إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الأهلية اللبنانية






مواقع المخيمات الفلسطينية
مواقع المخيمات الفلسطينية
لبنان - التوزيع الطائفي
الجمهورية اللبنانية
تعداد الفلسطينيين بلبنان
جنوب لبنان



المبحث السادس الميثاق الوطني

المبحث السادس

الميثاق الوطني

       مثّل الميثاق الوطني خلاصة الاتفاق، بين كل من الشيخ بشارة الخوري، أول رئيس للجمهورية، بعد الاستقلال، ورياض الصلح، أول رئيس للوزراء. وهذا الميثاق غير مكتوب، فهو عُرْف. وأهم أحكامه، فيما نحن في صدده، أن يكون رئيس الجمهورية مسيحياً مارونياً، ورئيس الوزراء مسلماً سُنياً، ورئيس مجلس النواب شيعياً.

       يقول الشيخ بشارة الخوري، عن الميثاق، ما يلي: "وما الميثاق الوطني سوى اتفاق العنصرَين، اللذَين يتألف منهما الوطن اللبناني، على انصهار نزعاتهما في عقيدة واحدة. فاستقلال لبنان التام الناجز، يجب أن يتم دون الاعتماد على حماية من الغرب، ولا التطلع إلى وحدة أو اتحاد مع الشرق". ويضيف: "إن هذا الميثاق هو عهد بين جميع اللبنانيين، على اختلاف طبقاتهم وميولهم. وهو دعوة خالصة لتعاون وثيق بين الأقطار العربية ولبنان، لمصلحة الجميع، وعلى قدم المساواة، تحقيقاً لروح العدل والإنصاف".

       يتعرض الميثاق الوطني لصِلة لبنان بالأقطار العربية، فيؤكد أن لبنان "ذو وجْه عربي، يستسيغ الخير النافع من حضارة الغرب". وهذه الصيغة التوفيقية، تعني أن لبنان، ليس جزءاً من الأمة العربية، وفي الوقت نفسه، لا يدين بالولاء لدولة غربية، ولا سيما فرنسا، ولا يطلب حمايتها. وقد ظن واضعو الميثاق، أن هذه الصيغة توفِّق بين المطالبين بانتماء لبنان العربي، وأولئك المطالبين بحماية فرنسا والارتباط بها.

       ووازن الميثاق الوطني بين الطوائف المختلفة. فناط رئاسة الجمهورية بمسيحي ماروني. وعهِد برئاسة الوزارة إلى مسلم سُنِّي. ووكل رئاسة المجلس النيابي إلى مسلم شيعي. واشترط أن يراعى في تشكيل الوزارة العدد النسبي لكل طائفة، وأن تكون نسبة النواب المسيحيين إلى النواب المسلمين، في المجلس النيابي 6 : 5. بيد أن التطبيق العملي للميثاق، لم يقتصر على المناصب الرئاسية الثلاثة، بل تمادى ليشمل القيادات العسكرية والمراكز القضائية والإدارية، بل أمعن في تماديه ليشمل كل شيء.

الإطار التاريخي للميثاق الوطني

       على الرغم من أن الميثاق الوطني اللبناني، هو اتفاق عُرفي، فإنه ظل حجر الزاوية في الحفاظ على علاقات الطوائف الدينية المختلفة، ضمن إطار الكيان اللبناني. وكثيراً ما رُجع إليه لتهدئة الأزمات، التي شهدها لبنان من حين إلى آخر.

       وقد انبثق الميثاق الوطني من معركة الاستقلال عن فرنسا، وما اقترنت به من ضغوط من جانب الحلفاء (بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية) على حكومة فرنسا الحرة، كي تسلّم السلطات إلى الوطنيين، في سورية ولبنان، من دون تلكؤ. وكانت القوات البريطانية تحتل المركز الأقوى في هاتَين الدولتَين، ومع ذلك، بقي الفرنسيون يأملون أن يتبع موارنة لبنان، على الأقل، سياستهم القديمة، التي ترى في الوجود الفرنسي نوعاً من الحماية لهم. ولكن كثيراً من الموارنة، رأوا أن فرنسا أصبحت غير قادرة على أداء دورها التقليدي، بعد أن هُزمت أمام الألمان، في الحرب العالمية الثانية، فتراءى، لهم أنه من الممكن الاعتماد على القوى الأنجلوسكسونية، للحؤول دون اندماج الكيان اللبناني في سورية، أو أي تجمّع عربي، يلوح في الأفق. ولاحظوا أن أسلوب الأنجلوسكسونيين، يختلف عن أسلوب الفرنسيين، في أنه لا يتطلب سيطرة مباشرة، لأداء هذا الدور.

       لم يستطع الميثاق الوطني أن يوحد الطوائف الدينية حوله، إذ ضم كل منها متطرفين ومعتدلين، لدى المسلمين والمسيحيين على السواء. فالمسلمون المتطرفون، كانوا لا يزالون متعلقين بطيف الدولة العربية، التي نشأت في دمشق، عام 1920. ويرون أن مستقبلهم مرتبط بسورية، وأنه يمكِن تحقيق ذلك بإعادة لبنان إلى حدوده الجغرافية، التي كانت موجودة عام 1920، وإلحاق معظم المنطقة الساحلية، ذات الأغلبية الإسلامية، بسورية، كما تُرَدّ إليها الأقضية الأربعة، التي انتزعت منها، والواقعة على حدود الجبل الشرقية. وإما بارتباط لبنان بسورية، في شكل اتحاد فيدرالي، إن لم ينجح مشروع الوحدة العربية الكبرى، الرائج، آنئذٍ.

       على أن فريقاً من المسلمين المعتدلين، اقتنعوا بصعوبة تحقيق هذه الأماني. ورأوا أنه من الممكن التعايش مع الطوائف الأخرى، في إطار الحدود الجغرافية القائمة، بشرط أن يتراجع المسيحيون اللبنانيون عن نزعتهم القديمة، التي تبحث عن حماية خارجية. وأولى بلبنان الجديد، أن يسعى إلى مسايرة حركة التجمع العربي، بعد أن خاض، إلى جانب سورية، معركة الكفاح ضد الانتداب. بل إن بعض الزعماء المسلمين، المناصرين للوحدة العربية، في الماضي، سارعوا إلى اعتناق هذه الفكرة الممكنة التحقق، من الناحية العملية. وأبرز مثل على ذلك، هو رياض الصلح، الذي سبق له أن اشترك في تأسيس الحكومة الفيصلية في دمشق، فأصبح يعتنق فكرة الوطن اللبناني، مع اشتراط أن تكون هوية لبنان عربية.

       كذلك، انقسم المسيحيون إلى متطرفين ومعتدلين. فأبدى متطرفوهم استعداداً لاستمرار الوجود الفرنسي، على شكل معاهدة تحالف. كما أنهم رفضوا مسايرة حركة التجمع العربي، خشية أن تؤدي إلى ذوبان لبنان في كيان إسلامي كبير. وتمسّكوا بالفكرة القائلة، إن للبنان سمات ومميزات خاصة، تجعله مختلفاً عن جيرانه العرب. بل ذهب بعضهم إلى حدّ المناداة بوطن قومي للمسيحيين في لبنان، على غرار الوطن القومي لليهود في فلسطين. ونادى آخرون بروابط لبنان بحوض البحر الأبيض المتوسط، بما يضمه من ثقافات، لاتينية ويونانية الأصل، أقوى من تلك التي تربطه بالعالم العربي. وكان يمثل هذا التيار، حتى عام 1943، إميل إده، زعيم حزب الكتلة الوطنية، والذي ساء الفرنسيين هزيمتُه في أول انتخابات نيابية، تجري في عهد الاستقلال.

       وظهَر، في هذه الحقبة، فريق من المسيحيين، الذين رأوا في لبنان وجْهه العربي، وأنه من المستحيل، عملياً، عزْله عن محيطه. ولكنهم في الوقت عينه، لم يرضوا بذوبان الكيان اللبناني في محيط إسلامي. وقد شارك هذا الفريق من المعتدلين في معركة التحرير، بين عامَي 1941 و1943. وكان على رأسهم بشارة الخوري، المعروف، منذ 1937، بمناصرته للحريات الدستورية، ضد نزعة إميل إده إلى الحكم الرئاسي المطلق. وقد ساعد الوضع في سورية ولبنان، عام 1943، هذا الفريق، على الفوز في الانتخابات النيابية الأولى.

       كان طبيعياً، أن يلتقي المعتدلون من الفريقين، بعد التغلب على أزمة، كادت تودي بمسيرة لبنان نحو الاستقلال، وتمزق وحدته الوطنية إلى الأبد. ذلك أن سلطات فرنسا الحرة، المسؤولة عن الإدارة المدنية، عيّنت أيوب ثابت، أحد الموالين لها في منصب رئيس الدولة، بصفة مؤقتة، وحثّته على إصدار قانون انتخابي، من شأنه أن يستثير سخط المسلمين. فتتفكك الحركة الوطنية، خلال تلك الفترة الحاسمة. وحسب القانون الانتخابي المقترح، قُسِّم لبنان إلى أربع وخمسين دائرة، يخص المسيحيين منها اثنتان وثلاثون، والمسلمين اثنتان وعشرون، وهي النسبة التي كان معمولاً بها في عهد الانتداب، ولم يقبلها المسلمون، لعدم مطابقتها لنسبتهم العددية. وكانت الذريعة التي بُرِّر بها هذا التوزيع، هو تسجيل اللبنانيين المهاجرين في الخارج، كمواطنين، يحسبون في تعداد السكان. وكان المسلمون يتطلعون إلى مناصفة المقاعد. كما دعا بعضهم، منذ ذلك الوقت، إلى إلغاء التمثيل الطائفي.

       وبعد وساطة مصطفى النحاس باشا، رئيس الحكومة المصرية، الذي زار سورية ولبنان، آنذاك، لدراسة أحوالهما، تمهيداً لإنجاح مشروع الجامعة العربية، الذي كان يتبنّاه، اتُّفق على حل وسط، وهو أن يُقسَّم لبنان إلى خمس وخمسين دائرة، يكون للمسيحيين منها ثلاثون، وللمسلمين خمس وعشرون.

       أثبتت الوساطة المصرية، ارتباط لبنان، عملياً، بمحيطه العربي. وعندما جرت الانتخابات في سبتمبر 1943، فاز المعتدلون من كلا الفريقين، وهو ما هيّأ الفرصة لفوز بشارة الخوري برئاسة الجمهورية. وقد اختار الرئيس الجديد، رياض الصلح، كأول رئيس وزراء في العهد الجديد. ومنعاً لتجدد الخلافات الطائفية، ولمواجَهة المؤامرات الفرنسية، التي حاولت أن تعيد إميل إده، بالقوة، إلى السلطة ـ اتَّفق الرجلان على تحديد العلاقة بين الطوائف، بقصد إقامة توازن فيما بينها. وهكذا بُنِي الميثاق على فكرة التوازن، وليس على أساس إلغاء الطائفية. وقد عُرف هذا الاتفاق الشفوي، من خلال أول بيان وزاري، ألقاه رياض الصلح في مجلس النواب. وهو يتضمن المبادئ الآتية:

  1. لبنان جمهورية مستقلة استقلالاً تاماً، غير مرتبط بأي دولة أخرى (ويشير هذا البند إلى تصميم لبنان على وضع حدّ نهائي للنفوذ الأجنبي، على اختلاف أشكاله).
  2. لبنان ذو وجه عربي ولغة عربية، وهو جزء من العالم العربي، ذو طابع خاص. غير أن لبنان، على عروبته، لا يَسَعه أن يقطع علاقاته، الثقافية والروحية، بالحضارة الغربية، التي ساعدته على بلوغ درجة من الرقِي والتقدم، يحسد عليها (ويُلفت إلى أن هذه الفقرة، تعطي ثقافة الغرب وزناً روحياً في حياة اللبنانيين، بصفة عامة).
  3. لبنان مدعوّ إلى التعاون مع جميع الدول العربية، ولأن يصبح عضواً في الأُسْرة العربية، بعد أن تكون تلك الدول، قد اعترفت باستقلاله وكيانه، ضمن حدوده الحاضرة. وعلى لبنان في تعامله مع الدول العربية، ألاّ ينحاز إلى فريق ضد آخر.
  4. الوظائف كلها، توزع، بالتساوي، بين الطوائف المعترف بها. أما الوظائف الفنية، فتعطى الأولوية فيها للمهارات الشخصية، من دون اعتبارات طائفية.

       وقد جنّب الميثاق الوطني لبنان ثلاث مشكلات، هددت، في هذه الحقبة، وحْدته الوطنية وتدعيم استقلاله.

       المشكلة الأولى، تتعلق بتخطيط الحدود بينه وبين سورية. فإزاء موافقة المسلمين الإجماعية، من طريق نوابهم في المجلس النيابي، على الميثاق الوطني، تراجعت سورية عن المطالبة باسترجاع الأقضية الأربعة، فضلاً عن إقليم طرابلس، في شمالي لبنان. وكان ذلك التراجع هو ما دفعته سورية، ثمناً لانضمام لبنان إلى حضيرة الجامعة العربية. بل إن ميثاق الجامعة، ذهب في استرضاء لبنان إلى حدّ إدخال نص، بناء على طلبه، يستثني المنازعات على الحدود من اختصاص أي هيئة أو محكمة عدل عربية، تنشأ في المستقبل.

       المشكلة الثانية، تتعلق بانضمام لبنان إلى جامعة الدول العربية. فقد كان كثير من المسيحيين يتخوفون من هذا الاتجاه، ولا سيما أن فورة الحماسة الأولى، عند مباحثات تأسيس الجامعة العربية، أظهرت الدول العربية، وكأنها تسير نحو اتحاد فيدرالي. وقد شارك الوفد اللبناني بنصيب في حملة التحفظات، التي انتهت إلى جعل ميثاق الجامعة العربية ثوباً فضفاضاً واهي العرى. ولذا، أصبح انتماء لبنان إلى الجامعة العربية، لا يثير ذلك الانقسام الحادّ بين اللبنانيين، على خلاف ما ظهَر عند طرح القضية، عام 1943.

       المشكلة الثالثة، وهي التي لم يستطع الميثاق الوطني، أن يعصم لبنان منها، إلا لفترة من الوقت. وهي تتعلق بموضوع توزيع المناصب، بين المسيحيين والمسلمين، بالتساوي؛ فهذه عبارة تحتمل التأويل. فمنذ الخمسينيات، ارتفعت أصوات كثيرة في صفوف المسلمين، تؤكد أن قاعدة التساوي غير مكفولة، لأن التعداد، الذي أُخذ في الحسبان، عام 1943، ينطوي على خطأين:

       الخطأ الأول: هو حسبان المهاجرين اللبنانيين مواطنين، على الرغم من انقطاع صِلات بعضهم بالوطن الأمّ. ويرُدّ الطرف الآخر على هذه الحجة، بأن هؤلاء المهاجرين، يمتلكون ثروات ضخمة، وأن عدداً منهم، يرسلون جزءاً من ثرواتهم إلى ذويهم، فيسهمون في رخاء البلاد. وربما صح ذلك في الأربعينيات والخمسينيات، أما بعد ذلك، فقد أمست هذه الثروات لا تذكر، إلى جانب مدخرات النفط العربية، التي انهمرت على لبنان.

       الخطـأ الثاني: هو حسبان الأرمن في تعداد المسيحيين اللبنانيين، على الرغم من أن معظَمهم لا يشعرون بالانتماء إلى الوطن اللبناني. وقد رحل الكثيرون منهم، تباعاً، إلى أرمينياArmenia، منذ 1947. وخلاصة ذلك، أن النسبة في الوظائف، النيابية والإدارية، لم تكن متساوية.

       أما إشارة الميثاق الوطني إلى شغل الوظائف الفنية، حسب المهارات، فقد أدت، عند التطبيق، إلى حيازة المسيحيين على معظَمها، إما لرغبة السلطات العليا في ذلك، وإما لارتفاع نسبة المتعلمين بين المسيحيين أكثر منها بين المسلمين.

       ومن المآخذ التي عابها المسلمون على النظام الدستوري، أنه يمنح رئيس الجمهورية سلطات واسعة، مما يجعل توزيع المناصب الرئيسية مساواة شكلية فقط بين الطوائف؛ إذ إن رئيس الجمهورية، الذي ينتمي إلى الطائفة المارونية، يتمتع بسلطات، تتضاءل دونها سلطات رئيس مجلس الوزراء، السُّني، ورئيس مجلس النواب، الشيعي.

       وبعد الميثاق الوطني، رفض معظَم النواب المسيحيين تعديل الدستور اللبناني، الصادر عام 1926، تعديلاً، يتماشى مع روح الميثاق.

ملامح الطائفية في الميثاق الوطني

اتّسم الميثاق الوطني بالتوازن، البارز في:

  1. تخلّي المسيحيين اللبنانيين عن طلب الضمانة الأجنبية، الفرنسية، لاستقلال لبنان، مقابل تنازل المسلمين عن الوحدة مع سورية، أو أي دولة عربية أخرى. فالانتماء العربي للبنان، يعني إسهامه في مجال التعاون العربي، من دون أن يصل إلى حدّ اتباع سياسة عربية، تتعارض مع وحدته الوطنية.
  2. توزيع مناصب الدولة الرئيسية على الطوائف، كالتالي: رئيس الجمهورية مسيحي ماروني، ورئيس الوزراء مسلم سُني، ورئيس مجلس النواب مسلم شيعي، ونائب رئيس مجلس النواب من الروم. ويكون للموارنة، كذلك، مناصب قائد الجيش، ومدير عام الأمن العام، ومحافظ المصرف المركزي، فضلاً عن الإشراف على دوائر الجوازات والجنسية. كما تتمتع الطوائف المسيحية بأغلبية مقاعد مجلس النواب، بنسبة 6 : 5.

       وقد استند هذا التوزيع إلى إحصاء للسكان، أُجري عام 1932، عندما كان مجمل عدد السكان 785543 نسمة.

عدد سكان لبنان، طبقاً لإحصاء 1932 (آخر إحصاء رسمي)

النسبة بالترتيب

عدد السكان

الطائفة

29%

22%

19%

10%

7%

6%

4%

3%

226378

175925

145208

76522

53047

45999

31156

22318

الموارنة

السُّنة

الشيعة

الأرثوذكس

الدروز

الكاثوليك

الأرمن

طوائف أخرى

 

       رسّخ الميثاق الوطني الطائفية في النظام اللبناني، من خلال التطبيق العملي. فلم تقتصر على المناصب العليا، بل تجاوزتها إلى المستويات الدنيا من الوظائف العامة. وأصبح الميثاق الوطني، في التطبيق، يعني التضحية بالمصلحة العامة من أجل الطائفية. وأسهم في ذلك القوانين اللبنانية المتتالية، مثل قانون الأحوال الشخصية للطائفة الدرزية، عام 1948، وقانون تحديد صلاحيات المراجع المذهبية للطوائف المسيحية، عام 1959. بل إن قانون الانتخاب اللبناني، الصادر عام 1943، ظل محافظاً على جوهره الطائفي، على الرغم من تعديله عدة مرات، إذ وزّع الدوائر الانتخابية على أساس طائفي، مما قيّد حرية الناخب، ورسخ الوضع الطائفي، وعكس استمرار عزلة الطوائف بعضها عن بعض، منذ عهد العثمانيين.

       ولا عجب. فالدستور اللبناني نفسه، أرسى القواعد الطائفية، فعلى الرغم من أنه نصّ على مجموع الحقوق والحريات العامة: المساواة أمام القانون (المادة 7)، والحرية الشخصية (المادة 8)، وحرية الاعتقاد (المادة 9)، وحرية التعليم (المادة 10)، وحرية إبداء الرأي والطباعة وتأليف الجمعيات (المادة 13) ـ إلاّ أنه قنّن الوضع الطائفي، في مادته (95)، التي تنصّ على تمثيل الطوائف، بصورة مؤقتة، في الوظائف العامة وتشكيل الوزارة، من دون أن يؤول ذلك إلى الإضرار بمصلحة الدولة. وهو ما رسخه، بعد ذلك الميثاق الوطني. لكن "الصورة المؤقتة"، أصبحت دائمة. وغدا التوازن الطائفي، هو أساس النظام في لبنان. ولذلك، كلما اختل هذا التوازن، تعرّض النظام للخطر، إذ التوازن الطائفي واكبه توازن مناطقي (بين مختلف المناطق اللبنانية)، وتوازن مؤسسي (بين المؤسسات والمناصب الحكومية العليا)، وتوازن عائلي (بين بعض الأُسَر الكبيرة).

       وعلى الرغم من التعدد الحزبي، الواسع النطاق، في لبنان، فإن هذا البلد، يفتقر إلى نظام تعددي؛ إذ إن من شروط هذا النظام توزيع القوة السياسية بين عدد من الجماعات والتنظيمات، ترتبط فيما بينها بقدر من الولاءات المشتركة، مع وجود اتفاق عام بينها، يعبّر عن الرضاء العام في المجتمع. وهو ما يصعب الحديث عنه، في ظل الطابع الطائفي للعلاقات السياسية، في النظام اللبناني.

       ولم يصمد هذا الوضع طويلاً، مع تعرّض المجتمع اللبناني لآثار التغير الاجتماعي. وأهمها بروز قوى، اجتماعية وسياسية، جديدة، تريد تغيير قوانين اللعبة السياسية. وعلى سبيل المثال، أدى ارتفاع نسبة المواليد بين المسلمين، وخاصة الشيعة، إلى زيادة واضحة في أعدادهم، لم يواكبها أي تغير في مَوقعهم السياسي. ولا يعرف أحد، اليوم، على وجه اليقين، عدد سكان كل طائفة من الطوائف اللبنانية السبع عشرة. وقد كان قانون الانتخاب الأول، الصادر عام 1943، قد قرر، في مادتة السابعة، إجراء إحصاء عام للسكان، في مدة لا تتجاوز السنتين. وقد مضت عدة عقود، ولم يُجرَ هذا الإحصاء. وفي ظل غياب إحصاء رسمي، تبرز، بين الحين والآخر، تقديرات عن أعداد الطوائف في لبنان، وأهمها تقدير الجمعية البريطانية للدفاع عن حقوق الأقليات.

إحصاء "الجمعية البريطانية للدفاع عن حقوق الأقليات"، لعدد السكان في لبنان، عام 1945

العدد

الطائفة

000 100 1

000 900

000 750

000 250

000 200

000 175

000 150

000 50

الشيعة

الموارنة

السُّنة

الأرثوذكس

الدروز

الأرمن

الكاثوليك

طوائف أخرى

وفق هذا الإحصاء، ارتفع عدد الشيعة، ليتجاوز عدد الموارنة. وهو ما أَجمَع عليه كل التقديرات.

       هكذا، أصبح النظام اللبناني، بصيغته الطائفية، غير قادر على استيعاب التغيرات، الاجتماعية والسياسية، التي شهدها لبنان في خمسينيات القرن العشرين وستينياته، والتي واكبها المد التاريخي للحركة الناصرية، ثم انطلاق العمل الفدائي الفلسطيني، في أواخر الستينيات. ومع ازدياد عوامل الاختلال وعدم التوازن في المجتمع اللبناني، كان من الطبيعي، أن يحدُث الانفجار، في صورة حرب أهلية طاحنة.

       وفي الحرب الأهلية، التي بدأت في أبريل 1975، انقسم لبنان حول الميثاق الوطني. فالذين هاجموه، لم يقفوا عند التبعية الطائفية، وحدها، ولكنهم تجاوزوها إلى ضرورة أن يؤكد الميثاق انتماء لبنان العربي، مما يجعل وجود قوات عسكرية، تابعة لحركة المقاومة الفلسطينية، أمراً مبرراً، وغير متعارض مع المفهوم التقليدي السياسي في لبنان. واشتد الخلاف في عروبة لبنان، وحول المضمون الاجتماعي للنظام، حتى بلغ حدّ رفْض الميثاق الوطني، أو على الأقل تطويره.