إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الباردة









المبحث التاسع

المبحث التاسع

التحول من مرحلة التشدد إلى التهدئة

الفترة من 1982-1984

       ما لبثت إدارة ريجان أن تبينت أن الممارسات المتشددة، لم تحقق تقدماً يذكر في مسائل السياسة الخارجية، بل على العكس هددت عدداً من الإنجازات التي حققتها إدارات سابقة مثل التقارب مع الصين، كما خلقت توترات في العلاقة مع الحلفاء الأطلسيين، وفي الشرق الأوسط الذي تصاعد فيه الصراع والتوتر، واحتمالات التورط الأمريكي فيه نتيجة للغزو الإسرائيلي للبنان، الذي ساد الاعتقاد بأن سياسات هيج في التركيز على التحالف مع إسرائيل قد شجعت عليه.

       لذلك ظهرت الحاجة، لا إلى التخلي عن المرتكزات الرئيسية لفكر الإدارة وسياستها، وإنما لإيجاد عنصر توازن في توجهاتها وممارساتها، وكان من مقدمات ذلك تعيين جورج شولتز وزيراً للخارجية في يونيو عام 1982، وبدأت في الظهور اتجاهات تغير ملحوظ في الأسلوب، وإلى حد مـا في المضمون. ومرة أخرى لم يكن ذلك يعنى انفصال الرئيس الأمريكي عن نظرته العاطفية التي تجد جذورها في غريزته السياسية وأيدلوجيته، وإنما لتعرضه لحقائق العالم، واكتسابه للخبرة العملية بشئونه، وهي الخبرة التي أظهرت له الحاجة إلى قدر من المرونة والواقعية، الأمر الذي أظهر معه ريجـان قابلية واستعداداً للتغير، والاستجابة للمتغيرات الدولية الجديدة. كذلك ساهم في تعزيز هذا الاتجـاه مجيء جورج شولتز وزيرًا للخارجية في يونيه عام 1982، ولم يكن ذلك لأنه كان يختلف عن ألكسندر هيج في توجهاته الأساسية ولكن لنمط شخصيته وخصائصها[1]  وأسلوبه الهادئ، وتحرره من الطموح السياسي، وإدراكه للطابع المعقد للقضايا، والاستعداد للحلول الوسطى، وأكثر من هذا قدراته على بناء علاقات عمل متناسقة مع شخصيات الإدارة، والعمل بروح الفريق.

       وقد بدأ المراقبون يرصدون محاولات إدخال عناصر جديدة من المرونة في سياسات الإدارة والتي بدأت تظهر في:

1. البدء في إعطاء قدر من الاهتمام لمحادثات الحد من التسلح، وذهبت في هذا إلى التقدم بمقترحات أكثر مرونة من مقترحاتها السابقة المعروفة بـ Zero option والتي كانت تطالب بسحب السوفيت لصواريخهم مقابل عدم إقامة صواريخ برشنج وكروز في أوروبا، واقترحت بدلاً من ذلك الاتفاق على أعداد متساوية من الصواريخ على الجانبين على أقل مستوى تقبله موسكو.

2. رفع الحظر عن الشركات الأوروبية والأمريكية التي تبيع التكنولوجيا بمشروع غاز سيبيريا، وأنهى بذلك التوتر الذي نشأ في العلاقة مع الأوروبيين حول هذا الموضوع.

3. كما بدأت الإدارة الأمريكية تخفض من الربط الصارم الذي كانت تقيمه بين ما تطالب به السوفيت من تغيير سلوكهم في المناطق الإقليمية، وبين التقدم على جبهات أخرى، واعتبر شولتز أن هذه السياسة لم تكن في صالح الولايـات المتحدة الأمريكية ، وضرب مثلاً على ذلك بقرار حظر بيع القمح للاتحاد السوفيتي خلال إدارة كارتر.

4. كذلك بدأ شولتز يعالج بهدوء العقبة الرئيسية في العلاقة مع الصين. وهي مبيعات السلاح الأمريكي لتايوان حيث توصل الطرفان إلى اتفاق تعهدت فيه الإدارة الأمريكية بأنها "لا تنشـد اتباع سياسات طويلة الأجل لمبيعات السلاح لتايوان، وفي هذه المبيعات التي تزيد سواء في الكم أو الكيف عن مستوى السنوات الماضية، وأنها تعتزم تدريجياً تخفيض مبيعاتها من السلاح لتايوان، عبر فترة من الزمن يتم فيها التوصل إلى اتفاق نهائي..".

5. وبينما تجاهلت الإدارة الأمريكية في عامها الأول العناصر المحلية في النزاع العربي ـ الإسرائيلي، وركزت بدلاً من ذلك على ما تتصور أنه يخدم إستراتيجيتها الأوسع والتنافس مع السوفيت في هذه المنطقة، وهو التصور الذي قاد كما رأينا إلى التنسيق الإستراتيجي مع إسرائيل، بعد أن فشل ألكسندر هيج في إقناع العرب بمفهومه حول: التوافق الإستراتيجي، نجد أن عهد شولتز شهد تقدم الإدارة بما عرف بمبادرة ريجان للشرق الأوسط، والتي تضمنت عدداً من العناصر التي تعالج مسائل رئيسية وضرورية لتقدم عملية السلام في المنطقة، مثل دعوتها لتجميد المستوطنات الإسرائيلية.

       غير أن عناصر التوازن التي كانت قد بدأت تدخل السياسة الأمريكية خلال إدارة ريجان ما لبثت أن تراجعت بحيث لم يظهر أي تأثير إيجابي في مسار العلاقات الأمريكية- السوفيتية، وكان ذلك بفعل ثلاثة تطورات رئيسية:

1. الإعلان عن مبادرة الدفاع الإستراتيجي:

       في 23 مارس عام 1983، ألقى ريجان خطاباً ضمنه فقرة عن برامجه للتسلح، دعا فيها العلماء الأمريكيين أن يتوصلوا إلى وسائل لجعل الأسلحة النووية، عقيمة وبالية، وفصل ذلك بقوله: "ألن يكون من الأفضل أن ننقذ الحياة أكثر مما ننتقم لها، ألسنا قادرين أن نثبت نوايانا الطيبة والسلمية باستخدام كل قدراتنا وعبقريتنا للوصول إلى استقرار دائم ؟ أظن أننا قادرين، بل ويجب علينا.. فبعد مناقشات دقيقة مع مستشاريه بما فيهم رئيس الأركان، أعتقد أن هناك وسيلة لذلك، ودعوني أشاركهم هذه الرؤية للمستقبل التي تقدم الأمل، إننا نشرع في برنامج لمواجهة الصواريخ السوفيتية المهددة بإجراءات دفاعية. ودعونا نتحول إلى قوتنا التكنولوجية التي أقامت قاعدتنا الصناعية والتي أعطتنا نوعية الحياة التي نتمتع بها اليوم. بهذه الاعتبارات في وضعنا اليوم، فكنت أدعو علماءنا، ومجتمعنا العلمي، هؤلاء الذين أعطونا الأسلحة النووية، أن يحولوا قدراتهم العظيمة لقضية البشرية والسـلام، وأن يقدموا لنا وسائل جعل هذه الأسلحة النووية عقيمة وبالية".

       وأوضح ممثلو الإدارة في التوضيحات التي قدموها لهذه الفقرة أن الهدف الأول من هذه المبادرة هو تطوير طرق ووسائل تدمير الصواريخ المعادية بسلسلة من الهجمات عبر كل طرق طيرانها، منذ لحظة إطلاقها حتى دخولها مجال الولايـات المتحدة الأمريكية ، وقد افترضت الإدارة بمشروعها هذا استخدام التكنولوجيا الحديثة لبناء درع Shield في الفضاء ضد الصواريخ المهاجمة، بحيث يصبح الحد الأدنى لما يقدمه هو المساعدة على حماية الصواريخ الأمريكية، وسد الثغرة التي نتعرض فيها للخطر ولحماية المدن الأمريكية. كما ذهب ممثلو الإدارة وريجان نفسه بعد ذلك إلى أنه إذا ما تطـورت هذه الأسلحة الإستراتيجية الدفاعية الشاملة فإنه يمكن مشاركة السوفيت فيها، فضلاً عن استخدامها غطاء لأوروبا. وهكذا تصورت الإدارة أن المبادرة هي ثورة تكنولوجية سوف تجعل الأسلحة النووية الهجومية شيئاً عديم الفائدة، وأنه بناء على مستوى الدفاع المطلق فإن مفهوم الردع النووي الذي حكم المعادلة النووية خلال العقود الماضية سوف يختفي.

       وقد أثار الإعلان عن المبادرة جدلاً واسعاً في الولايـات المتحدة الأمريكية بين من أيدوها على نفس الخطوط التي قدمتها الإدارة، وبين من خالفوها ورأوا أنها غير قابلة للتحقق فنياً.

       أما في الاتحاد السوفيتي فقد جاء رد الفعل حاداً ومباشراً، ووصل إلى درجة تشبيه ريجان بعد إلقائه لخطابه بهتلر، أما على المستوى الإستراتيجي فقد رأوا أن هدف المبادرة الرئيسي هو قلب وتغيير المعادلة الإستراتيجية بين القوتين، وحصول الولايـات المتحدة الأمريكية على فرصة الضربة الأولى، الأمر الذي يغير أساساً من الأسس التي بنيت عليها اتفاقيات سولت الأولى، ومبادئ التعادل والأمن المتبادل، وبشكل عام رأى السوفيت في المبادرة مرحلة جديدة ومتقدمة في صراع التسلح بين القوتين، تدفعه الولايـات المتحدة الأمريكية إلى مجال جديد، هو مجال الفضاء، أو ما عبروا عنه بـ Miniaturization of Space.

       وبعبارة أخرى رأي الاتحاد السوفيتي أن الأسـاس الذي يجعل الاتحاد السوفيتي قوة أعظم سوف يزال بمبادرة الدفاع الإستراتيجي.. وأكثر من هذا فإن خلق درع مضاد للصواريخ سوف يجعل من الممكن نظرياً أن تشن الولايـات المتحدة الأمريكية هجوماً فجائياً بدون خوف من الانتقام. أما الموقف الآخر الذي عبرت عنه التعليقات السوفيتية ووصفته بأنه مخيف، فهو أن يضطر الاتحاد السوفيتي إلى الدخول في سباق تكنولوجي آخر ومكلف، قد لا يقوى عليه، ومن المحتمل أن لا يفوز فيه. وقد بلور آندربوف رد الفعل السوفيتي في مقابلة مع جريدة البرافدا في 26 مارس اتهم فيها ريجان بالكذب المتعمد حول قوة الاتحاد السوفيتي العسكرية، وقال إن الـSDI  هي خطة لنزع سلاح الاتحاد السوفيتي في مواجهة التهديد الأمريكي النووي.

2.إسقاط طائرة الخطوط الجوية الكورية:

       في 28 سبتمبر 1983 أسقط الاتحاد السوفيتي طائرة تابعة للخطوط الجوية الكورية الجنوبية فوق الأراضي السوفيتية واتهموها بالقيام بأعمال تجسسية، وراح ضحية هذا الحادث 279 من بينهم أمريكيون. وقد أثار هذا الحادث غضباً شديداً في الولايـات المتحدة الأمريكية، واستخدم من جانب القوى التقليدية لإثبات صحة تصوراتها عن السلوك السوفيتي ونواياه، بل ذهب الرئيس الأمريكي نفسه إلى القول "أن السوفيت بهذا الحادث قد أثبتوا أنهم غير مؤهلين لأن يكونوا أعضاء في الأسرة الدولية". ومنعت السلطات الأمريكية طائرة وزير الخارجية السوفيتي، جروميكو من الهبوط في نيويورك لحضور اجتماعات دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة. وقد جاء رد الفعل السوفيتي متفقاً مع النمط التقليدي، وخاصة في المناسبات التي يتصور أنها تمس أمنه القومي إذ رأى أن هذا الحادث يرتبط بصميم الأمن القومي السوفيتي، وأنه لا يستحق الاعتذار من جانبهم، بل وذهب جروميكو وهو يواجه عاصفة الاحتجاج في اجتماع لمؤتمر الأمن الأوروبي في مدريد إلى أن الاتحاد السوفيتي "سوف يفعل نفس الشيء إذا ما تكرر هذا الحادث".

       غير أنه مما تجدر الإشارة إليه أنه رغم الغضب والاحتجاج الذي أثاره هذا الحادث في الولايـات المتحدة الأمريكية ، إلا أن الإدارة الأمريكية اختارت أن لا تتعرض لأمور جوهرية في العلاقات مع الاتحاد السوفيتي، فلم توقف صفقة القمح التي كانت قد وقعت قبل الحادث، وأهم من هذا لم تؤجل اجتماعات جنيف حول الحد من التسلح.

3. فشل التوصل إلى اتفاق حول الصواريخ المتوسطة المدى في أوروبا:

       كان القرار الذي اتخذه الناتو في ديسمبر 1979 بنشر صواريخ برشنج وكروز الأمريكية في الأراضي الأوروبية قد قام على أساس ما عرف بـDual Track، ويقضى بأن يتم نشر الصواريخ الأمريكية إذا لم يتم التوصل إلى الاتفاق في المفاوضات التي ستجرى مع الاتحاد  السوفيتي حول صواريخه SS 20، وحدد لهذه المفاوضات موعداً هو ديسمبر عام 1983. ولما لم يتوصل إلى اتفاق في هذا التاريخ، نفذت أقطار الناتو قرارها، وبدأ بالفعل وصول الصواريخ الأمريكية إلى ألمانيا الغربية وبريطانيا، الأمر الذي رد عليه الاتحاد السوفيتي بالانسحاب من المفاوضات، دون تحديد موعد للعودة إليها، ولم يقتصر انسحاب السوفيت من هذا المستوى من المفاوضات المتعلق بالصواريخ المتوسطة المدى، بل شمل كذلك الانسحاب من محادثات الأسلحة الإستراتيجية Start، ومحادثات الخفض المتوازن والمتبادل للأسلحة التقليدية في أوروبا.

       وقد وصف الأثر الذي تركه انسحاب السوفيت من مفاوضات الحد من التسلح، ووقف المفاوضات بأنها تركت القوتين العظمتيين للمرة الأولى منذ 14 عاماً بدون محادثات حول تقييد التسلح من أي نوع، بل دون أي صلات دبلوماسية منظمة. وقد أدى هذا المناخ ببعض مؤرخي العلاقات الأمريكية السوفيتية إلى أن يصفوا سياسة ريجان بعبارات قاسية، وعدوها مسئولة عن الجمود، إن لم يكن التدهور في علاقات القوتين، فقد كتب والتر لافير ".. مع اقتراب نهاية سنوات ريجان الأربعة في البيت الأبيض، فإن أحد نتائجها هو تحول العلاقات الأمريكية السوفيتية، كما عبر بقلق أحد مستشاري ريجان العسكريين "إلى أسوأ ما تصيبه ذاكرتي"، كما وصف هذه السياسة بالفشل وبالجمود الأمريكي، الذي منعته ومنعت مستشاريه من فهم علاقات القوى الجديدة". كما جعل هذا الوضع جورج كينان يصف حالة العلاقات الأمريكية السوفيتية في هذا الوقت بأن المعنى الوحيد لسلوك القوتين هو أنهما يندفعان بشكل عنيد نحو الحرب.

       وهكذا اكتملت حلقات التراجع والتدهور في العلاقات الأمريكية السوفيتية على كافة الجبهات الأيديولوجية، والثنائية، ثم في أخطر مجالاتها وهو مجال التسلح، والفشل في التوصل إلى اتفاقيات تسهم في ترشيده وكبح جماح التنافس فيه.

       وقد أعاد هذا الوضع إلى الأذهان مرحلة الحرب الباردة الأولى بافتراضاتها النظرية القائمة على العداء الأيديولوجي، وإمكانيات المواجهة وأزماتها، وتصاعد سباق التسلح، وجمود إمكانات التعاون الثنائي، وهو الوضع الذي جعل البعض يصفون المرحلة الجديدة بالحرب الباردة الجديدة، بل ظنت بعض الوجوه أنها قد تكون أخطر من المرحلة الأولى، بالنظر إلى الأبعاد التي أخذها التسلح النووي على الجانبين.

       وقد كان من الطبيعي أن تولد هذه الحالة المتدهورة للعلاقات الأمريكية السوفيتية قلقاً متزايداً سواء على المستوى الأمريكي، أو بين الحلفاء الأوروبيين، ومن الرأي العام العالمي. كمـا حدث أن توافق هذا مع حلول معركة انتخابات الرئاسة الأمريكية لعام 1984، وكادت قضية الأمن الدولي وحالة العلاقات بين القوتين، والتدهور الحادث فيها أن تسيطر على مناقشاتها. وقد استخدمها وركز عليها الديموقراطيون للهجوم على ريجان وإدارته، ورأوا أن التصورات الأساسية لريجان عن السوفيت، وأسلوبه في إدارة العلاقات معهم هي المسئولة عن الحالة التي وصلت إليها العلاقات، كما أشاروا إلى أن الرئيس ريجان هو الوحيد بين الرؤساء الأمريكيين الذي لم يجتمع مع القادة السوفيت منذ ما بعد الحرب الثانية.

       أما الجانب الجمهوري فقد اعتمد في رده على هذه الحملة على أن الأسس التي بنت الإدارة عليها سياستها والقائمة على "الواقعية، القوة والتفاوض" قد خلقت الظروف الموضوعية لعلاقات بناءة وأكثر أمناً لسنوات قادمة، كما دافعت عن غياب الاتصالات على مستوى القمة بأن ذلك يعود إلى تغير ظروف القيادة السوفيتية التي شهدت ثلاثة رؤساء خلال السنوات الثلاث الماضية.

       بدأت إدارة ريجان تبدى إشارات تصالحية تجاه الاتحاد السوفيتي، بفعل اعتبارات المعركة الانتخابية الرئاسية ،وعوامل موضوعية أخرى، وتدعو إلى أن الوقت قد حان لوقف التدهـور في العلاقات، والبدء في بناء علاقات أكثر ثباتاً. وقد رأت الإدارة أن الشروط التي اشترطتها عند مجيئها للدخول في مباحثات جادة مع السوفيت قد تحققت، فقال ريجان في خطابه الذي افتتح به الحملة الانتخابية لولايته الثانية: "لقد قطعنا شوطاً طويلاً منذ حقبة السبعينيات، وهي السنوات التي بدت فيها الولايـات المتحدة الأمريكية يملأها الشك في نفسها، وأهملت دفاعاتها، في الوقت الذي زاد فيه الاتحاد السوفيتي من قوته العسكرية، وفكر في توسيع نفوذه بالقوة المسلحة والتهديدات، ومنذ ثلاث سنوات حصلنا على تفويض من الشعب الأمريكي لأن نغير هذا الطريق، وقد فعلنا، وبتأييد من الشعب والكونجرس الأمريكي، أوقفنا الانحدار الأمريكي، فاقتصادنا اليوم يستعيد قوته بشكل أفضل منذ الستينيات، وأعدنا بناء دفاعاتنا على أساس متين، والتزامنا بالدفاع عن قيمنا لم يكن أكثر وضوحاً مما هو عليه اليوم". وقد أعاد وزير خارجيته شولتز تأييد هذا المعنى في أبريل عام 1984، فقال "لقد أعدنا الآن بناء قوتنا بحيث نستطيع الآن أن ندافع عن مصالحنا، ونثني الآخرين عن طريق العنف".

       أما الاتحاد السوفيتي فقد قابل هذه الإشارات في البداية بالشك، وعدها جزءاً من الحملة الانتخابية، وطالب "بأفعال محددة" دليلاً على حسن النية، وربط هذا بشروط مثل إزالة الصواريخ الأمريكية المتوسطة المدى من أوروبا، الموافقة على مبدأ الإعلان عن عدم البدء باستخدام القوة. كما جاء رد الفعل أكثر قوة من جروميكو خلال اجتماعات مؤتمر الأمن ونزع السلاح في استكهولم، فقد اتهم الولايـات المتحدة الأمريكية بأنها خربت محادثات الصواريخ المتوسطة المدى في أوروبا، وبالقيام بأعمال إرهابية في لبنان، وأمريكا الوسطى، ووصف السياسة الخارجية للولايات المتحدة بأنها "الخطر الرئيسى على السلام"، وقال إن تخفيف التوتر بين القوتين يجب أن يرتكز على "الأفعال، وليس على الألاعيب اللفظية" التي لجأت إليها الولايـات المتحدة الأمريكية مؤخراً، واستطرد قائلاً: أن الاتحاد السوفيتي مستعد "لمحادثات جادة" وليس "لمحادثات يمكن أن تستخدم لتغطية خطط متشددة".

       وقد توافقت هذه المرحلة مع وفاة الرئيس السوفيتي يوري آندربوف، والذي كانت تجربته مع الولايـات المتحدة الأمريكية وإدارة ريجان قد أوصلته إلى الاعتقاد، في بيان أذيع باسمه في 28 ديسمبر 1983، "أنه إذا كان لدى أي فرد أي أوهام حول إمكانية تطور إلى الأحسن في سياسة الإدارة الحالية، فإن مثل هذه الأوهام قد تبددت تماماً بالتطورات الأخيرة". وبدا أن وفاة آندربوف ومجيء ميخائيل شيرنينكو، يقدم فرصة، لإحداث تقدم في الاتصالات الدبلوماسية بين موسكو وواشنطن، وساعد على هذا حضور نائب الرئيس الأمريكي بوش جنازة أندربوف، وما كان معروفاً عن ارتباط شيرنينكو، ومن خلال علاقته الوثيقة مع برجنيف بسياسة الوفاق، وذكر في هذا خطاباً قوياً كان قد ألقاه في الدفاع عن سياسة الوفاق قبل وفاة برجنيف بوقت قصير، بل إنه وقبل شهرين من وفاة أندربوف ألمح شيرنينكو في خطاب له في 2 مارس 1984 أنه في الإمكان إيجاد طريق عكس الجمود في العلاقات الأمريكية السوفيتية، وفي هذا الخطاب قدم شيرنينكو مجموعة من المقترحات ضمنها اقتراحاً لنزع السلاح في الفضـاء ـ الأمر الذي أصبح موضع تركيز الدبلوماسية السوفيتية ـ أكثر من تركيزها على سحب الصواريخ الأمريكية من أوروبا، كما أعقب هذا باقتراح مفاجئ في 29 يونيه 1984 بالبدء في مفاوضات حول معاهدة لمنع تسليح الفضاء، وحظر النظم المضادة للصواريخ.

       وقد شجع هذا التطور في القيادة السوفيتية الرئيس الأمريكي أن يواصل إشاراته التصالحية تجاه السوفيت، ففي خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 22 سبتمبر عام1984، عدد مجموعة من الأهداف المحددة لتنظيم العلاقة مع الاتحاد السوفيتي حددهـا فيما يلي:

1. خفض وإزالة التهديد باستخدام القوة في المنازعات الدولية.

2. الشروع في مفاوضات دورية على المستوى السياسي حول المشكلات الإقليمية بهدف تفادى سوء التقدير وخفض إمكانيات المخاطرة بمواجهة أمريكية سوفيتية.

3. الاستعداد لمناقشة المسائل واسعة النطاق ذات الاهتمام المشترك مثل العلاقة بين القوى الدفاعية والهجومية وما يسمى Space Defense.

4. بناء علاقة عمل أفضل بين الولايـات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي تتميز بالتعاون الأشمل.

       ويلاحظ إبداء ريجان الاستعداد لملاقاة اهتمام الرئيس السوفيتي بموضوع أسلحة الفضاء والربط بينه وبين الأسلحة الهجومية.

       كذلك كان من الواضح أن الاتحاد السوفيتي في تقييمه لسير معركة انتخابات الرئاسة الأمريكية واتجاهها قد استخلص أن عليه أن يتعامل مع إدارة ريجان لمدة أربعة أعوام أخرى، وربما كان هـذا هو ما دفع وزير الخارجية السوفيتي إلى الاجتماع، وفي قلب المعركة الانتخابية، مع كل من وزير الخارجية الأمريكي، ومع الرئيس الأمريكي في أكتوبر 1984.

       وقد استمر هذا الاتجاه بعد انتخابات الرئاسة الأمريكية، ونجاح ريجان الساحق على منافسه الديموقراطي والتر مونديل، وبدأ الاستعداد الجدي للتوصل إلى اتفاقيات للحد من التسلح يطفو على جدول أعمال الفترة الثانية لإدارة ريجان، وقيل في هذا أن "محارب" الحرب الباردة الجديدة يريد أن يدخل التاريخ برصيد من ساهم في قضية الأمن والسلام العالمي، وأن سياساته المتشددة مع السوفيت لم تكن خلال فترة ولايته الأولى إلا توفيراً للظروف الموضوعية الملائمة لمفاوضات جادة وعلى أساس من القوة والثقة الأمريكية، واتصالاً بهذا فاخر ريجان أنه منذ جاء إلى الحكم، "لم يتوسع السوفيت بوصة واحدة".

       بدأت الإدارة الأمريكية في إطار الاستعداد لبدء محادثات الحد من التسلح، في تطوير مفاهيمها لاجتذاب الاتحاد السوفيتي من جديد إلى عملية التفاوض، وفي سبيل هذا طورت مـا عرف بـ Umbrella Talks  [2]وأرادت بهذا المفهوم أن يتضمن جميع مسائل الحد من التسلح، وأن تشمل على وجه التحديد: الصواريخ العابرة للقارات، أسلحة الفضاء، الأسلحة الكيماوية، وإجراءات بناء الثقة والقوات التقليدية في أوروبا. وقد تصورت إدارة ريجان أنها بهذا المفهوم تعطي أساساً واسعاً للمفاوضات تتعدى به أي عقبة تظهر في مستوى ما من هذه المستويات، بحيث إذا ما تعثـرت في إحداها كان هذا لا يعيق الانتقال إلى المستوى الآخر بدون إفشال المحادثات برمتها وتوقفها.

       ومن ناحية أخرى كان واضحاً أن تركيز الاتحاد السوفيتي في أية مفاوضات مقبلة سيكون حول أسلحة الفضاء والصواريخ الدفاعية، التي تبلورت في مبادرة ريجان للدفاع الإستراتيجي، فإضافة إلى رد الفعل السوفيتي المباشر من رؤية هذه المبادرة محاولة لقلب موازين القوى، ونقض لمفهوم التفاعل الإستراتيجي، فإنه لا بد أن في تصور القادة السوفيت أنه في الإمكان قبول هذا التحدي الجديد، وإنتاج صواريخ دفاعية مماثلة، أرخص مما تتكلفه مبادرة الدفاع الإستراتيجي الأمريكية، ولكن على الرغم من هذا، فإن هذا السباق الجديد في التقدير السوفيتي إذا ما استدرجوا إليه سيكون عبئاً إضافياً على قدراتهم الاقتصادية. لذلك بادرت موسكو في هذه المرحلة التمهيدية إلى اقتراح وضع Moratorium    ('موراتوريوم Moratorium تعنى الامتناع. وفي هذه العبارة، تعنى الامتناع عن اختبار جميع أسلحة الفضاء الجديدة.')على اختبار جميع أسلحة الفضاء الجديدة الأمر الذي لم تقبله واشنطن. وثار كذلك النقاش والتساؤل في هذه الفترة التمهيدية لبدء عملية المفاوضات حول مكان مبادرة الدفاع الإستراتيجي في عملية التفاوض وهل تهدف بها الإدارة أن تكون صفقة رابحة "Bargaining Chip" لدفع السوفيت أن يكونوا أكثر مرونة، والحصول منهم على تنازلات أكثر في جوانب أخرى من المفاوضات، أم أنها تمثل خطاً ثابتاً في نظام الدفاع الأمريكي؟ كانت الإدارة الأمريكية تؤكد إجابة عن هذه التساؤلات أنها لن تتخلى عن أسلحة الفضاء في مقابل خفض الأسلحة النووية السوفيتية، وأكد وزير الدفاع كاسبر واينبرجر أن مبادرة الدفاع الإستراتيجي "هي الشيء الوحيد الذي يقدم الأمل الحقيقي للعالم ولن نتخلى عنها".



[1]  عبر جورج شولتز بشكل فلسفي عن اتجاهاته بقوله في خطاب له أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر عام 1982:`إننا يجب أن ندرك الطابع المعقد لهذا العالم، كما يجب ألا نتعلق بأوهام الكمال، أو الخطط التي لا يمكن تحقيقها، أو الحلول التي تحقق من خلال الضغط. أنها مسئولية القادة أن لا يغذوا الشهية بالوعود السهلة والتأكيدات الضخمة`. كما عبر عن فلسفته العامة بعقيدة للشاعر كارل ستندبرج والتي يقول فيها أن رحاله سأل أبو الهول أن يتحدث وأن يفصح عن الحكمة التي اختزنها عبر العصور فقال أبو الهول: `لا تتوقع الكثير جداً.

[2]  المقصود بمصطلح Umbrella Talks هو المظلة التي تشمل جميع مسائل الحد من التسلح بما فيها الصواريخ العابرة للقارات IBM ، أسلحة الفضاء Space Arms ، والأسلحة الكيماوية، وإجراءات بناء الثقة.