إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الباردة









المبحث الثالث

المبحث الثالث

سياسة الاستقطاب والاحتواء الروسية ـ الأمريكية

الفترة من 1947-1950

أولاً: سياسة الاستقطاب الروسية

1. تشيكوسلوفاكيا:

       كانت تحكم تشيكوسلوفاكيا حكومة ائتلافية، حاولت بقدر استطاعتها أن تحتفظ بسياسة متوازنة بين الكتلتين المتنافستين، حتى أنها قبلت دعوة الغرب لحضور مؤتمر باريس، إلا أن الزعيم السوفيتي ستالين هددها بأن ذلك يعتبر عملاً غير ودي تجاه الاتحاد السوفيتي، وخرقاً لميثاق الصداقة وتبادل المساعدة الذي عقد بين الدولتين.

       وبدأت الدسائس تعمل على إثارة الخلافات بين أعضاء الحكومة الائتلافية ـ فبراير 1948ـ وثارت أزمة بين أعضاء الوزارة غير الشيوعية ووزير الداخلية الشيوعي، الذي قرر فصل ثمانية من كبار رجال الشرطة في براج Prague ، وعين مكانهم عدداً من الشيوعيين، وعندما اعترض الوزراء غير الشيوعيين على هذا الإجراء وطلبوا وقفه، رفض الوزير الشيوعي فقدموا استقالتهم احتجاجاً على ذلك، وحدثت أزمة وزارية حادة.

       وظهر اهتمام الحكومة الروسية واضحاً عندما أرسلت إلى براج نائب وزير الخارجية الروسي "فاليريان زورين" ليكون على مقربة من الأحداث التي تجرى في تشيكوسلوفاكيا نتيجة لتلك الأزمة، وكانت الأحزاب غير الشيوعية قد طالبت بإجراء انتخابات جديدة اعتقاداً منها أن الشيوعيين سيخسرونها حتماً. إلا أن الرئيس إدوارد بنيش Eduard Benes  لم يتحمس لهذا الطلب وتردد في قبوله لعلمه بمدى قوة الاتحاد السوفيتي، كذلك تردد زعماء الحزب الاشتراكي الديموقراطي، وثارت قلاقل قابلها البوليس بإلقاء القبض على الزعماء المعروف عنهم معارضة الحكم الشيوعي واتهمهم بالتآمر ضد الدولة.

       ولم يستطع الحلفاء الغربيون أن يتدخلوا لمصلحة الأحزاب غير الشيوعية فقد فوجئوا بما يحدث في تشيكوسلوفاكيا ووقعوا في حيرة من أمرهم فهم يعلمون أن "الجيش الأحمر" قريب من مركز الأحداث وأنه يستطيع التدخل بكل سهولة. وفي الوقت نفسه كانت الصحافة والإذاعة في تشيكوسلوفاكيا كلها في يد الشيوعيين، وكلها تنادى بما يطالب به زعماؤهم من ضرورة تكوين حكومة جديدة شيوعية، لا تضم أحداً من الأحزاب الأخرى، وأن تقوم هذه الحكومة دون إجراء أي انتخاب واضطر الرئيس "بينش" أن يذعن لهذا الرأي في 23 فبراير 1948، وتألفت حكومة جديدة استولى فيها الشيوعيون على جميع الوزارات الهامة، وتركت بعض الوزارات لعدد قليل من ممثلي الأحزاب ـ وضاع الأمل نهائياً في أن تحتفظ تشيكوسلوفاكيا بمظهرها الديموقراطي.

       وفي 10 مارس 1948 وجد وزير الخارجية " جان ماساريك" Jan Mazarik ملقى ميتاً في فناء وزارة الخارجية؛ حيث سقط من النافذة ولم يعرف على وجه اليقين هل انتحر، أو قتل، وألقيت جثته، أو أنه، كما أعلن، فقد توازنه وهو يطل من النافذة. وكانت وفاة ماساريك ـ وهو ابن محرر تشيكوسلوفاكيا الرئيس السابق توماس ماساريك Tomas Masaryk ـ الحادث الختامي للمأساة التي تعرضت لها البلاد في فترة انتقالها إلى الكتلة الشيوعية، أما الرئيس "بنيش" فقد استقال بعد شهور قليلة لضعف صحته، وظل معتكفاً إلى أن أدركته المنية.

2. بولندا:

       عاشت بولندا في كفاح دائم مع جيرانها، من الدول الطامعة في أراضيها. وعلى الأخص روسيا وألمانيا. وعند بداية الحرب العالمية عام 1939، انقسمت بولندا إلى ثلاثة قطاعات، القطاع الأول انضم إلى الاتحاد السوفيتي، الذي عزمت حكومته على الاحتفاظ به ضمن حدوده الأصلية، وكان ذلك عندما اتفق الروس مع هتلر على تقسيم بولندا عام 1941، والقطاع الثاني وقع تحت سيطرة الألمان "وارسو"، والقطاع الثالث خضع للسيطرة البريطانية الأمريكية.

       ولكن في عام 1941 هاجم "هتلر" الاتحاد السوفيتي ووصل إلى مشارف موسكو، وقَّع ستالين مع حكومة المنفي البولندية، التي اتخذت مقرها في لندن" اتفاقية صداقة وتعاون، إلى أن تغير الوضع الحزبي وبدأت الجيوش النازية في التقهقر، وتقدم الجيش الأحمر الروسي مخترقاً الحدود البولندية، وبرزت أطماعهم في بولندا، ففي ربيع عام 1943 أعلن الألمان أنهم كانوا قد اكتشفوا في المنطقة التي يحتلونها في بولندا مقبرة جماعية لعدد كبير من الضباط البولنديين الذين أسرهم الروس، وقد لقوا مصرعهم في مجزرة دبرها السوفيت عندما دخلوا بولندا عام 1939، واقترح الألمان أن يتولى الصليب الأحمر التحقيق في هذا الحادث البشع. وما أن وصل النبأ إلى حكومة المنفي البولندية حتى طالبت من جانبها بالتحقيق، وكان هذا الطلب الذي أصرت عليه حكومة المنفي مفاجأة للاتحاد السوفيتي، فأعلنت حكومته قطع علاقاتها الدبلوماسية معها، ولم تعد تعترف بعد ذلك بحكومة المنفي البولندية.

       وكانت مشكلة بولندا تشغل بال الحلفاء في الوقت الذي دارت فيه رُحى الحرب ضد هتلر، وهم في حاجة لمساعدة روسيا شريكتهم في الحرب ضده، وفي مؤتمر طهران "نوفمبر 1943" قبل تشرشل وروزفلت أن يبقى الجزء الشرقي من بولندا في يد الاتحاد السوفيتي، على أن تعوض بولندا بنصيب من الأرض الألمانية تمتد حتى نهر أودر.  

       وفي يوليه 1944، أنهى الجيش الأحمر الروسي احتلال جزء كبير من بولندا الشرقية، وعُينت حكومة من البولنديين الموالين للشيوعية، وتؤيدها الحكومة السوفيتية، وجعلوا مقرها في مدينة "لوبلن" Lublin، وكانت تلك الحكومة العميلة مكلفة بإدارة المناطق التي غزاها الجيش الأحمر. وذلك في الوقت الذي استنكرت فيه الحكومة السوفيتية نشاط البولنديين المقيمين في لندن؛ لأنهم كانوا يمثلون المقاومة البولندية للاحتلال السوفيتي.

       والواقع أن الحكومتين البريطانية والأمريكية كانتا تحثان المعارضة البولندية في لندن على السعي إلى الوصول إلى اتفاق مع الروس من جهة، ومع الحكومة البولندية التي أقامها الروس لإدارة منطقة الاحتلال الروسي في بولندا من جهة أخرى، واستجاب لهم رئيس حكومة المنفي البولندي "ستانسلو ميكولاجيك" Stanislaw Mikolajczyk، وذهب إلى موسكو ليقوم بتلك المحاولة التي نصحته بها الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، وفي أثناء وجوده في موسكو قامت في "وارسو" التي كان الألمان لا يزالون يحتلونها ثورة عنيفة لمقاومة الألمان، وذلك بقصد الإسراع في تحرير العاصمة البولندية على يد الثوار البولنديين، معتقدين أنه لو تمكنت القوات البولندية التي كانت موالية لحكومة المنفي في لندن من السيطرة على "وارسو" عند وصول الجيش الأحمر عليها لأصبح من السهل عليهم مفاوضة الروس وعملائهم من مركز القوة. ولكن ثورة "وارسو" انتهت بالهزيمة والفشل بعد أن استمرت شهرين، قتل فيها عدد وفير من الضحايا وهرب ما يقرب من 350 ألف بولندي.

       ولم يسع الحكومتان البريطانية والأمريكية سوى الضغط على الزعيم البولندي "ميكولاجيك" لكي يكون أكثر واقعية، بحيث يقبل مطالب الحكومة السوفيتية، خوفاً من تفاقم الموقف بين روسيا والحلفاء في ذلك الوقت العصيب.

       وقد عرضت المسألة البولندية على مؤتمر يالتا في فبراير 1945، وأجلت لاجتماعات سان فرانسيسكو في أبريل، وبوتسدام في يوليه. وقد أقر المؤتمرون في اجتماعاتهم ما قام به الروس في بولندا، على أن يترك الحل النهائي لمؤتمر الصلح. ووافقوا كذلك على تكوين حكومـة مؤقتة في بولندا، ولكن الواقـع أن تلك الحكومـة كانت ألعوبـة في يـد الحكومة السوفيتية.

       وبعد عامين أجريت الانتخابات في ذلك الجو المشحون بالخلافات السياسية، فحصل الشيوعيون على أغلبية ساحقة، وانهزم حزب رئيس الوزراء "حزب الفلاحين" فقدم استقالته وغادر البلاد، وخلا الجو للسيطرة الشيوعية، وتحكم السوفيت في شؤون بولندا.

       والواقع أن قصة بولندا كانت مأساة أودت بكرامة الحلفاء الغربيين الذين تخلوا عن التزاماتهم تجاه البولنديين، مع أن البولنديين قدموا لهم أثناء الحرب ضد دول المحور مساعدات فعَّالة، وعلى الأخص عندما اشترك الجيش البولندي والقوات الجوية البولندية في الحرب معهم في الميدان الإيطالي.

       وفي الوقت نفسه أعلن زعماء السوفيت بوضوح لجميع دول أوروبا الشرقية أنهم لن يقبلوا أو يتحملوا في المستقبل أي تدخل من الدول الغربية في شؤون أي دولة يعتبرونها داخلة في منطقة نفوذهم.

       وقد ظهر أن تشرشل رئيس الوزراء البريطاني كان موافقاً على ذلك باعتباره نوعاً من تقسيم النفوذ، وقد سبق أن قال لستالين عندما زار موسكو في عام 1944- كما جاء في مذكراته "دعنا نتفق على شؤون البلقان، إن جيوشكم موجودة في رومانيا وبلغاريا ونحن لنا مصالح وبعثات ووكلاء هناك، ومن واجبنا أن نمنع أي خلاف ينشب بيننا حول تلك المسائل، ولا بأس لدينا أن يكون لكم تسعون في المائة من السيطرة في رومانيا، في مقابل أن يكون لنا تسعون في المائة من السيطرة والنفوذ في اليونان. وأن نقتسم النفوذ في يوغسلافيا والمجر، وأن يكون للاتحاد السوفيتي خمسة وسبعون في المائة في بلغاريا".

       والواقع أن تشرشل كان مغالياً في تفاؤله عندما ظن أن الروس سيقبلون منح الغرب نصف النفوذ في المجر والربع في بلغاريا لأنهم كانوا مصرين على الاحتفاظ بكل السيطرة والنفوذ في جميع دول أوروبا الشرقية ـ فيما عدا اليونان ـ وفعلاً لم تعبأ حكومة الاتحاد السوفيتي بما يجري في اليونان حتى أنهم لم يحركوا ساكناً عندما قدمت الحكومة البريطانية مساعدتها الفعالة ضد الشيوعيين في اليونان ما بين عامي 1947 و1949.

       كانت اليونان، والنمسا، وفنلندا ويوغسلافيا هي الدول الوحيدة التي استطاعت أن تفلت من قبضة الروس الحديدية، أما بقية دول شرق أوروبا فقد خضعت، وأصبحت منذ عام 1948 في منطقة النفوذ الروسي. واضطرت بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية أن تعترفا على مضض بما فرضه الاتحاد السوفيتي من نفوذ في المجر ورومانيا وبلغاريا.

3. المجر:

       كان معظم زعماء المجر قد اتصلوا بالنازية الألمانية وانضموا إلى "هتلر"، وعندما اقتحم الروس المجر، عاملوا المجريين أسوأ معاملة، ثم اتبعوا هناك نفس السياسة التي اتبعوها في رومانيا، وفي فبراير 1947، حدث انقلاب أثناء وجود رئيس الوزراء في الخارج، وقام الروس بالتدخل المسلـح، وأجبروا رئيسها المعارض للشيوعيين "فيرنيس ناجي" Ferenc Nagi وزعيـم حزب الفلاحين على الاستقالة.

       وفي ظل الإرهاب الشيوعي أجريت الانتخابات، وأغلقت الصحف المعارضة للشيوعية، وأُلغي حزب الفلاحين المعارض، وبطبيعة الحال كانت نتيجة الانتخابات التي أجريت تحت حكم الإرهاب فوزاً ساحقاً للشيوعيين وتألفت في عام 1949 حكومة شيوعية بحتة، وفي العام التالي صدر الدستور المجري الذي وضع على نمط الدستور السوفيتي.

4. رومانيا:

       كانت رومانيا قد دخلت الحرب العالمية الثانية في صف دول المحور، ولكن الظروف أجبرتها بعد ذلك إلى الانضمام للروس، عندما دخل الجيش الأحمر أراضيها. وأخذت السلطات الروسية تعمل على استمالة أنصار لها من بين موظفي الحكومة الرومانية، الذين اعتنقوا الشيوعية. ثم أجبر الروس الملك مايكل الأول Michael I  على تأليف حكومة يتقلد فيها الشيوعيون أهم المناصب الحيوية في الدولة، كوزارة الداخلية والعدل، والاقتصاد القومي. وأصبح البوليس حراً في إلقاء القبض على كل خصوم الشيوعية في البلاد ومحاكمتهم، والزج بهم في السجون، وإسكات المعارضة نهائياً.

       وقرر خصوم النظام الشيوعي الجديد في رومانيا أن يتوجهوا بالنداء إلى الدول الغربية لكي تتدخل لمصلحتهم، إلا أن إنجلترا وأمريكا لم تفعلا لهم شيئاً، واكتفتا بالاحتجاج ورفض الاعتراف بحكومة النظام الجديد في رومانيا.

       وفي عام 1946 بدأ الخلاف يدب بين الروس والدول الغربية، وتعرض زعماء المعارضة في رومانيا للاعتقال ومصادرة أموالهم ومنع اجتماعاتهم. وفي أوائل عام 1948 قُضي على المعارضة والمعارضين وأجبر الملك "مايكل الأول" على التنازل عن العرش، وبذلك أصبحت رومانيا دولة شيوعية تدور في فلك الاتحاد السوفيتي.

5. بلغاريا:

       أما في بلغاريا فقد كان من السهل أن يحقق الروس أهدافهم، فالبلغاريون لهم صلة قوية وصداقة تقليدية بالروس منذ أن ساعدهم قيصر روسيا سابقاً على الحصول على استقلالهم عن الدولة العثمانية، ومع أنهم دخلوا الحرب في صف الألمان ضد دول الحلفاء، إلا أن زعماءهم رفضوا رفضاً قاطعاً أن يقبلوا ما عرضه النازيون عليهم من وجوب إعلان الحرب ضد الاتحاد السوفيتي. وجرت انتخابات في بلغاريا عام 1945 أسفرت عن فوز الشيوعيين فوزاً ساحقاً نتج عنه تدعيم السيطرة الشيوعية وإلغاء الملكية.

       وفي عام 1946 تمكن الشيوعيون من تحطيم خصومهم من أحزاب المعارضة، وصدر الدستور البلغاري على النمط السوفيتي كما حدث في المجر، ولم تلبث المعارضة أن تحطمت بعد أن صودرت صحفها وسقط أعضاؤها في الانتخابات المزيفة، ولما أعلنت الجمهورية اشتد البطش بزعماء المعارضة فمنهم من سجن، ومنهم من حكم عليه بالإعدام، وقامت الحكومة الشيوعية البلغارية بتصفية خصومها نهائياً في عام 1948.

ثانياً: سياسة الاستقطاب والاحتواء الأمريكية: 1947-1950:

       كان عام 1947 من أهم الأعوام الحاسمة في تاريخ الحرب الباردة، ففي الولايات المتحدة الأمريكية كانت حكومة الرئيس ترومان ترى وضع سياسة جديدة تتلخص في مصطلح سياسي جديد هو "الاحتواء"، وذلك لأنها رأت أن الاتحاد السوفيتي مصمم على سياسة التوسع بغير حدود وأن هذه السياسة السوفيتية يجب أن تقاوم بكل وسيلة ممكنة، للدفاع عن الشعوب التي يهددها الخطر الشيوعي، ولذلك كانت السياسة الأمريكية ما بين عامي 1947 و1950 لها وجهان، الأول تدعيم القوة العسكرية وتطويرها بحيث تجابه أي تهديد أو مغامرة عسكرية سوفيتية، والوجه الآخر هو مد يد المعونة للعالم غير الشيوعي الذي لم يخضع للتوسع السوفيتي، ومساعدة شعوبه من الناحية الاقتصادية والاجتماعية؛ بحيث تستطيع الوقوف في وجه التوسع السوفيتي الذي يتخذ من استقطاب العناصر الشيوعية المحلية في تلك البلاد؛ لكي تقوم بثورات وانقلابات بتشجيع ومساعدة من موسكو، وعندما تدرك الحكومة السوفيتية أنها فشلت في استقطاب المزيد من شعوب العالم سوف تعيد النظر في سياسة التوسع وبسط النفـوذ في كل مكان تصل قبضتها إليه.

       وقد سبق أن أشرنا إلى تلك المساعدات الأمريكية، ومنها المساعدات التي قدمت إلى تركيا واليونان، تطبيقاً لمذهب ترومان الذي ينص على أن السياسة الأمريكية "من واجبها أن تساعد الشعوب الحرة؛ لتقاوم المحاولات التي تقوم بها الأقليات المسلحة في بلادها، أو محاولات الضغط الخارجية". ولذلك بدأ مشروع مارشال منذ أواخر عام 1947 في العمل على منح المعونات الاقتصادية على نطاق واسع؛ لإعادة بناء الاقتصاد الوطني في قارة أوروبا.

       ثم أدت خطورة الموقف بين الكتلتين في عام 1948 إلى تأسيس منظمة حلف شمال الأطلسي NATO في سبتمبر 1949، وتعهد الولايات المتحدة الأمريكية باشتراك القوات الأمريكية في الدفاع عن أوروبا، كما أصدر الرئيس ترومان في عام 1949، برنامج المساعدة الفنية للأقطار المتخلفة، وهو البرنامج الذي أطلق عليه "النقطة الرابعة"، وهكذا كانت سياسة الاحتواء في طريقها إلى التطبيق الفعلي.

1. يوغسلافيا:

       كان رد الفعل السوفيتي هو الإسراع في تدعيم السيطرة الشيوعية على دول أوروبا الشرقية كما رأينا، والضغط على رؤسائها بعدم الاشتراك في مشروع مارشال. وانصاع أولئك الرؤساء لأوامر موسكو ما عدا يوغسلافيا، التي رفض رئيسها جوزيف بروز تيتو Josip Broz Tito، كل المحاولات السوفيتية لجعل حكومته تحت السيطرة الروسية المباشرة، وعلى الرغم من أنه كان من أشد المتحمسين للشيوعية، إلا أنه كان شديد الحرص على استقلال بلاده، ومنع تسلل عملاء الاتحاد السوفيتي، الذين كانت مهمتهم تدعيم تضامن دول أوروبا الشرقية مع الكتلة الشيوعية بزعامة روسيا، ووجدت الحكومة السوفيتية أن تصرفات تيتو سوف تضر أبلغ الضرر بسياستها، واتهمته بخيانة المبادئ الشيوعية، وعرضت الأمر على منظمة الكومنفورم في اجتماعها الذي عقد في بوخارست عام 1948، حيث تقرر طرد يوغسلافيا من المنظمة، ومن الكتلة الشيوعية، ووجهت المنظمة نداء إلى الشعب اليوغسلافي أن يتخذ ما يراه مناسباً لإصلاح الموقف، والواقع أن هذا النداء كان يحمل معنى واحد، هو التحريض على القيام بثورة ضد الرئيس اليوغسلافي تيتو.

       ومن المؤكد أن ستالين كان يتوقع إما رضوخ تيتو لأوامر موسكو، أو أن يقضى عليه الشعب اليوغسلافي. ولكن تيتو كان على ثقة من نفسه ومن شعبه، فلم يذعن للضغط السوفيتي، وبين لحزبه الشيوعي، ولشعبه حقيقة موقفه ضد تحكم الاتحاد السوفيتي، وبذلك أثار موجة من الشعور الوطني في جميع أنحاء يوغسلافيا لتأييده تأييداً شعبياً كاملاً، وذلك في الوقت الذي هاجمته الكتلة الشيوعية في الدول التي كانت تعمل بتوجيه من السوفيت، بل فرضت ضده المقاطعة الاقتصادية، وألغت جميع المعاهدات التي كانت تنص على تقديم المساعدات ليوغسلافيا، بل ووضعت بعض القوات على حدودها، وفي آخر عام 1949 طرد الاتحاد السوفيتي السفير اليوغسلافي والقائم بأعمال السفارة اليوغسلافية من موسكو، ومع كل هذه الإجراءات العنيفة التي اتخذها السوفيت ضد الرئيس تيتو، فقد ظل صامداً ونظامه سائداً، رغم أنه كان لا يزال يقر بأنه شيوعي ماركسي ملتزم.

       وتحت تأثير الظروف التي مر بها، بدأ ينظر نحو الغرب، إلا أن كثيراً من الساسة الغربيين ارتابوا في صدق نيته، وظنوا بأنه سياسي مخادع، وأن أية مساعدة تقدم إليه إنما تُعد مساعدة لحكومة شيوعية كغيرها من حكومات أوروبا الشرقية، إلا أن حكومة الرئيس ترومان رأت خلاف هذه النظرة، وأن تقديم المعونة لنظام تيتو مسألة مفيدة وتستحق النظر، وفي عام 1949 قرر بنك الاستيراد والتصدير تقديم قروض ليوغسلافيا بلغت 55 مليون دولار، وتلقى تيتو كذلك مساعدة مالية من البنك الدولي. وعلى الرغم من معارضة الكونجرس الأمريكي واصلت حكومة الولايات المتحدة الأمريكية تقديم مساعداتها ليوغسلافيا سنين متتالية، ومنذ بداية عام 1951 قدمت لها المساعدات العسكرية، وبذلك نجحت الدول الغربية في توسيع هوة الخلاف بين الاتحاد السوفيتي وواحدة من أهم الدول الشيوعية في أوروبا الشرقية، وكان انفصال يوغسلافيا عن المجتمع الشيوعي من أكبر الضربات التي وجهت للمعسكر الشرقي.

2. حصار برلين:

       اشتدت الحرب الباردة بين الكتلتين في منتصف عام 1949، وذلك بعد الضربة الأليمة التي تلقاها الاتحاد السوفيتي على يد تيتو في يوغسلافيا، أضف إلى ذلك الأحداث التي كانت تجرى في ألمانيا، حيث وضع الحلفاء لألمانيا الغربية نظاماً لا يقره الاتحاد السوفيتي، وهو إحكام الصلة بين مناطق الاحتلال الغربي وبرلين الغربية واستخدام عملة ألمانيا الغربية في ذلك الجزء من برلين. لذلك قرر الاتحاد السوفيتي فرض الحصار على برلين، وقطع طريق الاتصال بينها وبين سلطات الاحتلال الغربي، حتى لا تنجح إقامة دولة ألمانية مستقلة مسلحة ومعادية للاتحاد السوفيتي. وقطعوا الطريق الذي تستخدمه السلطات الغربية للوصول إلى برلين، وحالوا ومنعوا وصول الطعام والغاز والكهرباء والضرورات الأخرى التي كانت تصل بانتظام إلى القطاع الشرقي.

       ولم تلجأ سلطات الاحتلال الغربية إلى استخدام القوة في فتح الطريق، بل فضلت استخدام الطريق الجوي لخرق الحصار الروسي، ووضعوا الروس في مأزق المعتدي إذا ما أطلقوا النار على طائرات الحلفاء، وذلك في الوقت الذي بعثت الولايات المتحدة الأمريكية بعدد من الطائرات المقاتلة إلى المطـارات الحربية في إنجلترا لتدعيم القوات الأمريكية المسلحة هناك. وقد نقل السلاح الجوي الأمريكي والبريطاني ما بين عامي 1948 و1949 أطنان من الطعام والوقود والضرورات الأخرى إلى برلين "مليون ونصف طن"، وذلك لسد حاجة جميع السكان المدنيين والعسكريين في المناطق التي فرض الروس عليها الحصار. وهكذا نجح الحلفاء الغربيين في تحطيم الحصار الروسي بعمل سلمي فريد في نوعه، ودون مواجهة عسكرية لا يعرف مدى نتائجها، واضطر الروس إلى فك الحصار في مايو 1949. ولو كتب لهم النجاح في تلك العملية لسددوا بذلك ضربة موجعة للحلفاء. وقد وصف الجنرال لوشيس كلاي Lucius Clay ، أحد كبار قادة الحلفاء، الموقف بقوله "عندما تسقط برلين في يد الروس سيعقبها سقوط ألمانيا الغربية، فإذا أردنا أن نمنع عن أوروبا خطر الشيوعية وجب علينا ألا نتزحزح عن مواقعنا"، وفعلاً لم يتزحزح الأمريكيون ولا البريطانيون أو الفرنسيون عن مواقعهم في برلين الغربية، وكان النصر حليفهم في تلك الحرب الباردة.

       وبعد الانتخابات في ألمانيا الغربية في شهر أغسطس 1949، أُعلن قيام جمهورية ألمانيا الاتحادية في 20 سبتمبر، وتقرر أن تكون العاصمة في "بون" وانتخب "كونراد أدناور" Konrad Adenauer مستشاراً للجمهورية، ومنذ ذلك الحين تباعد الأمل في إعادة توحيد ألمانيا، وظل الشطر الشرقي منها في قبضة الاتحاد السوفيتي، وانضمت ألمانيا الغربية إلى المعسكر الغربي، وتحددت علاقات هذه الدولة الجديدة بالدول الغربية بعدة تنظيمات تشريعية كانت تمس السيادة الألمانية إلا أنها كانت لا تقارن بقبضة السوفيت على ألمانيا الشرقية، وفي الوقت نفسه شعر السكان في ألمانيا الغربية بأن أراضيهم التي تمثل الجزء الأكبر من ألمانيا قد نجت من الوقوع في الكتلة الشيوعية. ولما كان المستشار "أدناور" هو زعيم الحزب الديموقراطي المسيحي الحاكم، فقد كانت سياسته الخارجية هي نفس السياسة التي وافق عليها الحزب، وهي بناء الاقتصاد القومي لألمانيا الاتحادية وربط هذا الاقتصاد بالوحدة الاقتصادية لأوروبا الغربية، حتى يضمن الحماية الأمريكية العسكرية وانضمت بلاده فعلاً إلى حلف الأطلسي الذي أسسه الحلفاء وهو الحلف العسكري الذي انضمت إليه كل من الولايات المتحدة الأمريكية وكندا، وبريطانيا وفرنسا وبلجيكا وهولندا ولوكسمبورج والدانمارك وأيسلندا وإيطاليا والبرتغال.

       ولم تقتصر الحرب الباردة على دول أوروبا وحدها، بل تسربت منها إلى جميع أرجاء العالم، وعلى الأخص في آسيا، حيث انتصر الشيوعيون في الحرب الأهلية الصينية في عام 1949، وظهرت الصين الشيوعية في آسيا ماردًا يهدد الاستعمار الغربي في الشرق الأقصى، وكان ذلك الحدث الخطير بداية للدور الثاني من الحرب الباردة، وهو أخطر دور في تاريخ ذلك الصراع.