إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الأهلية اللبنانية






مواقع المخيمات الفلسطينية
مواقع المخيمات الفلسطينية
لبنان - التوزيع الطائفي
الجمهورية اللبنانية
تعداد الفلسطينيين بلبنان
جنوب لبنان



المبحث السابع أزمة 1958، والتهيئة لحرب أهلية

المبحث السابع

أزمة 1958، والتهيئة لحرب أهلية

       اضطرت القوات، الفرنسية والإنجليزية والإسرائيلية، إلى الانسحاب من الأراضي المصرية، نتيجة للضغوطات، الأمريكية والسوفيتية، بعد حرب السويس. وكان ذلك مؤشراً إلى انسحاب الفرنسيين والإنجليز من المنطقة كلها انسحاباً شبه كامل، في مصلحة الأمريكيين، الذين سيباشرون عملية سيطرتهم على الشرق الأوسط، ليحلوا محل الدول المنتدبة أو المستعمرة.

       ومهد المناخ السياسي، مع بداية الخمسينيات، الطريق نحو ما عرف بأزمة 1958، وهي التي هددت، آنذاك، بحرب أهلية في لبنان. ففي تلك الفترة، أعلن الرئيس الأمريكي دوايت ديفيد أيزنهاورDwight David Eisenhower ما عرف في العالم العربي بـ "مشروع أيزنهاور"، بحجة "ملء الفراغ"، على أثر العدوان الثلاثي. وأعلنت مصر رفْضها هذه النظرية. أما في لبنان، فأعلن رئيس الجمهورية، كميل شمعون، وحكومته، تأييدهما مشروع أيزنهاور. وأطلقت حملة سياسية واسعة ضد السياسة الناصرية. وانضوى لبنان، رسمياً إلى المشروع المذكور، في 16 مارس 1957. وبادرت الحكومة اللبنانية، عام 1957، إلى تنظيم انتخابات، تؤمّن أكثرية نيابية، تسمح لرئيس الجمهورية بتعديل الدستور، وتجديد ولايته، التي ستنتهي في نهاية صيف 1958. وأسفرت هذه الانتخابات عن فشل معظَم الزعماء السياسيين، المعارضين لسياسة شمعون، مثل: كمال جنبلاط وأحمد الأسعد وصائب سلام وعبدالله اليافي.

       وفي فبراير 1958، أُعلنت الوحدة بين مصر وسورية. وأصبح جمال عبدالناصر رئيساً للجمهورية الجديدة، التي عرفت باسم "الجمهورية العربية المتحدة". وهلّل لهذه الخطوة فريق واسع من اللبنانيين، ولا سيما المسلمين. وإذا اللبنانيون فريقان؛ واحد مؤيد للسياسة الناصرية وللوحدة العربية، وآخر، بما فيه السلطة، معادٍ لهما.

       وترافق هذا الحدث مع تغيرات ديموجرافية في لبنان. إذ أشارت التقديرات، المتعلقة بعدد السكان، عام 1955، إلى أن عدد اللبنانيين المقيمين، يصل إلى 1267279 نسمة، وأن بيروت وضواحيها، تحتضن حوالي نصف مليون نسمة، وطرابلس مائة ألف، وصيدا خمسة وأربعين ألفاً، وزحلة وصور، يضم كل منهما أكثر من خمسة عشر ألف نسمة.

وأصبح التوزيع السكاني الطائفي على الشكل التالي:

 

المسلمون

 

المسيحيون

20%

السُّنة

28%

الموارنة

20%

الشيعة

9%

الروم الأرثوذكس

6%  

الدروز

6%

الروم الكاثوليك

3%

آخرون

6%

الأرمن

 

2%

آخرون

49%

المجموع

51%

المجموع

       وفي 8 مايو 1958، انطلقت شرارة الأزمة في لبنان، على أثر مقتل الصحافي التقدمي، نسيب المتني. ومرة أخرى، كان مصير لبنان، والمنطقة برمّتها، في مهب الريح. وكانت الحكومة اللبنانية تتهم الجمهورية العربية المتحدة، بدعم المعارضة اللبنانية، بالرجال والسلاح.

       وفي 11 يونيه 1958، صدر قرار مجلس الأمن الدولي الرقم 128، وقرر، بناء على طلب الحكومة اللبنانية، إرسال فريق من المراقبين الدوليين إلى لبنان، مهمته التأكد من عدم حصول تسرب غير مشروع للرجال والأسلحة والمعدات الأخرى، عبْر الحدود اللبنانية.

       وفي أثر انقلاب عسكري في العراق، في 14 يوليه 1958، أطاح الملكية، وأقام الجمهورية، وأعلن قادتُه تأييدهم للسياسة الناصرية، مما قلب موازين القوى في المنطقة، في مصلحة عبدالناصر والمعارضة اللبنانية ـ سارع الرئيس شمعون، في اليوم نفسه، إلى استنجاد واشنطن، معلناً موافقة حكومته على المساعدة العسكرية السريعة، من دون الرجوع إلى مجلس النواب.

       وفي صباح 15 يوليه، أُنزلت قوات البحرية الأمريكية في منطقة الأوزاعي، جنوب بيروت. واستهدف الإنزال الحيلولة دون سيطرة المعارضة المسلحة على البلاد، ووصول قادتِها إلى السلطة، مما كان سيؤدي، حتماً، إلى تغيّر جذري في الخريطة السياسية للمنطقة بأَسْرها. وبالفعل، كان للإنزال الأمريكي أثره في تسلسل الأحداث. واللافت أن إنزالاً مماثلاً للقوات الإنجليزية، حصل في الأردن، في اليوم عينه.

       وفي 31 يوليه 1958، انتُخب اللواء فؤاد شهاب، قائد الجيش اللبناني، رئيساً للجمهورية. ثم وضعت الحرب الأهلية أوزارها، تحت شعار "لا غالب، ولا مغلوب"، على أثر استلام اللواء شهاب للسلطة في 23 سبتمبر 1958، وتأليف السيد رشيد كرامي حكومة "قطف ثمار الثورة".

       لم تتمخض هذه الحرب الأهلية، في الحقيقة، إلا بضمان تمثيل أفضل للإقطاع السياسي المسلم، ومشاركة أكبر للبورجوازية في إدارة البلاد.

       أما فريق المراقبين، التابع للأمم المتحدة، فقد غادر لبنان، في 25 أكتوبر 1958، بعد أن تأكد عودة الهدوء، وانسحاب القوات الأمريكية من الأراضي اللبنانية. وهكذا استتب النظام من جديد، وعادت الحياة الطبيعية إلى مجراها في لبنان، وبدأت مرحلة جديدة.

       إن الصراع، الذي اندلع في ربيع 1958، مثّل أحد الأبعاد التاريخية للحرب الأهلية اللبنانية، التي تفجرت عام 1975. كما أنه يُعَدّ حالة نموذجية، تنمّ بكيفية تأثير الطائفية في توجهات السياسة اللبنانية، في علاقاتها بالآخرين، وبالسياسات الداخلية، مدّاً وجزراً. بيد أنه كان لتعقّد البنية الداخلية اللبنانية، وهشاشتها، والديناميات العربية ـ العربية، تأثير بالغ في علاقات لبنان الدولية، وفي الكيفية التي تصرفت بها الدول الخارجية تجاه ذلك، إضافة إلى الصراع حول السلطة، بين المعارضة والرئيس كميل شمعون، الذي كان يعمل على حدوث الاستقطاب في المجتمع اللبناني. واتهمت المعارضة الرئيس، بأنه يحاول تدويل الصراع الداخلي، بدعوته الولايات المتحدة الأمريكية إلى التدخل، عسكرياً. وكان ذلك، بالضبط، هو الإستراتيجية العامة لرئيس الجمهورية، ووزير خارجيته، شارل مالك، اللذين عمدا إلى تصوير المشاكل في لبنان، على أنها امتداد لتخاصم الدول العظمى. وكان لبنان قادراً، في ذروة الحرب الباردة، على الحصول على معونات اقتصادية، وتجهيزات عسكرية، من الدول الكبرى، وذلك باستغلال الاستقطاب، الذي كان يشوب النظام الدولي. وعملت إدارة أيزنهاور، في عامَي 1957 و1958، بتأكيدها خطر الشيوعية، على دفْع شمعون ومالك إلى الاعتقاد، أن في وُسعهما التعويل على دعم واشنطن.

       ضاق معظَم اللبنانيين باتِّباع الرئيس شمعون سياسات، إقليمية ودولية، عُدّت استفزازية، ومثيرة للانقسامات. وجاءت الجهود الأنجلو ـ أمريكية، الرامية إلى تعزيز الأمن الغربي، في الشرق الأوسط، من خلال عقْد مواثيق دفاعية، لتبرِز المشاعر المعادية لها في الوطن العربي، ولتعمل، كذلك، على استقطابه ما بين موقفين: موقف العرب، الذين رأوا أن تقدُّم المنطقة ومصيرها، مرتبطان كل الارتباط بالغرب. وموقف العرب، الذين فضّلوا اتِّباع سياسة مستقلة بين الكتلتين، الغربية والشرقية. وكانت النتيجة، أن أحاطت الحرب الباردة بالعالم العربي بأَسْره من كل جانب، بما فيه لبنان، الذي لم يستطع أن يعزل نفسه عن الأحداث المحيطة به. إن سياسة شمعون المؤيدة للعراق، قادتْه إلى التفكير في الانضمام إلى حلف بغداد، المعقود عام 1955. وهو حلف عسكري، جمع العراق وتركيا وباكستان وبريطانيا، وأثار ضغينة مصر، وسورية، التي وقفت في صفها. ولم تكن هذه السياسة مناقضة للميثاق الوطني لعام 1943، الداعي إلى الحياد، أو عدم الانحياز، وإلى التعاون مع الدول العربية الشقيقة.

       أفسد قيام حلف بغداد العلاقات العربية ـ العربية. وكان إيذاناً بانطلاق السياسات الجماهيرية في الوطن العربي، خاصة في لبنان. إذا انقسم اللبنانيون فئتَين سياسيتَين. أولاهما، رفعت شعار "لبنان الملجأ"، الذي يؤكد الأصل الفينيقي، والطابع التاريخي المتميز للبنانيين. وهي متحالفة، بقوة، مع الدولة، وتعكس رؤية مسيحية راديكالية (مارونية)، وتتماهى، ثقافياً وسياسياً، بالغرب. وتدعو إلى سياسة خارجية لبنانية أكثر نشاطاً، وإلى حلف إستراتيجي مباشر مع الدول الغربية، بدلاً من التحالف غير المباشر مع العراق وتركيا. إن هذه النظرة المثالية إلى الغرب، أدت إلى آمال مبالغ فيها، إذ افترضت أن الغرب، سيقاتل لحماية "النموذج الغربي الوحيد" في المنطقة العربية.

       أما الثانية، أو الرأي الآخر، المناقض تماماً، فهي فئة القوميين العرب. وهم ينظرون إلى مصير لبنان ومستقبله السياسي، في إطار عربي ـ إسلامي. ويعارضون، بإصرار، عضوية لبنان في حلف بغداد، لِئَلاّ يؤدي ذلك إلى تقويض حياد لبنان، في الشؤون العربية ـ العربية، وربطه بالغرب ربطاً أشد. وكانوا يشعرون، كذلك، بروابط عقائدية، تربطهم بأفكار عبدالناصر، الآخذة في الظهور، والمتعلقة بالاستقلال والوحدة وعدم الانحياز.

       وإزاء الضغوط، الداخلية والمحلية، رضخت الحكومةاللبنانية، فلم تنضم إلى حلف بغداد. وعلى هذا النحو، يُعَدّ تراجع حكومة شمعون إشارة إلى عدم قدرة الدولة على تنفيذ سياستها، الإقليمية والخارجية، في مواجَهة معارضة قوية، من جانب فئة القوميين العرب. ومنذئذٍ، أصبحت سياسة لبنان الخارجية، محور صراعات اللبنانيين، فقيِّدت بذلك حرية الدولة في العمل. وقد برزت صراعاتهم في:

  1. وجود اختلافات حادّة بين الفئتَين الرئيسيتَين، في شأن مَوقع لبنان السياسي، في المنطقة، وفي العالم. وكان لا بدّ لهذه الفجوة من أن تتسع، بسبب التوترات المتزايدة، الناجمة عن المخاصمة العربية ـ العربية، وتخاصم الدول العظمى.
  2. تأييد كميل شمعون الهاشميين، في بغداد وعمّان، على صراعهم ضد عبدالناصر، منتهكاً، بذلك، مبدأ الحياد، الذي انبثقت منه علاقات لبنان الحسنة بجيرانه العرب، فورطه بشكل أعمق في الحرب الباردة العربية ـ العربية، التي زادها اشتعالاً تنافس الدول العظمى.

       حيال ذلك، حاول شمعون أن يتجنّب التهميش، بالانهماك في السياسات الإقليمية، وبتأكيد دور جهاز الدولة الأساسي في رسم السياسة الخارجية وتنفيذها. وكان مصمماً على الحفاظ على توجُّه لبنان نحو الغرب. إذ كان يؤمن بخصوصية هذا البلد، ويحمل فكرة مضخمة عن وزنه، الحضاري والسياسي، مما قاده إلى المبالغة في تقدير أهمية لبنان، بالنسبة إلى الغرب.

       وبالنظر إلى وضع شمعون، والرابطة المتينة بين السياسات، الداخلية والخارجية، فإن تدهور العلاقات بين الدول الغربية والقوميين العرب، كان له تأثير في توتر العلاقات بين مصر وسورية، من جهة، ولبنان، من جهة أخرى، وتعميق الانقسامات الداخلية في لبنان نفسه. مثال ذلك تأميم شركة قناة السويس، عام 1956، وما أعقبه من هجوم أنجلو ـ فرنسي ـ إسرائيلي، على مصر. إن العدوان الثلاثي، قد هز المشرق العربي، وأثار فيه عاصفة من الاحتجاجات الشعبية، الأمر الذي وضع معارضي مصر، من العرب، في موضع الدفاع، وأجبر بعض أعدائها، مثل رئيس وزراء العراق، نوري السعيد، على الوقوف إلى جانب عبدالناصر. لم يكن الأمر كذلك، بالنسبة إلى شمعون. إنه لم يعبأ بالرأي العام اللبناني، ورفض، خلافاً لطلب رئيس الوزراء، عبدالله اليافي، أن يقطع العلاقات الدبلوماسية ببريطانيا وفرنسا، مما عجّل استقالة الحكومة، وتوجيه الاتهامات إليه بخيانة القضية العربية، من قِبل الفئة القومية ـ الإسلامية.

       بيد أن شمعون عيّن حكومة محافظة جديدة، برئاسة سامي الصلح، تولّى فيها شارل مالك وزارة الخارجية. إن اختيار مالك، وهو معجب بالغرب، بلا تحفظ، وناقد لاذع للشيوعية، جاء إمعاناً من شمعون في التقرب من التحالف الأمريكي، ولو أدى إلى المواجَهة مع المعارضين، المحليين والإقليميين. يضاف إلى ذلك أن مالكاً، وهو عقائدي ملتزم، طالما رأى أن على لبنان أن يضطلع بدور حيوي في الحرب الباردة. لقد كان شمعون ومالك يرجوان تسلّم مساعدات أمريكية، اقتصادية وعسكرية، كبيرة الحجم، لتعزيز سلطتهما. بل كانا يأملان، كذلك، الحماية تحت مظلة الولايات المتحدة الأمريكية، ضد قوى القومية العربية المتصاعدة. فمثلاً، خلال الأزمة الأمريكية ـ السورية، عام 1957، استقبل شمعون ومالك المبعوث الأمريكي، لوي هندرسون، من دون استشارة سورية. وقد حثّ مالك إدارة أيزنهاور على إسقاط النظام السوري، وأخبر هندرسون، أن لبنان، المؤيد للغرب، لا يمكِنه التعايش مع سورية، محايدة أمْ شيوعية الاتجاه. وحين اتحدت مصر وسورية، في فبراير 1958، رفض شمعون، في البداية، الاعتراف بالكيان الجديد، الجمهورية العربية المتحدة.

       ساعدت سياسة شمعون المعلنة، في تأييدالغرب، على تفاقم مصاعبه، الداخلية والإقليمية. وكان الرئيس هو ووزير خارجيته، مالك، ورئيس وزرائه، سامي الصلح، من أشد أنصار الغرب، حتى إنهم ربطوا مصالح لبنان بسياسة الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط. وكان على الدولة اللبنانية أن تختار إمّا صِلة وثيقة بواشنطن، وتتعرض لخطر عدم الاستقرار الداخلي، وللعزلة في المنطقة، وإمّا مهادنة عبدالناصر وقواه القومية، مما يضمن السلام الداخلي. وقد آثر شمعون الخيار الأول، لأسباب، سياسية ومصلحية. إذ كان يرى في الحرب الباردة، فرصة ذهبية، لوضع لبنان على الخريطة، وتجنّب التهميش. كما أنه كان يرجو التغلب على المعارضة، بجعْل سياسة لبنان الخارجية إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية.

       اغتنم شمعون ومالك فرصة الإعلان عن مبدأ أيزنهاور، عام 1957، الرامي إلى إيقاف المدّ الثوري في المنطقة، فطلبا مساعدات، اقتصادية وعسكرية، من واشنطن.

       بل إن شارل مالك، أبلغ الرئيس الأمريكي، قبل إقرار الكونجرس مبدأ أيزنهاور، في مارس 1957، ترحيب لبنان بمبدئه، وأنه مستعد لمكافحة الخطر الشيوعي في المنطقة. وادعى، كذلك، أن مصر وسورية، تخضعان للهيمنة السوفيتية. وأضاف مالك، مصرحاً: "إن من الضروري إجراء تغيير سياسي، في سورية ومصر". وكان لبنان هو القطر العربي الوحيد، باستثناء ليبيا، الذي وافق على مبدأ أيزنهاور، رسمياً.

       استنكرت المعارضة موقف شمعون، تجاه الجمهورية العربية المتحدة. واستنكرت، كذلك، سياسته الخارجية، المؤيدة للغرب. كانت المعارضة تعتقد، أن دفْع شمعون لبنان إلى الوقوف مع الغرب، ضد مصر وسورية، لا ينتهك حياد لبنان التقليدي فقط، بل يهدد، كذلك، التوازن الدقيق، القائم بين الطوائف اللبنانية المختلفة. وقد رأى اثنان من زعماء المعارضة، وهما كمال جنبلاط والشيخ نديم الجسر، أن انتفاضة عام 1958، كانت رداً مباشراً على النفوذ الأجنبي، وعلى اعتماد لبنان على الغرب. وقد مهدت الآراء المتباينة بين المؤمنين بخصوصية لبنان، وأولئك المؤمنين بالقومية العربية، السبيل إلى مواجَهة، يسعى فيها كل منهما إلى الحصول على الدعم الخارجي لتثبيت وضعه. وفي حين كان شمعون ومالك، يخطبان ودّ واشنطن، كانت المعارضة، ترحب بالعون، السياسي والمادي، من مصر وسورية معاً.

       وعندما تزايد التوتر، في الأشهر الأولى من عام 1958، حاولت حكومة شمعون أن تشدِّد على الطبيعة الخارجية للأزمة، وأن تقنع واشنطن بالحاجة إلى عمل حاسم. وحين حوصر شمعون ومالك في الداخل، تطلعا إلى الدعم من الخارج. وقد صور النزاع، منذ الابتداء، على أنه صراع بين لبنان، المؤيد للغرب، والقومية العربية الراديكالية، المتحالفة مع الشيوعية الدولية.

       ولا شك أن تدخّل الولايات المتحدة الأمريكية، عسكرياً، في لبنان، في يوليه 1958، لم يكن بسبب اعتقاد المسؤولين الأمريكيين أن استقلال لبنان وسيادته، مهددان من الشيوعية الدولية، بل لأهمية لبنان، كحلقة في السلسلة العربية. وقد كان أيزنهاور متردداً في إرسال قوات أمريكية إلى بيروت، قبل الانقلاب العراقي، على الرغم من طلبات شمعون ومالك المتكررة. وكان الرأي، في واشنطن، مجمعاً على أن التدخل المسلح، قد تكون له مضاعفات إقليمية، من شأنها أن تضر بالمصالح الغربية. ولم يكن أيزنهاور، ولا وزير خارجيته، جون فوستر دالاسJohn Foster Dulles، على استعداد للمخاطرة بمواجهة مصر وسورية، في شأن لبنان. ومع أن الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته، كانا يعتقدان، في البداية، أن المشكلة، في لبنان، ذات أصل شيوعي، غير أن كبار المسؤولين في واشنطن، اعترفوا أنه لم يكن للشيوعية دور جوهري فيها؛ فقد جاء معظَم التأثيرات الخارجية من سورية ومصر. والواقع، أن الاتحاد السوفيتي (السابق) كان مهمشاً، طوال الأزمة اللبنانية. ولم تكُن لديه القدرات العسكرية، ولا الرغبة في مواجَهة الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى خلاف موقف السوفيت من أزمة السويس، فإن موقفهم من أحداث لبنان، اتسم بضبط النفس، إلى حدّ كبير، وبمحدوديته. وهذه الحقيقة عكست هامشية هذا البلد في الإستراتيجية السوفيتية. وقد أثبتت الأحداث في لبنان، بما لا يدع مجالاً للشك، أن واشنطن كانت هي اللاعب المهيمن في مشكلته. أما دور موسكو، فكان ثانوياً.

       إن التدخل العسكري الأمريكي في لبنان، لم يعكس أي التزام إستراتيجي باهتمامات الفئة المؤمنة بخصوصيته، أو اهتمامات جهاز الدولة. لقد استخدمت واشنطن لبنان ساحة لإبراز قوّتها العسكرية، وإظهار إرادتها لحماية مصالحها الإقليمية الحيوية، ولا سيما الإمدادات النفطية، وتأكيد استعدادها لاستخدام القوة، عند الضرورة في لبنان.