إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الباردة









المبحث العاشر

المبحث العاشر

من المواجهة إلى التفاوض

       رغم الأزمات التي تعرضت لها سياسة الوفاق كما صاغها الرئيس نيكسون وكيسنجر منذ منتصف السبعينيات، إلا أن مجيء إدارة ديموقراطية بزعامة جيمي كارتر عام 1977، جعلت من أولوياتها استمرار البحث عن علاقة رشيدة بين القوتين في مجال سباق التسلح الإستراتيجي، مكن من التوصل إلى اتفاقية SATL-2. في يونيه عام 1979. غير أنه مثلما تدخلت في مراحل أخرى عدداً من الأزمات لتؤخر أو تعيق اتجاه التقدم، فقد تدخلت هذه المرة أزمة أخرى وإن كانت أشد وقعاً وأكثر تأثيراً وهي التدخل العسكري السوفيتي في أفغانستان في ديسمبر 1979، وهو الحدث الذي جاء ليجهز على اتفاقية سولت الثانية، بل وربما على كافة جوانب التقدم التي حققتها سياسة الوفاق في مرحلة اندفاعها الأولى، ولترتد بعلاقات القوتين إلى مناخ وافتراضات الحرب الباردة وسلوكها في أحلك أيامها.

       وقد توافق هذا التطور مع مجيء إدارة جمهورية، ورئيس أمريكي هو رونالد ريجان، الذي رأى أنه جاء بتفويض شعبي لاستعادة مكانة أمريكا وهيبتها في العالم، وعمل وفقاً لعقيدة محافظة تصور العالم مسرحاً لمواجهة بين الحق المطلق الذي تمثله الولايات المتحدة الأمريكية، والشر والرغبة في التوسع والسيطرة الذي يمثله الاتحاد السوفيتي. وكان التطبيق العملي لهذا التصور يعنى بناء القوة العسكرية الأمريكية، التي تمكن الولايات المتحدة الأمريكية إذا ما دخلت في مفاوضات حول خفض التسلح ـ أن تتفاوض "من موقع القوة"، وتأكيد الإرادة والمصالح الأمريكية أينما بدا هذا مهدداً. وقد سيطرت هذه المفاهيم على إدارة ريجان وبشكل مصمم حتى نهاية فترة ولايتها الأولى عام 1984، وشكلت توجهاتها على المستوى الأيديولوجي والعملي، والتوجهات التي وصلت معها العلاقات الأمريكية السوفيتية إلى أدنى مستوى لها منذ أزمة الصواريخ الكوبية، وأذنت بما أصبح يعرف "بالحرب الباردة الجديدة"، وهي الفترة التي نستطيع أن نحددها زمنياً منذ ديسمبر 1979، وهو تاريخ التدخل السوفيتي في أفغانستان، حتى بداية عام 1985 حين استؤنفت بشكل جاد محادثات خفض التسلح ومحاولة وقف تيار التدهور في العلاقات، وتجاوزت هذه المحاولات إلى الشروع في عصر جديد من عصور مؤتمرات القمة يذكر بفترة السبعينيات، وبلغت لقاءات القمة بين ريجان والزعيم السوفيتي ميخائيل جورباتشوف حتى مايو 1988، أربعة مؤتمرات قمة. وقد أذنت هذه اللقاءات ومضامينها بتحقيق نقلة نوعية في علاقات القوتين، بل في هيكل واتجاه النظام الدولي.

       غير أننا نوضح أن هذا التحول لم يتم بفعل نزوات طارئة لدى قادة القوتين، وإنما جاء محصلة تغيرات بطيئة وعميقة في البنية السياسية والاقتصادية والفكرية للجانبين.

مؤتمر قمة جنيف 19-21 نوفمبر 1985:

       رغم الخطوة الإيجابية في الاتفاق على اجتماع القمة بين ريجان وجورباتشوف، وبعد أن غاب هذا المستوى من الاجتماعات عن علاقات البلدين لمدة 6 سنوات، فإنه لم يكن متوقعاً التوصل فيه إلى اتفاقيات أساسية، وخاصة في مجال خفض التسلح، خاصة، وأن محادثات جنيف، ومنذ استؤنفت في مارس 1985، لم تكن قد حققت أي تقدم، ولم يكن يبدو مع اقتراب انعقاد القمة أنها ستصل إلى ذلك، فالمواقف كانت متباعدة، وفي مركزها الاختلاف حول البرنامج الأمريكي للصواريخ الدفاعية، وكان الموقف السوفيتي منه ومن علاقته بالأسلحة الهجومية ما زال مثلما عبر عنه جروميكو حين تم الاتفاق على استئناف المفاوضات في جنيف، لذلك لم يكن متصوراً في الساعات أو الأيام القليلة التي سيلتقي فيها الزعيمان اجتياز هذه العقبة، ومع هذا فإنه يمكن القول إن اجتماع القمة قد أعطى دفعة معنوية لمحادثات جنيف، وخلق إدراكاً أن كلا البلدين وزعامتهما تريدان التوصل إلى اتفاق. وذكر البيان المشترك في هذا الخصوص "أن الرئيس والسكرتير العام لمؤتمر جنيف قد ناقشا المفاوضات حول الأسلحة النووية، وأسلحة الفضاء، واتفقا على زيادة العمل في هذه المفاوضات". كما تضمن البيان المشترك بعض الجوانب الإيجابية مثل تأكيد مبدأ الاستعداد للتفاوض لخفض أسلحتهما الهجومية بنسبة 50%، وكذلك تأكيد مبدأ التعادل، والأمن المتبادل، وهي المبادئ التي يحرص الجانب السوفيتي، خاصة، على مراعاتها وتأكيدها.

       كما كانت قضية منع الانتشار النووي من المجالات التي حظيت بالاهتمام في اجتماع القمة، لأن هذا المجال هو من الموضوعات القليلة التي يتحقق حولها تفاهم مشترك يستند إلى حرصهما على عدم انتشار الأسلحة النووية إلى أقطار أخرى، وفي هذا أكد البيان المشترك أن التزام البلدين بمعاهدة منع الانتشار النووي، واهتمامهما بالتعاون مع أقطار أخرى لدعم نظام عدم الانتشار، وجذب الأطراف لم تلتزم به حتى الآن.

       ومن قضايا خفض التسلح الأخرى التي تعرض لها الجانبان هي محادثات فينا الخاصة بالأسلحة التقليدية في أوروبا. وفي هذا عبر الجانبان عن الأهمية التي يعلقانها على هذه المحادثات، وعلى التقدم فيها، وعبرا عن استعدادهما للعمل على التوصل إلى نتائج إيجابية فيها.

       ورغم أن خفض التسلح كان هو القضية المركزية في دوافع قمة جنيف وأعمالها، إلا أن ثمة قضايا أخرى حظيت بالاهتمام والمناقشة، مثل قضايا المنازعات الإقليمية، وحقوق الإنسان، والعلاقات الثنائية. وستظل مجموع هذه القضايا ـ وفقاً لهذه الأولويات ـ تشكل جدول أعمال سلسلة الاتصالات والاجتماعات على مستوى القمة، ومستوى وزراء الخارجية، والخبراء في التطور اللاحق لعلاقات القوتين.

       أما القضية التي شغلت مكاناً نسبياً في قمة جنيف ـ وكانت بطبيعة الحال اهتماماً أمريكياً ـ فكانت قضية حقوق الإنسان، وقد كانت كذلك منذ مرحلة الوفاق الأولى في السبعينيات، لذلك وجدنا أن البيانات الأمريكية التي سبقت قمة جنيف تؤكد هذه القضية، لذلك قيل إن الرئيس الأمريكي قد تحدث مع الزعيم السوفيتي، لمدة ساعة ونصف، حول موضوع حقوق الإنسان، وأن منطلقه في الحديث حول هذا الموضوع من حقيقة أن الولايات المتحدة الأمريكية هي "أمة من المهاجرين"، وأنه لا يستطيع أن يدافع عن علاقات جديدة مع الاتحاد السوفيتي، دون تعديله لأسلوب تناوله لحقوق الإنسان.

       والواقع أن المعالجة الأمريكية لقضية حقوق الإنسان في الاتحاد السوفيتي خلال السنوات الأولى لإدارة ريجان قد اتسمت بالعنف والاتهام والإدانة، أما ابتداء من قمة جنيف وما بعدها، فسيتأثر التناول الأمريكي لهذه القضية باتجاه حالة العلاقات العامة، وبالبعد عن أسلوب الخطاب العنيف، ولذلك وجدنا أن البيان المشترك لقمة جنيف يتحدث عن أن الجانبين "قد اتفقا على أهمية حل الحالات الإنسانية بروح من التعاون".

       كذلك كان من الأمور التي ثارت خلال التمهيد لعقد قمة جنيف هو ضرورة الاهتمام بعنصر الثقة بين البلدين، إذ أن غياب هذا العنصر هو مصدر التوترات وسياسات التسلح، ولذلك فإنه من المهم الشروع في دعم بناء جسور التفاهم والالتقاء بين الشعبين، وذلك من خلال الاتصالات الثقافية والعلمية، والفنية والرياضية. وهو ما اتفق عليه الجانبان في قمة جنيف، وورد في البيان المشترك تحت عنوان: Exchanges Initiative وتضمن مجالات تبادل الطلاب، والأساتذة، في ميادين العلوم، والفنون، وتبادل المنح الدراسية، والفرق الرياضية. ويتصل بهذا ما تم التوصل إليه من اتفاقية لتبادل فتح قنصليات في كل من نيويورك وكييف، وأيضاً مفاوضات لإنشاء خطوط طيران متبادلة.

       ومواصلة لآفاق الحوار الجديد التي بدأت بهذه القمة، فقد كان أهم ما اتفق عليه هو أن يتلوها قمتان: تعقد الأولى في واشنطن عام 1986، والثانية في موسكو عام 1987. كما اتفق على أن يلتقي وزراء خارجية البلدين بانتظام، وكذا خبراء الدولتين حول المسائل الإقليمية.

       وهكذا تحتل قمة جنيف مكاناً هاماً في تطور العلاقات بين القوتين، فقد جاءت بعد قرابة خمسة أعوام من انقطاع أي اتصال إيجابي وذي معنى، على كافة المستويات بين البلدين، بل ارتبطت هذه الفترة بالاتجاه إلى تعميق أسس الخلاف الأيديولوجي، وخاصة على المستوى الأمريكي ـ على التباعد العسكري، بل ودفعه إلى مستويات أكثر تعقيداً، بتصور أنها ترد على ما حققته القوة الأخرى ـ السوفيتية ـ في هذا المجال الحاسم في علاقاتهما، ومعلنة صراحة أنها لن ترتبط بمحادثات جادة في هذا المجال إلا بعد أن تعدل هذا الوضع، بل وتصل وتتحدث فيه من "مركز القوة".

       وقد أدى مجموع هذه الأوضاع السلبية إلى أن تعود افتراضات وتصورات مرحلة الحرب الباردة الأولى على المستوى الأيديولوجي، وأن يعود معها على المستوى السياسي والثنائي ـ انقطاع الاتصال وغياب التعاون، وأن يكون نتاج هذا كله ازدياد حدة التوتر، ليس فقط في علاقات القوتين، بل وفي انعكاسه على المناخ الدولي.

       من هنا تتمثل أهمية قمة جنيف ليس من زاوية ما تم التوصل فيها من اتفاقيات أو تعاقدات، فهي لم تحقق في ذلك الكثير، وإنما كانت قيمتها في كونها الحدث الذي أوقف التدهور، وسمح ببدء سريان المياه في مجرى علاقاتهما، وأذن بمرحلة جديدة تتسم بالحوار المقترن بالرغبة في خفض التوتر وتفادى المواجهة، والانتقال إلى مرحلة التعاون، وبناء علاقات أكثر استقراراً.

اجتماع ريكيافيك 10- 12 ديسمبر 1986 :

       في توقع استمرار ما بدأه مؤتمر قمة جنيف في بناء العلاقات الأمريكية السوفيتية على أسس جديدة، وانتظاراً لاجتماع قمة واشنطن الذي اتفق عليه الجانبان في لقائهما في جنيف، أشار ريجان في نهاية عهدة لأهمية قمة جنيف بقوله: "من كان يظن أن حرارة المدفأة في جنيف ستذيب جليد الحرب الباردة".

       توقع المراقبون، ودعوا، إلى أن تخطو القمة القادمة خطوة أبعد مما حققته قمة جنيف، فرغم أن هذه القمة قد جعلت العالم "أكثر أمناً" كما عبر الزعيم السوفيتي عقب القمة، إلا أن التقييم الفعلي لهذه القمة يشير إلى أنها لم تتعد تحسناً في المناخ، ولذلك فقد كانت التوقعات أن تحقق القمة التالية نتائج ملموسة وخاصة في مركز الاهتمام، وهو خفض التسلح، وكان التساؤل الذي ثار وقتئذ هو ما إذا كانت مفاوضات جنيف حول خفض التسلح، التي كانت ستبدأ في أعقاب قمة جنيف مباشرة، ستتمكن من التقريب من وجهات النظر المتباعدة حول قضايا خفض التسلح.

       ويبدو أن هذا التوقع لم يتحقق، ولم تحقق مفاوضات جنيف حول خفض التسلح من التقدم ما يسمح بعقد اجتماع قمة يصدر عنه شئ إيجابي ومحدد هذه المرة، فضلاً عن وقوع بعض التطورات السياسية السلبية التي عاقت تقدم الاتصالات السياسية.

       غير أنه رغبة في عدم انقطاع أو توقف قوة الاندفاع التي ولدتها قمة جنيف في علاقات البلدين، فقد اتُفق على أن يلتقي الزعيمان لقاء مؤقتًا Interim meeting يكون تمهيداً لمؤتمر قمة، واتفق على أن يعقد هذا الاجتماع في مدينة ريكيافيكك عاصمة أيسلندا في 10- 12 ديسمبر 1986.

       وعلى الرغم من جدول الأعمال الواسع الذي أعد لهذا الاجتماع، خاصة من الجانب الأمريكي بحيث شمل الموضوعات التقليدية مثل: المنازعات الإقليمية، حقوق الإنسان، العلاقات الثنائية، إلا أن المستوى الذي نوقشت به موضوعات خفض التسلح وشمولها، والمدى الذي ذهبت إليه، قد سيطرت على أعمال الاجتماع ووقته.

       وحدد وزير الخارجيـة الأمريكي في هذا المجال نطاق البحث في موضوعـات التسلح كالآتي:

1. إجراءات بناء الثقة.

2. مركز التقليل من الأخطار النووية.

3. الإمكانات القائمة في مجال منع الانتشار النووي.

4. الأسلحة الكيماوية.

       أما المجالات الأكثر تحديداً، والتي كانت تتناولها مفاوضات جنيف للحد من التسلح، فقد حدد شولتز مجالاتها في الآتي:

1. الصواريخ المتوسطة المدى.

2. الخفض الجذري للأسلحة الإستراتيجية.

3. أسلحة الفضاء أو ما أسماه: الدفاع عن الفضاء Space Defense

       وفي هذا الشأن تصور شولتز علاقة واضحة بين الجوانب الهجومية والدفاعية، ورأى أن هذا يشكل مضمون مبادرة الدفاع الإستراتيجي، والتي من خلالها "سيصبح مفهوم الردع أكثر استقراراً وأكثر أمناً".

       ويتصف اجتماع ريكيافيك بين مختلف لقاءات القمة الأمريكية السوفيتية، بأنه اجتماع فريد، ذلك أن كل اجتماع قمة كان تقييمه السلبي أو الإيجابي يتحدد، إلى حد بعيد، بمقدار ما أنجزه أو توصل إليه من اتفاقيات محددة، خاصة في مجال تقييد التسلح، أما اجتماع ريكيافيك فإن المفارقة تبدو في أنه رغم أنه انتهى "بالفشل" في التوصل إلى اتفاقيات محددة، إلا أنه عد وفقاً لتصور الجانبين من أكثر لقاءات القمة نجاحاً! عبر عن ذلك الرئيس الأمريكي بقوله: ".. إن أهمية لقاء ريكيافيك على الرغم من أننا لم نوقع في نهايته أي اتفاق، أننا قد توصلنا إلى هذه الدرجة من الاقتراب من هذا الاتفاق، فضلاً عن أن هذا الاقتراب الذي حققناه لم يكن يمكن تحقيقه من عدة شهور مضت"، كما ذهب وزير الخارجية الأمريكي أبعد من هذا في تقييمه لنتائج ريكيافيك فقال: "من وجهة نظرى فإنه حين ينظر الناس إلى ريكيافيك فسيرون فيه لقاء القمة، الذي تحقق فيه أكثر مما تحقق في أية قمة أخرى" . كما ذكر ريجان في مذكراته "أنها نقطة تحول كبيرة في السعي نحو عالم آمن"، أما جورباتشوف فقد وصفها بأنها "تسجل نقطة تحول في تاريخ العالم، وهي تثبت بشكل ملموس أن الوضع الدولي يمكن أن يتحسن..".

       والواقع أن هذا التقييم الأمريكي السوفيتي المشترك لاجتماع ريكيافيك قد لا يبدو مبالغاً فيه، إذا ما نظرنا إلى القدر من التفاهم الذي تحقق خلال الاجتماع حول عناصر أساسية في القوة الإستراتيجية الأمريكية والسوفيتية، وحول مسائل كانت، ومنذ أن بدأت محاولات تقييد التسلح بين القوتين تقف عثرة في سبيل التوصل إلى اتفاق، ذلك أنه خلال يومي المحادثات:

1. توصل الجانبان إلى إمكان التوصل إلى اتفاقيات غاية في الأهمية لخفض أسلحتهم الإستراتيجية إلى النصف.

2. اتفق الجانبان على سحب صواريخهما المتوسطة المدى من أوروبا- صواريخ SS 20  السوفيتية، وصواريخ برشينج وكروز الأمريكية، وأن يقوم الاتحاد السوفيتي بخفض صواريخه متوسطة المدى في الشرق الأقصى من 400 صاروخ إلى 100صاروخ، في الوقت الذي أعطى فيه للولايات المتحدة الأمريكية الحق في نشر صواريخ متوسطة المدى في الشرق الأقصى، الأمر الذي لم يكن لها من قبل.

3. لم يتمكن الطرفان من التوصل إلى اتفاق حول الصواريخ قصيرة المدى.

       والواقع أن قدراً كبيراً من التقدم الذي تحقق في ريكيافيك يرجع إلى إعادة الاتحاد السوفيتي النظر في مواقفه السابقة، فقد قبل أن يشمل تخفيض الأسلحة الإستراتيجية صواريخه من طراز SS 18 الطويلة المدى التي تتميز بالدقة الشديدة، وتحمل عشر رؤوس نووية، وتمثل جوهر القوة السوفيتية النووية، كذلك تخلى الاتحاد السوفيتي عن مطلبه، الذي ظل متمسكاً به في مفاوضات الصواريخ المتوسطة المدى في أوروبا، من ضرورة احتساب الصواريخ النووية الفرنسية والبريطانية في ميزان الصواريخ متوسطة المدى في أوروبا. أما المجال الذي قدم فيه الاتحاد السوفيتي تنازلاً تاريخياً، فهو قبوله مبدأ وإجراءات التفتيش على الموقع On Site Inspection، وهو المبدأ الذي كان يرفض مناقشته خلال كل مراحل مفاوضات الحد من التسلح، منذ أن بدأت في الخمسينيات، وكان يرى فيه محاولة لاختراق الاتحاد السوفيتي من الداخل، والتجسس على المنشآت العسكرية السوفيتية.

       وقد لخص جورج شولتز وزير الخارجية الأمريكي ما أنجزته قمة ريكيافيك بقوله في ريكيافيك "وافق ريجان وجورباتشوف على جعل حقوق الإنسان جزءاً معترفاً به، ونظامياً في جدول أعمالنا، كما توصلا إلى أساس لخفض 50% من القوى النووية والإستراتيجية للقوتين العظميين على مدى خمس سنوات، الأمر الذي عده آخرون طموحاً مستحيل التحقيق. كما توصلا إلى اتفاق حول تخفيضات في الأسلحة النووية متوسطة المدى من مجموع الأسلحة السوفيتية، التي تبلغ أكثر من 1400 رأس نووي إلى 100 صاروخ فقط وفي العالم كله، وهذا الخفض كان سيخفض بنسبة 90% الصواريخ السوفيتية SS-20 الموجهة إلى حلفائنا وأصدقائنا في أوروبا وآسيـا، الأمر الذي كان يمكـن أن يؤدي إلى وضع من Zeco-Zeco أي التصفية الكاملة لطبقة من الأسلحة النووية لأول مرة في التاريخ.. بخلاف هذا ناقش الزعيمان خطوات أخرى أبعد للاستقرار الدولي، فقد اقترح الرئيس ريجان تصفية كاملة لكل الصواريخ البلاستيكية خلال السنوات الخمس التالية، واقترح جورباتشوف تصفية كل القوى الهجومية والإستراتيجية، كما تحدثا عن التصفية الممكنة لجميع الأسلحة النووية..".

       أما ما حال دون بلورة هذا التقدم الذي تحقق في اتفاق نهائي، وانتهاء الاجتماع في صورة الفشل في التوصل إلى هذا الاتفاق، فقد كان نتيجة لإصرار الجانب السوفيتي على ربط التوصل النهائي إلى اتفاق حول العناصر السابقة، وبين تخلي الولايات المتحدة الأمريكية عن برنامج الدفاع الإستراتيجي عبر مراحله الأساسية التي تشمل: Development-Testing-Development وإن كان قد قبل أن يتسامح مع استمرار البرنامج على المستوى البحثي المعملي: Laboratory Research في الوقت الذي أعلن الجانب الأمريكي تمسكه باستمرار مبادرة الدفاع الإستراتيجي، بل ورأى أنها كانت السبب الذي أتى بالاتحاد السوفيتي إلى مائدة التفاوض[1].

قمة واشنطن: ديسمبر 1987:

       كان اجتماع قمة واشنطن ـ القمة الثالثة ـ مختلفاً تماماً عن مؤتمري القمة السابقين، جنيف وريكيافيك، ففي جنيف لم يتحقق شيء محدد، وانتهت بالفشل رغم التفاهم العريض الذي تحقق خلالها حول قضايا التسلح. أما قمة واشنطن فقد تم الإعداد لها جيداً، وصدر عنها اتفاقية مهمة هي اتفاقية إزالة الصواريخ المتوسطة المدى في أوروبا Intermediate Nuclear Forces INF وهي الاتفاقية التي تطلبت من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي تصفية الصواريخ المتوسطة المدى خلال ثلاث سنوات، والقصيرة المدى خلال 18 شهراً، وبموجبها لن يكون من حق أي طرف إنتاج مثل هذه الصواريـخ بعد إزالتها.

       وقد تضمنت الاتفاقية مفكرة تفاهم Memorandum of Understanding حول تقديم المعلومات عن مواقع صواريخ كل جانب المتوسطة، والقصيرة المدى وأعدادها وخصائصها، كما تضمنت بروتوكولات لتحديد إجراءات إزالة هذه الصواريخ، وقواعد الإطلاق والمعدات، والمعدات المساعدة، كما تضمنت أخيراً بروتوكولاً يفسر الإجراءات التفصيلية للتفتيش المرتبط بتنفيذ الاتفاقية.

       ولا تأتي أهمية هذه الاتفاقية مما ستخفضه من الترسانة النووية للقوتين ـ حيث إنها تمثل 5/1 هذه الترسانة- وإنما من حقيقة أنها أول اتفاقية لخفض التسلح توقعها القوتان منذ 15عاماً، كما تأتي أهميتها أيضاً من أنها أول اتفاقية تصف جيلاً كاملاً من مستويات الأسلحة الإستراتيجية للقوتين، وكذلك مما ارتبط بها من نظام صارم للتحقق Verification بما في ذلك عدة أشكال من الإخطار المبكر Short Notice،  والتفتيش على الموقع On Site Inspection. كما رأى بعض المحللين أن قيمتها السياسية تعلو قيمتها العسكرية.

       وقد عقب الرئيس الأمريكي على الاتفاقية بقوله: "منذ أكثر من 6سنوات في "18 نوفمبر 1981" اقترحت لأول مرة ما أصبح يعرف Zero-option، لقد كان اقتراحاً بسيطاً يمكن أن تسميه نزع السلاح ببساطة، وعلى عكس اتفاقيات الماضي، فإن اقتراحي لم يكن تقنيناً للوضع الراهن، أو بناء عسكرياً جديداً، كما لم يكن يتحدث عن مجرد التحكم في سباق التسلح، وإنما للمرة الأولى في التاريخ، تستبدل لغة "التحكم في التسلح" Arms Control و"خفض التسلح" Arms Reduction، وفي هذه الحالة، التصفية الكاملة لطبقة كاملة من الصواريخ النووية الأمريكية والسوفيتية"، كما عقب جورباتشوف بقوله: "إن 8 ديسمبر "تاريخ توقيع الاتفاقية" سيدرج في كتب التاريخ على أنه الموعد الذي سيسجل حداً فاصلاً بين عهد من الخطر النووي المتصاعد، وعهد من نزع سلاح الحياة البشرية".

       وقد أثارت قمة واشنطن، وتوقيع اتفاقية INF، ثلاث مسائل مهمة تتعلق بالمستقبل، المسألة الأولى، هي مصير مبادرة الدفاع الإستراتيجي، فقد ضاقت الهوة شيئاً ما بين الجانبين؛ لأن السوفيت أصبحوا أكثر مرونة فيما يتعلق بجانب التطوير Development، واختيار الدفاعات المسموح بها وفقاً لمعاهدة ABM لعام 1972، والمسألة الثانية التي أثارتها قمة واشنطن بالنسبة للمستقبل واتصالاً باتفاقية INF، تتعلق بالعلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الأوربيين، فقد أيدوا رسمياً الاتفاقية، إلا أن هذا المظهر السطحي كان يخفي خلافاً داخل التحالف؛ ففي الوقت الذي يرحب فيه الجمهور الغربي بتفكيك مئات الصواريخ المقامة في أوروبا، أو الموجهة ضد أهداف أوربية، فقد ظهر أن الصفوة المثقفة مختلفة آراؤها، ففي ألمانيا الغربية أيد هيلموت شميت الاتفاقية وهو الذي أدت خطبته عام 1977، حول صواريخ SS-20، إلى قرار الناتو بنشر الصواريخ الأمريكية برشينج وكروز. ومن ناحية أخرى، فإن مجموع السياسيين ومنهم الديموقراطيون الاشتراكيون وزعماء اليمين يريدون أن يمتد تقييد التسلح حالاً إلى خفض حاد أو حتى تصفية طائفة ثالثة من الأسلحة النووية وهي: النظم المتوسطة المدى "أقل من 500 كم"، كذلك كان الفرنسيون واضحين في عدائهم للاتفاقية، فبخلاف جيسكار ديستان، وإلى حد ما ميتران، شارك كثير من الاشتراكيين في هجومهم على الاتفاقية، وكانت حججهم الرئيسية تجد صداها في بريطانيا وألمانيا الغربية، حيث كان ثمة إحساس عميق بالإحباط مرة أخرى إذ أن اتفاقاً إستراتيجياً قد تم التوصل إليه بين القوتين العظميين من خلف ظهر الأوربيين، الذين أخطروا بما تم الاتفاق عليه، وطلب منهم أن يؤيدوه.

       أما المسألة الثالثة التي أثارتها قمة واشنطن فتتصل اتصالاً مباشرًا بمستقبل العلاقات الأمريكية السوفيتية؛ ذلك أن القمة، وما تحقق عنها، قد أحيت النقاش الأمريكي حول جورباتشوف وسياساته وأثارت في ذلك سؤالين: هل سيستمر جورباتشوف، وهل ستنجح جهوده في تحويل Transformation النظام السوفيتي الاقتصادي والسياسي، أم أنه مقضي عليه بالفشل بجمود النظام وبالتحالف ضده من هؤلاء الذين تهدد سياساته بقاءهم؟ والسؤال الثاني كان يتصل بالسياسة الخارجية وعما إذا كان ما يغيره جورباتشوف هو الأهداف السوفيتية التقليدية، أم مجرد الأساليب ونغمة الدبلوماسية السوفيتية؟

       وتلا ذلك خطوات إيجابية من واشنطن في مجال تقييد التسلح، استمرارًا للاتجاه الإيجابي الذي أرسته اتفاقية INF، فقد اتفق الجانبان في 5 يناير 1988 على تبادل الخبراء لزيارة مواقع الاختبارات النووية، حيث اتفق على أن يقوم فريق أمريكي من الخبراء في الاختبارات النووية بالسفر إلى الاتحاد السوفيتي في 7 يناير؛ لزيارة الموقع السوفيتي للاختبارات النووية في كازخستان، وأن يستمر هذا الفريق المكون من 20 عضواً حتى منتصف يناير، كما أعلن أن فريقاً سوفيتياً من الخبراء سيزورون الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة من 20- 23 يناير لزيارة تبادلية لموقع الاختبارات النووية في نيفادا.

       كما حدث تطور مهم آخر حين زار وزير الخارجية السوفيتي إدوارد شيفرنادزا واشنطن في 15-17 سبتمبر 1987 حيث وقع اتفاقية لإنشاء مركز لتقليل الأخطار النووية Nuclear Risk Reduction Center.

       وقد عدت هذه الاتفاقية خطوة أخرى للتقليل من أخطار الصراع الذي يمكن أن ينشأ من الحوادث Accidents،  أو سوء التقدير Miscalculation، أو سوء الفهم Misunderstanding. وقد جاءت هذه الاتفاقية لتؤسس القناة الأولى للاتصالات بين موسكو وواشنطن منذ إنشاء الخط الساخن Hot Line عام 1963.

وقد نصت المادة الأولى من الاتفاقية:

1. أن يقيم كل جانب في عاصمته مركزاً لتقليل الأخطار النووية يعمل نيابة وتحت إشراف حكومته.

2. أن يستخدم الجانبان هذا المركز لإرسال الإخطارات التي يحددها البروتوكول المرفق بهذه الاتفاقية وخاصة الإخطارات الخاصة بمنصات لإطلاق الصواريخ Ballistic, Missiles Launcheus.

3. وذلك وفقاً للمادة الرابعة من اتفاقية تقليل أو منع أخطار الحرب النووية الموقعة بين البلدين عام 1973  

قمة موسكو: 25-29 مايو 1988:

       تكاد هذه القمة تكون استمراراً لقمة واشنطن؛ إذ إن إنجازها الرئيسي هو التصديق على اتفاقية الصواريخ المتوسطة المدى بعد تصديق الكونجرس ومجلس السوفيت الأعلى عليها. كما جاءت هذه القمة، والإدارة الأمريكية ورئيسها ينهي سنواته في البيت الأبيض، لتكون القمة الرابعة التي يعقدها مع الزعيم السوفيتي على مدى ثلاث سنوات ويحول بها الصورة التي ارتبطت به وبسياساته حين جاء إلى الحكم عام 1981 من محارب إلى "صانع سلام"، ومخلفاً وراءه أساساً متيناً لتتطور عليه علاقات القوتين في اتجاه ما بدا مبشراً باستبعاد عناصر التوتر والصراع بين القوتين، وهي العناصر التي صاغت الوضع الدولي على نموذجها على مدى الحقب الماضية، ومنذ انتهاء الحرب العالمية الثانية.

       غير أن مغزى زيارة ريجان لموسكو كان كبيراً، فقد كان يزور البلد الذي أسماه من قبل "إمبراطورية الشر"، ويتحدث مع رئيسه ويشير إليه على أنه صديق. وحين سئل ريجان وهو يسير في الميدان الأحمر عن ملاحظته ووصفه السابق للاتحاد السوفيتي قال: "إنني كنت أتحدث عن زمن مضى". وقد كان جورباتشوف هو أهم من فهم مغزى ذلك؛ إذ ذكر عند وصول ريجان إلى موسكو: "من كان يظن في بداية الثمانينيات أن الرئيس ريجان سيكون هو من سيوقع معه أول اتفاقية لخفض الأسلحة النووية في التاريخ".

       ومما أعطى للزيارة مغزى خاصاً ومعاني أهم من مقابلاته الرسمية، هو تحركات ريجان في المجتمع السوفيتي وأوساطه المختلفة وجولاته مع جورباتشوف في الميدان الأحمر، واندماجه مع الناس، ثم زيارته للمنشقين السوفيت والفنانين والمثقفين والطلبة وزيارته للمؤسسات الدينية، وخطابه في جامعة موسكو وتمثال لينين يطل عليه وهو يتحدث شارحاً ومدافعاً عن مزايا الرأسمالية والمجتمع الأمريكي وحقوق الإنسان، ومن ضرورة إزالة الحواجز التي تفصل الشعوب، مشيراً لحائط برلين وأهمية إزالته.

لقاء نيويورك:

       إذا كان اجتماع قمة موسكو هو آخر اجتماع قمة رسمي بين ريجان وجورباتشوف، فإن الزعيمين قد التقيا في ديسمبر 1988 حين توجه جورباتشوف إلى نيويورك لحضور اجتماعات دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو الاجتماع الذي تم بناء على طلب من جورباتشوف وبترحيب من ريجان. كما أتاح هذا الاجتماع الفرصة لكي يلتقي جورباتشوف مع جورج بوش الرئيس المنتخب الجديد للولايات المتحدة الأمريكية.

       ويرتبط هذا اللقاء، فيما يتصل بمضمون العلاقات الأمريكية السوفيتية الجديدة، وبأكثر من هذا باتجاهات السياسة الخارجية السوفيتية وتصورها للمستقبل، يرتبط بالخطاب الذي ألقاه جورباتشوف أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في 8 ديسمبر 1988. في هذا الخطاب، فضلاً عمّا أعلنه عن خفض القوات المسلحة السوفيتية، من جانب واحد، بمقدار 500 ألف جندي بما فيها القوات السوفيتية في بلدان حلف وارسو، قدم جورباتشوف تصوره للعلاقات الدولية والنظام العالمي "الجديد" والشعوب التي تحكمها، وما تفرضه من أساليب وطرق جديدة للتعامل معها. فقد ركز جورباتشوف على ما أحدثته الثورة العلمية والتكنولوجية من تحويل العديد من المشكلات المتعلقة بالاقتصاد والطعام، والطاقة، والمعلومات، والسكان، وهي المشكلات التي كان العالم يتعامل معها حتى وقت قريب بوصفها مشكلات محلية وإقليمية، إلى مشكلات عالمية يصعب حلها إلا في إطار عالمي، كما ربط بين التطور الذي حدث في وسائل المواصلات والاتصالات، وبين ما أسماه بصعوبة الإبقاء على "المجتمعات المغلقة" Closed Societies. كذلك قال إن الاقتصاد العالمي، قد أصبح كياناً عضوياً واحداً Single Organism لا تستطيع دولة خارجة أن تنمو وتتقدم تقدمًا طبيعيًا أياً كان النظام الذي تنتمي إليه، وأياً كان المستوى الاقتصادي الذي بلغته. هذا التطور هو الذي أنتج عالماً جديداً يجب أن نسلك له طرقاً مختلفة نحو المستقبل وإن كانت لا تتجاهل الخبرة المتراكمة، إلا أنها يجب أن تراعي الخلافات الجذرية بين ما كان قائماً بالأمس، وما يحدث اليوم.

       وبإشارة واضحة إلى دول شرق أوروبا، والأسس التي يجب أن تحكم علاقة الاتحاد السوفيتي معها، تحدث جورباتشوف عن مبدأ "حرية الاختيار" Freedom of Choice، الذي يجب أن يستند إلى احترام وجهات نظر الآخرين ومواقفهم، والاستعداد لرؤية ظاهرة مختلفة أنها ليست بالضرورة سيئة أو معادية، والقدرة على التعلم للعيش جنباً إلى جنب، في الوقت الذي نظل فيه مختلفين، ولسنا على اتفاق حول كل قضية.

       وحول القضية التي ظلت دائماً في جوهر الخلافات الأمريكية السوفيتية ـ وهي قضية حقوق الإنسان ـ ذكر جورباتشوف "إن أكثر الطرق ملاءمة لدولة ما لكي تعلن عن احتفالها بإعلان حقوق الإنسان، هو أن تحسن الظروف الخاصة في بلدها، لمراعاة الدفاع عن حقوق مواطنيها، ومعلناً أنه لم يعد في الاتحاد السوفيتي معتقل واحد بسبب آرائه السياسية".

 



[1]  مع نهاية عام 1986 وصف ريجان مبادرة الدفاع الإستراتيجي بأنها `الدرع التي يمكن أن تحمينا من الصواريخ النووية مثلما يحمى السقف العائلة من المطر`- كما وصفها تقرير لمعهد ستانفورد بأنها ضمان `للسلام الأمريكي` للقرن القادم.