إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الباردة









المبحث السادس

المبحث السادس

انتقال الصراع في الحرب الباردة إلى باقي القارات

        ومما لا شك فيه أن كل التطورات التي حدثت على مسرح الأحداث العالمية والإقليمية، قد انعكست بصورة ملموسة على علاقات القطبين المباشرة، وعلى علاقات كل منهما بدول العالم الثالث، وعلى قواعد لعبة الصراع الدولي بينهما، فأصبحت مواقفهما تجمع بين التشدد حيناً، وبين المرونة حيناً آخر.

       وتجدر الإشارة إلى أن التحول في سياسات كل من القطبين واستراتيجياتهما، آنذاك، كان يعد من قبيل الاستجابة الواعية لحقائق العصر النووي، المتمثلة في الردع النووي المتبادل، إذ أصبح من الواضح أن القطبين قد توصلا إلى اتفاق ضمني بأن يظل نزاعهما ضمن حدود معينة، حتى لا تتصاعد حدته إلى مستوى المواجهة النووية، أو الصدام المسلح المباشر.

       إن جو الانفراج الذي شهدته تلك المرحلة لم يكن يعني بأية حال تجاوز الخلافات، أو توحد المصالح بين القطبين، وإنما كان التغير الذي شهدته تلك المرحلة تغيراً في الوسائل، وليس تغيراً في الأهداف التي ظلت ثابتة، لا تتغير بحكم السعي الدائم إلى تحقيق عالمية الوجود.

       وانطلاقاً من التصور السابق لم تعد المواجهة بين القطبين ترتكز بصورة أساسية على الصراع المسلح، بقدر ما أصبحت ترتكز على أدوات التنافس السلمي، خاصة في المجالات الدبلوماسية والاقتصادية والتكنولوجية، ولعل في ذلك ما يؤيد تسمية البعض لهذه المرحلة بمرحلة التعايش التنافسي Competitive coexistence.

       وهكذا نجد أن مرحلة التعايش السلمي كانت تهدف أساساً، إلى تخفيف حدة التوتر في علاقات القطبين، حتى لا يصل التناقض والخلاف بينهما إلى نقطة المواجهة المسلحة؛ لما في ذلك من دمار شامل للطرفين. وعلى الرغم من خطورة الحرب في ظل التوازن النووي، إلا أن ذلك لا يعنى استبعادها كلية وسيلة لتسوية المشكلات الدولية.

       وجاء عام 1960 الذي تميز بانتشار الحرب الباردة في كل من أفريقيا وأمريكا اللاتينية؛ ففي أفريقيا، ظهرت دول حديثة العهد بالاستقلال، وعلى رأسها زعماء سبق لهم أن قاسوا مرارة الاستعمار، وشاركوا في انتزاع استقلال بلادهم، ولذلك كانوا بطبيعتهم يكرهون الغرب، ويتطلعون إلى مساعدة حكومة الاتحاد السوفيتي العدو الأول للدول الغربية، وكان أشهر الزعماء الأفريقيين الدكتور نكروما الذي كان رئيساً لجمهورية غانا، والرئيس سيكوتوري رئيس غينيا، وقد احتدت الحرب الباردة بين المعسكرين الشرقي والغربي عندما حدثت أزمة الكونغو، وقد ظهرت تلك الأزمة عندما اضطرت بلجيكا إلى منح الكونغو استقلالها في يوليه 1960، ورأى الزعيم لومومبا أن يستعين بالاتحاد السوفيتي لمساعدته في إرساء قواعد استقلال بلاده، وتدعيم حكمه الذي أقامه في "ستانلي فيل" بينما كانت الولايات المتحدة يؤيدها حلفاؤها في الأمم المتحدة، يعملـون على توحيد الكونغو والقضاء على ذلك النظام الذي وقع تحت النفوذ السوفيتي.

أزمة كوبا:

       أما في أمريكا اللاتينية فقد كان صراع الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة على أشده بسبب أزمة كوبا. ولجزيرة كوبا أهمية عالمية فهي أكبر جزيرة في بحر الأنتيل، ولقربها من الولايات المتحدة اكتسبت أهمية إستراتيجية عظمى لدى حكومتها ـ وكان يحكم كوبا منذ عام 1940 الزعيم "باتستا" حكماً دكتاتورياً أثار ضده زعيماً يسارياً آلى على نفسه أن يخلص البلاد من "باتستا"، وهو "فيدل كاسترو" الذي كان بطبيعته شيوعياً ماركسياً متجهاً بميوله نحو الاتحاد السوفيتي، وقد فشلت ثورة كاسترو في أول الأمر، ولكن بعد ثمانية عشر عاماً قضاها في السجـن ذهب إلى المكسيك، واجتمع حوله عدد كبير من خصوم النظام القائم في كوبا، ودبر كاسترو القيام بمغامرة لغزو الجزيرة في ديسمبر 1956، ولكنه فشل للمرة الثانية، إلا أن أعوانه صمموا على مواصلة الكفاح، حيث لجأوا إلى حرب العصابات مدة عامين. ولما أقدم "باتستا" على مهاجمتهـم للقضاء عليهم نهائياً فشلت حملته، وانتصر كاسترو انتصاراً حاسماً، أنهى حكم "باتستا" وتولى الحكم في كوبا في الأول من يناير 1959.

       وكان انتصار ثورة كاسترو، حدثاً مهماً مميزًا عن كل الثورات التي حدثت في أمريكا اللاتينية، لأنه كان متحمساً للمبادئ الشيوعية وموالياً للاتحاد السوفيتي، ولذلك كان أول عمل أقدم عليه هو التحالف مع موسكو، وإقامة علاقات دبلوماسية معها. وقد أثار هذا التحالف حكومة الولايات المتحدة؛ لأنها تعد كوبا من المناطق الحساسة القريبة من حدودها.

       وقد أدى هذا التطور إلى نشوب خلاف مع الولايات المتحدة، وخاصة أن كاسترو بدأ يتدخل في شؤون جيرانه من دول أمريكا اللاتينية، محاولاً تصدير الثورة الشيوعية، وازداد نشاطه في كل من جمهورية الدومنيكان، وهايتي ونيكارجوا وبنما وفنزويلا وغيرها، وذلك بالاتصال بالعناصر الشيوعية في تلك الجمهوريات ومدهم بالأموال، واتسعت الدعاية التي كان يقوم بها عن طريق الخطابة والإذاعة.

       ولما كان تحسين أحوال كوبا الاقتصادية هو أول الطريق لنجاح نظام "كاسترو"، عقد معاهدة تجارية مع الاتحاد السوفيتي سنة 1961، نصت على التزام حكومة موسكو بمد كوبا بما تحتاجه من البترول وغيره من المواد التي تفتقر إليها بلاده. ثم اتبع ذلك في مايو 1961 بعقد صفقات أسلحة من الاتحاد السوفيتي، ومن بعض الدول الشيوعية الأخرى.

       وأخذت حكومة الرئيس أيزنهاور في واشنطن تراقب ما يجرى في كوبا في قلق وتأهب، وعزمت على سحق تلك الثورة الشيوعية قبل أن تستفحل في أمريكا بأسرها. وبدأت باتخاذ قرار اقتصادي فاتحة لحرب اقتصادية ضد كوبا، وهو عدم استيراد السكر من كوبا "يوليه 1960"، ولما أراد كاسترو الانتقام باتخاذ قرار بتأميم أموال الولايات المتحدة في كوبا، ردت الحكومة الأمريكية بإصدار قرار بفرض المقاطعة التجارية على كوبا، وقطعت علاقاتها الدبلوماسية بها، وفتحت أبواب الهجرة إلى الولايات المتحدة لأعداء كاسترو وخصومه السياسيين. وقرر الرئيس جون كنيدي عندما تولى الحكم أن يقدم على عمل قوى حاسم يقضي نهائياً على نظام كاسترو في كوبا. وبذلك انتقلت الحرب الباردة إلى منطقة الكاريبي التي تقع فيها كوبا. وفي شهر يوليه 1960، أعلن خروتشوف أن الاتحاد السوفيتي سيستخدم الصواريخ والقذائف ضد أية أمة تعتدي على كوبا.

غزو أمريكي:

       وفي عام 1961، بدأت حكومة الولايات المتحدة تحت قيادة الرئيس الجديد جون كيندي تتحـرك لتواجه التحدي الشيوعي في أمريكا اللاتينية، وكان معظم الأمريكيين قد بدأوا يشعرون بأن الشيوعية التي يعارضونها، ويقف الغرب كله ضدها، وتنتهج خطاً ديكتاتورياً مطلقاً، تهتم في حقيقة الأمر، ولو من الناحية الشكلية، بالشعوب التي ظلت تعانى من الذل والتحكم مدة طويلة. وكانت حكومة كيندي ترغب، في ذلك الوقت، في أن تمنح الولايات المتحدة سلاحاً أيديولوجياً فعالاً يمكن أن تواجه به الدعاية الشيوعية المغرية. فأعلنت مبدأ "التحالف من أجل التقدم" الذي كان يهدف لتنمية الإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية وتحقيقها في أمريكا اللاتينية من طريق منظمة الدول الأمريكية. وكان على الولايات المتحدة الأمريكية أن تقدم الوسائل والإمكانيات، وعلى قادة أمريكا اللاتينية أن يتجهوا بمجتمعاتهم نحو الديموقراطية الأمريكية، والتخلص من ظروف الفقر التي تنمو وتزدهر في ظلها الشيوعية.

       وقد واجه مشروع "التحالف من أجل التقدم" صعوبات خانقة منذ ظهوره إلى حيز الوجود، لأنه لم يكن يسعى، في حقيقة الأمر، إلا إلى وقف تيار الشيوعية، ولم يكن يهتم كثيراً برفع مستوى الشعب في أمريكا اللاتينية.

       والواقع أن جون كيندي ورث عن سلفه أيزنهاور مشكلة كوبا التي تعد فصلاً مهماً من فصول تطور العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا اللاتينية. ففي أبريل 1961 فكر في القيام بمغامرة عسكرية، كان أيزنهاور نفسه قد أمر ببحث وسائلها، وهي فكرة غزو كوبا بقصد الإطاحة برئيسها فيدل كاسترو.

       ولم يكن الأمر سهلاً لأنه قد يؤدي إلى مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي. فقد سبق في اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة في نيويورك عام 1960، أن أظهر الزعيم الروسي خروتشوف تعاطفه مع كاسترو، وكانا يظهران أمام رجال الصحافة وهما متعانقان، وكان خروتشوف يصرح لهم بأن أي عدوان على كوبا لن يمر دون التدخل السوفيتي. كذلك كان كاسترو يصرح بأنه شيوعي ماركسي، ثم أعلن اعتراف كوبا بحكومة الصين الشعبية الشيوعية، وبحكومة كوريا الشمالية. وفي شهر يناير، أي قبل الاحتفال في الولايات المتحدة بتقلد الرئيس الجديد جون كيندي منصبه، أمر كاسترو بإبعاد العدد الأكبر من أعضاء السفارة الأمريكية في العاصمة الكوبية هافانا على أن يقتصر موظفوها على أحد عشر عضواً فقط، وأن يغادر المبعدون كوبا في ظرف أربع وعشرين ساعة وقبل أن يغادر أيزنهاور البيت الأبيض أمر بقطع العلاقات الدبلوماسية مع كوبا.

       وفي هذه الأثناء كان ممثلو كوبا في هيئة الأمم يقومون بالدعاية ضد الولايات المتحدة، ويشكون من أن حكومتها تقوم بتدريب قوات من خصوم كاسترو العسكريين الذين هاجروا إلى الولايات المتحـدة على حرب العصابات، ومعظمهم من أنصار "باتستا" رئيس كوبا السابق.

       والواقع أن حكومة الولايات المتحدة كانت فعلاً تدرب هؤلاء في معسكرات خاصة، وتزودهم بالأسلحة والذخيرة حتى أصبحوا على استعداد للقيام بالمغامرة المطلوبة. وفعلاً بدأت عملية الغزو بتشجيع حكومة كنيدي وتأييدها. ولكن ما أن وطئت الحملة أرض الجزيرة حتى هاجمها سلاح الجو الكوبي، ثم هاجمتها قوات المليشيا التابعة لكاسترو، وقُضي على الحملة في ثلاثة أيام، ولم يستطع الرئيس كيندي أن يقدم أية مساعدة عسكرية فعالة للمهاجمين؛ لأنه كان يشترط للقيام بالغزو ألا تشترك القوات الأمريكية اشتراكاً فعلياً في المغامرة. إلا أن فشل هذه الحملة كان ضربة أليمة للسياسة الأمريكية.

       وانتهز خروتشوف فرصة خيبة الأمل التي منيت بها الولايات المتحدة لكي يحقق هدفاً سياسياً وعسكرياً في كوبا، وهو أن يحولها إلى قاعدة عسكرية روسية يضع فيها كمية كبيرة من الصواريخ النووية أرض/ جو. واتبع ذلك بإرسال عدد من الطائرات المقاتلة ميج21 من حاملات القنابل النووية، والطائرات المهاجمة حتى اكتمل ذلك الخطر الحربي في 22 أكتوبر 1961، وأصبحت بعض مدن الولايات المتحدة على مرمى قريب من تلك القاعدة السوفيتية في البحر الكاريبي.

       أحست الولايات المتحدة بالخطر المحدق بها، فقد علمت بتلك العملية بعد ثلاثة أسابيع من بدئهـا. وظنت في أول الأمر أن كل ما يجرى في كوبا إنما هو محاولة الاتحاد السوفيتي مد يد المعونة العسكرية لحليفته بقصد الدفاع عن نفسها، طبقاً لما كانت تعلنه موسكو، مؤكدة أن الأسلحة دفاعية، وأن الاتحاد السوفيتي لا يضمر أي مقاصد عدوانية، إلا أن المخابرات الأمريكية اكتشفت مدى المؤامرة السوفيتية، وتوفر لديها العديد من صور قواعد الصواريخ. عندئذ أعلن الرئيس كنيدي في 22 نوفمبر 1961 على الشعب الأمريكي أن الولايات المتحدة تواجه أخطر تحدٍ لها في الحرب البـاردة خلال السنوات العشر الأخيرة. وقرر أن يقف في حزم وقوة لمواجهة ذلك التحدي، دون أن تلجأ حكومته إلى عرض المسألة على هيئة الأمم المتحدة. بل كان أمام حكومة كيندي ثلاثة اختيارات عليها أن تنفذ أحدها، الأول أن تقوم القوات الأمريكية بالهجوم الخاطف على كوبا، مسبوقاً بضربة جوية لتحطيم الصواريخ والطائرات الرابضة على أرض كوبا، قبل أن تنطلق للرد على العملية. والثانـي الاكتفاء بالضربة الجوية وحدها، والأخير فرض حصار على الجزيرة حتى يجد خروتشوف نفسه مضطراً لسحب الأسلحة الروسية من الجزيرة.

       وعندما روجعت تلك الاختيارات، وجد أن الخيارين الأول والثاني قد يؤديان إلى قيام حرب نووية، يترتب عليها سخط العالم كله على الولايات المتحدة، وضياع أرواح عديدة من الكوبيين، بل ومن العسكريين الروس الموجودين في منطقة الصواريخ، وقد يؤدي كل ذلك إلى مخاطر لا يعلم مداها إلا الله. لذلك فالحصار البحري هو البديل المفضل. وبدأ الاستعداد لذلك في سرية تامة: وعندما اكتمل الاستعداد في 22 أكتوبر 1961، أذاع الرئيس كيندي على الشعب الأمريكي عزمه على تنفيذ الحصار لمنع الكارثة، وذلك بعد أن طالب الاتحاد السوفيتي بإزالة الصواريخ التي وضعها في الجزيرة، ووقف شحن الأسلحة الهجومية إليها، وأعطى للروس مهلة عشرة أيام لتنفيذ ذلك- وفي الوقت نفسه دعا مجلـس الأمن إلى الانعقاد لاتخاذ موقف حاسم إزاء خطورة الموقف، وقد صوت المجلس بالإجماع بمنع شحن مزيد من الأسلحة الروسية إلى كوبا، وحاول الاتحاد السوفيتي أن يعيد ما سبق أن أعلنـه من أن الأسلحة التي شحنها إلى الجزيرة ليست هجومية. إلا أن الحصار الأمريكي استمر ساري المفعول، وحاول "يوثانت" الأمين العام للأمم المتحدة أن يتدخل بين الطرفين، واقترح تأجيل القيام بأي إجراء لمدة أسبوعين أو ثلاثة، حتى يمكن حل الأزمة بالمفاوضة السلمية. ووافق خروتشوف، وكذلك وافق جون كيندي بشرط أن يستمر الحصار حتى تتم المفاوضة على سحب القواعد السوفيتية.

       والواقع أن هذه الحقبة من تاريخ الحرب الباردة جعلت العالم كله ينتظر ما سيسفر عنه الموقف بقلق وانزعاج، نظراً لخطورة الموقف، إذ أصبح نشوب القتال أمراً لا مفر منه، إلا أن خروتشوف رأى أمام المأزق الذي وضع نفسه فيه، أن يتراجع عن موقفه، وأمر سفنه التي كانت في طريقها إلى كوبا بالعودة من حيث أتت، وبذلك انتصرت الولايات المتحدة انتصاراً سياسياً كبيراً اهتز له العالم أجمع.

       ولم يكتف خروتشوف بهزيمته السياسية، بل كتب رسالة إلى الرئيس جون كيندي يعيد عليه الإدعاء بان الأسلحة التي أرسلت إلى كوبا كانت إجراء دفاعياً وليس هجومياً، وأضاف أنه إذا تعهدت الولايات المتحدة بعدم الإقدام على غزو كوبا، ورفعت عنها الحصار، فإن الاتحاد السوفيتي سيعدل عن سياسة الوجود في كوبا بأي حال.

       وبعد أن اطمأنت السياسة الأمريكية بعد رسالة خروتشوف، وصلت إلى الرئيس كيندي رسالة أخرى يطالب فيها خروتشوف بأن تسحب الولايات المتحدة الصواريخ الأمريكية المقامة في تركيا، وذلك في مقابل سحب الصواريخ الروسية من كوبا، إلا أن كيندي رفض تلك المساومة على اعتبار أن مسألة كوبا لا صلة لها بأي شئ آخر، وفضل أن يتجاهل تلك الرسالة الأخيرة، وأجابه على رسالته الأولى فقط، بقبوله فتح باب المفاوضات على أساس وقف كل نشاط سوفيتي، واقتلاع جميع الصواريخ المقامة في كوبا. ولما وصلت رسالة كنيدي إلى خروتشوف في 27 أكتوبر، وافق على ما جاء فيها، وأعلن سحب الصواريخ الروسية وشحنها إلى الاتحاد السوفيتي، معتقداً أنه بانسحابه من المواجهة العسكرية مع الولايات المتحدة الأمريكية حصل على مكسبين: أولهما استحقاقه احترام العالم لأنه تصرف بحكمة وتعقل في أحرج المواقف التي قد تزج العالم كله في حرب عالمية ثالثة. وثانيهما حصوله على وعد من الولايات المتحدة بأنها لن تقوم في المستقبل بغزو كوبا لإسقاط نظام كاسترو.

       ولكن تراجع خروتشوف في الواقع كان له أثره في الكتلة الشيوعية، وعلى الأخص في الصين الشعبية التي اتهمته بأنه أخطأ مرتين: الأولى عند قيامه بإقامة الصواريخ الروسية النووية على أرض كوبا، والثانية عندما وقف موقفاً فيه جبن وتقهقر عندما أذعن لتهديد الرئيس كيندي، وقرر سحب صواريخه في ذِله وخنوع، ووصفه زعماء الصين الشيوعية بأنه "نمر من ورق".

       وقد كان لأزمة كوبا الخطيرة أثرها في كلا المعسكرين، فقد كان العالم أثناءها مهدداً بانفجار حرب نووية لا يعرف أحد مداها، ولذلك فكر كل من جون كيندي ونيكيتا خروتشوف في إنشاء خط اتصال تليفوني مباشر بين رئيس الدولتين، وتمت الفكرة فعلاً عام 1963 وأنشئ "الخط الساخن" Hot Line بين موسكو وواشنطن، وكان القصد منه الاتصال الفوري بين الرئيسين عند حدوث خطر يهدد السلام؛ لتدارك الموقف قبل تفاقمه، وتلافي اندلاع حرب نووية تجر العالم إلى الخراب والدمار.

       ولم تكن الأزمة الكوبية نقطة تحول في الحرب الباردة لمجرد أن خروتشوف تراجع وأعلن السوفيت أنهم قد اتخذوا طريقاً للسلام قبل أن تتطور الحرب الباردة إلى اتجاه خطير، ولكنها برهنت للعالم أجمع على أن الولايات المتحدة كانت على استعداد للدفاع عن ذاتها بأي حساب، ومهما يكن الثمن، وأنها كانت على استعداد لمواجهة خطر الهجوم النووي إذا تطلبت الأوضاع ذلك، ومواجهة أي تهديد مباشر في الحال. وقد تعلم كيندي من هذه الأزمة كيف ينتهج سياسة تسير على الخيط الرفيع الواقع بين اللين والاتفاق وبين العدوان.

       وحدثت بعد ذلك محاولات ومفاوضات بين القوتين الكبريين لعقد اتفاقيات لتحريم إجراء التجارب النووية، واشتركت في المفاوضات دول أوروبية أخرى على رأسها إنجلترا. ومع ذلك ظلت روسيا والولايات المتحدة تقومان بتلك التجارب سراً، ولم تمنع الاتصالات كل منهما أن يحتاط للمستقبل بألا يدع الطرف الآخر يتفوق عليه في هذا المجال، ولذلك كان الزعيم الروسي خروتشوف، ومن تولى بعده يعملون على ألا يتعرض الاتحاد السوفيتي مرة أخرى لأخطار التفوق الأمريكي. ومن هنا أخذوا يرصدون الأموال الكثيرة لإنتاج الأسلحة النووية. وقد بدأت زيادة إنتاجها منذ عام 1964، وتضاعف في عام 1967، ومع ذلك كان لدى الولايات المتحدة ما يقرب من ثلاث أضعاف السلاح الروسي. واستمر السباق، سباق الكم وسباق الكيف. ومع تظاهر كل من الفريقين بالعمل على منع التصادم والمواجهة بين الشرق والغرب، فإن الأزمات السياسية لا تزال تفرض نفسها على العلاقات بين الكتلتين، ولا تزال أزمة الثقة تتحكم فيهما حتى سقط الاتحاد السوفيتي.

فرنسا ديجول:

       واجه الرئيس جون كيندي اتجاهات معاكسة خاصة من جانب فرنسا: ففي عام 1963 جعل الجنرال ديجول قوات حلف شمال الأطلسي عاجزة عن العمل بصورة فعالة، كما تريد الولايات المتحدة. وأعلن عن نيته في خلق قوة نووية مستقلة خارج نطاق حلف شمال الأطلسي. ورفض أن يتبع الطريق الذي أطلق عليه اسم "الهدف الأكبر" الذي يؤيده الرئيس الأمريكي، وهو إنشاء مجتمع أوروبي واحد يعتمد على تكوين السوق المشتركة، وعلى إمكانية دخول الولايات المتحدة فيه. وفي عام 1963 عرقلت فرنسا دخول بريطانيا هذه السوق المشتركة، وهذا يعنى منع وجود تكامل في أوروبا، وبدأت في الوقت نفسه تخطب ود ألمانيا بعيداً عن حليفتها القوية ـ الولايات المتحدة الأمريكية ـ وذلك من طريق تقوية الروابط الفرنسية ـ الألمانية، ولا شك في أن رغبته في إعادة إحياء عظمة فرنسا بعد أن فقدت إمبراطوريتها في فترتي الخمسينيات والستينيات من هذا القرن، من طريق إنشاء "قوة ثالثة في أوروبا" للوقوف بين القوتين الكبيرتين، تعده الولايات المتحدة الأمريكية موقفاً مخالفاً لاتجاه سياستها.

عوامل التحول في القوتين:

       وقد شهدت حقبة الستينيات البداية الحقيقية لذوبان جليد الحرب الباردة، أو ما أسماه الرئيس الأمريكي جون كيندي "بدء تحول التيار". فخلالها شرعت القوتان في خطوات جادة وملموسة نحو التحكم في سباق التسلح النووي، وفي فتح مجالات لعلاقاتهما الثنائية، بل ربما التوصل إلى تفاهم ضمني أن لا تؤثر ارتباطاتهما وتحالفاتهما في المناطق الإقليمية على مجرى العلاقات الجديد. وهكذا رأينا التوصل في عام 1963 إلى اتفاقية مهمة وهي اتفاقية الحظر الجزئي للتجارب النووية، وسجلت بذلك أول خطواتها الجادة في مجال نزع السلاح، كما قررت الولايات المتحدة الأمريكية بيع القمح الأمريكي للاتحاد السوفيتي، واُنشئ الخط الساخن Hot Line لمواجهة اللحظات الحرجة في علاقاتهما. وعلى الرغم مما ثار خلال هذه الحقبة من أزمات إقليمية ترتبط بها القوتان في فيتنام والشرق الأوسط، إلا أنها لم تحل دون مواصلة ما بدآه بمعاهدة الحظر الجزئي، والتوصل إلى اتفاقية أكثر دلالة، وهي اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية عام 1968.

       غير أن هذا التطور الإيجابي لم يحدث من فراغ؛ وإنما كان نتيجة تجربة صعبة مرت بها القوتان وهي أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962، وهي الأزمة التي كادت أن تتحول بها الحرب الباردة إلى حرب ساخنة، ونقلت بها معنى الحرب والمواجهة النووية من مستوى التصور الذهني المجرد إلى الواقع والإمكانية الملموسة. ولم يقتصر تأثير هذه التجربة الحية على ما دفعت إليه من خطوات ملموسة بل فيما غيرته من التصورات والافتراضات الذهنية عن بعضها البعض.

       ومع نهاية الستينيات حقق الاتحاد السوفيتي ما عَدًّه إنجازاً تاريخياً بالتوصل إلى حالة التعادل Parity مع الولايات المتحدة الأمريكية في مجال الأسلحة الإستراتيجية، وهو التطور الذي سمح بإمكان بدء محادثات الحد من الأسلحة الإستراتيجية، والتي ظل الاتحاد السوفيتي متردداً في دخولها حتى يتمكـن من تحقيق هذا التقدم. وعلى الرغم من أن الاتفاق على بدء هذه المحادثات كان قد تم خلال إدارة الرئيـس الأمريكي جونسون، على أن يقوم بزيارة إلى الاتحاد السوفيتي في أغسطس 1968، إلا أن هذا الترتيب تراجع أمام حدث التدخل السوفيتي في تشيكوسلوفاكيا في 3 أغسطس 1968، وتوقفت بسببه الترتيبات الخاصة ببدء محادثات SALT وكذلك زيارة الرئيس الأمريكي جونسون لموسكو.

       غير أن مجرى العلاقة الذي بدأ في أعقاب أزمة الصواريخ الكوبية ودروسها، لم يتوقف نهائياً خاصة مع مجيء إدارة جديدة في الولايات المتحدة برئاسة ريتشارد نيكسون، الذي اختار هنري كيسنجر مستشارًا للأمن القومي، وهو شخصية برزت أحد خبراء الإستراتيجية والتسلح النووي. غير أن ما كان حاسماً في هذه المرحلة هو الظروف الأمريكية والدولية التي رأتها الإدارة الأمريكية الجديدة حين جاءت إلى الحكم في يناير عام 1970، وتقييمها لكيفية التعامل مع هذه الظروف.

       في هذا الوقت كانت الولايات المتحدة الأمريكية تودع الستينيات التي لم تكن خلالها أقوى دولة في العالم فحسب، وإنما كذلك أكثر جاذبية، إذ كان لها التفوق على القوى العظمى الأخرى في الأسلحة الإستراتيجية، كما قادت حلفاءها بمهارة في أزمات مثل برلين. وعلى المستويين الاقتصادي والإنتاجي، كانت تنتج، تقريباً، نصف ثروة العالم، كما كانت معاملها ومختبراتها أكبر مكان للاكتشافات العلمية، وتتقدم العالم في مجال التعليم العالي، وعلى الرغم من تزايد الصراعات العنصرية في مجتمعها، إلا أنها أظهرت مرونة في تناول هذه الصراعات.

       غير أنه مع انتهاء هذه الحقبة ومقبل السبعينيات، بدأت هذه الصورة تهتز، وتفقد عناصرها المؤثرة، حقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت، ما تزال، أقوى قوة تكنولوجية، إلا أن مجتمعها فقد جاذبيته، ولم يعد حلفاؤها، الذين نموا اقتصادياً، يتبعون قيادتها تلقائيًا في كل مجال كما كان الحال من قبل، بل أن قيادتها السياسية لهم أصبحت موضع شك. وأكبر من ذلك أن الخصم، وهو الاتحاد السوفيتي، بدأ يمتلك ترسانة من الأسلحة النووية، والصواريخ طويلة المدى والغواصات. ومن ناحية أخرى ظهرت اليابان على السطح الدولة الثالثة في العالم اقتصادياً، بل وتبشـر أن تصبح الثانية مع نهاية القرن، كذلك برز العالم الثالث قوة سياسية. أضف إلى كل هذا، التورط في فيتنام حيث كانت أول هزيمة للعسكرية الأمريكية، وأحدثت اهتزازاً في قيم المجتمع الأمريكي وتماسكه. كل هذا خلق حالة من عدم التأكد، بل والإحباط والشكوك حول طبيعة القوة التي تمثلها الولايات المتحدة في عالمها، والتساؤل عما إذا كانت الإستراتيجية الأمريكية في التعامل مع العالم وصياغته وفقاً للمفهوم الأمريكي قد سارت بشكل خاطئ.

       كانت هذه هي المرآة التي رأى فيها نيكسون صورة بلاده، وهو يتسلم الحكم في نهاية الستينيات وورث بها أمة غير متأكدة من طريقها سواء في الداخل أو الخارج. من هنا أدرك نيكسون الحاجة إلى تقييم جديد للسياسة الأمريكية، والذي أسماه "الأصوات الخفيضة"، والمرونة الجديدة، ونقل التركيز إلى الجوانب العملية، وضرورة إنهاء حرب فيتنام، وأهم من هذا تحديده لإطار سياسة خارجية تعتمد على المفاوضة بدلاً من المواجهة.

       وإذا كانت هذه التغيرات الموضوعية التي جرت على الجانب الأمريكي مع نهاية حقبة الستينيات وبداية السبعينيات سمحت بتغيير في إطار التفكير حول إدارة الشؤون الدولية عامة والعلاقة مع القوة العظمى الأخرى خاصة، فإن عناصر التغيير على الجانب السوفيتي والحاجة إلـى سياسات جديدة تبتعد عن المواجهة لم تكن خافية. حقيقة أن القيادة السوفيتية حققت تعادلاً في الميزان الإستراتيجي أعطاها قدراً من الثقة والاطمئنان فيما يتعلق بنظام الأمن، إلا أن السياسة السوفيتية عبر مراحلها المختلفة كانت تحكمها الاعتبارات الداخلية. ففي الوقت الذي استطاعت قطاعات الإنتاج في الدفاع والتكنولوجيا العسكرية أن تقف موقف المنافس مع الولايات المتحدة، أصبح واضحاً، بشكل متزايد، أن الاتحاد السوفيتي يواجه صعاباً لا يمكن تجاهلها فيما يتعلق بمدى ملاءمة القطاعات المدنية في نظامها الاقتصادي للثورة الصناعية والعلمية للعصر. أضف إلى هذا أن الإصلاحات الاقتصادية التي أدخلت عام 1965 لزيادة الإنتاج وتسهيل إنتاج تكنولوجيا جديدة في القطاع المدني لم تحل الصعاب الاقتصادية السوفيتية، لذلك ظهر شبه إجماع داخل القيادة السوفيتيـة أن نتائج غير مرغوب فيها في الداخل يمكن أن تترتب على منافسة طويلة في مجال سباق التسلح بوجه خاص. وهكـذا توفرت مفارقة من ثلاثة وجوه: بروز الاتحاد السوفيتي قوة عسكرية عالمية، وأن هذه القوة لم يكن لها مغزى سياسي طالما أن كل قوة في مقدورها الانتقام من الأخرى إذا هاجمتها، أما الوجه الثالث فهو أن هذه القوة العسكرية لم يكن يوازيها تقدم في الداخل.

       وهكذا كانت هذه التطورات في الواقعين الداخلي والدولي للقوتين مع بداية السبعينيات وراء المرحلة النوعية الجديدة، والتي شهدت اتصالات ومضموناً جديداً للحوار بينهما في مؤتمرات قمة، كان جوهرها هو ترشيد سباق التسلح بينهما، وخاصة في المجال الإستراتيجي، وهو ما وضعت قمة موسكو الأولى في مايو ـ يونيه 1972 أساسه بتوصلها إلى اتفاقيات الحد من الأسلحة الإستراتيجية التي عرفت بـ Salt-1  (انظر ملحق نص معاهدة سولت 1) ولم تكن أهمية هذه الاتفاقيات أنها الأولى من نوعها فحسب؛ وإنما لأنها كانت تشكل أساس القوة العسكرية لكلتا القوتين، ومكانتهما بوصفهما قوى عظمى، وأهم من هذا المبادئ التي ارتكزت عليها وهي التعادل Parity، والأمن المتساوي Equal Security.

       إضافة إلى هذا الإنجاز الذي حققته قمة موسكو الأولى في مجال الاهتمام الرئيسي، توصلت إلى وضع مبادئ تهتدي بهما القوتان في إدارة علاقاتهما الدولية. هذا فضلاً عن التوصل إلى مجال واسع من الاتفاقات في العلاقات الثنائية في وجوهها المختلفة، بلغت من العدد والتنـوع ما قيل معه أنها فاقت ما تحقق في علاقات البلدين منذ تأسيس علاقاتهما الدبلوماسية عام 1933.

       وقد واصلت مؤتمرات القمة الثلاثة التالية: واشنطن، موسكو، وفلاديفوستك هذا الاهتمام المشترك في محاولة إضافة مضمون جديد لعلاقاتهما سواء في مجال الحد من التسلح، أم في مجال العلاقات الثنائية.

       هكذا كانت المراحل السابقة التي شهدت محاولات القوتين منذ الخمسينيات بناء علاقات إيجابيـة بينهما تتجاوز توترات الحرب الباردة وتنافسها وتتحكم فيها، وأن هذه المحاولات في كل منها كانت مدفوعة، ونتيجة لتغيرات موضوعية، لم يكن في الإمكان تجاهلها في واقع القوتين.