر بأنها تستطيع أن تضمن أمن إسرائيل، وقال كيف يمكن ذلك بالنسبة للجولان ثم الضفة الغربية وغزة إذا تولت منظمة التحرير مسؤولية الحكم فيها؟.

وقد تقدمت مصر بمقترحاتها، التي لم تخرج عما سبق أن قاله الرئيس السادات، ولذلك فإن أوراق العمل المصرية والإسرائيلية ليست متطابقة، فمصر تطالب بانسحاب كامل ونحن لا نرى ذلك، وهم يطالبون بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وقيام دولته، ونحن نوافق على منح العرب الفلسطينيين حقهم في الحكم الذاتي فحسب.

ثم حدثت الأزمة الكبرى مساء،ً عندما أقام مناحم بيجن، رئيس الوزراء، حفل عشاء للوفود المشاركة في اللجنة السياسية، وألقى خطاباً أمام عدد كبير من المدعوين والصحفيين ومندوبي شبكات التليفزيون، هاجم فيه وزير خارجية مصر بشدة وبطريقة مسيئة.

وخلال الحفل قال بيجن في كلمته: "كيف جرؤ هذا القادم من مصر أن يطلب منا أن نعيد تقسيم عاصمتنا القدس بعد أن توحدت، ويطالب بانسحابنا إلى حدود ما قبل عام 1967؟ أنسى أننا كنا ندافع عن أرواحنا وأولادنا ضد حربهم الهجومية؟ والأكثر من ذلك يطالب بحق تقرير المصير للفلسطينيين فهم بذلك يريدون أن ينشؤوا دولة جديدة بتقرير المصير ليقضوا على مصيرنا، إنني أقولها مدوية عالية: لا لتقسيم القدس، ولا للانسحاب إلى حدود 1967، ولا لحق تقرير مصير الإرهابيين".

وبكل الهدوء رد عليه محمد إبراهيم كامل بقوله: "إنه يتصور أنه جاء إلى مأدبة عشاء لتبادل الكلمات الطيبة وعدم التأثير على سير أعمال اللجنة السياسية التي بدأت أعمالها". ثم جلس رافضاً أن يقدم نخب التحية في هذه المأدبة.

وفى الصباح التالي كانت وكالات الأنباء والإذاعات والصحف تذيع ما حدث في مأدبة العشاء، وتستنكر موقف بيجن المجافى للبروتوكول، وبقدر الهدوء الذي بدا على وزير خارجية مصر، وهو يرد على بيجن، جاء الرد العاصف من مصر، فقد أصدر الرئيس السادات تعليماته لوفد مصر في القدس بالعودة فوراً إلى القاهرة.

هكذا بدأت مباحثات القدس بأزمة وانتهت بأزمة، وانهارت هذه المباحثات بمجرد أن بدأت، بفضل تخطيط سياسي رسمه موشى ديان، وزير خارجية إسرائيل، مع رئيس وزرائه مناحم بيجن. وتوالت الأحداث لتصل بالموقف إلى طريق مسدود، واتضح أن التوصل إلى مخرج مقبول أصبح مستحيلاً، رغم الجهود الواسعة التي بذلها سايروس فانس وزير الخارجية الأمريكية.

سابعاً: مؤتمر ليدز "يوليه 1978" Leeds Castle

بعد إخفاق اللجنة السياسية للمؤتمر، وتوقف المفاوضات، استمرت الجهود الدبلوماسية المصرية لتحقيق الهدف الإستراتيجي الذي تسعى إليه، ووافقت الولايات المتحدة الأمريكية على القيام بدور الشريك الكامل في المفاوضات، وفى إطار الجهود السياسية والدبلوماسية لمصر والولايات المتحدة الأمريكية أصبح الطريق ممهداً لاستئناف المفاوضات.

وبدأت المفاوضات في قلعة ليدز بإنجلترا في الفترة من 18 - 19 يوليه 1978، وكان الموقف المصري، أثناء المؤتمر، يقضى بالموافقة على عقد اتفاقية سلام مع إسرائيل إذا ما وافقت الأخيرة على الانسحاب من جميع الأراضي العربية المحتلة عام 1967 بما فيها القدس الشرقية، ولكن المؤتمر لم يتوصل إلى نتائج حاسمة، وحال الخلاف حول المشكلة الفلسطينية دون التوصل إلى اتفاق بشأن أي جانب من جوانب التسوية، بما في ذلك الانسحاب من الأراضي المصرية.