إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الأهلية اللبنانية






مواقع المخيمات الفلسطينية
مواقع المخيمات الفلسطينية
لبنان - التوزيع الطائفي
الجمهورية اللبنانية
تعداد الفلسطينيين بلبنان
جنوب لبنان



المبحث الثالث الحرب الأهلية الثالثة، ودور الانتماءات الطبقية

المبحث الثالث

الحرب الأهلية الثالثة، ودور الانتماءات الطبقية

ثورة الفلاحين و"حوادث الستين" (1858 ـ 1860)

       كانت أحوال الجبل، في القائمقاميتَين، هادئة، في أعقاب تطبيق نظام شكيب أفندي، وتمتُّع القائمقامَين، الماروني والدرزي، بنوع من الحكم الذاتي. ومع أن مشكلة المناطق المختلطة، لم تحَل حلاً جذرياً. إلا أن هذا الحكم الذاتي، أعطى الجبل فترة من الراحة والهدوء، ساعدت على نمو اقتصاده، وأتاحت فرصاً للتأمل في أوضاعه، السياسية والاجتماعية، مما أسفر عن انحسار المشكلة، السياسية والطائفية، إلى حين، وظهور التيارات الاجتماعية والاقتصادية.

       وقد تعرضت المنطقة لتطورات اقتصادية مهمة، خلال خمسينيات القرن التاسع عشر. إلا أن هذه التطورات، كانت أكثر وضوحاً في القائمقامية المسيحية، منها في القائمقامية الدرزية؛ إذ كانت الأولى أكثر تقدماً وانفتاحاً، واستطراداً، أكثر تأثراً بالتطورات، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

       كان نظام القائمقامية يضع الحُكم في يد القائمقام والديوان (المجلس). وبموت القائمقام الماروني، حيدر أبي اللمع، تطلع إلى المنصب اثنان من الأُسْرة عينها، هما بشير عساف وبشير أحمد. واستطاع ثانيهما أن يفوز بالمنصب، يدعمه القنصل الفرنسي، دو ليسبس. بينما كان القنصل الإنجليزي، مور، يدعم بشير عساف.

       شعر بشير أحمد بأن سلطاته، ستظل مقيدة، ما دام الإقطاعيون متمتعين بامتيازاتهم. وشعر هؤلاء، بدورهم، أن هذا النظام، يهدد مكانتهم وسلطاتهم. وبذلك، بدأ صراع بين الطرفين، كان يتبع الطرق السلمية، أول الأمر، عبْر رفْع الشكاوى إلى والي صيدا العثماني. ولكن بشير أحمد، كان رجلاً قوياً، ولم يكن آل الخازن، كبرى الأُسَر الإقطاعية في كسروان، بأقل منه صلابة، إذ كانوا يدافعون عن مواقع أقدامهم، التي اهتزت، من قبْل، غير مرة. وبمعنى آخر، يمثل الصراع بين القائمقام والإقطاعيين، صورة من صور الانتقال من الحُكم الإقطاعي، إلى الحُكم الفردي المستبد. وكان بشير أحمد، فعلاً، من الحكام الساعين إلى تركيز السلطة في أيديهم، وإلى إشعار الرعية، أنه صاحب اليد العليا في الحكم والإدارة.

       وبحثاً عن قوة ضاربة، يستطيع كل من الطرفين استخدامها، لإحراج مركز الآخر، عمد القائمقام والإقطاعيون إلى استخدام الفلاحين. وبدا الإقطاعيون في مكانة أقوى، بسبب كراهية الفلاحين القائمقام، لتشدُّده في جمْع الأموال الأميرية منهم، في وقت كانت فيه البلاد تعاني أزمة اقتصادية، أثقلت كواهلهم، وزادت من تدهور أوضاع الإقطاعيين الاقتصادية، في حين نمت البورجوازية في المدن والموانئ. ولهذا، اتجه الإقطاعيون إلى تعويض خسائرهم المادية، من طريق زيادة الضغط على الفلاحين، بل صادروا دخولهم المحدودة.

       وإذا كان الإقطاعيون قادرين، بما كان لديهم من سلطات، على تحريك الفلاحين ضد القائمقام، بشير أحمد. فقد كان القائمقام، بدوره، يستطيع أن يحرك قطاعات، لها قدرتها، ضد الإقطاعيين، مستغلاً ما كان يعانيه الفلاحون من جراء التقاليد الإقطاعية، التي كان يتمسك بها الإقطاعيون، ومن أهمها:

1. تقديم الهدايا والهِبات إلى الإقطاعيين، في المواسم والأعياد.

2. الرسوم الإضافية، التي يجبيها الإقطاعيون من الفلاحين. وهي إن كانت مقبولة، قبْل القرن التاسع عشر، فإنها أصبحت مرفوضة، لعدة تطورات حدثت في ذلك القرن، وأهمها مبدأ المساواة، الذي طبقته الإدارة المصرية، وسارت عليه الدولة العثمانية، بإصدارها خط كلخانه (1839) والخط الهمايوني (1856).

3. أن يكون للإقطاعي، ولأُسْرته، نوع من السيادة على الفلاحين، قد تصل إلى حدّ علاقة السيد بالتابع، وهو ما لم يقبَله الفلاحون، خلال تلك الفترة.

       في هذه الظروف، أصبح الفلاحون أدوات في يد القائمقام والإقطاعيين، لتحقيق أهدافهما الخاصة، من دون مراعاة لمصالح الفلاحين، الذين ساءت أوضاعهم الاقتصادية، مما حملهم على إعادة النظر في دورهم.

       أدى اعتماد القائمقام والإقطاعيين، في منازعاتهما، على الفلاحين، إلى إشعار هؤلاء بقوّتهم، وبحقوقهم، التي كفلها لهم القانون العثماني: المساواة والحرية الاجتماعية. وهكذا، بدأت الأمور تخرج من أيدي الطرفين المتنازعَين، وبدأت الثورة الاجتماعية تتلظى.

       وأسفر الانفتاح الاقتصادي على أوروبا، عن نمو الطبقة البورجوازية، وانتعاش بيروت وبعض المدن الصغيرة. ورأت هذه الطبقة البورجوازية الرأسمالية، المعروفة بعدائها الشديد للإقطاعيين، في نقمة الفلاحين على هؤلاء، فرصة للقضاء على الامتيازات الإقطاعية، فبادرت إلى التعاون مع هؤلاء الناقمين.

       ولا شك أن المستوى الثقافي، الذي بلَغته البورجوازية الحديثة، كان من العوامل الجوهرية، التي ساعدت على نمو روح الثورة لدى الفلاحين؛ إذ كانت الثقافة الغربية قد انتشرت بين تلك البورجوازية، ومن أبرز ممثليها، حينذاك، ناصيف اليازجي، وبطرس البستاني، والجمعيات، الأدبية والفكرية، التي أخذت تظهر في المدن الرئيسية. ومع أنها لم تدعُ إلى مبادئ ثورية، إلا أنها نبّهت الأذهان للقِيم الإنسانية الجديدة، التي تحترم الإنسان، وتقدّس حريته، وتنادي بمبدأ المساواة، على الطريقة الفرنسية.

       ومع شعور الفلاحين بقدرتهم على التحرك، دفاعاً عن مطالبهم، تهيّأ المناخ العام، لظهور نوع من القيادات، والتجمعات القيادية، لتتولى مسؤولية ذلك التحرك. ولقد سبق للفلاحين أن اختاروا وكلاء عن كل قرية. فكان ذلك سابقة حذا حذوها الثوار الفلاحون، عام 1858. فاختارت زحلة شيخ شباب، وشكلت مجلساً بلدياً، وامتنعت عن طاعة الإقطاعيين اللمعيين. ومثلها فعلت غزير. واستشرت الفكرة، حتى أصبحت الحركة في حاجة إلى قائد.

       كان الفلاحون قادرين على إفراز قيادة، تحاور الإقطاعيين. كذلك، كانت البورجوازية الصغرى مستعدة لتقديم الزعامة، التي تستطيع أن تقف موقف الند أمام الإقطاعيين، وتحظى، في الوقت عينه، باحترام الفلاحين، كزعامة صالح جرجس صفير، من عجلتون، وحبيب الخوري العقيقي، من كفرذبيان. ولكن الانتماء الطبقي البورجوازي، جعل هذه الزعامة معتدلة، وغير مستعدة لقيادة الثورة الفلاحية إلى أقصى مطالبها، بل آثرت الحلول الوسط. ومثل هذه الزعامة، يمكِن أن ينجح في اتجاهاته المعتدلة، إذا ما وجد لدى خصومه الإقطاعيين شيئاً من اللين، والقدرة على تفهّم حقيقة الأوضاع الجديدة. إلا أن الإقطاعيين، شأنهم شأن غيرهم من الأرستقراطية التقليدية، كانوا غير قادرين على إدراك حقيقة التغير الاجتماعي، وتمسكوا بما يرونه حقوقاً موروثة، مما أدى إلى دفْع الحركة الفلاحية إلى التطرف، وإفراز زعامة فلاحية صعبة المراس، لا تعترف للإقطاعيين بأي امتيازات، وتطالب بحقوق الفلاحين القانونية، بل ترى أن الممتلكات الإقطاعية، هي حق من حقوق الشعب، اغتصبها هؤلاء الإقطاعيون. ولهذا، مهد فشل صالح جرجس صفير وحبيب الخوري العقيقي، في التوصل إلى تسوية معتدلة مع آل الخازن، على الرغم من اتساع نطاق الثورة الفلاحية على الإقطاعيين، إذ شملت "ريفون" و"القليعات" و"عشقوت" و"داريا" و"جعيتا" و"غزير" وغيرها ـ مهد الطريق نحو انتقال زعامة الحركة إلى طانيوس شاهين، من ريفون، وكان معروفاً بشدة عدائه للمشايخ الإقطاعيين.

1. دور الكنيسة المارونية في حل الأزمة

سعت الكنيسة المارونية، أو الإكليروس الماروني، الذي كان على رأسه، حينذاك، البطريرك بولس مسعد، إلى وضع حدّ للأزمة بين الفلاحين والإقطاعيين، من طريق التوصل إلى حل وسط. لقد كان الفلاحون يتطلعون، فعلاً، إلى الإكليروس الماروني، ليكون وسيطاً بينهم وبين الإقطاعيين. ولكن هؤلاء تشبثوا بما اعتادوا من سلطات، ففشلت الوساطة. وثمة من يرى أن الإكليروس، كان مرتاحاً لتلك الثورة الفلاحية، لأنها ستقضي على زعامات البيوت القديمة، مما يتيح للكنيسة الانفراد بالتوجيه السياسي للمنطقة، فتصبح مقدراتها في يد الإكليروس.

كان رجال الدين الموارنة، أقدر على التفاهم مع الفلاحين، لمقاومة الأُسْر الإقطاعية ومناوأتها لهم. وبدا من الطبيعي تعاطف الإكليروس مع الفلاحين. بل إن وقوف الكنيسة، خلال تلك الأزمة، بين الإقطاعيين والقائمقام، بشير أحمد، يعني أنها تسعى إلى تحطيم الإقطاع، إذ من مصلحتها أن تكون البلاد تحت حكم واحد مسيطر، وليس تحت قوى حاكمة متعددة، تعرّض المنطقة لخلافات، تحدّ من نشاط الإكليروس؛ فالمستقبل للحُكم الأكثر ديموقراطية، والذي يراعي مصالح الفلاحين، ويزيل معوّقات الاتصال المباشر بين الكهنوتيين والشعب.

وليس معنى هذا، أن الكنيسة المارونية، كانت راغبة في ثورة فلاحية. وإنما هي تسعى إلى التوفيق بين الفلاحين والإقطاعيين، بشكل يحفظ للفلاح حقوقه، ويبقي للأُسَر العريقة نوعاً من التفوّق الاجتماعي التقليدي، حتى يمكِن تطويق الأزمة، والحيلولة دون انفجار ثوري، لا يمكِن السيطرة عليه، واستطراداً، الحفاظ على تماسك الجبهة المارونية.

ومع أن وكلاء الفلاحين، كانوا أكثر استجابة لجهود الإكليروس التوفيقية، فإن الإقطاعيين أخذوا على الكنيسة المارونية، أنها لم تعلن انحيازها الكامل إليهم، ناسية أن كثيراً من ممتلكاتها، كانت بفضل هِباتهم، فضلاً عن أياديهم البيضاء عليها؛ إذ طالما اضطلع آل الخازن بدور حُماة الكنيسة. أما وقد وقعوا في ورطة، فعلى الكنيسة أن تنحاز إليهم، اعترافاً بدورهم. ولكن الإكليروس الماروني، كان يدرك أن عصر الإقطاع والإقطاعيين قد ولّى.

وتوالت الاجتماعات، التي عقدها الإكليروس مع وكلاء الفلاحين، ومع الإقطاعيين. وعلى الرغم من أن مطالب الفلاحين كانت متواضعة، فقد رفضها الإقطاعيون. وإثر بعض الحوادث المتفرقة بين الجانبين، أدرك آل الخازن وغيرهم من الإقطاعيين، خطر التكتل الفلاحي الذي يواجههم. فجمعوا صفوفهم، واتخذوا من "غوسطا"، قاعدة لهم، تمهيداً لشن هجوم على مَعاقِل الفلاحين، وعلى القُرى التي رفضت طاعتهم. وأصبحت المواجهة العسكرية أمراً، لا مفرَّ منه، فبات التطرف من جانب "وكلاء" القُرى هو طابع الحركة الفلاحية. وتمثَّل ذلك في تولِّي طانيوس شاهين قيادة قطاعات مسلحة من الفلاحين، استطاعت أن تطرد آل الخازن من كسروان، وأن تستولي على أراضيهم. فدخلت الأزمة، (أواخر 1858 ـ أوائل 1859)، في طور جديد.

وكان طانيوس شاهين، على الرغم مما نُعِتَ به من عنف وقسوة، على بيِّنة من بعض المبادئ، ذات الطابع الديموقراطي، إذ كان يرى أن الوقت قد حان لأن يكون "الجمهور" هو صاحب الكلمة العليا في البلاد، وأن يرفع الإقطاعيون، نهائياً، يدهم عن الفلاحين.

ومن أهم الوثائق، التي تكشف طبيعة أهداف حركة الفلاحين، رسالة بعث بها بعض القُرى الثائرة إلى البطريرك، بولس مسعد، في 17 يناير 1859، حدد فيها الثوار مطالبهم، التي عكست عدداً من الوقائع، من أهمها:

أ. إن الفكر الديموقراطي، القائم على أساس المشاركة الشعبية، كان واضحاً في أذهان الثوار، وخاصة المطالبة بوضع وكيل، أو وكيلَين، للعمل إلى جانب المأمور، والمساواة والحرية، وإلغاء كافة الرسوم غير القانونية، أو الإقطاعية.

ب. إن الثوار كانوا معتدلين، إذ حافظوا على بعض امتيازات المشايخ. ولكنهم أصروا على أن واحداً فقط من الأُسْرة الإقطاعية، هو "المأمور". وأنه هو، وحده، يتمتع، بنوع من الامتيازات. والباقون تسري عليهم القوانين، التي وضعتها الدولة.

ج. إن الفلاحين اعترفوا بقيمة الإصلاحات العثمانية.

د. إن هذه الوثيقة، قدِّمت إلى البطريرك الماروني، اعترافاً من زعماء الثوار، بأنه فوق المنازعات القائمة.

ولقد أصبح، فعلاً، دور الكنيسة جوهرياً في حل المشكلة. وأصبح الطريق أمام نجاحه في الوساطة، مفتوحاً، بسبب اعتدال مطالب الفلاحين. ولعل هذا هو سبب تخلِّي الإكليروس عن طانيوس شاهين.

وعلى أي حال، فقد توصلت الكنيسة المارونية إلى اتفاق مع الفلاحين، أدى إلى عودة آل الخازن إلى كسروان، ولكن بعد أن كانت الضربة، التي وجِّهت إلى سلطاتهم الإقطاعية، قوية إلى درجة، تهاوت معها، بسرعة، منذ ذلك التاريخ، بقايا النظام الإقطاعي، لتحل محله البورجوازية الرأسمالية الحديثة.

2. "حوادث الستين" ( 1860 )

أ. دور القوى الكبرى في إثارة الطائفية

ما كادت ثورة الفلاحين تخبو، حتى استعرت نار الفتنة الطائفية، بين الدروز والموارنة؛ إذ تبيَّن للدول الأوروبية، أن الدولة العثمانية أضعف من أن تقف في وجْه الضغوط المتصاعدة، سواء من الخارج أو من الداخل. ولولا بريطانيا وفرنسا، لانهارت على يد روسيا، خلال حرب القرم (1854 ـ 1856). أما السلطات العثمانية، فسارعت إلى إصدار الخط الهمايوني (1856)، عساه يرفع نُظُمها إلى مستوى العصر، فتعامِلها الدول الأوروبية باحترام. إلاّ أن الضغوط الأوروبية، استمرت على ولايات الدولة العثمانية، فضلاً على حكومتها المركزية، وذلك بسبب تصاعد المصالح والأطماع الأوروبية المتضاربة فيها.

فقد كانت فرنسا قد دخلت في عهد جديد، من الآمال التوسعية، منذ ارتقى عرشها نابليون الثالثNapoleon III، الذي كان يعاني معارضة الحزب الإكليريكي، في داخل فرنسا. فسعى إلى أن يتطرف في أعمال، تثبت حرصه على الكاثوليكية، فيكسب تأييد هذا الحزب القوي. لذلك، يرى بعضهم، أنه لو لم يفتعل نابليون الثالث تحريض الموارنة ضد الدروز، لوجد في صراعهما، على الأقل، فرصته، ليظهر في دور المدافع عن حقوق المسيحيين في الشرق. بل إن ثمة مَن اتَّهمه بإثارة مشكلة كبرى في الشرق، أهدر فيها الكثير من دماء المسيحيين، مع أنه كان من الممكن تجنّبها.

ومِثل هذه السياسة الفرنسية، لا ينظر إليه، عادة، من زاويته الاقتصادية فحسب، وإنما إلى كونه تمهيداً منطقياً لاستيلاء الفرنسيين على مصر، كذلك، وهو ما حال دونه المعارضة البريطانية الشديدة. فكان مشروع شق قناة السويس من المشروعات العملاقة، التي حملت كثيراً من مؤيدي السياسة الفرنسية على الاعتقاد، أن، البحر الأبيض المتوسط، سيصبح بحيرة فرنسية، وأن على فرنسا أن تضطلع بدورها الحضاري في الشرق العربي. كان هذا، وفرنسا تنتقل من نصر إلى نصر. فبعد حرب القرم، خاضت حرب الوحدة الإيطالية، إلى جانب الإيطاليين، ضد الإمبراطورية النمساوية، وخرجت منتصرة (1859). وأخذت أقدام فرنسا تتوطد في البحر الأحمر، عند جيبوتي.

استغل نابليون الثالث الفرص المتاحة كافة، للظهور بمظهر البطل، في نظر شعبه، التائق إلى زعيم بطل. فتلقّف العلاقة الخاصة بين الموارنة وفرنسا، القائمة على الفكر الصليبي، والرغبة في أن تعود الشام كلها، يوماً ما، إلى مسيحيي أوروبا. وكان قناصل فرنسا، يرون أن الموارنة، هم مفتاح العودة إلى الشام. وكانت الشواهد، السياسية والعسكرية، ترسّخ هذه الاتجاهات لدى القناصل الفرنسيين، ولدى بعض أعضاء الكنيسة المارونية. فلقد استولت فرنسا على الجزائر، ونفت أميرها، عبدالقادر الجزائري، إلى دمشق، وتقدمت بمشروع شق قناة السويس، وحصلت على موافقة خديوي مصر عليه (1854 ـ 1856).

دفع النشاط الفرنسي، الواسع النطاق، المؤيدين لفرنسا، في لبنان والشام، إلى الإقدام على خطوات مشحونة بالتعصب للمسيحية، مستندين إلى قوة باريس ومساعدتها لهم ومدافعتها عنهم، عند اللزوم. ولقد كانت المؤسسات الدينية، ولا سيما "الجزويت"، أو اليسوعيين، لا تترك فرصة، من دون أن تستغلها في ترسيخ الفكر الصليبي بين الموارنة. وكان الإكليروس الماروني، قد أصبح بابويَّ التعليم والثقافة. ومن ثَم، كان كثير من رجاله مستعدين لقبول الفكر الصليبي، على أساس أنه حجر الزاوية في تحديد مستقبلهم في المنطقة. وهكذا، كانت الطائفية تزداد عمقاً، حينما أصبح الجبل يتمتع بنوع من الحكم الذاتي.

ومن الناحية الاقتصادية، كان لفرنسا مصالح متصاعدة الأهمية. وزاد من دفعها نحو المنطقة تقدُّمها الاقتصادي، إذ باتت تجني ثمار الثورة الصناعية، التي بدأتها في أعقاب الحروب النابليونية. حقيقة، أن قصب السبق، في الثورة الصناعية، كان لبريطانيا، وأن باريس دخلتها متأخرة عن لندن. ولكن اقتصاديات فرنسا المتوازنة، وإطلالتها على البحر الأبيض المتوسط، وكونها أكبر دولة في حوضه، ورسوخ إحدى قدمَيها في الجزائر، وتمهيدها للأخرى في مصر والشام ـ كل ذلك، جعل منطقة "لبنان" مجالاً حيوياً للسياسة التجارية، وللتطلعات الاحتكارية الفرنسية.

وأسفرت هذه السياسة عن منافسة قوية، بين فرنسا وبريطانيا، حول خطوط المواصلات العالمية، عبْر المشرق العربي. ودخلت فرنسا طرفاً في مشروعات الخطوط البرية، بين ساحل الشام والعراق، في مواجَهة مشروعات بريطانية مضادّة.

وبنمو الاقتصاد الفرنسي، تزايدت حاجة فرنسا إلى الحرير اللبناني، المتوافر في موانئ، بيروت وصيدا وطرابلس. ولهذا كانت الرأسمالية الفرنسية الصناعية، تلحّ على الحكومة الفرنسية في بذْل قصارى جهدها، من أجل السيطرة على الأسواق الشامية لتجارة الحرير والقطن، أو على الأقل، أن يكون نظام الحُكم في الشام ملائماً للأهداف الفرنسية، السياسية والاقتصادية.

وكانت هذه التطلعات الاقتصادية وراء الدعوات العديدة، التي تردَّدت في الدوائر الفرنسية، إلى إنشاء إمبراطورية عربية، في المشرق العربي، تكون برئاسة الأمير عبدالقادر الجزائري. ولكن، يصعب على فرنسا أن تحقق أهدافها، إلا إذا وطدت نفوذها في الشام، بدعم الموارنة، مادياً وثقافياً وعسكرياً. واستطراداً، كان استمرار تصعيد الخطر الدرزي، بصفة خاصة، والإسلامي، بصفة عامة، يحمل الموارنة على زيادة اعتمادهم على فرنسا، ومن ثم، إتاحة فرص أوسع لها، كي تضع قدَمها في الشام.

وكانت الحكومة الإنجليزية، تقف بالمرصاد للتحركات الفرنسية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، في منطقة الشرق الأوسط. فقاومت مشروع الدولة العربية، ومشروع شق قناة السويس، وزادت ارتباطها بالدروز.

ومهْما كانت أوجْه نشاط هاتَين الدولتَين الاستعماريتَين المتنافستَين، فإن اهتزاز الوضع، الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، في منطقة الجبل، كان العامل الرئيسي وراء فتح أبواب التدخل الخارجي. أما العوامل، التي جعلت المنطقة برميل بارود، فأهمها:

(1) توافر السلاح في أيدي أهل الجبل، وتحوُّل بيروت إلى مركز ناشط للاتّجار فيه.

(2) الصراع الطائفي كان قد خبا. ولكن، أمكن الفكر الطائفي إعادة استعاره، بتضخيم الأزمات، واستخدام الفكر الديني في المنازعات المحلية، مما يثير العامة، وإسناد القيادات المحلية إلى المتطرفين، مما يعقد الموقف.

وكانت السلطات الحاكمة، سواء القائمقاميتان أو السلطات العثمانية ـ هي المسؤولة عن تلافي مثل هذا الانفجار المتوقع، بالعمل على اقتلاع جذور الفتنة، قبل أن تتفرع. ولكن كلاًّ من هاتَين السلطتَين، كان يعوزها:

(1) القوة المسلحة، التي تمكّنها من تنفيذ خطتها.

(2) الاحترام اللازم، لكسب ثقة الناس؛ إذ أظهر الصراع بين القائمقام الماروني، بشير أحمد، والإقطاعيين الموارنة، أن القائمقام ضعيف، إزاء تفوّق خصومه.

وكان والي صيدا، خورشيد باشا، محيطاً بما كان يدور في الجبل. وهمَّ، غير مرة، بالتدخل في النزاع، بين الفلاحين والمشايخ، ولكنه خشي أن يتّهمه الأوروبيون بانتهاك الاستقلال الذاتي للجبل، بتدخله في شؤونه. وهكذا، بدا القائمقام ووالي صيدا، السلطتان الشرعيتان، عاجزتَين عن حُكم الموارنة. وعلى العكس من ذلك، كانت قائمقامية الدروز هادئة.

ب. دور السلطة العثمانية في توتر العلاقة بين الدروز والموارنة

تضمنت تقارير القناصل الأوروبيين العديد من الاتهامات، الموجَّهة إلى الموظفين الأتراك، بأنهم مسؤولون عن تزايد الأزمات بين الدروز والموارنة، وبمعاملتهم الموارنة معاملة غير طيبة، كردّ فعل للمشاعر الإسلامية، الساخطة على النشاط التبشيري في البلاد العربية، والتدخل الأوروبي، في مصلحة المسيحيين، في الدولة العثمانية، وتوالي الضغط الاستعماري على هذه الدولة والبلاد الإسلامية.

وكانت السلطات العثمانية ترى الأزمات، بين الفلاحين والإقطاعيين، في القائمقامية المارونية، دليلاً على أن الحُكم العثماني المباشر، هو الحُكم الملائم لهذه المنطقة.

في هذه الظروف، وقعت التصادمات الأولى، بين الموارنة والدروز، قرب بيروت، بينما كانت الجهود تكلَّل بالنجاح، للتوفيق بين الفلاحين الثوار والإقطاعيين الموارنة. وجاء في تقرير للقنصل الإنجليزي، مور، إلى السفير البريطاني، في الآستانة، في 31 مايو 1860: "إن القتال بدأ بهجوم فريق من مسيحيي المتن، على قريتَي "صليما" "وقرنايل"، المختلطتَي السكان، وطردوا سكانهما الدروز. أما الدروز، فأغاروا على قرية بيت مري، وأحرقوا دار الأمير. وفي اليوم التالي، أضرموا النار في عدة قُرى، في المتن وسهل بيروت. ومن الشائع، أن الجنود الأتراك، اشتركوا في النهب والسلب، والاعتداء على المسيحيين. وقد أحرقت أيضاً دُور الشهابيين ... إن كل "المتن"، وهو أكثر أنحاء لبنان ثراء، وأكثرها سكاناً، قد أكلته نار المسيحيين والدروز".

وإذا كانت المشاعر الطائفية المتأججة، هي المسؤولة عن التصادم الطائفي، فإن الصراع الطبقي، كان مسؤولاً، كذلك، عن انتشار الصراع الطائفي. فحينما تناهت أنباء الأزمة بين الفلاحين والإقطاعيين الموارنة، إلى أسماع الدروز، في "الشوف"، خشوا من ثورة مماثلة، في منطقتهم. وما لبثت العلاقات أن توترت بين الإقطاعيين الدروز ومَن في بلادهم من الموارنة، الذين أصبحوا يتطلعون إلى التخلص من القيود الإقطاعية، وإلى إعلان ثورة فلاحية ضد الاستبداد الإقطاعي الدرزي.

لقد كانت المعارك دموية. واتسع نطاق التخريب والتدمير. وامتدت الأحداث من لبنان إلى دمشق. وجاء من حوران وحدات درزية قوية، لشد أزْر دروز الجبل. فأمسى موقف الموارنة حرِجاً، حتى أصبحت الحوادث، في نظر القناصل، مذابح للمسيحيين، بل إن بعضهم سماها: "مذابح الستين".

وبينما كان القناصل يحتجون، بشدة، على موقف خورشيد باشا، والي صيدا، السلبي، أحياناً، والمعادي للمسيحيين، أحياناً أخرى، كانت الجبهة المارونية تتدهور بسرعة. بيد أن خورشيد باشا، بادر إلى حث الطرفين على وقف القتال، ونجح في التوصل إلى صلح، وقعه عدد محدود من أعيان الطرفين، في 6 يوليه 1860، ينص على:

(1) وقف القتال، من دون تأخير. وعودة الوئام بين الطائفتَين. وعدم مطالبة أي طرف بتعويضات.

(2) احترام النظام الإداري المطبّق في الجبل. وكذلك، احترام موظفي القائمقاميتَين، حتى يتأتّى لهم القيام بواجبهم.

وهكذا يكون خورشيد باشا، قد حرص على أن يحافظ على الوضع الرسمي القائم، من دون أن يقدِم على حل جذري للقضية؛ إذ إنه لا يستطيع ذلك، فضلاً عن كونه متهماً بالمشاركة في تلك الأحداث، إلى جانب الدروز. ولكن الحكومة العثمانية، كلفت وزير خارجيتها، فؤاد باشا، بأن يسرع، على رأس جيش قوي، إلى السيطرة على الموقف.

وما كان إرسال فؤاد باشا، على عَجَل، إلاّ إحباطاً للحملة، التي اعتزمت الدول الأوروبية إرسالها إلى الشام. وهي خطة تزعمتها فرنسا، وطرحتها، بكل قوة، على المجتمع الأوروبي، الذي كان يرحب بذلك الدور. وعلى الرغم من التباين في مواقف الدول الأوروبية، فإنها كانت متوافقة على ألاّ تعود السيطرة العثمانية المباشرة إلى الجبل، وأنه لا بدّ من إجراء أوروبي ضد المسلمين في الشام.

وأجرت الدول الأوروبية الكبرى مشاوراتها (إنجلترا ـ فرنسا ـ روسيا ـ النمسا ـ بروسيا)، في شأن الحملة العسكرية الفرنسية، لتسكين الأحوال في الشام. وكانت مناورات بريطانيا، خلال هذه المشاورات، متركزة في الحؤول دون حصول فرنسا على أي مكاسب، تتأتّى من جهدها العسكري في الشام. ولذلك، وافقت لندن، للتحكم في عمل الحملة الفرنسية، المزمع إرسالها إلى الشام، على:

(1) أن يكون استدعاؤها، في حالة عجز القوات العثمانية، تحت قيادة فؤاد باشا، عن السيطرة على الموقف.

(2) أن ترسل القوات (الأوروبية) إلى الشام، بناء على اتفاقية دولية، توقعها الدول الأوروبية الكبرى.

(3) ألاّ تبقى القوات (الأوروبية)، التي تستخدم في تسكين الأمور في الشام، أكثر من ستة أشهر، حتى لا تتحول تلك المساعدة العسكرية إلى احتلال فرنسي.

وأدت المفاوضات، في نهاية الأمر، إلى اتفاق، وقعته الدول الكبرى، في شأن تحديد أسلوب عمل القوة الأوروبية (الفرنسية) في الشام، على النحو التالي:

(1) إرسال قوة أوروبية إلى الشام، يكون نصف عديدها من الفرنسيين.

(2) اتفاق قائد الحملة، عقب وصولها إلى الشام، مع القائد العثماني، على أسلوب التحرك والعمل.

(3) تعهد الدول الأوروبية الكبرى (فرنسا ـ روسيا ـ إنجلترا ـ بروسيا ـ النمسا)، بدعم الحملة.

(4) بقاء الحملة في الشام، لا يزيد على ستة أشهر، على أن يقدِّم إليها الباب العالي المساعدات والتسهيلات.

وقد عنى ذلك أن الحملة، التي تقرر إرسالها إلى الشام، ليست حملة فرنسية، من الوجهة الرسمية، وإنما هي حملة أوروبية. وبذلك، أُرضيت فرنسا، بأن أعطيت الفرصة لتتولى هي إعدادها؛ وهو اعتراف ضمني بأن لها مطالب خاصة في الشام، تفُوق ما لغيرها من الدول الأوروبية. كما أُرضيت بريطانيا بكون الحملة غير مقتصرة على فرنسا، وأن تحركاتها، قُيدت بالتفاهم بين قيادتها والسلطات العسكرية العثمانية، الأمر الذي يحدّ من سلطة القادة الفرنسيين. فضلاً عن أنه أصبح من المستبعد جداً، أن يتمكن الفرنسيون من تحويل مهمة هذه الحملة، إلى قوات احتلال.

وما أن وصلت الحملة الفرنسية إلى بيروت، حتى بدأ قائدها، بوفور، اتصالاته مع فؤاد باشا، في دمشق. وسرعان ما دب الخلاف بين الرجلَين؛ إذ كان بوفور متعالياً، يتصرف وكأنه أصبح صاحب الأمر والنهي في المنطقة، وأن على الجميع أن يطيعوا أوامره، بمن فيهم وزير الخارجية العثمانية نفسه، فؤاد باشا، بينما كان المطلوب أن ينسق عملياته مع الوزير العثماني. فكان أن بدأ التصادم بينهما، منذ البداية؛ إذ عمل فؤاد باشا على أن يلتزم بوفور حدوده، وأن يقنعه بأنه لا يعمل على أرض فرنسية. فاقترح أن يتحرك القائد الفرنسي في ديار الموارنة فقط، في حين يتحرك الوزير العثماني في ديار الدروز. وكان فؤاد باشا يهدف من وراء ذلك إلى:

(1) إبعاد الجيش الفرنسي عن التصادم مع الدروز، حتى لا تشتعل الحرب الطائفية.

(2) قصر نشاط الجيش الفرنسي على ديار الموارنة.

فردّ بوفور على ذلك، بأن مهمة الحملة، هي تأديب الدروز فقط. وأنه لا بدّ من ملاحقتهم، وهو ما يعني أن الحملة، ستصل إلى "حوران"، وقد تصل إلى مشارف دمشق.