إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الباردة









المبحث السابع

المبحث السابع

سياسة حافة الهاوية الأمريكية

الفترة من 1947-1980

       ظلت أوروبا ساحة رئيسية للحرب الباردة. إذ إن الأحداث كانت تتطلب المزيد من الانتباه بعدما ألزم الرئيس ترومان الولايـات المتحدة الأمريكية في الفترة من عام 1947 إلى عام 1949 بمساندة أوروبا والدفاع عنها من طريق مبدأ ترومان ومشروع مارشال، ومنظمة حلف شمال الأطلسي. وقد استطاع وزيرا خارجية ترومان ـ جورج مارشال ودين أتشيسون ـ أن يقودا الولايـات المتحدة الأمريكية للمرة الأولى إلى دخول الأحلاف الدائمة، وأن يقرا الاستعداد لمواجهة الاتحاد السوفيتي. وتُعد هذه السياسات علامة مميزة ونقطة تحول في العلاقات الأمريكية الخارجية لم يستطع حكم الجمهوريين فيما بعد، وفي خلال فترة الخمسينيات أن يغير منها على الإطلاق.

       وكان دالاس يتفق مع الرئيس أيزنهاور في أن الحرب الباردة ضرورية بين قوتين كبيرتين. ونظراً لعدم إمكان التوصل إلى اتفاق مع الشرق، الذي تمثله الشيوعية، فإنه من غير المتوقع أن تنتهج سياسة محددة في نطاق التعايش أو التعاون. لذلك كان دالاس يتحدث دائماً عن إعادة التقدم الشيوعي إلى ما كان عليه، وكان يؤكد أنه أصبح لزاماً على الولايـات المتحدة الأمريكية أن تعد نفسها للقيام "برد عدوان جماعي وشامل" ضد المعتدى. وأنه يجب أن يكون "تحرير" الشعوب الجائعة للحرية هو الاهتمام الأول للسياسة الأمريكية، وقد تكون سياسة حافة الهاوية ـ التي اقترنت دائماً باسمه ـ ضرورية ولازمة إذ كان واجباً على الولايـات المتحدة الأمريكية أن تواجه الاتحاد السوفيتي في جميع الجبهات. وكان الكثير من الأمريكيين ينظرون إلى هذه السياسة بالقليل من الخوف إذا قورنت بسياسة الوقوف على أهبة الاستعداد.

       وكانت هناك انتقادات وإطراءات في الوقت نفسه لدالاس لاستخدامه هذه الأفكار، واتباعـه سياسة تعتمد على آراء مستمدة من القانون، وهو وضع زاد من تعقيد المحادثات والمفاوضات التي كانت تجرى من وقت لآخر. ورأي البعض أن هناك اتجاهاً، أدبياً وخلقياً، جديداً "في سياساته" ومثالية جديدة نحو القوة، في حين كان البعض الآخر يرى أنه يحاول أن يفرض على الأمم الأخرى طريقة الحياة الأمريكية، والمثل العليا لها، ولما حاولت الصين الشيوعية دخول الأمم المتحدة أعلـن أن "الأمم المتحدة ليست ملجأ إصلاح للحكومات الفاسدة". وبمعنى آخر كان كل من أيزنهاور ودالاس يرى أن الاتجاهات الأدبية والخلقية تتفوق دائماً على اتجاهات القوة، على حين رأي معارضوهما أن اتجاه القوة يجب أن تكون له الأسبقية والأفضلية في المجال الدولي.

       وعلى الرغم من ذلك، فلم يلجأ دالاس إلى تغيير سياسة سلفه تغييراً جذرياً إذ أدرك بنفسه أن السياسة الأمريكية محددة بمدى معين من البدائل، فهو يريد أن يهزم الشيوعية لا من طريق الاستعداد لها فقط، ولكن لمنع وقوع الحرب كذلك. ولذلك فقد كانت التغيرات التي طرأت على السياسة الأمريكية الخارجية في خلال فترة الخمسينيات محدودة النطاق، إذا قورنت بسياسات الأمم الأخرى.

سباق التسلح:

       فقدت الولايـات المتحدة الأمريكية تفوقها البعيد المدى في مجال الأسلحة النووية، وبعض مجالات التكنولوجيا العالية في ظل عهدي ترومان وأيزنهاور. ففي نوفمبر 1947، استطاع الاتحاد السوفيتي أن يفجر أول قنبلة ذرية له. وبعد سنوات قليلة استطاع أن يصل إلى مرحلة "توازن الرعب" مع الولايـات المتحدة الأمريكية. وكانت الولايـات المتحدة الأمريكية قد تقدمت قليلاً في مجال القنبلة الهيدروجينية، ولكن الاتحاد السوفيتي استطاع أن يلحق بها عام 1953.

       وازدادت حدة سباق التسلح بينهما، ولم يكن السباق الجديد خلال السنوات العشر السابقة مركزاً حول المزيد من السلاح، وإنما حول السلاح الأفضل والأقوى، والأسلحة الأكثر كفـاءة فنياً. ونظراً لضرورة إجراء تجارب على الأسلحة الجديدة، فقد وجدت الدولتان نفسيهما وقد ركبتا ظهر نمر مخيف، فإذا وقعت إحداهما من فوقه افترسها النمر. وكانت تجـارب التفجيرات النووية تلوث الجو بالنشاط الإشعاعي، وبذلت محاولات كثيرة لوقف هذه التجارب ولكنها فشلت جميعـاً. واقترح أيزنهاور فكرة "السماوات المفتوحة"[1]  في نظام التفتيش الذري ولكن الاتحاد السوفيتي رفضها، واقترح بدلاً منها تخفيض عدد الأسلحة الأصلية والقوات المسلحة التقليدية، وهو الاقتراح الذي رفضته الولايـات المتحدة الأمريكية كذلك.

       وفي عام 1953 خصصت الحكومة السوفيتية موارد ضخمة لاستغلال التكنولوجيا الحربية الألمانية في مجال الصواريخ. وفي عام 1955، كان الاتحاد السوفيتي ينتج على نطاق واسع صواريخ باليستية متوسطة المدى من طراز SS-3، وفي عام 1957 أطلق الاتحاد السوفيتي صاروخ باليستي عابرة للقارات يبلغ مداه خمسة آلاف ميل، مستخدماً نفس الصاروخ الذي أطلق "سبوتنيك"، وهو أول قمر صناعي أطلق من الأرض ليتخذ مداراً له في الأجواء العليا في أكتوبر من العام نفسه.

       وفي سبتمبر 1954 دشنت الولايـات المتحدة الأمريكية أول سفينة لها تسير بالطاقة الذرية "الغواصة نو تيلوس" وفي الوقت نفسه تفوق الاتحاد السوفيتي على الولايـات المتحدة الأمريكية في إنتاج الطائرات من قاذفات القنابل عابرات القارات. وذلك في الوقت الذي كانت فيه الولايـات المتحدة الأمريكية تطور الصواريخ والقذائف النووية. وأجرت روسيا في منتصف عام 1957 تجربة أول صاروخ لها عابر للقارات في حين كانت الولايـات المتحدة الأمريكية لا تزال تشق طريقها في مجال الإعداد لذلك النوع من الصواريخ.

سباق الفضاء:

       وبدأ السباق بين الدولتين الكبيرتين، من أجل التفوق الفني للوصول إلى الفضاء. وبحلول 4 أكتوبر 1957 أطلق الاتحاد السوفيتي أول قمر صناعي له في الفضاء الخارجي وأطلق عليـه اسم "سبوتنيك" كان يتولى إرسال المعلومات بالإشارات إلى الأرض وسُمِع بالفعل في الولايـات المتحدة الأمريكية. وشعر الأمريكيون بأن عصر القوة المطلقة قد انتهى بالنسبة لهم. وفي نوفمبر أطلق السوفيت قمراً صناعياً آخر يحمل الكلبة "لايكا"، ثم قمراً ثالثاً يحمل كلبين أعيدا إلى الأرض وهما على قيد الحياة.

       وفي يناير 1958 أطلقت الولايـات المتحدة الأمريكية أول قمر صناعي لها تحت اسم "اكسبلورر" وعلـى هذا النحو توالت التطورات الضخمة في التكنولوجيا والاكتشافات الجديدة في الدولتين.

       وعلى أثر الصدمة التي أصابت واشنطن من جراء تلك الإنجازات الروسية، وما تنطوي عليه من احتمال تعرض المدن الأمريكية، وقوات القاذفات التابعة للولايات المتحدة لهجوم سوفيتي مفاجئ، خصصت الحكومة الأمريكية موارد ضخمة للإنفاق على مشاريع إنتاج صواريخ باليستية عابرة للقارات لسد ما أطلق عليه اسم "فجوة الصواريخ". غير أن سباق التسلح النووي لم يكن قاصراً على مثل تلك الأنظمة. فاعتباراً من عام 1960، كان كل جانب يقوم، على وجه السرعة، بتطوير قدرته على إطلاق صواريخ باليستية من الغواصات. وفي ذلك الوقت، أُنتجت مجموعة كاملة من الأسلحة النوويـة الميدانية والصواريخ قصيرة المدى. وقد اقترن كل ذلك بصراعات فكرية من قبـل المخططين الإستراتيجيين والمحللين المدنيين في دوائر الفكر حول كيفية مواجهة المراحل المختلفـة للتصعيد، فيما وصف ـ وقتئذ ـ بإستراتيجية "الرد المرن".

ومهما كان وضوح الحلول المقترحة، فإن أياً منها لم يستطع الهروب من المشكلة الرهيبة المتمثلة في أنه سيكون من الصعب، إن لم يكن من المستحيل، إدخال الأسلحة النووية ضمن الأساليب التقليدية للقتال في الحرب التقليدية. كذلك فإنه إذا تم اللجوء إلى إطلاق القنابل الهيدروجينيـة ذات الطاقة التدميرية العالية على الأراضي الروسية والأمريكية، فإن الخسائر والأضرار التي ستلحق بالجانبين لن يكون لها مثيل.

       وقد وجدت واشنطن وموسكو نفسيهما حبيستين لما أسماه تشرشل بتوازن الرعب المتبادل، وغير قادرتين على التخلص من أسلحة الدمار الشامل الموجودة في حوزتهما، في حين كانت كل من بريطانيا وفرنسا تسيران قدماً نحو إنتاج قنابلهما الذرية الخاصة وأنظمة إطلاقها في الخمسينيات، ولكن لا يزال بكل المقاييس العصرية للطائرات والصواريخ والقنابل النووية ذاتها أن ليس هناك حسـاب لسوى القوتين العظميين في هذا الميدان.

       وقد تمثل العنصر الرئيسي الأخير في هذه المنافسة في قيام كل من الاتحاد السوفيتي والغرب بإنشاء أحلاف عبر العالم، والتنافس على إيجاد شركاء جدد ـ أو على الأقل منع دول العالم الثالث من الانضمام إلى الجانب الآخر. وفي السنوات الأولى، كان ذلك في الغالب نشاطاً أمريكياً، منطلقاً من وضعها المتميز عام 1945، ومن حقيقة أنها كانت تمتلك بالفعل مواقع عسكرية وقواعد جوية عديدة خارج نطاق نصف الكرة الغربي، ومن حقيقة مهمة بنفس القدر، تتمثل في أن العديد من الدول كانت تتطلع إلى واشنطن للحصول على مساعدات اقتصادية وعسكرية، وعلى النقيض من ذلك، كان الاتحاد السوفيتي في مسيس الحاجة إلى إعادة بناء نفسه، وكان اهتمامـه الخارجي ينصب، في المقام الأول، على تحقيق الاستقرار على حدوده الخاصة وفق شروط مواتية لموسكو، ولم يمتلك أدوات القوة الاقتصادية أو العسكرية اللازمة للعمل في مناطق أخرى بعيدة. فعلى الرغم من المكاسب الإقليمية التي حققها الاتحاد السوفيتي في البلطيق وشمال فنلندا والشرق الأقصى، فقد كان لا يزال نسبياً قوة عظمى محصورة.

       وزيادة على ذلك، فإنه يبدو واضحاً الآن أن نظرة ستالين للعالم الخارجي كانت تتسم إلى حد كبير بالحذر والشك- تجاه الغرب الذي كان يخشى من ألا يتحمل المكاسب الشيوعية الواضحة "مثـل ما حدث في اليونان عام 1947"، وكذلك تجاه أولئك الزعماء الشيوعيين، مثل جوزيف بروز تيتو وماو توسي تونج، الذين لم يكونوا بشكل مؤكد "عملاء للسوفيت". وقد كان لإقامة الكومينفورم في عام 1947 وللدعاية القويـة حول دعم الثوار في الخارج أصداء من الثلاثينيات "بل من الفترة الممتدة من عام 1918 إلى عام 1921"، ولكن يبدو في الحقيقة أن موسكو كانت تتجنب التورط الخارجي في تلك الفترة.  

       غير أنه كان من رأي واشنطن، أن هناك خطة رئيسية للسيطرة الشيوعية على العالم كانت تتكشف بالتدريج، وأن ثمة حاجة لاحتوائها. وكانت الضمانات التي قُدِمَّت لليونان وتركيا في عام 1947 أول بادرة لهذا التغيير. وكانت اتفاقية حلف شمال الأطلسي المبرمة عام 1949 هي المثل الأكبر على ذلك التغيير وبانضمام أعضاء جدد إلى منظمة حلف شمال الأطلسي في الخمسينيـات، فإن ذلك كان يعنى أن الولايات المتحدة الأمريكية تعهدت "بأن تدافع عن معظم أوروبا، وحتى عن أجزاء من الشرق الأدنى.

       غير أن ذلك لم يكن سوى البداية للتوسع الأمريكي. فميثاق ريو والترتيبات الخاصة مع كندا، كانت تعنى أن الولايـات المتحدة الأمريكية أصبحت مسؤولة عن الدفاع عن نصف الكرة الغربي بأكمله. وخلقت اتفاقية الأنزوس التزامات في جنوب غرب المحيط الهادي. كما أدت المواجهات التي حدثت في شـرق آسيا خلال مطلع الخمسينيات إلى توقيع اتفاقيات ثنائية مختلفة تعهدت الولايـات المتحدة الأمريكية بمقتضاها بمساعدة الدول الواقعة على طول "الحافة"- وهي اليابان، وكوريا الجنوبية، وتايوان وكذلك الفليبين. وفي عام 1954 دُعِّم هذا الاتجاه بإقامة حلف جنوبي شرقي آسيا "سياتو" والذي اشتركت فيه الولايـات المتحدة الأمريكية ، وبريطانيا وفرنسا وأستراليا ونيوزيلندا والفليبين وباكستان وتايلاند في الالتـزام بالدعم المتبادل للتصدي للعدوان في تلك المنطقة الشاسعة.

       وفي مطلع عام 1970 كتب أحد المراقبين يقول: "إن للولايات المتحدة أكثر من مليون جندي في 30 دولة، وهي عضو في أربعة أحلاف دفاعية إقليمية وشريك فعال في حلف خامس، وتشترك في اتفاقيات دفاع متبادل مع 42 دولة، وهي عضو في 53 منظمة دولية، وتقدم معونات عسكرية أو اقتصادية إلى حوالي مائة دولة في جميع أنحاء العالم".

       وكانت تلك مجموعة من الالتزامات كان يمكن للويس الرابع عشر أو بالمرستون أن يشعر إزاءها ببعض التوتر العصبي. غير أنه في عالم كان يبدو أنه ينكمش حجمه على وجه السرعة، ويبدو فيه كل جانب مرتبط بالجانب الآخر، كان لتلك التعهدات التدريجية منطقها. فأين كان يمكن لواشنطن في ظل نظام ثنائي القطبية أن تضع الحد الفاصل ـ خاصة بعد الزعم بأن إعلانها من قبل بعدم أهمية كوريا كان بمثابة دعوة للهجوم الشيوعي الذي وقع عليها في العام التالي؟ وقد ذكر دين راسك في مايو 1965 "إن هذا الكوكب أصبح صغيراً للغاية، وعلينا أن نهتم بكل أراضيه ومياهه وجوه والفضاء المحيط به".

       وإذا كانت قوة الاتحاد السوفيتي ونفوذه في العالم الخارجي أقل اتساعاً إلى حد كبير، فإن الأعوام التي أعقبت وفاة ستالين شهدت إنجازات تجدر الإشارة إليها. فمن الواضح أن خروتشوف كان يريد أن يحظى الاتحاد السوفيتي بالإعجاب وأن يكون موضع حب وليس مصدر خوف. وكان يريد إعادة توجيه الموارد من الاستثمار العسكري إلى الاستثمار الزراعي والسلع الاستهلاكية. وكانت أفكـار سياسته الخارجية العامة تعكس آماله في "إذابة جليد" الحرب الباردة. فبعد أن تغلب على مولوتوف، قام بسحب القوات السوفيتية من النمسا، وأعاد قاعدة بوركالا البحرية إلى فنلندا، وبورت آرثر إلى الصين، وحسن من علاقاته مع يوغوسلافيا، موضحاً أن ثمة "طرقاً مختلفة إلى الاشتراكية". وهو موقف كان محبطاً للكثيرين من زملائه في الرئاسة مثلما كان بالنسبة لماوتسي تونج.

       وإضافة إلى ذلك كان خروتشوف، الذي كانت لديه رغبة قوية في إثبات تفوق النظام السوفيتي على النظام الرأسمالي، يتطلع إلى الحصول على أصدقاء جدد في الخارج. وكان خلفاؤه الأكثر واقعية، بعد عام 1964، مهتمين بكسر الحصار الذي فرضته الولايـات المتحدة الأمريكية حول الاتحـاد السوفيتي، وبكبح جماح النفوذ الصيني. وزيادة على ذلك، كانت هناك دول عديدة في العالم الثالث تتطلع إلى الهرب مما أسمته "بالاستعمار الجديد" وإقامة اقتصاد مخطط، وليس اقتصاداً حراً، وهو تفضيل كان يؤدي عادة إلى وقف المعونات الغربية. وقد انصهر كل ذلك ليعطى للسياسة الخارجية الروسية دفعة قوية نحو الخارج.

       وفي عام 1960، حدث الاختراق الكبير في أمريكا اللاتينية، عندما وَقَّع الاتحاد السوفيتي أول اتفاقية تجارية مع كوبا بزعامة فيدل كاسترو، الذي أصبح، منذ ذلك الحين، في نزاع دائم مع الولايات المتحدة الأمريكية التي أزعجها ذلك. وقد حدد كل ذلك نمطاً لم يتغير مع سقوط خروتشوف. وبعد أن شن الاتحاد السوفيتي حملة دعائية واسعة ضد الإمبريالية، عرض بطبيعة الحال اتفاقيات صداقة، وقروضاً تجارية، ومستشارين عسكريين وغير ذلك على أية دولة حصلت على استقلالها حديثاً. واستطاعت روسيا كذلك أن تقيد في الشرق الأوسط من التأييد الأمريكي لإسرائيل بزيادة المعونات التي قدمتها موسكو لسوريا والعراق وكذلك مصر في الستينيات على سبيل المثال". كما استطـاعت أن تحقق المجد والشهرة من خلال تقديم مساعدات عسكرية واقتصادية لفيتنام الشمالية. وحتى في أمريكا اللاتينية البعيدة، استطاعت موسكو أن تعلن التزامها بحركات التحرير الوطنية. وفي هذا الصراع من أجل بسط النفوذ على العالم، قطع الاتحاد السوفيتي شوطاً طويلاً، بعيداً عن الأسلوب الحذر الذي كان يتبعه ستالين.

       ولكن هل كان التنافس بين واشنطن وموسكو على كسب ود بقية دول العالم، وهذا الصراع المتبادل بينهما من أجل بسط النفوذ من خلال اتفاقيات المعونات والقروض وصادرات السلاح، يعنى أن عالماً ثنائي القطب قد بدأ بالفعل؟ لقد كانت تلك هي الكيفية التي نظم بها العالم بالفعل من وجهة نظر أمثال دالاس أو مولوتوف. غير أنه حتى مع التنافس الذي كان قائماً بين هاتين الكتلتين عبر الكرة الأرضية، وفي مناطق غير معروفة لهما في عام 1941، فقد كانت تواجهان اتجاهـاً مختلفاً تماماً. ذلك أن العالم الثالث في ذلك الوقت كان قد بلغ مرحلة النضج، ولم يكن العديد من أعضائه، بعد أن تخلصوا من قيود الإمبراطوريات الأوروبية التقليدية، في حالة تسمح لهم بأن يصبحوا مجرد توابع لقوة عظمى بعيدة، حتى وإن كان بمقدور الأخير تقديم العون، الاقتصادي والعسكري المفيدين لهم.  

التجارب النووية:

       وفي يونيه 1963، أعلن الرئيس الأمريكي جون كيندي عن نواياه في العودة إلى المفاوضات مرة أخرى من أجل نزع السلاح النووي العام، ووضع نظام للتفتيش المتبادل على المخزون من الأسلحة النووية. وكان الاتحاد السوفيتي يرغب في ذلك، وكان على استعداد للتعاون بسبب قلقه من تزايد قوة الصين الشيوعية، واستطاعت هذه المفاوضات أن تؤدى إلى عقد اتفاقية خاصة بالتحريم الجزئي للتجارب النووية بمنع إجراء تجارب فوق سطح الأرض مع عدم وجود أي تفتيش- واستطاع هذا التحريم الجزئي أن يخفض كمية المواد المتساقطة من التجارب ذات الأثر الإشعاعي.

استمرار سباق التسلح:

       وفي السبعينيات، ظلت هناك، على الرغم من ذلك، أسباب وجيهة لاستمرار ظهور العلاقات بين واشنطن وموسكو بصورة بالغة الأهمية في الشؤون الدولية. فمن الناحية العسكرية، اقترب الاتحاد السوفيتي بدرجة أكبر من الولايـات المتحدة الأمريكية، غير أن كليهما كانا لا يزالان ينتميان لفئة مختلفة عن أية دولة أخرى. ففي عام 1974، على سبيل المثال، كانت الولايـات المتحدة الأمريكية تنفق 85 مليار دولار، وكان الاتحاد السوفيتي ينفق 109 مليار دولار على الدفاع، تمثل ما بين ثلاثة إلى أربعة أضعاف ما كانت تنفقه الصين "26 مليار دولار" وما بين ثمانية إلى عشرة أضعاف ما كنت تنفقه الدول الأوروبية الكبرى "المملكة المتحدة 9.7 مليار دولار، وفرنسا 9.9 مليار دولار، وألمانيا الغربية 13,7مليار دولار". وكان حجم القوات المسلحة الأمريكية ـ والروسية التي كان يقدر عدد أفرادها بأكثر من مليونين وثلاثة ملايين جندي على التوالي، أكبر كثيراً من حجم القوات المسلحة للدول الأوروبية، وأفضل تجهيزاً من القوات الصينية التي كان يقدر عدد أفرادها بثلاثة ملايين جندي.

       وكان لدى القوتين العظميين أكثر من 5 آلاف طائرة حربية، تمثل أكثر من عشرة أضعاف ما كان لدى القوى الكبرى السابقة. وكان إجمالي حمولة السفن الحربية التابعة لهما - الولايـات المتحدة الأمريكية 2.8 مليون طن، والاتحاد السوفيتي 2.1 مليون طن في عام 1974 ـ يفوق حمولة سفن بريطانيا "370 ألف طن"، وفرنسا "160 ألف طن"، واليابان "180 ألف طن"، والصين "150 ألف طن". غير أن التفاوت الأكبر كان في عدد أسلحة الإطلاق النووي، كما يتضح من (جدول وسائل الإطلاق النووي للدول الكبرى عام 1974)، الذي يوضح وسائل الإطلاق النووي للدول الكبرى عام 1974.

       وقد أصبحت كل من القوتين العظميين قادرة على محو القوة العظمى الأخرى "وأية دول أخرى جانبها" ـ وهي حالة أطلق عليها اصطلاح MAD أو الدمار المؤكد المتبادل ـ بحيث بدأتـا في اتخاذ الترتيبات اللازمة للسيطرة على سباق التسلح النووي بطرق مختلفة. فقد أقيم، بعد أزمة الصواريخ الكوبية، خط ساخن يتيح لكل جانب أن يتصل بالجانب الآخر في حالة حدوث ظرف خطير آخر. كما وُقِعت في عام 1963 اتفاقية حظر التجارب النووية، التي وقعت عليها كذلك المملكة المتحدة والتي تحظر إجراء تجارب نووية في الجو، وتحت سطح الماء، وفي الفضاء الخارجي. كذلك وقعت في عام 1972 اتفاقية الحد من الأسلحة الإستراتيجية "سولت1" التي وضعت قيوداً على عدد الصواريخ الباليستية العابرة للقارات التي قد يمتلكها كل جانب، وأوقفت بناء الروس لنظام صواريخ باليستية مضادة للصواريخ. وتم تمديد تلك الاتفاقية في فلاديفوستوك في عام 1975. وفي أواخر السبعينيات أجريت مفاوضات من أجل التوصل إلى اتفاقية سولت2 (انظر ملحق نص معاهدة سولت 2) "التي وقعت في يونيه 1979، ولكن لم يًصدق عليها من قِبَل مجلس الشيوخ الأمريكي".

       غير أن تلك الإجراءات المختلفة للاتفاق، وكذلك الدوافع، الاقتصادية والسياسية، المحليـة الخاصة بالسياسة الخارجية والتي دفعت كل جانب لاتخاذها لم توقف سباق التسلح، إذ كان الحظر أو الحد من أحد أنظمة التسلح يؤدى إلى مجرد تحويل الموارد إلى مجال آخر. فمنذ أواخر الخمسينيات، ظل الاتحاد السوفيتي يزيد باستمرار وبشكل مطرد من اعتماداته للقوات المسلحة. وفي الوقت الذي تأثر فيه نمط إنفاق الدفاع الأمريكي بحربها في فيتنام، ورد الفعل العام بعد ذلك ضد تلك المغامرة، فإن الاتجاه على المدى الطويل كان يسير كذلك نحو توفير اعتمادات إجمالية أعلى دائماً. ففي كل بضع سنوات، كانت تضاف أنظمة أسلحة أحدث. إذ رُكبت رؤوس حربية متعددة للصواريخ التي يملكها كل جانب، ودُعمت الغواصات المزودة بالصواريخ من القدرة البحرية لكل جانب. كما أن الخوف من الحظر النووي الكامن في استخدام الصواريخ الإستراتيجيـة، الأمر الذي أثار المخاوف الأوروبية من عجز الولايـات المتحدة الأمريكية عن الرد على أي هجوم سوفيتي تجاه الغرب، بإطلاق صواريخ أمريكية طويلة المدى، إذ إن ذلك قد يؤدى إلى توجيه ضربات ذرية إلى المدن الأمريكية. أدى إلى ظهور أنماط جديدة من الأسلحة النووية متوسطة المدى أو الميدانية مثل الصـاروخ بيرشنج2، والصواريخ كروز لمواجهة الصاروخ الروسي SS-20. وكانت المناقشات الخاصـة بسباق التسلح والحد منه وجهين متقابلين لعملة واحدة، إلا أن كلاً منهما جعل واشنطن وموسكو في قلب الأحداث.

       كذلك بدأ التنافس بينهما جوهرياً في المجالات الأخرى. وكان أحد الملامح البارزة بدرجـة أكبر للحشد العسكري السوفيتي منذ عام 1960 يتمثل في التوسع الهائل في أسطوله البحري ـ من الناحية المادية ـ بقيامه ببناء مدمرات وطرادات بالغة القوة ومزودة بالصواريخ، ثم حاملات طائرات هليكوبتر متوسطة الحجم، وبعد ذلك حاملات للطائرات، ومن الناحية الجغرافية، ببدء البحريـة السوفيتية إرسال المزيد من السفن إلى البحر الأبيض المتوسط وإلى مناطق أخرى بعيدة، إلى المحيط الهندي وغرب أفريقيا والهند الصينية وكوبا؛ حيث أصبح بمقدورها استخدام عدد متزايد من القواعد. وقد عكس هذا التطور الأخير توسعاً له دلالته البالغة في مجالات المنافسة بين الولايـات المتحدة الأمريكية والاتحـاد السوفيتي في العالم الثالث، خاصة بعد النجاح الذي أحرزته موسكو باختراقها لمناطق كان النفـوذ الأجنبي فيها حكراً على الغرب.

       وكان استمرار التوتر في الشرق الأوسط، وخاصة حربي 1967 و1973 بين العرب وإسرائيل؛ إذ كانت إمدادات الولايـات المتحدة الأمريكية لإسرائيل من السلاح حاسمة، يعني أن دولاً عربية مختلفة ـ سورية، ليبيا، والعراق ـ ستظل تتطلع إلى موسكو للحصول على مساعدتها. كما قدم النظامان الماركسيان في اليمن الجنوبية والصومال تسهيلات بحرية للأسطول الروسي مما هيأ له وجوداً بحرياً جديداً في البحر الأحمر. ولكن، كالمعتاد، كانت هذه الاختراقات مصحوبة بالانتكاسات: فتفضيل موسكو الواضح لأثيوبيا أدى إلى طرد المستشارين السوفيت، وكذلك السفن السوفيتية من الصومال عام 1977، وذلك بعد بضع سنوات من حدوث الشيء نفسه في مصر. وواجه التقدم الروسي في هذه المنطقة تزايداً في الوجود الأمريكي في عمان ودييجو جارسيا، والقواعد البحرية في كينيا والصومال، وشحنات الأسلحة لمصر والمملكة العربية السعودية وباكستان.

       غير أنه في الجنوب، كانت المساعدات العسكرية السوفيتية- الكوبية لقوات جيش التحرير الشعبي في أنجولا، والمحاولات المتكررة للنظام الليبي برئاسة القذافي، وبمساعدة السوفيت لتصدير الثورة إلى مناطق أخرى، ووجود حكومات ماركسية في أثيوبيا وموزمبيق وغينيا والكونغو ودول غرب أفريقية أخرى، توحى بأن موسكو كانت بصدد الفوز في الصراع من أجل بسط النفوذ على العالم. وكان تحرك الاتحاد السوفيتي العسكري داخل أفغانستان عام 1979 ـ وهو أول توسع من هذا القبيل خارج أوروبا الشرقية منذ نشوب الحرب العالمية الثانية ـ وتشجيع كوبا للأنظمة اليسارية في نيكاراجوا وجرينادا، يدعم ذلك الانطباع بأن المنافسة بين الولايـات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي لا تعـرف حدوداً، ويدفع إلى اتخاذ إجراءات مضادة إضافية وزيادات في الإنفاق على الدفاع من جانب واشنطن. ومع حلول عام 1980، وقيام إدارة أمريكية جمهورية جديدة، بالتنديد بالاتحاد السوفيتي باعتبار أنه يمثل "إمبراطورية الشر" وأن الرد الوحيد عليه إنما يكون بحشد قوات دفاعية ضخمة، وانتهاج سياسات متشددة، فقد كان يبدو أنه لم يتغير الكثير منذ عهد جون فوستر دالاس.



[1]  يقصد بالسماوات المفتوحة هي السماوات المباحة أمام تكنولوجيا العصر.