إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الباردة









المبحث الثاني عشر

المبحث الثاني عشر

الولايات المتحدة الأمريكية ونهاية الحرب الباردة

       لقد وضح الرئيس الأمريكي جيمي كارتر أن المسرح الأمريكي في نهاية فترته الرئاسية كان في حالة سيئة، أسماه كارتر نفسه حالة الوعكة Malaise التي مرت بها الولايات المتحدة الأمريكية مع نهاية السبعينيات، وتأثرت معها مكانتها الدولية وهيبتها التي تعودتها. وقد بدأت هذه الصورة تتضح بعد سقوط شاه إيران، الذي كان يعد ركيزة للإستراتيجية الأمريكية في منطقة مهمة، ولم يقتصر الأمر على أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تستطع أن تفعل شيئاً لإنقاذه، بل بدت وكأنها قد تخلت عنه، ثم تداعيات سقوطه فيما تعرضت له الهيبة الأمريكية على يد الثوريين الإيرانيين في قضية الرهائن وفشل محاولة إنقاذهم. كما ارتبط الوضع في الشئون الخارجية بتراجع الوضع الاقتصادي والداخلي من ارتفاع نسبة التضخم وارتفاع أسعار الفائدة. وكما أشرنا فقد كانت هذه الظروف وراء نجاح مرشح الرئاسة الجمهورية رونالد ريجان الذي قاد حملته الانتخابية على أساس استعادة مكانة أمريكا الدولية والتصدي للقوة الدولية المنافسة، وبناء اقتصاد أمريكي قوي.

       وعلى الرغم من أن سياسات ريجان المتشددة تجاه الاتحاد السوفيتي، وبناءه العسكري بأبعاده الجديدة قد حققت ما هدفت إليه فيما يتصل بالعلاقة مع الاتحاد السوفيتي، وأن ريجان في حملته الانتخابية لولايته الثانية استطاع أن يفاخر بأن: الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت عالية القامة مرة أخرى American is tall again إلا أن هذا لم يمنع محاولة البحث في الذات، وإعادة تقييم الأوضاع الأمريكية فيما يتعلق بحقائق القوة الأمريكية، وخاصة في علاقاتها النسبية مع قوى جديدة، وخاصة على المستوى الاقتصادي والإنتاجي والتكنولوجي، وهي قوى وإن لم تكن قوى معادية بالمعنى السياسي والعسكري، فإنها يمكن أن تكون كذلك بالمعنى الاقتصادي والإنتاجي. وهو الأمر الذي جعل مدير وكالة المخابرات الأمريكية يقول: "إن حلفاءنا السياسيين والعسكريين هم أيضاً منافسونا الاقتصاديون.. وأن آثار قدرة هؤلاء المنافسين على الاستيلاء والسيطرة على الأسواق في المستقبل لهو أمر خطير جداً..".

       وعلى الرغم من بدء الشعور بهذا الوضع المتغير على المستوى الرسمي، لاسيما من خلال ما بلغه حجم العجز في الميزانية الأمريكية، الذي كان قد وصل مع منتصف الثمانينيات إلى ألف مليار دولار، فإن البحث الحقيقي والعميق في الذات ونقص حقائق ومؤشرات الوضع الأمريكي كان يجري أساساً في الأوساط الأمريكية الأكاديمية، وهو ما تبلور حول ما عرف بمدرسة الاضمحلال School of Decline، وهي المدرسة التي قامت بفحص أوضاع القوة الأمريكية ومكوناتها الفعلية، والمتغيرات الداخلية والدولية التي ألمت بها في الحقبة الماضية، مما رأته يهدد بتراجع مكانة الولايات المتحدة الأمريكية، القوة الدولية الأولى في العالم، كما راحت تستخلص مظاهر التراجع الأمريكي في الميادين الثقافية والاقتصادية والسياسية.

       وقد انتهت هذه المدرسة في توصيف الوضـع الأمريكي، كما رأته، إلى ثلاثة افتراضات رئيسية:

1. فقد رأت أن الولايات المتحدة الأمريكية تتراجع على المستوى الاقتصادي مقارنة بقوى ثلاث هي اليابان، وأوروبا الغربية، والدول الصناعية الجديدة، وقد سجلت هذا التراجع في تركيزها على الأداء الاقتصادي، وعلى العناصر العلمية والتكنولوجية والتعليمية المرتبطة بهذا الأداء.

2. لمّا كانت القوة الاقتصادية هي العامل المركزي في قوة أية أمة، فإن أي هبوط في القوة الاقتصادية سيؤثر في الأبعاد الأخرى لقوة الأمة.

3. أن الانحدار النسبي للقوة الاقتصادية الأمريكية إنما يرجع بالدرجة الأولى إلى إنفاقها الكثير جداً على الأغراض العسكرية نتيجة لاحتفاظها بارتباطات والتزامات خارجية لم تعد تقوى عليها. وقد انتهت هذه المدرسة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية إنما تكرر وتواجه في هذا نفس المشكلات التي واجهتها قوى إمبريالية سابقة.

       وعلى الرغم من أن هذه الظواهر التي سجلها المراقبون للمسرح الأمريكي الداخلي وللوضع الدولي كانت تتفاعل في المجتمع والسياسة الأمريكية منذ أوائل الثمانينيات، إلا أنها كانت قد بدأت تتبلور مع اقتراب نهاية الولاية الثانية لإدارة الرئيس الأمريكي ريجان عام 1984، وأصبح من الواضح أن القضايا الرئيسية التي تشغل السياسة الأمريكية أصبحت تدور حول قضيتين: الأولى، ما يمثله العجز في الميزانية "أكثر من مائة مليار دولار"، والثانية حول علاقة الوضع الاقتصادي ومؤشراته بالسياسة الخارجية وهي العلاقة التي جعلت هنرى كيسنجر وسايروس فانس يكتبان "أن السياسة الخارجية والداخلية أصبحتا تعتمدان على بعضهما البعض بشكل متزايد، وأن القوة  الاقتصادية هي العامل المحوري بالنسبة للطريقة التي ينظر بها إلى أمريكا من جانب حلفائها وخصومها، وأن القيادة السياسية الأمريكية للعالم لا يمكن أن تستمر إذا ما استمر تقوض الثقة في الاقتصاد الأمريكي من خلال عجز كبير في التجارة والميزانية.

       وخلال التمهيد لحملة انتخابات الرئاسة عام 1984، احتلت نظرية اضمحلال القوة الأمريكية مكاناً واسعاً في أدبيات هذه الحملة، وخاصة من جانب الحزب الديموقراطي، وأوضحت استفتاءات الرأي العام أن الناخبين أكثر اهتماماً بأن يكون الرئيس الجديد معنياً "بأن يدعم الاقتصاد أكثر من حمايـة الأمن القومي بمفهومه العسكري"، كما اتخذت أبعاداً أكثر فيما يتعلق بمفهوم الأمـن القومي، ففي استفتاء للرأي العام في مارس عام 1988، أعرب 59% من الأمريكيين أن "المنافسة الاقتصادية تفرض تهديداً أعظم للأمن القومي من خصومنا العسكريين لأنها تهدد وظائفنا وأمننا الاقتصادي". ومن هنا اتسع مفهوم الأمن القومي ليشمل التركيز على القوة الاقتصادية. وهكذا امتد التوسع في أولويات ومفهوم الأمن القومي إلى انتخابات الرئاسـة عام 1988، حين أعلن المرشح الجمهـوري بوش أن "النمو الاقتصادي هو الآن من أمور السياسة الخارجية مثلما هو من أمور السياسة النقدية".

       أما القضية الثانية التي واجهت صانعي السياسة الأمريكية مع نهاية الثمانينيات، فقد كانت تتعلق بإعادة ترتيب الأوضاع والأولويات، وكان هذا أساساً بفعل تراجع القضية التي كانت توجه وتسيطر على السياسات الأمريكية خلال الأربعين عاماً الماضية ألا وهي تصور ما تمثله القوى العسكرية السوفيتية من تهديد للولايات المتحدة الأمريكية والعالم الغربي. وقد بدا إدراك تراجع هذا التصور بوضوح في التقرير السنوي الذي يصدره البنتاجون تحت عنوان "Soviet Military Power" إذ انتهي إلى القول: "اليوم فإن احتمال صراع بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي ربما كان أقل مما كان عليه في أي وقت مضى في فترة الحرب الباردة"، كما نجد أن الأدميرال وليم كرو رئيس هيئة الأركان يقول: "إن كل مؤشرات البيئة الإستراتيجية إنما تمر بمرحلة انتقالية".

       كذلك نجد أن إدراك الظروف الدولية المتغيرة، يطفو في الحملة الانتخابية للرئاسة عام 1988، ويعبر عن هذا المرشح الجمهوري بوش بقوله: "إن عصر ما بعد الحرب قد انتهى، وبدأنا عصراً ثورياً جديداً". غير أنه إذا كان قد أدرك قدوم هذا العصر الجديد، إلا أنه لم يستطع أن يحدد بوضـوح خصائص هذا العصر الثوري الجديد، فالإحساس بالانتقال والتحول كان أقوى من الإحساس بالوجهة التي تتجه إليها العلاقات الدولية. وإذا كان ما ذكره بوش قد عبر عما بدأ يشيع في الحياة السياسية الأمريكية بأن فترة الحرب الباردة في سبيلها إلى الانتهاء ـ وهو نفس التصور الذي بدأ يشيع بين بقية حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية ـ إلا أنه لم يكن من الواضـح أن لديهم تصوراً حقيقيـاً لما تحمله هذه الحقبة الجديدة، وما هو شكل العالم الجديد، وأهم من هذا ما الذي ستكون عليه الأدوار والمسئوليات الأمريكية.

       غير أنه رغم هذا الغموض الذي أحاط بخصائص المرحلة الجديدة، فإن ثمة عناصر رئيسية كانت واضحة من أهمها النظرة الحميدة Benign التي بدأ ينظر بها إلى الاتحاد السوفيتي، وما أصبح عليه الاعتقاد الغالب أن أساس العلاقات بين الشرق والغرب يتحول بشكل سريع من الاحتواء والمواجهة إلى التعاون.

       أما المترتبات العملية لهذا التصور فهي أنها قد وضعت الأساس لإعادة تقييم المخصصات والموارد الأمريكية وتوجيهها بين البرامج والسياسات الداخلية والخارجية. وكان العنصر الفعـال في هذا التوجه ليس فقط تراجع الإحساس بالتهديد السوفيتي، وإنما أيضاً إعطاء مزيد من الاهتمام بالمشكلات الداخلية وبإدراك واضح أن قضايا مثل التعليم، والبيئة، والرعاية الصحية لم يوجه إليها الاهتمام الكافي خلال إدارة ريجان، وفي أول ميزانية للرئيس الجديد نجده يعلن أن المبالغ التي كانت إدارة ريجان قد خصصتها لزيادة الإنفاق العسكري بنسبة 20% ستحول إلى البرامج الاجتماعية مثل التعليم والحرب ضد المخدرات، وتوفير المساكن لمن لا مأوى لهم وحماية البيئة.

       ونتيجة لتزايد الإدراك لجوانب القصور في الأوضاع الاجتماعية ارتفعت أصوات تعبر عن الحاجة إلى "بريستوريكا أمريكية" مركزة على الحاجة إلى تجديد أمريكا لرصيدها البشرى، ومزيد من الاهتمام ببرامج البحوث ، والرعاية الصحية، ونظم التعليم والتدريب، كما وجهت هذه الأصوات إلى ما أسمته وضع وظروف أبناء العالم الثالث الذي تعيشه 5/1 أبناء الشعب الأمريكي، مشيرة إلى أنه عام 1988، يعيش 13% من المجتمع الأمريكي، أو ما يقارب 32 مليوناً، في حالة فقر وفقاً للمعايير الرسمية، كما أن أرقام من لا مأوى لهم تتراوح ما بين عدة مئات من الآلاف وبين 3 ملايين، ووفقاً لتقرير نشر حول الجوع بين الأطفال، فإن ما يقدر بـ 5.5 مليون طفل تحت سن 12 عاماً يعيشون في الولايات المتحدة الأمريكية في حالة جوع.

       وقد ساهم الاقتصادي الأمريكي الشهير جون كينيث جالبريث في هذا الحوار ونبه إلى "أن ثمة واقعاً داخلياً يجب على الولايات المتحدة الأمريكية أن توجه أنظارها إليه وهو أن أعداداً من المواطنين الأمريكيين، ليسوا أقل من عدد مواطني ألمانيا الشرقية، محرومون من الحرية، فليس هناك شئ يعوق التعبير عن الحرية الشخصية من قهر الفقر، وليس هناك ما يفرض الصمت أكثر من الجهل، وليس هناك ما يدعم الحرية أكثر من المال، وفي المدن الأمريكية هناك ملايين ليس لديهم مأوى أو طعام أو عناية طبية.." بل وذهب جالبريث إلى القول بأنه مثلما عبر أهالي برلين الشرقية أو ليبزج عن سخطهم، فإن هؤلاء الأمريكيين الذي لا صوت لهم الآن يمكن أن يعبروا يوماً عن عدم رضاهم. وسيكون من بعد النظر إعادة توجيه جزء من الميزانية العسكرية الحالية لخدمة الحاجات المدنية ودعم الحرية في الداخل".

هل كانت إدارة ريجان وسياساتها وراء إنهاء الحرب الباردة؟

       إن التطور الذي حدث في العلاقات الأمريكية السوفيتية خلال سنوات إدارة ريجان، خاصة في ولايته الثانية 1984- 1988، لم يقتصر على أحداث هذه النقلة النوعية في العلاقات وتحويلها بشكل حاسم من المواجهة إلى التفاوض والتعاون فحسب، وإنما تعدى ذلك إلى تجريدها من عناصر ومصادر التوتر الكامنة، والتي كانت من دوافع الحرب الباردة بالشكل الذي تطورت إليه بعد الحرب الثانية. وبسبب أبعاد التطور الذي حدث في نهاية الثمانينيات سيناقش المؤرخون سؤالاً جوهرياً عما إذا كان رونالد ريجان وإدارته قد هدفوا في المقام الأول إلى إحداث هذا التطور ووفق تصميم مسبق، أم لا؟

       بطبيعة الحال فإن ريجان وشخصيات إدارته يرون في أنفسهم القوة الدافعة وراء هذا التحول، وأن سياساتهم التي اتبعوها منذ مجيئهم إلى السلطة تجاه الاتحاد السوفيتي على المستوى الإيديولوجي، والعسكري بتصميم على بناء القوى العسكرية الأمريكية وعدم التفاوض إلا من مركز القوة، وتصديهم للسياسات السوفيتية في المناطق الإقليمية كانت من العوامل الحاسمة وراء التحول في التفكير السوفيتي ومراجعته لسياساته التقليدية، وقد بلور رونالد ريجان هذا التفكير في خطبة الوداع التي ألقاها مع نهاية فترته حين قال: "لقد كنا نهدف إلى تغيير الأمة، وبدلاً من ذلك فقد غيرنا العالم".

       ويفصل أنصار مدرسة ريجان، فيرون أن حملة ريجان الأيديولوجية ضد الاتحاد السوفيتي وقادته قد أنزلت ضربة الموت بالنظام السوفيتي هذا على المستوى الأيديولوجي، وأن الحرب الباردة قد كسبت نتيجة للمواقف الأيديولوجية التي لا تنازل فيها، والتأكيد على تفوق الغرب وقمته والإنكار الكامل لأية شرعية أخلاقية للنظام السوفيتي، وأنّ وراء هذا التفكير كانت تكمن فلسفة أيديولوجية عميقة للتاريخ والسياسة، وفهم للسياسة باعتبارها حرباً بين الأفكار، والاعتقاد ـ مثلما اعتقد لينين، أن الأفكار أكثر قوة من المدافع، فقد جعل هذا التفكير، الذي وجه أنصار مدرسة ريجان، جعلهم ينتقدون أصحاب مدرسة الواقعية من أمثال جورج كينان وليبمان وموجانثو وكيسنجر، وأفكارهم التي تمثل سوء فهم للاتحاد السوفيتي، كما رأوا في برامج كيسنجر للوفاق بين الشرق والغرب مساومة أخلاقية بما كان يعنى نزعاً منفرداً للتسلح الأيديولوجي.

       أما على المستوى العسكري فقد رأى أنصار مدرسة ريجان أن المواجهة العسكرية والإصرار على البناء العسكري، وخاصة برنامج الدفاع الإستراتيجي، كان مقدمة ضرورية لما تلا ذلك من سلام ووفاق، فعندهم "أي عند أنصار مدرسة ريجان" أن الاتحاد السوفيتي وقادته لم يحترموا إلا القوة، وأن إعادة تسليح أمريكا كان ضرورة لإقناعهم أن الغرب لم يكن في مرحلة تدهور أو ضعف، وأنه ما زال مستعداً لبذل التضحيات المطلوبة لضمان الصمود ضد أي ضغط أو تهديد سوفيتي.

       وتلخص مدرسة ريجان رأيها في تأثير البناء العسكري الأمريكي لاسيما مبادرة الدفاع الإستراتيجي على التطورات السوفيتية بالقول بأنه قد وضع الاتحاد السوفيتي وقادته أمام مأزق، وخيارين كلاهما صعب إما مجاراة البناء العسكري إلى حد الإفلاس، أو عدم مجاراته، وبذلك يكون الاتحاد السوفيتي قد فقد ادعاءه الوحيد الذي يجعل منه قوة أعظم وهي القوة العسكرية. بل أنهـم يذهبون إلى أن عملية البناء العسكري الأمريكي التي تولتها إدارة ريجان، كانت هي العامل المساعد Catalyst الذي حركه وأعطى بعداً جديداً للنقاش، الذي كان قد ظهر حتى خلال عهد بريجنيف في المعاهد ومراكز البحث بل والمؤسسات العسكرية والعلمية، فإن الاتحاد السوفيتي مهدد بأن يصبح من مناطق العالم الثالث اقتصادياً واجتماعياً، وهو المفهوم الذي جرت مناقشته علناً بعد مجيء جورباتشوف.

       تلك كانت دعاوى مدرسة ريجان التي نسبت إلى سياساتها في الضغط العسكري والسياسي والأيديولوجي على الاتحاد السوفيتي الفضل في إنهاء الحرب الباردة بالشكل الذي انتهت به وفي غلـق الخيارات أمام قادته إلا خيار التخلـي عن سياساته التقليديـة في الخارج والداخل.

       غير أن دعاوى أنصار مدرسة ريجان تلك قوبلت بالتشكيك والتفنيد من العديد من المحللين والباحثين، الذين اعتبروا أن القول بأن سياسات ريجان كانت هي السبب فيما حـدث، هو قول مضلل، وغير دقيق، سواء في تفسير أحداث الثمانينيات، أو في الفهم الأعمق للقوى التي أدت إلى إنهاء الحرب الباردة. ويستند من يعترضون على تفسيرات مدرسة ريجان إلى أن التحولات السياسية والتاريخية الكبرى، عمومًا، من الصعب أن تحدثها قوة واحدة حتى لو كانت قوة عظمى، وإنما هي مرحلـة تفاعل عدد من العوامل والتطورات التي تحدث، عادة، على جانب الصراع، وإن كانت بنسب متفاوتة. وعندهم، أن الحرب الباردة قد انتهت أساساً بسبب فشل النظام السوفيتي ذاته، وإن كانت القوى الخارجية قد أسرعت به وكثفت من أزمته، ويفصلون هذا بالقول بأن المشكلة الرئيسية للنظام السوفيتي كانت في فشله في تقديم مستوى مقبول للمعيشة لشعبه، وفي عدم صلاحية النظام الاقتصادي وكفاءته، ولكن العبء العسكري كان عاملاً مساهماً في الفشل الاقتصادي، إذا كان الإنفاق العسكري السوفيتي هو استجابة للمستويات الغربية في التسلح؛ فإن عملية البناء العسكري الأمريكي في الثمانينيات كانت كالقشة التي قصمت ظهر البعير، وإذا كانت السياسة الأمريكية في عهد ريجان بهذا المعنى قد أسرعت بالانهيار السوفيتي فإن ذلك لم يكن إلا عاملاً مساعداً.

       أما على المستوى الأيديولوجي فإن معارضي مدرسة ريجان يرون أن نهاية الحرب الباردة وإن سجلت انتصاراً أيديولوجياً للغرب، إلا أن هذا الانتصار لا يرجع للحملات والبيانات الأيديولوجية المتشددة لريجان واليمين الأمريكي المتشدد، فالشرعية الأيديولوجية للنظام السوفيتي قد انهارت ليس بسبب هذه البيانات المتشددة، ولكن بسبب إغراء النموذج الغربي المادي والثقافي، وتقويضه للتفسير السوفيتي للحضارة الغربية، التي كان إغواء عناصرها لمجتمعات العالم الشيوعي أكثر فعالية من أي هجوم أيديولوجي معاد للشيوعية. وقد عالج المؤرخ والدبلوماسي الأمريكي جورج كينـان إدعاء إدارة ريجان بشكل أوسع حين قال: "إن الإدعاء بأن أية حكومة أمريكية لديها القوة للتأثير بشكل حاسم على مجرى الغليان الداخلي في بلد كبير آخر هو ببساطة إدعاء طفولي. إن أية قوة عظمى ليس لديها مثل هذا النفوذ على التطورات الداخلية لقوة أخرى..".

       واتساقاً مع موقفه التقليدي الناقد لتركيز الولايات المتحدة الأمريكية على الأمور العسكرية في التعامـل مع موسكو، فقد أنكر كينان أن يكون البناء العسكري الأمريكي خلال الثمانينيات له تأثير كبير على التغيرات التي حدثت في الاتحاد السوفيتي، بل إنّ هذا البناء إن كان قد ساهم في شئ ففي تقوية أيدي المتشددين في الكرملين، الذين عارضوا التغييرات التي كان جورباتشوف يحاول تنفيذها. وذهب كينان أن تطويع النظام السوفيتي، أو بالمعنى الشهير الذي استخدمه في مقالته الشهير في أوائل وبدايات الحرب الباردة كان في المقام الأول نتيجة قوى تفاعلت داخل المجتمع السوفيتي، وكانت أهـم هذه القوى في رأيه هو فقدان الشعب السوفيتي الثقة في النظام الشيوعي، وقدرته على تقديم المزايا المادية التي وعد بها، وشعوره وفقاً لمبادئ الستالينية، وعدم رضا الأقليات الاثنية "الأقليات العرقية" من خضوعها للأغلبية الروسية، وتزايد وعى الشعب السوفيتي بالظروف خارج بلاده، وبالفجوة التي تفصله عن الأمم المتقدمة في الغرب، كل هذه الأوضاع هي التي جعلت أكثر القادة السوفيت بصيرة يقررون أن إصلاحاً جذرياً هو وحده الذي يحول دون أن يسقط الاتحاد السوفيتي في الطريق.

       غير أنه رغم هذا التفنيد لادعاءات إدارة ريجان حول دورها في "تغيير العالم"، فإن بعضاً من الباحثين، حتى من لم يقبلوا كلية ادعاءات مدرسة ريجان، قد نسبوا بعض الفضل لريجان في تعاملـه مع جورباتشوف، واستجابته لما جاء به واستعداده لمقابلته عام 1985، وسلوكه الودي تجاهه مما خفف من المخاوف السوفيتية التي كانت قد تراكمت تجاه ريجان منذ مجيئه إلى الحكم، وبعد قمة جنيف نجح في استخلاص النتائج التي خالفت قطاعات لا يستهان بها من المحافظين، وهي النتائج التي ثبت بعد ذلك صحتها، وعند هؤلاء أن ريجان لو قد ظل متمسكاً بمعتقداته القديمة حول الاتحاد السوفيتي، وحول الشيوعية وقادتها، لربما كانت الحرب الباردة قد استمرت حتى نهاية القرن. وقد دفعت هذه النظرة بعض مؤرخي ريجان إلى القول بأنه كان أكثر الرؤساء الأمريكيين أيديولوجية منذ ويلسون، إلا أنه كان الرئيس الوحيد الذي نضج في أسلوبه، وهو النضج الذي بدأ في هذا التحول السياسي.

       مثلما ارتبط ظهور الحرب البادرة ببروز الاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية نظاماً سياسيًا واجتماعيًا وممثلاً لأيديولوجية منافسة، وقوة دولية ذات قدرات عسكرية، وتحالفات دولية جعلت منها إحدى القوتين الرئيسيتين في عالم ما بعد الحرب الثانية، كذلك ارتبط انهيار البناء السوفيتي في أوائل التسعينيات بطوابقه المختلفة، بانتهاء الحرب الباردة والعلاقات والمفاهيم التي حكمت ووجهت العلاقات الدولية على مدى الحقب الأربع الماضية.

       لذلك لم يكن غريباً القول بأن التطورات التي لحقت بالوضع الدولي نتيجة لذلك وتغييرهـا للبيئة الدولية، إنما توازي في تأثيراتها وقد تفوق أحداثاً تاريخية ضخمة مثل الحرب النابوليونية، والحربين العالميتين الأولى والثانية. كما كان من الطبيعي أن تدفع هذه التطورات بالمحللين، والمؤرخين ومراكز البحوث والساسة إلى أن يبحثوا ويتأملوا في معاني ودلالات هذا التطور على المستوى الفلسفي والتاريخي وكذلك مترتباته العملية.

       وكذلك شهدنا ظهور نظريات ترى فيما حدث "نهاية التاريخ"، وانتصاراً نهائياً وحاسماً للديموقراطية الليبرالية بشقيها السياسي والاقتصادي، وانتفاء لأي تحد للغرب الذي خرج منتصراً من صراع الحرب الباردة. وعلى مستوى التوقعات لسياسات ونظم "العالم الجديد"، وعلاقاته والقوى التي ستحكمه، اتجهت الأنظار إلى المنظمة الدولية التي نشأت في أعقاب الحرب الثانية لتقوم بدور فعـال في الأمن والاستقرار الدوليين، غير أن جهودها قد أحبطت بفعل الاستقطاب الدولي السياسي والأيديولوجي الذي فرضته الحرب الباردة، ولذلك كان غياب الحرب الباردة وعلاقاتها سبباً في إحياء الآمال في أن تصبح المبادئ الأصيلة للمنظمة وميثاقها أساس النظام الدولي الجديد. ولما كان سباق التسلح والبناء العسكري، وما فرضه من إنفاق ضخم كان من أهم المظاهر التي صاحبت الحرب البـاردة، ليس فقط على مستوى القوى الكبرى، وإنما على امتداد مناطق العالم، تطلعت أنظار الشعوب خاصة، إلى أن تجنى ثمار السلام المتوقع، وإلى توجيه الميزانيات المخصصة للتسلح إلى المجالات المدنية والإنفاق الاجتماعي والاقتصادي.

       غير أن السؤال الرئيسي الذي أثير بعد انسحاب قوة دولية رئيسية، وهي الاتحاد السوفيتي، من الوضع الدولي، دار حول ماهية القوى أو القوة التي ستحكم العلاقات الدولية فيما بعد الحرب الباردة، وعن طبيعة النظام الدولي الجديد، وهل سيرتكز على قوة واحدة تنفرد به، أم على نظام القطبية الثانية من جديد، أم على قوى متعددة؟