إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الأهلية اللبنانية






مواقع المخيمات الفلسطينية
مواقع المخيمات الفلسطينية
لبنان - التوزيع الطائفي
الجمهورية اللبنانية
تعداد الفلسطينيين بلبنان
جنوب لبنان



المبحث الخامس الدستور اللبناني، كمحدِّد تاريخي للحرب الأهلية اللبنانية

المبحث الخامس

الدستور اللبناني، كمحدِّد تاريخي للحرب الأهلية اللبنانية

       مع تتابع الأحداث التاريخية في لبنان، شهدت بدايات القرن العشرين اتجاهاً نحو مزيد من ترسيخ الطائفية، من خلال الدستور اللبناني. والمفارقة أن الدساتير، توضع لكي تبيِّن نظام الحكم في دولة مستقلة، في حين، وضع الدستور اللبناني ليحكم دولة تحت الانتداب. وكان لا بدّ لهذه النشأة أن تترك أثرها في كيفية وضع الدستور، وفي أحكامه، ثم في طريقة تطبيقه.

       بعد أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، واستقر الأمر لفرنسا في سورية ولبنان، إثر انتدابها من قِبل عصبة الأمم، لتولّي شؤونهما، وفقاً لما جرى من تقسيمات للمنطقة، في أروقة السياسة الدولية ـ بعد ذلك كله، عينت فرنسا أحد مواطنيها، السيد هنري دو جوفنيل، مندوباً سامياً في سورية. وبدأ دو جوفنيل عمله بجولات في بعض المدن السورية الكبرى. صرح في إحداها بضرورة قيام "دولة سورية المتحدة". وأثار هذا التصريح مخاوف بعض الطوائف اللبنانية، على أساس أن ذلك قد يعني فقدان لبنان ذاتيته، ليصبح جزءاً من دولة سورية الكبرى.

       إلا أن المفوض السامي، اضطر، لدى عودته إلى لبنان، ووقوفه على توتر الرأي العام اللبناني، إلى إصدار بيان، يوضح فيه أنه لم يقصد المعنى، الذي أثار مخاوف اللبنانيين، وأنه لم يفكر في المساس بالكيان الذاتي اللبناني. وأضاف أنه سيدعو المجلس النيابي، خلال مهلة قصيرة، إلى وضع دستور الدولة.

       وبهذا الوعد، أفسح دو جوفنيل المجال أمام المجلس الجديد، ليجتمع، من الفور، وينتخب لجنة، تختص بإعداد الدستور، وتنسيق بنوده. ووكل إليها استشارة الهيئات الرسمية، والشخصيات الدينية وأصحاب الرأي، من كبار الموظفين والقضاة والمحامين. فانقلب المجلس التمثيلي، منذ تلك اللحظة، مجلساً تأسيسياً، ليصبح مجلساً نيابياً، بعد إعلان الدستور. وانتخب باترو طراد وميشال شيحا، مقرِّرَين لتلك اللجنة. فأعدّا أسئلة خطية، حول المبادئ الأساسية للدستور الجديد، ونوع الحكم، ونظام الانتخاب والتمثيل، أرسلاها إلى المقامات المذكورة، للإجابة عنها. وعندما استكملت الأجوبة الخطية، دُعِي المشار إليهم إلى الحضور أمام اللجنة، للاستماع إلى آرائهم، شفهياً، ومناقشتهم في الموضوعات المثارة. فاتسعت الاستشارات اتساعاً كبيراً، ووضعت اللجنة مشروع الدستور، وأقرته بالاتفاق مع شارل دباس، ممثل الحكومة، مدير العدل، و"سولومياك" مندوب المفوض السامي في لبنان، و"سوشيه"، الموظف المختص بهذه المهمة، والذي أظهر تفهّماً للوضع الجديد. ولم يغفل القائمون على مشروع الدستور عن نصوص تحفظ حقوق الانتداب الفرنسي. وقد عنى ذلك، أن الصفة الغالبة على طريقة وضع الدستور، أنه جاء من طريق جمعية تأسيسية منتخَبة.

       وما أن اتُّفق على النصوص جميعها، حتى أعلن المفوض السامي، في المجلس النيابي، أمام ممثلي الشعب، وأمام الحاكم، ومجلس المديرين، وكبار الموظفين، والقضاة، الدستور اللبناني، ووضعه موضع التنفيذ. ثم عيّن، بقرار من المفوض السامي، مجلس شيوخ، قوامه ستة عشر شيخاً. وأصبح المجلس التأسيسي مجلساً نيابياً. ودُعي المجلسان إلى انتخاب رئيس للجمهورية.

       أعلن حاكم لبنان، باسم المفوضية السامية، أن للمجلس التمثيلي، وحده، الحق في وضع الدستور، مع الاحتفاظ بحقوق الدولة المنتدَبة، التي تحدَّد، فيما بعد، في تصريح من المفوض السامي. ومن الفور، انتخب المجلس، من بين أعضائه، لجنة من اثني عشر عضواً، لهذه الغاية. وهم شلبي دموس، عمر الداعوق، فؤاد أرسلان، يوسف سالم، جرجس زوين، باترو طراد، ميشال شيحا، روكز أبوناضر، صبحي حيدر، عبود عبدالرازق، جورج ثابت ويوسف الزين. وقرر المجلس، أن تعقد اللجنة اجتماعاتها برئاسة موسى نمّور. ولدى إكمالها مهمتها، عُرض مشروع الدستور على المجلس، الذي درسه في ثلاثة أيام، بين 18 و21 مايو 1926، ووافق عليه، وكذلك وافق عليه المفوض السامي في 22 مايو، ونُشر في 23 مايو 1926. فالسلطة التأسيسية، التي وضعت الدستور وأقرته، انحصرت، أخيراً، في المجلس التنفيذي، الذي بقي، بموجب المادة 97، متابعاً أعماله حتى انتهاء أجل نيابته، باسم مجلس النواب.

       إن واضع الدستور، حقيقة، هو السلطة المنتدَبة. فالفرنسيون انفردوا بوضع مشروعه، عام 1924، ولم يستشيروا أهل البلاد في ذلك. وعلى الرغم من تصريح "بريان"، في مجلس الشيوخ الفرنسي، عام 1925، بأن أهل البلاد سيشتركون في وضع النظام الأساسي، وعلى الرغم من تأكيد ذلك من قِبل المفوض السامي ـ فإن مشروع الدستور، كان من وضع الفرنسيين، وحدهم. وقد عُرض على المجلس التمثيلي، فناقشه، بسرعة. ثم نشره المفوض السامي، عام 1926. مما يعني أن مضمون الدستور اللبناني، أملته سلطة الانتداب. أما صَوْغُه، فعبّر عن إرادة مشتركة، تمثلت في المجلس التمثيلي والمفوض السامي معاً.

       تضمنت المادة الأولى من تصريح انتداب فرنسا على سورية ولبنان، ما يفيد أن المفوض السامي الفرنسي، سيضع قانوناً أساسياً للحُكم، خلال ثلاث سنوات، منذ بدء الانتداب (1923)، على أن تشترك بتهيئته السلطات المحلية، وأن يأخذ هذا القانون في الحسبان حقوق جميع السكان، القاطنين في هذه الأراضي، ومصالحهم وأمانيهم. وسيتضمن السبُل الكفيلة بتسهيل تقدُّم سورية ولبنان، بالتدريج، لكي يصبحا دولتَين مستقلتَين. وفي بداية الأمر، سوَّفت سلطة الانتداب بالدستور، ولم يبدُ منها ما يدل على أنها تأخذه مأخذ الجد، فنشبت ثورة مسلحة، في كل من سورية ولبنان، طالبت بالاستقلال، وبوضع الدستور.

       وإزاء هذه الثورة، اضطرت فرنسا أن تعلن، أنها ستتخذ الإجراءات اللازمة، لتمكين ممثلين منتخَبين من مناقشة النظام الدستوري الملائم وتقريره، بما لا يتعارض مع استمرار الانتداب و"سعيه" إلى مساعدة البلاد، حتى تتمكن من بلوغ رشدها السياسي.

       وعقب ذلك، شكلت في وزارة الخارجية الفرنسية لجنة ثلاثية، برئاسة "بول بونكدر"، كانت مهمتها وضْع مشروع الدستور اللبناني. وبادرت السلطات الانتدابية، تمويهاً، إلى الاتصال ببعض رجال الدين وبعض كبار الموظفين، تسألهم آراءهم ومقترحاتهم، حول شكل الحُكم، وعلاقة لبنان بفرنسا. وكانت أجوبتهم تُرسل إلى اللجنة الثلاثية، في باريس. وعلى الرغم من وجود مجلس تمثيلي، منتخب للإسهام في وضْع الدستور، فإن ذلك المجلس، لم يُرَد له، في بداية الأمر، أن يشارك في شيء يتعلق بوضع الدستور. ولمّا أحسّ أعضاء المجلس بذلك التجاهل، اتصلوا بسلطات الانتداب، محتجين ومطالبين بممارسة حقهم في الاشتراك في وضْع الدستور.

       حاولت سلطات الانتداب المضي في تجاهلها المجلس، ورأت أن دور السلطات المحلية، يقتصر على استطلاع رأي بعض رؤساء الطوائف الدينية، وبعض ذوي المكانة من اللبنانيين. فردّ أعضاء المجلس بإثارة الموضوع، في جلسة 17 أكتوبر 1925، حين ألقى الشيخ يوسف الخازن خطاباً، أخذ فيه على السلطة الرسمية انفرادها بوضْع الدستور، من دون الرجوع إلى المجلس، السلطة الرسمية الوحيدة القائمة في البلاد.

       وردّ مندوب المفوض السامي، أنه لا يتفق مع أعضاء المجلس، في وجهة نظرهم، وأن سلطات الانتداب، أوفت، في استشارتها بعض اللبنانيين، بالتزامها المنصوص عليه في صك الانتداب. وأنها مستعدة لسماع رأي المجلس، بل آراء جميع اللبنانيين، الراغبين في إبداء آرائهم في الموضوع. وعند عرض هذا الاقتراح، أقرّه المجلس بالأغلبية.

       وكان لموقف المجلس صداه في فرنسا نفسها؛ إذ عمدت إلى تغيير مفوضها السامي، العسكري، في سورية ولبنان، واستبدلت به مفوضاً سامياً آخر، هو هنري دو جوفنيل، الذي كان عضواً في مجلس الشيوخ الفرنسي، والذي أرسِل ليهادن الحركة الوطنية والمجلس التمثيلي، ويعطيه دوراً أكثر وضوحاً، ولو في الظاهر، في وضْع مشروع الدستور.

الطائفية في الدستور اللبناني

       نص الدستور اللبناني، في مبادئه الأساسية، على المساواة بين المواطنين اللبنانيين، في الحقوق والواجبات. ومن ثم، فهو لا يقر الطائفية، ولا التمييز بين المواطنين، على أساس انتماءاتهم الدينية؛ وإن اتسم بعض موادّه بملامح طائفية. ولكن تطبيقه، استند إلى هذه الملامح، دون مبادئه الأساسية. وعزز التطبيقَ الطائفي القوانين الانتخابية، المكملة للدستور.

       ولعل أهم مادة في الدستور اللبناني، كانت وراء استشراء الطائفية وترسيخها، هي المادة 95، سواء في أصلها، الذي صِيغ عام 1926، أو بعد تعديلها، عقب الاستقلال، تعديلاً، لم يؤثر في مضمونها. وقد نصّت على ما يلي:

"بصورة مؤقتة، وعملاً بالمادة الأولى من صك الانتداب، والتماساً للعدل والوفاق، تُمثّل الطوائف، بصورة عادلة، في الوظائف العامة، وفي التشكيل الوزاري، دون أن يؤدي ذلك إلى الإضرار بمصلحة الدولة". واقتصر تعديلها، بعد الاستقلال، على حذف عبارة: "وعملاً بالمادة الأولى من صك الانتداب". وعلى ذلك، بقي مضمونها على حاله.

       ويُلاحظ أن نصّ المادة 95، جعل مضمونها مؤقتاً؛ إذ إن واضعي الدستور، رأوا أن هذه المراعاة الطائفية، في تشكيل الوزارة وتوزيع الوظائف، إنما هي مسألة مؤقتة، يجب تخطيها، فيما بعد، لكي يصبح الأصل ما نصّ عليه الدستور، في أحكامه العامة، من أن المواطنين اللبنانيين متساوون، في الحقوق والواجبات. كما يُلاحظ أن نص هذه المادة لم يعرِض لمنصب رئيس الجمهورية. وليس في نصوص الدستور ما يشترِط أن يكون الرئيس من طائفة معينة. فضلاً عن أنه رهَن العدل والوفاق بين الطوائف، في توزيع الوظائف العامة والمناصب الوزارية، بعدم الإضرار بمصلحة الدولة.

       وإضافة إلى المادة 95، نص الدستور اللبناني على ضمان احترام نظام الأحوال الشخصية، والمصالح الدينية لأهل البلد، على اختلاف مِللهم. كما أقر للطوائف بحقها في إنشاء مدارسها الخاصة، وفقاً للأنظمة العامة، التي تصدرها الدولة في شأن المرافق العامة.