إرشادات مقترحات البحث معلومات خط الزمن الفهارس الخرائط الصور الوثائق الأقسام

مقاتل من الصحراء
Home Page / الأقســام / موضوعات سياسية / الحرب الأهلية اللبنانية






مواقع المخيمات الفلسطينية
مواقع المخيمات الفلسطينية
لبنان - التوزيع الطائفي
الجمهورية اللبنانية
تعداد الفلسطينيين بلبنان
جنوب لبنان



الفصل الثاني

الفصل الثاني

الحرب الأهلية في لبنان (1975)

       تفجرت الحرب الأهلية اللبنانية في منتصف السبعينيات، إثر اغتيال النائب معروف سعد، عام 1975، فيما عرف بأحداث صيدا. وعقب حادث عين الرمانة، الذي عكس التصادم الماروني ـ الفلسطيني. بيد أن مناخاً متفجراً سبق، الحرب وأسهم في إشعالها.

أولاً ـ مؤشرات الحرب الأهلية اللبنانية

       تباينت الآراء واختلفت في بداية الصراع. فهناك مَن رأى أن وفاة جمال عبدالناصر، في 28 سبتمبر 1970، فتحت الأبواب لاحتمالات القضاء على الوجود الفلسطيني، وضرب التيار الوطني، على أرض لبنان، بعد مذابح الأردن. وثمة مَن قال بأن اغتيال الملك فيصل، في 25 مارس 1975، هو إشارة البدء بالقضاء على هذا التيار. وبين هذا الرأي وذاك، آراء متعددة، لعل أقربها إلى الصواب، أن أحداث عام 1973 هي البداية، خاصة أن لها جذوراً، تمتد في الماضي، وفروعاً تطاول العام التالي، 1974، حتى وقوع الانفجار مباشرة. ولعل أبرز الأحداث، التي رجّحت اختيار نقطة البداية في هذا العام، هي:

  1. محاولة الجيش اللبناني، في مايو 1973، القضاء على المقاومة الفلسطينية، على أرض لبنان، أو على الأقل، كسر شوكتها. وإزاء فشل الجيش في محاولته، تكوّنت الميليشيات الحزبية، لتضطلع بما عجز الجيش عن القيام به، أو مساعدته، على أقلّ تقدير.
  2. قرار مؤتمر القمة العربية السادسة الرقم 46، في الجزائر، في 28 نوفمبر 1973، أن منظمة التحرير الفلسطينية، هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، واعتراض الأردن على ذلك، وبداية أزمة سياسية حادّة، أثبتت استحالة إقناع الأردن برأي الأغلبية.
  3. تغيّر الدبلوماسية الأمريكية، في إطار إستراتيجية السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.
  4. بداية سلسلة اعتداءات إسرائيلية، ذات طبيعة خاصة، على الفلسطينيين، في لبنان.
  5. اندلاع حرب إعلامية عربية، تركزت، بوجه خاص، في جرائد لبنان. وقد ارتبطت بظاهرة انتشار الخلافات بين الدول العربية، التي بلغت حدّ التهديد باستخدام القوة بين الجيوش العربية، التي يجمعها اتفاق الدفاع المشترك.

هذه هي الأحداث، التي جعلت عام 1973، نقطة انطلاق نحو المذبحة الأهلية، التي شهدها لبنان.

1. التصادم المسلح، بين الجيش اللبناني والمقاومة الفلسطينية

وقع تصادم مسلح، بين الجيش اللبناني وقوات المقاومة الفلسطينية، في 2 مايو 1973. تبادل فيه الطرفان الاتهامات. فوزير الدفاع، آنذاك، فؤاد غصن، أعلن أن الحكومة، اعتقلت عدداً من رجال المقاومة، قرب السفارة الأمريكية، وذلك في 30 أبريل 1973. وفي أول مايو، اختطف عدد من الفدائيين رقيباً في الجيش اللبناني. وبعد ذلك بساعات، اختُطف رقيب آخر. وقال وزير الدفاع، إنه في أعقاب هذه الاستفزازات غير المسؤولة، اتخذ الجيش اللبناني إجراءات أمن استثنائية، في بيروت.

وفي مواجَهة ذلك، أعلنت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، في اليوم عينه، بياناً، قالت فيه، إن وحدات من الجيش اللبناني، معزَّزة بالدبابات والمصفحات، تحاصر منطقتَي صبرا وشاتيلا. وقد حاولت اختراقهما، تحت ستار كثيف من النيران ومدفعية الدبابات. وقد استهدف الهجوم بعض مكاتب منظمات اللاجئين ومخيمَيهم. وفي المساء، اتُّفق على وقْف القتال، إلا أنه، في اليوم التالي، 3 مايو 1973، قصف سلاح الطيران اللبناني مخيمات اللاجئين، في بيروت. ثم تجددت الاشتباكات من جديد، فضرب الجيش مخيم "ضبيه"، الواقع على بعد 10 كم، شمال العاصمة اللبنانية، ثم مخيم "تل الزعتر"، في شرقها.

وقد ذكر الرئيس سليمان فرنجية، في مجلس الوزراء، أن زوجة الزعيم الفلسطيني، "خالد بشرطي"، الذي اغتيل في الأردن، سنة 1970، قد قتلت برصاص مجهول، قرب منزلها، وهي عائدة من القصر الجمهوري. وذكر أنه تكشّف، خلال الاشتباكات، أن رجلين، ظهر أنهما من عملاء الاستخبارات الأردنية، حاولا اغتيال النائب نجاح واكيم، المعروف بميوله الناصرية. وقد تمكّن النائب ومعاونوه من القبض عليهما، ونقِلا إلى المستشفى للعلاج.

وانتقلت عمليات الجيش اللبناني، في اليوم الثالث، إلى الجنوب، حيث قصفت وحداته، المدعمة بالطائرات، مَواقع المقاومة. وسرعان ما اتُّفق على وقف جديد لإطلاق النار. إلا أن عدة عمليات عسكرية غامضة، استهدفت إثارة الاضطرابات، في الوقت الذي تجري فيه المحادثات بين الطرفين لإنهاء الأزمة. إذ قام مجهولون بعدة عمليات ضد مَواقع للجيش اللبناني، ومبانٍ حكومية، ومراكز للمقاومة. وقد أذاعت مصادر المقاومة تحذيراً من أن عملاء أردنيين، كانوا يطلقون النار على الجانبين، لاستمرار اشتعال القتال. وذكرت مصادر المقاومة، أن إذاعات غربية، بدأت توجه بيانات استفزازية، تنسبها إلى المقاومة، وتروّج معلومات كاذبة. فقد أذاعت، مثلاً، أن محاولة جرت لاغتيال ياسر عرفات. كما اتَّهمت الرئيس سليمان فرنجية، بأنه يحاول إضفاء الطابع الطائفي على الأزمة.

وخلال ذلك، أَمكَن التوصل إلى اتفاق بين المقاومة والجيش اللبناني. ولكن القتال تجدد، بعد خمس ساعات فقط من الاتفاق، وعادت الانفجارات تدوي في مَواقع الجانبين. واتَّفق أن تجدد القتال، بينما كان ياسر عرفات مجتمعاً إلى صائب سلام، رئيس وزراء لبنان السابق، وريمون إده، رئيس حزب الكتلة الوطنية. فبادر إده إلى الاتصال، هاتفياً، بالعماد إسكندر غانم، قائد الجيش، الذي أبلغه أن وحدة متمردة من الجيش اللبناني، ترفض الالتزام بالاتفاق، وهي المسؤولة عن إطلاق النار. وقد طلب ياسر عرفات، من الفور، من قوات المقاومة ضبط النفس، وعدم الرد.

وتطورت الأحداث، إذ استؤنفت الاشتباكات، واشترك الطيران اللبناني في قصف مَواقع المقاومة. ووقعت عمليات نسف، شملت 3 مصارف. وفي 12 مايو 1973، نقلت وكالة الأنباء الفرنسية خبراً من واشنطن، أن وزارة الدفاع الأمريكية، تعتزم إرسال أسلحة خفيفة إلى لبنان، لمساعدته على مواجَهة قوات المقاومة، وأن الأسلحة، ستسلَّم في القواعد الأمريكية، في اليونان وإيطاليا، تجنّباً لتعرّض الطائرات، أو السفن الأمريكية، التي تنقل الأسلحة، لأي حادث. وفي المساء، نفى فؤاد غصن، وزير الدفاع اللبناني، هذا النبأ، وقال إن وزارته لم تقدِّم أي طلب، في هذا الصدد، إلى الحكومة الأمريكية.

وأَمكَن، بجهود عربية، وتدخّل أمين عام الجامعة العربية، احتواء الأزمة، مع منتصف مايو. كما أَمكَن التوصل إلى اتفاق، عرف باتفاق "ملكارت" في 17 مايو 1973، وأهم ما جاء فيه، وفق ما نشرته الخارجية اللبنانية، ضمن ملاحق "الكتاب الأبيض اللبناني"، عن الوثائق الدبلوماسية حول الأزمة اللبنانية ـ الفلسطينية 1975 ـ 1976: "اعتماد الميليشيا، لتأمين حراسة المخيمات". وتعني الميليشيا بعض الفلسطينيين، القاطنين في المخيم، وغير المنضوين إلى فصائل المقاومة. كما نص الاتفاق على إخلاء المخيمات من الأسلحة، المتوسطة والثقيلة. وحدَّد مَواقع تمركز المقاومة، في نقاط محددة. الأهم من ذلك، هو قرار تجميد العمليات الفدائية كافة، من الأراضي اللبنانية، استناداً إلى مقررات مجلس الدفاع المشترك. كما وضع ضوابط للإعلام الفلسطيني، في لبنان. والغريب، أن المقاومة الفلسطينية و"الكتائب"، اتفقتا، في يونيه 1973، في ضوء أحداث مايو المؤسفة، على حدّ تعبير بيانهما المشترك، على أن إسرائيل ليست خطراً على الفلسطينيين، وحدهم، بل على الدول العربية كلها، وخاصة لبنان.

وأكد اتفاق ملكارت حق الشعب الفلسطيني في النضال، لاسترداد أرضه، وضرورة الدفاع عن لبنان وسلامة أراضيه. والمهم أن "الكتائب"، سجلت في البيان المشترك، ضرورة تجنّب الوقوع في الفخ الإسرائيلي، الهادف إلى افتعال الاقتتال بين الإخوة، على الأراضي اللبنانية، تفتيتاً للكيان اللبناني، وتوطئة لإعادة رسم خريطة المنطقة. وأشار البيان إلى أن الاعتداءات الإسرائيلية على جنوبي لبنان، ليست بسبب الوجود الفلسطيني، إنما مصدرها أطماع إسرائيل فيه.

وكانت المفاجأة، أن "الكتائب"، طلبت عدم إذاعة البيان، وقت توقيعه، حتى لا تصدم محازبيها، الذين جرت تعبئتهم، خلال أحداث مايو، ضد الفلسطينيين. ولكن البيان لم يرَ النور، حتى الآن، بل أصبح سراً من الأسرار، في سباق أحداث عام 1973 واصطداماتها.

وأهمية هذا التصادم، على الرغم من أنه انتهى، من دون تغيير جوهري في الموقف، أنه أوضح كثيراً من الحقائق. كما ترتب عليه، كذلك، كثير من السياسات والمواقف. ولعل ما يعنينا منها، أنه وجد في دائرة السلطة الحاكمة في لبنان، مع بدايات الأزمة، قيادات، رفضت الالتزام بما وقّعته السلطة، اتفاق القاهرة في 3 نوفمبر 1969، بين لبنان والمقاومة، بل ادَّعت أنها لم توافق على الاتفاق، على الرغم من أن المجلس النيابي وافق عليه.

2. حلف ماروني، في مواجَهة المقاومة الفلسطينية

منذ اللحظة الأولى للوجود الفلسطيني المسلح، ظهر تناقضه مع مصالح الفئة الحاكمة في لبنان، التي رأت في تناميه خطراً على كل مقومات وجودها. وأسفرت الدعوة إلى إطلاق حرية العمل الفدائي في لبنان، عام 1968، التي كانت تقف خلفها "الحركة الوطنية اللبنانية"، والجماهير العربية المتعاطفة معها، عن نشوء حلف ثلاثي ماروني، من كميل شمعون وبيار الجميل وريمون إده، استهدف:

  • الوقوف بالمرصاد لتجاوزات الفدائيين الفلسطينيين، لأن ذلك يشكل خطراً، داخلياً وخارجياً، بالنسبة إلى إسرائيل.
  • الوقوف في وجه التيار الشهابي اللبناني، على أبواب الانتخابات النيابية، في ذلك العام، تحضيراً للانتخابات الرئاسية عام 1970.

وقد رأى فؤاد لحود، رئيس لجنة الدفاع في مجلس النواب اللبناني، في منتصف السبعينيات، أن هدفَي الحلف، حققا له انتصارات واسعة في الانتخابات النيابية. يضاف إلى ذلك، أن الحلف، لاقى تأييداً من الدول العربية، اليمينية، إذ وجدت فيه مناصراً ضد اليسار. ودفع الحلف انتصاراته في الانتخابات، والدعم العربي اليميني، إلى التصلب في مطالبته بالحدّ من انطلاق العمل الفدائي من لبنان.

وساعدت إسرائيل على دعم هذا التيار، بغارتها على مطار بيروت، في 28 ديسمبر 1968، حين هبطت المطار فِرقة، بطائرات عمودية، ودمرت 13 طائرة ركاب ونقل كانت جاثمة على أرض المطار، تابعة لشركة طيران الشرق الأوسط اللبنانية، رداً على عملية الفدائيين الفلسطينيين، في مطار أثينا، في 26 ديسمبر 1968.

وفي 18 فبراير 1969، أعلنت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية قيام قيادة الكفاح المسلح (انظر ملحق بيان اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية حول تشكيل قيادة الكفاح المسلح). وبعد أيام، افتعلت السلطة اللبنانية تصادماً مع المقاومة، بهدف تقييد الوجود العسكري الفلسطيني، في جنوبي لبنان. إلا أن غضبة الشارع اللبناني، التي تمثلت في مظاهرات، اصطدمت بقوات الأمن، أدت إلى استقالة رئيس الوزراء، ورفض مختلف القيادات السياسية قبول تشكيل الوزارة، مما جعل الأزمة الوزارية تستمر 215 يوماً. وخلال ذلك، استمرت المناوشات التي تحولت، مع شهر أكتوبر، إلى اصطدامات مسلحة، في الجنوب، وعلى طول الحدود مع سورية، وفي المخيمات. ولكن انحياز فئة كبيرة من الشعب اللبناني إلى جانب العمل الفدائي، إضافة إلى الأزمة الوزارية، كل ذلك جعل حُكم شارل حلو في مواجَهة أزمة متصاعدة. فالجيش لم يستطع حسْم القتال، ومنْع التجول لم يوقف التصادمات.

وتحت ضغوط الأزمة، والضغط العربي، الرسمي والشعبي، طلب لبنان وساطة مصر. وفي 31 نوفمبر 1969، توصل المفاوضون إلى اتفاق سري، عرف باتفاق القاهرة، حق، بموجبه، العمل والإقامة والتنقل للفلسطينيين، المقيمين بلبنان، وقت توقيع الاتفاق. وبمقتضاه، تُنشأ لجان محلية، من الفلسطينيين في المخيمات، لرعاية مصالح اللاجئين، وذلك بالتعاون مع السلطات المحلية، وضمن نطاق السيادة اللبنانية. مع وجود نقاط للكفاح المسلح داخل المخيمات، تتعاون مع اللجان المحلية على تأمين حُسْن العلاقة بالسلطة. وتتولّى هذه النقاط تنظيم وجود الأسلحة وتحديدها، في المخيمات. والمهم أن الاتفاق انتهى إلى تأكيد الطرفين، أن الكفاح المسلح الفلسطيني، هو في مصلحة لبنان، كما هو في مصلحة الثورة الفلسطينية والعرب جميعهم.

وكان أهم ما انتهت إليه الأزمة الأولى مع المقاومة:

  1. تثبيت مَواقع المقاومة في لبنان، وانطلاق العمل الفدائي منها.
  2. تحديد القوى، التي تتصدى، حتى بالسلاح، للعمل الفدائي الفلسطيني. وهي الحلف الماروني والدول العربية اليمينية، حسب تعبير فؤاد لحود، وإسرائيل.
  3. الوجود الفلسطيني في لبنان، أصبح ورقة في الصراع حول الحُكم في لبنان. واتضح ذلك من أهداف الحلف الماروني.
  4. أزمة حُكم في لبنان، حاول كل القوى إخفاء معالمها. ولعل تصريح ريمون إده، يبرِز هذا الواقع، إذ أعلن، تعليقاً على تصريح لوزير الدفاع، آنذاك، نصري المعلوف، دعا فيه إلى مساواة اللبنانيين في حمل السلاح: "من الآن فصاعداً، كل ضحية تقع من جراء استعمال الأسلحة الحربية، سيضع الرأي العام المسؤولية على عاتق حكامه. وربما ينزعج الحكام من هذا الأمر. ولكن ربما يأتي يوم يوجَّه هذا السلاح نحو صدور الحكام أنفسهم. وعندئذٍ، يذوقون طعم الرصاص، عندما يخرق جلودهم. فإذا لم يشعروا، اليوم، بخطر هذه الأمور، فسيشعرون بذلك غداً، وربما في الآتي القريب".

وبعد ثلاثة أشهر فقط، أي في فبراير 1970، اقتدت السلطة الأردنية بالسلطة اللبنانية، فافتعلت تصادماً مع المقاومة، انتهى إلى مذابح سبتمبر 1970، والقضاء على الوجود الفلسطيني المسلح في الأردن. وأدى نجاح الأردن في ما فشل فيه لبنان، إلى تركُّز الوجود الفدائي في لبنان. وإذا كانت أحداث عام 1973 قد كشفت فريقاً في السلطة اللبنانية، رفض الالتزام باتفاق عام 1969 مع المقاومة، فإنها كشفت، كذلك، عجز الجيش اللبناني عن الاضطلاع بالمهمة، التي نجح فيها جيش الأردن، لاختلاف ظروف تركيب كلٍّ من الجيشين وتسليحه. فمن المؤكد أن الجيش اللبناني، استخدم كل قدراته، من طيران إلى مدرعات إلى مدفعية، في القضاء على المقاومة. ولكن التصادم، لم يؤدِّ إلى تحقيق أهدافه، على الرغم من تحقيقه بعض الكسب، من خلال اتفاق ملكارت، بفرض قدر من القيود عليها.

3. تكوين الميليشيات

ما كان للجيش اللبناني أن ينجح في مواجَهة الخطر الإسرائيلي، حتى لو توافر له السلاح. فأنّى له النجاح، وهو جيش بلا وحدة تجمعه! انبثق من معادلة طائفية، فكان انعكاساً لها. ولو استخدم في القضاء على المقاومة الفلسطينية، فسيكون عرضة للانقسام. وقد أوضح التقرير، المعروف بالتقرير 532، مدى عجز الجيش اللبناني عن النهوض بالمهام المطلوبة منه. وأن إعادة تسليحه وتدريبه، تستغرق سنوات، وهي قد تذهب سدًى، إن لم يلتزم بتنفيذ الأوامر، نظراً إلى التركيب الطائفي لرُتبه وتوزيعاته. ومن ثم، فليس هناك مفرّ من الاعتماد على الميليشيات الخاصة، على أن يكون الجيش عاملاً مساعداً لها.

وقد نوقشت مسألة إعداد الميليشيات، في اجتماعات بين سليمان فرنجية، رئيس الجمهورية، والعماد إسكندر غانم، قائد الجيش،وفي المكتب السياسي لحزب الكتائب، برئاسة بيار الجميل، ثم بين كميل شمعون وبيار الجميل. وقد كشفت المناقشات، أن هناك أربع مشاكل، يحتاج التغلب عليها إلى خطة تحرك وتعبئة، حتى يمكِن إنشاء ميليشيات فاعلة، وهي مشاكل التمويل، وجمْع الشباب، والتسليح، والتدريب. وفعلاً، وضعت خطة متكاملة لذلك.

فنشطت جماعة الكسليك، وهي مجموعة من الرهبان الموارنة، في جمْع التبرعات، تحت شعارات ونداءت متعددة. واستطاعت جمْع 56 مليون ليرة (21 مليون دولار)، خلال عامَي 1973 و1974. وانبرى حزب الكتائب لتعبئة الشباب وتدريبهم العسكري، كونه أكثر الأحزاب اللبنانية قدرة على ذلك، بحكم بنيته التنظيمية. وتولى الجيش اللبناني مسؤولية شراء السلاح، وتحويله إلى الميليشيات التابعة لحزبي "الكتائب" و"الأحرار"، وجماعة "حراس الأرز". بعد ذلك، وبالاتفاق مع رئيس الجمهورية، كُلِّف ضباط من الجيش اللبناني، ولا سيما منهم الموارنة، من طريق الإجازة أو الإعارة، بتدريب هذه الميليشيات. بل إن الجيش اللبناني، استخدم الدعم العربي، المالي والعسكري، الذي تقرر له في مجلس الدفاع المشترك، في الفترة من 3 إلى 4 يوليه 1974 (انظر ملحق قرارات مجلس الدفاع المشترك في دورته الخاصة الخامسة عشر)، في مصلحة الميليشيات. وأُعِدَّت دورات تدريب لميليشيا "الكتائب"، في ألمانيا الغربية وإسرائيل والأردن.

والواقع، أن الأدوار لم تكُن محددة تماماً، بمعنى أن من يجمع المال لا علاقة له بشراء السلاح أو التدريب، مثلاً، بل تداخلت الأدوار، ونشط الجميع إليها. وفي هذا الإطار، مثلاً، زار بيار الجميل، رئيس حزب الكتائب سورية، في 26 سبتمبر 1973، حيث اجتمع بالرئيس حافط الأسد، في جلسة مغلقة، ثم اجتمع إلى عبدالحليم خدام، رئيس الوزراء، ووزير الخارجية، وعدداً من قيادات حزب "البعث" السوري. وتناول الاجتماع المغلق، بين الأسد والجميل، وضع المقاومة في لبنان، والتعاون اللبناني ـ السوري. وقال، خلاله، بيار الجميل للأسد، إنه مع "المقاومة التي تريد أن تحرر الأرض، لا مع المقاومة التي تريد أن تشتغل بالسياسة".

وفي أول فبراير 1974، زار بيار الجميل القاهرة، حيث أجرى مباحثات مع الاتحاد الاشتراكي، عبّر، خلالها، عن وجهة نظره في شأن المقاومة في لبنان. وقد التقى خلال الزيارة بالرئيس أنور السادات، في برج العرب. ثم عاد إلى لبنان، في طائرة مصرية خاصة.

وفي أول أبريل 1974، زار بيار الجميل المملكة العربية السعودية، في طائرة سعودية خاصة. وشملت زيارته "خميس مشيط"، حيث استقبله، في مطارها العسكري، الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة عسير، وجميع القادة العسكريين للمدينة العسكرية، التي وصفت، آنذاك، بأنها أحدَث مدينة عسكرية في الشرق الأوسط. وجال الزائر في المدينة العسكرية، وأجرى مباحثات مع أميرها الفيصل. وفي اليوم التالي، زار كلية الطيران الحربي، في جدة، وتفقّد المنشآت والمعدات العسكرية، وشاهد التدريب على عمليات إطلاق صواريخ أرض/جو، الأمريكية.

وفي مايو سنة 1974، وصل بيار الجميل الأردن، في طائرة أردنية خاصة، حيث زار وحدات الجيش الأردني، وشاهد، في أحد المَواقع العسكرية، تدريباً عملياً على المدفعية، ثم عمليات الصاعقة. وشرح قائد المَوقع لضيفه قواعد التدريب، وأن المَوقع مفتوح لتدريب قوات الدول العربية. وسأل بيار الجميل عن إمكان تدريب أفراد، لا صفة رسمية لهم، فأجاب قائد المَوقع: "إن تعليمات جلالة مولانا، أن تُلبى طلباتك جميعها، حتى دون الرجوع إليه". ثم التقى بيار الجميل الملك حسيناً، وعرض عليه وجهة نظره في وجود المقاومة في لبنان. أمّا كميل شمعون، فكان يفخر، علناً، بأن ميليشيا "النمور" التابعة لحزب "الأحرار" تتدرب في الأردن. ولا بدّ أن يضاف إلى هذه الأدوار دور المهاجرين اللبنانيين في الخارج، سواء بتقديم الدعم المالي، أو الوساطة في عمليات شراء السلاح.

وقد راوح ثمن كميات السلاح، التي اشترتها "الجبهة اللبنانية" (الوجه السياسي للميليشيات المسيحية)، ما بين 200 إلى 600 مليون دولار. وقيل إن هذه الأموال، جاءت من المصارف المنهوبة، ووكالة الاستخبارات المركزية، وإسرائيل، وألمانيا الغربية، والفاتيكان، وإيران وشاهها. وهناك أدلة، في باريس، على أن جزءاً من مبلغ المليوني دولار، الذي سُرق من شركة "داسو"، من طريق محاسبها، "دي فاتير"، قد دُفع إلى "الجبهة اللبنانية"، بوساطة المرتزقة "جين كاي".

أما إسرائيل، فكانت ترسل السلاح عبْر ميناء جونيه، في حماية زوارق الدوريات الإسرائيلية. وهو ما أشار إليه دين براون، المبعوث الأمريكي إلى لبنان، في حديث أذيع من واشنطن، في 10 أغسطس 1976، ونُشر في الجرائد اللبنانية، في 23 أغسطس.

هكذا، عملت القوى، الراغبة في القضاء على العمل الفدائي، بكل إمكاناتها، لتحقيق هدفها، على الرغم من الاتفاقات والتعهدات، بعد فشل الجيش اللبناني في أن يحقق لها هذا الهدف. فطفقت تنشئ الميليشيات الخاصة.

4. رفْض لبنان قرارت مؤتمر القمة العربية، في شأن الفلسطينيين

عقد مؤتمر القمة السادس في الجزائر، في الفترة من 26 إلى 28 نوفمبر 1973. وكانت مشكلته الرئيسية تمثيل الشعب الفلسطيني. ووضح للأردن، في ظل نتائج حرب أكتوبر، عدم قبول الدول العربية تمثيله الفلسطينيين. ولذلك، تخلّف الملك حسين عن المؤتمر، بعد أن وافق وزراء الخارجية على توصية، بأن منظمة التحرير هي الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني.

وكما تحفّظ الأردن من القرار، الذي يرى منظمة التحرير الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني، كذلك، تحفظ لبنان من القرار الذي يجعل كل الأراضي العربية حقاً إستراتيجياً للعمل الفدائي. وجمع لبنان والأردن عداؤهما لمنظمة التحرير الفلسطينية، وحدد إمكانات التعاون بينهما، في هذا المجال.

وتزامن ذلك كله مع تصعيد إسرائيل عملياتها الانتقامية، ضد الفدائيين الفلسطينيين، في لبنان. ففي 11 أبريل 1973، اقتحمت قوة كوماندوز إسرائيلية بيروت، حيث قتلت عدداً من قيادات المقاومة: محمد يوسف النجار، عضو اللجنة المركزية لمنظمة "فتح"، ومسؤول الشؤون السياسية في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، ورئيس اللجنة السياسية الفلسطينية في لبنان. وكمال ناصر، المتحدث الرسمي باسم قيادة منظمة التحرير؛ وكمال عدوان، عضو اللجنة المركزية لمنظمة "فتح"، والمسؤول، العسكري والتنظيمي، عن القطاع الغربي، الذي يشمل الضفة الغربية وغزة. وأثبت التحقيق الذي أجرته الحكومة اللبنانية، أن لبعض قيادات الجيش اللبناني علاقة بالعملية.

وأعلنت المقاومة، أن العملية تستهدف الوقيعة بينها وبين لبنان. والغريب، أن وزارة الدفاع اللبنانية، نفت ما تضمنه بيان المقاومة، بل نفت اضطلاع إسرائيل بالعملية. وفي الوقت عينه، هاجم 20 مسلحاً منطقة صيدا، حيث نسفوا مستودعات تكرير النفط.

وفي 25 يونيه 1974، دعا إسحاق رابين Yitzhak Rabin، رئيس وزراء إسرائيل، "لبنان، إلى إبعاد جميع المنظمات الفلسطينية عن أراضيه".

       إزاء ذلك كله، استوفت الحرب أسبابها، وزادها سبباً حكومة رشيد الصلح، التي حكمتها توازنات دقيقة جداً، ناهيك ضعف رشيد الصلح نفسه، داخل موازين القوى العامة في السلطة. وأتبعها سبباً تردُّد الزعامات الإسلامية التقليدية في التصدي لـ "الكتائب"، وسعيها إلى إطاحة حكومة الصلح، تغليباً لمصالحها.

ثالثاً ـ الحرب الأهلية اللبنانية

       مرت الحرب الأهلية بمرحلتين. بدأت بمرحلة حرب المدن، وانتهت بحرب الجبال، وإنْ استمرت حرب المدن، خلال المرحلة الثانية.

       بدأت الحرب في مدينة بيروت، عام 1975، بعمليات خطف عشوائية. ثم ارتبط الخطف برصاص القناصين، الذين انتشروا على سطوح الأبنية العالية، التي تتحكم في مداخل الطرق. ثم رُفِعت المتاريس، من أكياس الرمل والأسلاك الشائكة، في كل مكان. فالخطف العشوائي هو أفضل السبُل لإثارة الخوف، فيصبح كل فرد، مهْما كانت سلبيته، أو بُعده عن المشاركة في الأحداث، عرضة للخطف. ثم إن انتشاره يخلق الشك بين الناس، فلا يثق أحد بأحد، إلا في دائرة العائلة، التي تتسع لتشمل الحي، ثم الطائفة. وهكذا، يرتبط أمن المواطن بالعائلة والحي والطائفة. ويُحكَم إغلاق الدائرة بالمتاريس والقنص. والقناص لم يكُن مجرد قاتل محترف، وإنما جزء من إستراتيجية حرب المدن، بتحويل الأحياء إلى جبهات قتال. وما أن يتحقق ذلك، حتى تجري عملية تطهير الحي من الرافضين للحرب، كأسلوب للتعبير عن الخلاف في الرأي أو في المصلحة، سواء كانوا من الطائفة نفسها، أو من طائفة أخرى. فالتطهير يشمل كل رافض لمنهج القتل. وإثر تطهير المنطقة، يوضع لها نظام حُكم، بقوة السلاح، لغة الحرب الوحيدة.

       وكشف الواقع، أن "الكتائب" كانت، في بداية الحرب الأهلية، أكثر الأطراف دقة، في التنظيم والتنفيذ، بحُكم تنظيمها الفاشي، وحجم السلاح، وعدد المدرَّبين عليه. ولم تكُن "الحركة الوطنية اللبنانية" في حاجة إلى هذا الأسلوب؛ فهي، بحُكم طبيعتها، بعيدة عن الانغلاق. ووضح ذلك في بيروت الغربية، التي كانت تحت سيطرتها، حيث لم يتعرض التجمع المسيحي الأرثوذكسي، في حي السريان، أو في منطقة المزرعة، للخطر، باستثناء بعض الحوادث الفردية، التي أمكن السيطرة عليها. بينما لم تتورع "الجبهة اللبنانية" (الجميل ـ شمعون ـ فرنجية) عن القضاء على الموارنة المعارضين لها، أو تهجيرهم من بيوتهم، إنْ كانوا ينتمون إلى عائلات عريقة.

       ومع التقسيم الجغرافي، بدأت حرب "الأحياء". وخلالها، أسفر معظَم اللبنانيين عن طائفيتهم وتعصّبهم البغيض. وعمت الجرائم بلداً، كان أبناؤه يدّعون أنهم أكثر أبناء المنطقة حضارة وتقدماً. فإذا بالقتل الجماعي على الهوية، يصبح أسلوباً للحرب. فِرق من المسلحين تدخل مواقع العمل، وطبقاً لبيانات تحقيق الشخصية، تجمع الخصوم في الحجرات، وتطلق عليهم النيران، وسط توسّل زملائهم، الذين أنقذهم انتماؤهم إلى مذهب القاتل نفسه. فضلاً عن اغتصاب الفتيات، وتقطيع الجثث وجمعها والرقص حولها. إضافة إلى أن قائد السيارة، مثلاً، استبدل الرصاص بالزمارة، لإفساح الطريق لسيارته. زد على ذلك حواجز المسلحين في الطرقات، وتجريدهم المارين من ملابسهم، ليصبحوا عراة، ومن خلال "عملية الختان"، يمكن تمييز هوية الشخص.

       أمّا يوم السبت، 6 ديسمبر 1975، فكان، حقاً، "السبت الأسود". ذلك أنه على أثر العثور على جثث أربعة قتلى، في منطقة الفنار، قيل إنهم من مرافقي بيار الجميل، زعيم "الكتائب"، سارعت ميليشيا الحزب بإطلاق مقاتليها في اتجاه ساحة الشهداء وباب إدريس، قلب بيروت، حيث اختطفوا العشرات، وقتلوا معظمهم، من الفور، وقطّعوا الآخرين على أبواب مقارّ الحزب. وعمد مقاتلو "الكتائب"، عند حاجز المرفأ، إلى إطلاق النار على عماله، وألقوا جثثهم في البحر. وبلغ عدد ضحايا "السبت الأسود" 110 قتلى، ونحو 300 مخطوف، علاوة على الجثث التي أُلقيت في البحر. وكان بين الضحايا نحو 30 عاملاً مصرياً. وظهر، بعد ذلك، أن "الكتائب"، كانت قد اختطفت عدداً من المصريين، وسخرتهم لخدمتها، تحت التعذيب، ولم يستطع أحد التدخل لإنقاذهم.

       واتّسمت حرب "الأحياء" بالقصف العشوائي، إذ شهدت مدن لبنان تبادل قصف بأسلحة، لم يسبق أن استخدمت في أي حرب أهلية، داخل المدن، مثل الصواريخ ومدفعية الهاون والمدفعية الثقيلة.

       وفي المرحلة الثانية، طغى على الحرب طابع حرب الجبال، وإنْ لم تتوقف، خلالها، حرب المدن. وإبّان هذه المرحلة، أباد الموارنة مخيم "ضبيَّه" الفلسطيني، ذا الأغلبية المسيحية