إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الأهلية اللبنانية






مواقع المخيمات الفلسطينية
مواقع المخيمات الفلسطينية
لبنان - التوزيع الطائفي
الجمهورية اللبنانية
تعداد الفلسطينيين بلبنان
جنوب لبنان



المبحث الأول الحرب الأهلية الأولى في لبنان

المبحث الأول

الحرب الأهلية الأولى في لبنان

       بعد خروج المصريين من لبنان، إثر تدخّل القوى الكبرى، حدث العديد من المواجهات بين الطائفتين، المارونية والدرزية. وما لبثت أن تحولت إلى صراع تفانٍ، استمر من عام 1845 إلى عام 1860، الذي اشتهر بمذابحه: "حوادث الستين".

       نشطت القوى، الداخلية والخارجية، الموجِّهة لتاريخ لبنان، بعد 3 سبتمبر 1840، وتولّي الأمير بشير الثالث الإمارة اللبنانية. ويمكن حصر هذه القوى في ما يلي:

1. القوى الداخلية

أ. الأمير الحاكم، بشير الثالث.

ب. الجبهة الدرزية، بما فيها من انقسامات، جنبلاطية ويزبكية.

ج. الجبهة المارونية، بما فيها من انقسامات وقوى موجِّهة، (الإكليروس ـ المقاطعجية).

2. السلطة العثمانية

أ. الباب العالي.

ب. ولاة الدولة العثمانية، في دمشق وبيروت، ومن يبعث بهم الباب العالي، للإسهام في توجيه الأمور.

3. الحكومات الأوروبية، وقناصلها في الشام، وسفراؤها في الآستانة، ولا سيما سفراء بريطانيا وفرنسا والنمسا وروسيا وقناصلها.

4. الهيئات التبشيرية: كالمبشرين البروتستانت و"الجزويت".

فلا غرو، أن أصبحت الإمارة الشهابية ميداناً لسياسات متضاربة، بعضها محلي، وبعضها عالمي، ومجالاً لتيارات، تقدمية ورجعية. فضلاً عن "عدم الثقة" بين مختلف الأطراف. مما زاد المسألة تعقيداً، ودفعها من سيئ إلى أسوأ. في وقت، بدا فيه لبنان عاجزاً تماماً عن اختيار زعيم قوي، قادر على أن يرتفع فوق كل هذه التيارات، وعلى أن يمسك بكافة خيوط المسألة. كل هذه العوامل، دفعت بلبنان نحو طرق وعرة، متعددة، وقادتْه إلى صراع مختلف الوجوه:

أ. صراع طائفي، بين الموارنة والدروز.

ب. صراع بين الفلاحين والمقاطعجية، أو الإقطاعيين.

       واشتد التنافس الأوروبي في لبنان، إبان الحرب الأهلية الأولى، في إطار ما عُرف بـ "حوادث الستين"، عام 1860؛ إذ إن الكارثة التي نزلت بلبنان، خلال تلك الفترة، تزامنت مع عهد من التنافس بين الدول الأوروبية. فبالنسبة إلى بريطانيا، أصبحت صاحبة اليد العليا، في إعادة الشام إلى السلطان العثماني، وكانت قد حصلت منه على معاهدة بلطة ليمان، عام 1839، التي فتحت ولايات الدولة العثمانية أمام التجار الإنجليز، الذين خُففت عن تجارتهم الضرائب الجمركية، فتدفّق الإنتاج الإنجليزي إلى داخل هذه الولايات. واستوعبت السوق الشامية كميات متزايدة منه، حتى إن عدد السفن البريطانية، التي تفرغ حمولتها في الموانئ اللبنانية، أصبح أكبر من عدد سفن الدول الأوروبية الأخرى مجتمعة. ولا شك أن وجود الأمير بشير الثالث في الحكم، وهو الذي تولاّه بتوصية من الإنجليز، كان مفيداً جداً لتنمية هذا التفوق التجاري البريطاني. وساعد بريطانيا على ذلك، وجود رجل في قنصليتها، في بيروت، على قدر كبير من النشاط والدقة، في تتبع مصالحها، هو الكولونيل روز، النافذ في الدوائر الشهابية، والدوائر العثمانية، في الشام. ناهيك سفيرها لدى الآستانة، السير سترتفورد كاننج (اللورد ريد كليف، فيما بعد)، ذي القوة الدبلوماسية الفاعلة، التي يشد أزرها مكانة بريطانيا العالمية العليا، والتي بلغت حدّاً، دفع بعض معاصريه، أن يطلقوا عليه: "سلطان تركيا غير المتوج". ولعلّ ما ساعد الدبلوماسية البريطانية على نجاحها، هو سرعتها في اتخاذ القرار. على النقيض من نظيرتها الفرنسية، المتشبثة بالبيروقراطية، المقيِّدة لحركة الدبلوماسي، والتي طالما ضيعت فرصاً، تحتاج إلى قرار حاسم وسريع.

       أثار تفوّق بريطانيا في مصر والشام؛ ولكل منهما آمالها، الدينية والاستعمارية، إزاء فرنسا، حفيظة باريس نحو الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، ولا سيما أن كثيراً من أجزاء هذه الإمبراطورية، كانت مستعمرات فرنسية. وأصبح على فرنسا، أن تبذل مجهوداً شاقاً، لعلها تستطيع أن تعيد بناء إمبراطورية لها فيما وراء البحار. وكان طبيعياً أن يواجَه النشاط الفرنسي بمقاومة بريطانيا ومنافستها، وكذلك روسيا والنمسا؛ إذ كان أمل فيينا، أن تحل محل فرنسا في حماية كاثوليك الدولة العثمانية.

       ولم يخفف موقف فرنسا السلبي إزاء وضع الموارنة، إبّان الحكم العثماني ـ المصري، من عاطفتهم الدينية المذهبية تجاه باريس. بل إنهم حينما كانوا في أشد الحاجة إلى السلاح والذخائر، وكان الإنجليز يمدونهم بهما، كانت الكنيسة المارونية رافضة للسلاح الإنجليزي. كما رفض أميرهم حيدر أبي اللمع، بشدة، فكرة طلب الحماية البريطانية.

       واستعر الكره بين الإنجليز والموارنة، حين استشعر نصارى جبل لبنان سعْي الدولة الأنجليكانية إلى التمهيد للمبشرين البروتستانت في لبنان، حيث تكاثر المبشرون الإنجليز والأمريكيون، في ثلاثينيات القرن التاسع عشر وأربعينياته، مما أثار رجال الدين الموارنة و"الجزويت"، وكذلك الروم الأرثوذكس. واتخذ البطريرك الماروني إجراءات شديدة، ضد المبشرين البروتستانت. ومع أن الإنجليز كانوا يسعون لتكون علاقاتهم بالموارنة والدروز، متوازنة، إلا أن العلاقة الخاصة بين نصارى الجبل وفرنسا، كانت تبعد بريطانيا عنهم، وتشد إليها الدروز، الباحثين عن دولة كبرى، يوازنون بها علاقة فرنسا بالموارنة، ويواجهون بها الجبهة المارونية، التي كان زعماؤها يصرحون بأنهم لم يتخلصوا من التفوّق الدرزي فقط، بل إنهم باتوا هم أصحاب البلاد. وكانت المؤسسات الجزويتية، في "بكفيا" و"بيروت" وغيرهما، تدعو إلى إقامة وطن قومي للموارنة، وتؤكد لهؤلاء، أنهم لو تمسكوا بهذا الهدف، وقاتلوا من أجْله، فإن الدول الأوروبية الكبرى، لن تتخلى عنهم، حتى يحصلوا على استقلالهم، مثلما حدث مع اليونانيين.

       وكان خطر هذه التيارات، في نظر السلطات العثمانية، يتعدى الوجود والسيادة العثمانيين على الجبل. بيد أنها رأت، ألاّ تتخذ أي إجراءات مباشرة، لفرْض حُكمها المباشر على الجبل؛ حتى لا تثير ثائرة السلطات الإنجليزية، التي أصبحت متسلطة على عدن والخليج العربي، وحفيظة السلطات الفرنسية، التي أمست مستعمرة الجزائر. وآثرت أن تضرب نطاقاً حول الإمارة الشهابية، وتزيد من قوة المراقبة العثمانية عليها. ولهذا، عمدت إلى تعديلات إدارية، تحقيقاً لأهدافها، فضمت طرابلس إلى ولاية صيدا، وجعلت بيروت عاصمة لهذه الولاية.

1. الصراع بين الدروز والموارنة

تمثّل الدولة العثمانية، في نظر الدروز، السلطة العليا، صاحبة الحق الشرعي في البلاد، في إطار الحفاظ على امتيازاتهم التقليدية. ولكن هزائمها على يد الجيش المصري، وعدم قدرتها على إخراج المصريين من الشام، إلا بمساعدة الأسطول الإنجليزي، أضعفا مكانتها، لدى الدروز.

واعتقد الدروز أنهم هم أصحاب الفضل الكبير في إخراج المصريين من الشام، بما اضطلعوا به من ثورات، تكبدوا، خلالها، خسائر فادحة، في الأرواح والأموال، وشُرِّد العديد من زعمائهم، ونُفِي بعضهم إلى سنار. ولهذا، كانوا يتوقعون من السلطات العثمانية، ألاّ تكتفي بالوفاء بما سبق أن وعدتهم به، من إعادة الإقطاعيات، التي كان الأمير بشير قد سلبهم إياها، وبإعفائهم من الضرائب، لمدة ثلاث سنوات، بل أصبحوا ينتظرون المكافآت السخية، فضلاً عن استعادتهم لتفوّقهم على بقية طوائف الجبل. وإذا بهم يواجَهون بظروف مختلفة، تتّسم بالخطر.

فبعد عودة الزعماء الدروز من منفاهم، وجدوا أن الأمير بشيراً الثالث مُعْرِض عنهم. ثم شرع يعاملهم معاملة سيئة، وتقاعس، عامداً، عن إعادة ما كان لهم من إقطاعيات. وكان الأمير الشهابي يخطط لتوجيه ضربة إلى الإقطاعيين، أو المقاطعجية، الدروز. لا لأنه كان مارونياً، يكره الدروز وعقيدتهم، وإنما لانتهاجه السياسة عينها، التي انتهجها سلفه الأمير بشير الشهابي الكبير، في القضاء على الإقطاعيين، حتى يخلو بالحكم.

ولكن الأدهى، أن زعماء الدروز، أصبحوا هدفاً لبشير الثالث، وكأنهم على شاكلة طبقة المماليك، الحاكمة في مصر، التي استعصى أمر إصلاحها، وأصبح الخلاص منها يستدعي تحولاً حضارياً؛ إذ دبر الأمير بشير مذبحة لهم، على غرار مذبحة المماليك، على يد محمد علي. ولكن من حُسن حظ الدروز، حينذاك، أن القنصل الفرنسي، كان لا يزال يسعى إلى كسب وُدّهم، نكاية في الأمير بشير الثالث الذي أصبح، في رأيه، أداة طيّعة في يد القنصل البريطاني. فحذر القنصل الفرنسي الزعماء الدروز مما يدبَّر لهم.

أمّا الكنيسة المارونية، فقد اتخذت إجراءات، تؤدي إلى تقويض نفوذ الزعامات الدرزية الإقطاعية، إذ بعث البطريك بمنشور إلى الموارنة، في كل قرية تحت السيطرة الدرزية، أن يختاروا عنهم وكيلاً، يتولى أمورهم، دون الإقطاعي الدرزي.

واستقبل الموارنة هذا المنشور بالابتهاج والحبور، وبادروا إلى التظاهر، أمام دُور الدروز. وانبروا يرددون أن الدروز مجرد أقلية تابعة لهم، وأنهم لن يتورعوا عن طرْدهم من البلاد. وبدا للدروز، أن أيامهم قد ولّت، وأن عليهم أن يكافحوا، لا من أجْل ما كان لهم من امتيازات، ولكن من أجْل الحفاظ على كيانهم المهدّد، خاصة أن الأمير بشيراً الثالث، يعمل على تصدُّع الجبهة الدرزية، من خلال ضرب الزعامات الدرزية بعضها ببعض.

وفضّل الدروز، على الرغم من تمادي الأمير بشير الثالث في اضطهادهم، أن يعرضوا الأمر على السلطات العثمانية، حتى تكون على بيِّنة مما يعانونه ويدبَّر لهم. فبعثوا بشكوى إلى الباب العالي، في يونيه 1841، تضمنت:

أ. أن الأمير بشيراً الكبير، كان قد تحوّل إلى النصرانية. ومع هذا، كان يعامل الدروز معاملة كريمة، على عكس ما يفعله خليفته، بشير الثالث، الذي يضطهدهم، لإرغامهم على التنصّر؛ وهو ما لن يحدُث، وما سيقاومونه بكل إصرار.

ب. اعتراف الدروز بأنهم مسْلمون.

سعى الدروز إلى إبعاد الأمير بشير الثالث عن الحُكم، بل كانوا يسعون إلى التخلص من حُكم البيت الشهابـي كلـه. ولكـن الظروف، لا تسمح لهم بالإقدام على هذا الخطوة الكبيرة، إذ هم لا يزالون في خطواتهم الأولى، لتثبيت أقدامهم في بلادهم. ومن ناحية أخرى، كان الأمير بشير الثالث مستنداً إلى تأييد القنصل البريطاني، الذي كان هو نفسه أمل الدروز، في موازنة التقارب المتصاعد، بين الموارنة والقنصل الفرنسي. فحاول زعماؤهم إحلال أمير شهابي مسلم، محل الأمير الحاكم. واختاروا الأمير سلمان شهاب، الذي أضير، هو الآخر، بسبب تعاونه السابق مع الزعماء الدروز، على يد الأمير بشير الثالث.

غير أن القنصل الإنجليزي، رأى أن يستمر الأمير بشير الثالث، على سوء إدارته، في الحُكم. وعلى الرغم من محاولة القنصل الفرنسي، دي ميلواز، إقناع البطريرك بضرورة إبعاد بشير الثالث عن الحُكم، أبدى البطريرك الماروني تمسُّكه المؤقت بالأمير الشهابي، للأسباب الرئيسية التالية:

(1) إن حاكِم الجبل، يجب أن يكون مسيحياً.

(2) إن بشيراً الثالث، يُعَدّ، على ضعفه، حائلاً دون تفاهم الدروز مع السلطات العثمانية، حول إسناد المهمة إلى حاكِم تركي.

(3) إن مساوئ الأمير بشير الثالث، ستتضاعف، بمرور الأيام، ليصبح مرفوضاً. فيمكِن، في هذه الحالة، أن يعود الأمير بشير الشهابي الكبير إلى الحُكم.

لم يقتصر التبرّم ببشير الثالث على الدروز، الساخطين على البيت الشهابي، بل تعداهم إلى بعض الإقطاعيين الموارنة، مثل آل الخازن، الذين عمل "أبو طحين"[1] على كسر شوكتهم. فضلاً عن سأم المسؤولين الإنجليز من هذا الأمير، المثير للمشاكل.

2. الحرب الأهلية

أمَا وقد طال انتظار الزعماء الدروز لتحرك عثماني إيجابي، فقد عزموا على أن يحققوا، بالقوة، ما فشلوا في تحقيقه، بالالتماسات والشكاوى. فبادرت قواتهم، بزعامة أولاد بشير جنبلاط، في الثالث عشر من أكتوبر 1841، إلى محاصرة "دير القمر"، إيذاناً ببدء الحرب الأهلية الأولى. وعلى الرغم من استعدادات الموارنة وادعاءاتهم بما سيفعلونه بالدروز، عندما تقع الحرب، تحوّل القتال إلى كارثة مروعة، نزلت بهم في دير القمر، إذ دبت فيهم الفوضى، فأصبحوا أهدافاً سهلة للقوات الدرزية.

وما إن سمع البطريرك بما حدث لدير القمر، حتى أغلق الكنائس، وطلب من كل مسيحي، أن يحمل السلاح. وهاجمت القوات المارونية بعض المواقع الدرزية المتفرقة، لينتشر لهيب الحرب الأهلية، بسرعة، في البلاد. وتبادل الطرفان إحراق القرى وسلْب الأموال، والتمثيل بالأسرى والقتلى. ولكن كفة الدروز كانت هي الراجحة، فبعد أن سيطروا على المناطق المارونية في الجنوب، شرعوا يدقون أبواب النصف الشمالي الماروني، عبْر نهر الكلب.

وخلال هذه الحرب الأهلية، وقف الأرثوذكس إلى جانب الدروز، لاعتقادهم أن تفوّق الموارنة، سيعرضهم لاضطهاد ماروني، حمْلاً لهم على ترْك عقيدتهم. وحينما اشتد الضغط الدرزي على الموارنة، وثبت لهؤلاء أن الحرب تسير في مصلحة خصومهم، وأن الجبهة المارونية هشة، مفككة؛ إذ كان رجال الدين الموارنة في جانب، والإقطاعيون في جانب آخر، ناهيك بتعدد الخلافات بين الزعامات المارونية ـ سارع الموارنة إلى السلطات العثمانية، والقناصل الأوروبيين، خاصة القنصل الفرنسي.

أسفرت الحرب عن موافقة البطريرك الماروني على إبعاد الأمير بشير الصغير[2] عن الحُكم، على أن يحل محله الأمير بشير الكبير (نوفمبر 1841)، الأمر الذي ترك انطباعاً سيئاً لدى القنصل الإنجليزي عن رجال الدين الموارنة. ولكن، لم يصغِ العثمانيون إلى رغبة البطريرك. وانتهزوا مِحنته، فقبضوا عليه، لدى مغادرته "دير القمر" إلى بيروت، وأرسلوه إلى الآستانة. بينما كلّف الباب العالي مصطفى باشا، بأن يتولّى مهمة إعادة الأمن إلى نِصابه، والعمل على تحقيق هدف العثمانيين، إنهاء حُكم بيت شهاب.

كانت مهمة مصطفى باشا صعبة، وواجهت ظروفاً معقدة. بل إن جنوده أنفسهم، أضافوا إلى المشكلة تعقيداً آخر؛ إذ إن أوضاعهم الاقتصادية، كانت متردية، فضلاً عمّا أشيع من أن القوات العثمانية، ما جاءت إلا لتشد أزر الدروز، ولتوجِّه الضربات إلى الموارنة. وكان قد أُشيع، من قبْل، أن سليم باشا، والي صيدا، وزع السلاح على الدروز والموارنة، ليؤجِّج الموقف، حتى يثبِت للعالَم، أن الحُكم التركي، هو الملائم لهذه المنطقة، التي لا يعرف أهلها كيف يتولون أمورهم بأنفسهم. ولكن الأمور في لبنان تفاقمت، حتى استعصى على سلطة واحدة، أن تنفرد بمعالجتها.

3. العلاقة التاريخية بين الموارنة وفرنسا

أسخطت الحرب الأهلية الدوائر الفرنسية، الحكومية والشعبية، إذ رأتها حرب إبادة، يشنها المتعصبون ضد الموارنة، أصدقاء فرنسا، وأبناء عمومتها، في العقيدة. وتوالت على الفرنسيين استنجادات الموارنة، وتقارير قنصلهم، تحثهم على عمل إيجابي، ينقذ الموارنة من الإبادة. أما صورة الدروز، لدى الفرنسيين، على اختلاف مستوياتهم، فكانت سيئة، ومشوَّهة.

وحفاظاً على مكانتها بين الموارنة، وحرصاً على كرامتها؛ إذ إن هزيمتهم، توحي بأنها هزيمة فرنسا في الشام ـ عمدت الحكومة الفرنسية إلى إرسال وحدات من بحْريتها إلى السواحل اللبنانية. وما إن وصلت، حتى اجتاحت الموارنة موجة من الفرح. ورُفع العلَم الفرنسي فوق بعض الأديرة. ووزعت القنصلية الفرنسية السلاح عليهم، بكثافة. وبذلك، أعلن الفرنسيون انحيازهم الكامل إلى الموارنة، ففقدوا الدور الذي كان من الممكِن أن يؤدوه في التوفيق بين المتنازعين. بينما انزعج الدروز والعثمانيون والإنجليز من هذه الإجراءات، ومن صداها بين الموارنة، حتى وصل الضيق ببعض الإنجليز، أن سعوا إلى عزل البطريرك. ولكنهم تجنبوا هذه الخطوة، لِما كان سيترتب عليها من تعقيدات جديدة. وكان طبيعياً، في مواجَهة هذه التطورات، أن يزداد التقارب الدرزي ـ الإنجليزي، الذي انتقل إلى مرحلة جديدة من التخطيط والتنسيق، إذ توصل الطرفان، في سبتمبر 1841، إلى تفاهم، قوامه:

أ. أن يدافع الإنجليز عن مصالح الدروز.

ب. أن يتعلم أبناء الدروز في المعاهد الإنجليزية، في إنجلترا.

ج. أن تطلق حرية المبشِّرين البروتستانت في العمل، في المناطق الدرزية.

وهكذا، عادت الإمارة إلى سياسة المحاور، ولكن بشكل أشد خطراً:

أ. محور درزي ـ إنجليزي.

ب. محور ماروني ـ فرنسي.

أما العثمانيون، فكانوا يحاولون التمسك بالشرعية، مُدَّعين أنهم فوق المحاور. ولكن قدرتهم على التفوق، كانت محدودة، بل كانوا يقدِمون على خطوات كفيلة، لا بتعقيد الموقف أمامهم فحسب، بل بإضعافهم عن حل القضية، بطريقة أو بأخرى.

فبينما كان الجبل يعاني أزماته الطاحنة، وسكانه يتوقعون إعفاءهم من الضرائب، لمدة ثلاث سنوات، كما وعدتهم السلطات العثمانية، إذا بها تفرض الضرائب على الجبل، وتسعى، بأساليبها التقليدية، إلى جمْعها، مما أثار سخط الجماهير الشعبية، التي راحت تقابل العهد المصري، الذي أوسعته هجوماً ونقداً مريراً، بما أصبحت عليه البلاد من فوضى. ولم يكتفِ الناس بتذكر العهد المصري، بل إن منهم من طالب بعودته، إنقاذاً لهم ولبلادهم. حتى قيل إن الناس، كانوا مستعدين لأن يستقبلوا المصريين بأذرع مفتوحة. بل إن الإنجليز اعترفوا، وإنْ بعد وقت طويل، بأن الحكم المصري، كان خيراً للمنطقة، وأنه ما كان ليصيبها ما أصابها، لو استمر هذا الحكم.

رأت السلطات العثمانية، في تلك التطورات، فرصتها لفرض نظام الحكم المباشر على الجبل، على أساس أنه يحُول دون عودة الاقتتال الطائفي. فعقد مصطفى باشا اجتماعاً، حضره زعماء لبنان. استعرض فيه النكبات، التي ألمّت بالبلاد، خلال حكم البيت الشهابي، وأعلن إنهاء حُكم الشهابيين. وتلا فرماناً، يعهد بالحكم إلى عمر باشا النمساوي.

قابل الدروز الإجراءات العثمانية بالترحيب والرضا، وزادهم تهليلاً لها، أن الحاكم الجديد، قد اعتنق الإسلام. بينما امتعض الموارنة، لأن الإكليروس الماروني، كان متمسكاً بأن يحكم الجبل أمير مسيحي، وأن الأمير بشيراً الكبير، هو الملائم لهذا الحكم؛ إذ إنه يستطيع أن يفرض كلمته، على ما كان يعتقده الموارنة، على الإمارة كلها.

تركزت مهمة عمر باشا النمساوي في الأهداف التالية:

أ. القضاء التام على فكرة عودة البيت الشهابي إلى الحُكم.

ب. إقناع الأطراف المتنازعة كافة، بقيمة الحُكم العثماني المباشر، ووضْع البطريرك الماروني أمام الأمر الواقع.

ج. إرضاء الزعامات الدرزية.

د. إرضاء الإقطاعيين الموارنة.

حرص الحاكم الجديد على أن يكسب الدروز إلى جانبه. فأعاد إليهم أموالهم وأراضيهم، وبعض نفوذهم. كما سعى لأن يثبت لكافة الجهات المعنية بأوضاع لبنان، أن حُكمه، أي الحُكم العثماني المباشر، هو المقبول من الأهالي. فحثهم على توقيع عريضة بهذا المعنى، وأنهم يرغبون في تثبيت عمر باشا في الحُكم.

نشط ملاّك الأراضي في جمع التوقيعات. وإزاء معارضة البطريرك الماروني، وإكليروس الكنيسة المارونية، عمد عمر باشا إلى الوعد والوعيد، للحصول على توقيعات الموارنة. حتى إن بطريركهم، شعر بأن حياته، قد أصبحت في خطر. ونصحه القنصل الفرنسي بالحذر مما يدبّره له عمر باشا، ففرّ، عام 1842، إلى معقل منيع في الجبل.

غير أن علاقات عمر باشا الحسنة، بالجانب الدرزي، لم تدم طويلاً؛ فإذا به يستعدي الدروز، إلى جانب عدائه للموارنة. والواقع، أن الظروف والملابسات، التي أدت إلى تصادم الدروز وعمر باشا، لا تزال غامضة. ولعل من أسبابها ما يلي:

أ. لا شك أن العثمانيين كانوا يعملون على التحكم في أمور الطائفتين. ولكن ذلك لا يتأتى لهم، إلاّ بإضعافهما ثم ضرب كلٍّ منهما، الواحدة بعد الأخرى. فسعوا إلى استعار الحرب بينهما. ولكن زعماء الدروز، استذكروا تجربة سابقة، عندما دفعهم العثمانيون إلى مهاجمة الموارنة، عام 1841. وبعد أن انتهت المعارك، تنصّلوا من المؤامرة. فإذا أرادوا تكرار هذا العمل؛ وكان الدروز يودّون تكراره، فعلى العثمانيين، أن يضعوا في يد الـدروز فرمانـاً بذلك، حتى لا يتحمل الدروز، وحدهم، وزر هذا العمل. وما كان العثمانيون ليوافقوا على الطلب الدرزي.

ب. حاول عمر باشا إرغام الدروز على إعادة ما سبق أن نهبوه من الموارنة، خلال الحرب الأهلية الأولى. ولكنهم هدّدوه بأنهم سيفشون سر التواطؤ، بينهم وبين العثمانيين، عام 1841، ضد الموارنة، إذا استمر في هذه السياسة.

ج. أثيرت قضية الهوية الدينية للدروز، إذ كان العثمانيون يرون أنهم مسلمون، بينما كان الدروز يرون أنهم أصحاب عقيدة خاصة. ودار جدل وضغط لتأكيد إسلام الدروز، الأمر الذي جعل هؤلاء يوجسون خيفة من وراء ذلك، فازدادت الهوة عمقاً، بينهم وبين عمر باشا.

ومما يذكر أن الأهداف العثمانية الرئيسية، كانت غير مقبولة، لا لدى الموارنة، ولا لدى الدروز، ولا سيما منها فرض الحكم المباشر، الذي يسلب الطرفين، الدرزي والماروني، الكثير من امتيازاتهما وسلطاتهما، ويحُول دون أن يحقق الموارنة تفوّقهم الواعد، ودون أن يستعيد الدروز تفوّقهم السابق. وهكذا كانت الأطراف الثلاثة، تتنافس في شيء واحد: اليد العليا في أمور البلاد. ومِثل هذا التنافس، في مِثل تلك الظروف، لا يحسمه سوى السلاح.

استخدم عمر باشا الخديعة، وسيلة للقبض على كبار زعماء الدروز، ونجح في ذلك. ولكن أحدهم، وهو يوسف عبدالملك، لم يقع في الفخ، فتولّى قيادة الثورة ضد العثمانيين. ونجح في أن يثير النفوس، بما كان يردّده، وينشره، على أوسع نطاق، من أن العثمانيين ينوون نزع سلاح الجبل، تمهيداً لسَوق الشباب إلى الجندية العثمانية الرهيبة. وازدادت ثورة دروز لبنان حدّة، على أثر انضمام دروز حوران إليهم، بقيادة شبلي العريان (أكتوبر 1842)، الذي عُرف بشدته وصلابته، خلال الثورة الدرزية على الحكم المصري.

واشترط الدروز على العثمانيين، إذا أرادوا تجنّب التصادم:

أ. إطلاق المعتقلين من زعماء الدروز.

ب. عزْل عمر باشا النمساوي.

ج. إعفاء الدروز من الجندية.

د. امتناع السلطات العثمانية عن جمْع السلاح منهم.

وهي مطالب لم يكُن من الممكِن تنفيذ معظَمها؛ إذ رأى فيها العثمانيون تعارضاً مع الخط السياسي العثماني العام.

هكذا، أصبح العثمانيون الخصم المشترك لكلٍّ من الدروز والموارنة. بيد أن الخطر المشترك، لم يمكِنه حمْلهما على التضامن في وجْه الآستانة، على غرار ما فعلوه عام 1840، إذ كانت خلافاتهما قد استحكمت، بل ربما أمسى الخصام الماروني ـ الدرزي أشد من الخصام الماروني ـ العثماني. ولم يكن قادراً على الحدّ من هذا الخصام، سوى قبول الدروز بتولي حاكم مسيحي الإمارة اللبنانية، وهو ما كانوا يرفضونه تماماً.

خاض الدروز المعركة، وحدهم. وشن العثمانيون عليهم حملة عنيفة، ضربت معاقلهم في "المختارة" و"بعقلين" و"جديدة الشوف" وغيرها. وأحرقت ودمرت عدداً من قراهم. وعلى الرغم من ذلك، صمد الدروز لقوات عمر باشا النمساوي، حتى يئس من الوصول إلى نصر حاسم. وشرع الإنجليز ينتقدون، بشدة، إجراءات العنف تلك، في الوقت الذي كان فيه سفراء الدول الكبرى في الآستانة، يتباحثون مع الباب العالي في نظام حُكم للبنان، يتلاءم مع وضْعه، ومع الأهداف الأوروبية. وأخيراً، عزل العثمانيون عمر باشا النمساوي، وسعى الباب العالي وسفراء الدول الأوروبية، إلى تطبيق نظام القائمقاميتَين.



[1]  أبو طحين` هو لقب الأمير بشير الشهابي الثالث.

[2]  الأمير بشير الصغير، هو الأمير بشير الثالث.